من الشعارات للواقع: المؤسسات المالية الدولية والصراع من أجل العدالة الاجتماعية في العالم العربي

من الشعارات للواقع: المؤسسات المالية الدولية والصراع من أجل العدالة الاجتماعية في العالم العربي

فصل ضمن كتاب: العدالة الاجتماعية بين الحراك الشعبي والمسارات السياسية في البلدان العربية

يهدف هذا المقال إلى تحليل الدور الذي تلعبه سياسات المؤسسات المالية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في تحقيق العدالة الاجتماعية في العالم العربي وفي توفير الموارد اللازمة للفاعلين المعنيين بهذا الشأن.

على الرغم من قوة ونفوذ هذه المؤسسات في إرساء سياسات معيارية على المستوى الدولي والمستوى الثنائي في العديد من الدول العربية، لا يتوفر لدى الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في المنطقة تحليل دقيق للأدوار التي تلعبها هذه السياسات. تلعب هذه المؤسسات دورا هاما في التوصية بالعديد من الإصلاحات السياسية والاجتماعية في الدول العربية والتي من شأنها المساهمة في تحقيق التطور الاقتصادي والعدالة الاجتماعية سواء في الدول التي لم تمر بعد بثورات مثل المغرب والأردن أو الدول التي قامت فيها ثورات بالفعل مثل تونس ومصر. في الحالة الثانية تأتي توصيات هذه المؤسسات كامتداد لسياسات سابقة لم يتم تقييمها حتى الآن. على سبيل المثال، أشاد البنك الدولي بالاقتصاد التونسي قبل اندلاع الثورة بأسابيع ثم قام البنك بإقراض تونس 1.3 مليار دولار على الأقل منذ عام 2012. في نفس الوقت ارتفعت قروض البنك الدولي لمصر من 408 مليون دولار عام 2014 لـ 1.4 مليار دولار عام 2015 وفقا للموقع الرسمي للبنك الدولي. تعكس هذه الإحصائيات عدم تراجع دور هذه المؤسسات في فترات التوتر السياسي في العالم العربي بل أنها على استعداد لاتباع نفس السياسات القديمة كما يحدث مع نظام عبد الفتاح السيسي في مصر وأيضا في الأردن والمغرب أو انتهاج سياسات جديدة كما هو الحال مع تونس بعد الثورة مما يعكس منهجها البراجماتي البحت الذي يجعلها تتعامل مع السياقات المحلية المختلفة لخدمة أهدافها المؤسسية.

ولكن ماذا نعرف عن هذه الأهداف؟ وإلى أي مدى تساعد الأجندة الخاصة بهذه المؤسسات الفاعلين السياسيين على تحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق تقديم بدائل للسياسات القديمة؟ ما الذي يمكن استنباطه من خطاب هذه المؤسسات الدائم التأكيد على رغبتها في التعامل مع معوقات العدالة الاجتماعية مثل البطالة والفقر وتدهور الخدمات الأساسية وغياب المحاسبة؟.

تزداد أهمية الإجابة على هذه الأسئلة في ضوء الدور النشط الذي لا تزال تلعبه هذه المؤسسات في العالم العربي وفي ضوء احتياج الفاعلين السياسيين والاجتماعيين لتحديد وتنفيذ رؤاهم البديلة مع الأخذ في الاعتبار العوامل المؤثرة على الأرض وعلى رأسها المؤسسات المالية الدولية.

البنك الدولي وصندوق النقد الدولي: السياق التاريخي والسياسي

يتطلب تقييم دور ومساهمات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في مجال العدالة الاجتماعية في المقام الأول فهم مهام هاتين المؤسستين وكيف نشأتا وكيف تتم إدارتهما وبالنيابة عمن. لهذا يجب الاطلاع على أصل هاتين المؤسستين وتاريخهما والأسس النظرية والأيديولوجية لتوصياتهما وتجاربهما على الأرض من أجل فهم الدور الذي تلعبه كلاهما في التأثير على مجتمع ما وما إذا كان هذا الدور يحقق مطالب العدالة الاجتماعية مثل التوزيع العادل للثروات والفرص والمزايا.

ترجع نشأة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للمؤتمر النقدي والمالي للأمم المتحدة (أو مؤتمر بريتون وودز) الذي انعقد عام 1944 بهدف وضع حفنة من القوانين الجديدة لإدارة النظام النقدي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في الدول المشاركة والتي بلغ عددها أربعة وأربعون.

تضمنت نتائج هذا المؤتمر تأسيس البنك الدولي للإنشاء والتعمير للإسهام في إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب ويقدم حاليا قروض للدول النامية ذات الدخل المتوسط. وفي نفس المؤتمر تم إنشاء صندوق النقد الدولي لضمان استقرار النظام النقدي العالمي من خلال متابعة الاتجاهات الاقتصادية العالمية والقومية وتوفير قروض للدول التي تعاني من مشاكل في ميزان المدفوعات وتقديم المساعدة التقنية للدول الأعضاء. في عام 1960 قام البنك الدولي للإنشاء والتعمير بإنشاء مؤسسة التعمير الدولية لتوفير قروض للدول الفقيرة والنامية كما أنشأ في عام 1956 مؤسسة التمويل الدولية لتسهيل تقديم القروض للقطاع الخاص. تم إطلاق اسم “المؤسسات المالية الدولية” على مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي واسم “مؤسسات بريتون وودز” لنفس هذه المؤسسات بالإضافة لمنظمة التجارة الدولية.

لعب كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي دورا بارزا في تدعيم الهيمنة الإمبريالية للولايات المتحدة والنفوذ الاقتصادي والسياسي للدول الغربية الرأسمالية على حساب دول “العالم الثالث” أو “الجنوب العالمي.” هذا لا يعني أنهما تابعتان بشكل مباشر للحكومة الأمريكية لكنهما تعملان في الإطار الذي يخدم المصالح الغربية ويجمل الأجندة المحركة لها في ذات الوقت. جدير الذكر أن إنشاء هذه المؤسسات بعد الحرب العالمية الثانية جاء كجزء من خطة الولايات المتحدة لاستثمار تلك اللحظة التاريخية لتأكيد هيمنتها على العالم الاقتصادي القادم بما فيه أوروبا نفسها. يقول المؤرخ الأمريكي تشارلز ماير أن عدم تكبد الولايات المتحدة لنفس الخسائر التي تكبدتها الدول الأخرى المشاركة في الحرب منحها فرصة لإرساء القواعد الاقتصادية في الغرب وفقا لرؤيتها واحتياجاتها (Maier, 1978). كانت إحدى أهم أولويات الولايات المتحدة إعادة بناء أوروبا بشكل يضمن عدم تكرار الصراعات بين دولها مع التأكد من عدم تصدير التجربة الشيوعية. عرفت هذه الجهود تاريخيا باسم “الليبرالية المستترة” والتي تتضمن بشكل أساسي دور الولايات المتحدة من خلال “خطة مارشال” والبنك الدولي للإنشاء والتعمير في توجيه أوروبا واليابان سياسيا من خلال المشروعات الإنمائية التي تديرها. كما عملت الولايات المتحدة على التأكد من إقصاء الأحزاب الشيوعية من الحكم في الدول الموالية لها في أوروبا والسيطرة على أية مظاهر لدعم الشيوعية تتخطى حاجز اليسار الوسطي المسموح به نسبيا (Ruggie, 1983).

قامت الولايات المتحدة بالدفع بتطبيق اتفاقية تستطيع من خلالها مؤسسات بريتون وودز نشر النموذج الرأسمالي الدولي الذي تديره والذي كان في الوقت ذاته يقوم بحماية مصالح الدول ذات الاقتصاد المتطور مثل اليابان وأوروبا الغربية. وتم الحفاظ على نفس تدرج النفوذ هذا في الهيكل التنظيمي وآليات اتخاذ القرار في البنك الدولي كذلك.

رغم أنه من المفترض أن يكون البنك الدولي ممثلا لإرادة أعضائه الـ188 في هيكله وسياساته إلا أن الواقع مغاير حيث تتحدد مواقع النفوذ من خلال معادلة معقدة تربط عملية التصويت في مجلس المحافظين وهو جهة صنع القرار الرئيسية بمدى أهمية اقتصاد الدولة وفقا للدخل القومي والاحتياطي الأجنبي والمساهمات في التجارة العالمية. أدى هذا إلى تهميش دائم للدول النامية على حساب ديمقراطية صنع القرار والتي تتطلب أن يكون لكل دولة صوت واحد. يتضح غياب الديمقراطية في التصويت في حالة الدول الأفريقية على سبيل المثال فعلى الرغم من بلوغ نسبتها في عضوية البنك الدولي 35% عام 1971 لم تتعد قوتها التصويتية 8.6% بينما تمثل أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان 20% فقط من الأعضاء لكنها تسيطر على ثلثي الأصوات (Mason and Asher, 1973, p.56).

شهدت السنوات الأخيرة محاولات من جانب البنك الدولي لإجراء “إصلاحات تصويتية” بحيث تزيد القوة التصويتية للدول النامية لكن بدت هذه المحاولات غير جادة. يقول عالم الاقتصاد البريطاني روبرت وايد أن النظام التصويتي الجديد يتوافق مع الثقل الاقتصادي لكل دولة أكثر مما سبق وإن التغييرات ليست جذرية كما يدعي البنك (Wade, 2013). أدت الإصلاحات التصويتية إلى زيادة نسبة الدول النامية من 34.67% إلى 38.38% بينما بلغت نسبة الدول المتقدمة ذات الدخل المرتفع أكثر من 60%.

في جميع الأحوال تحتفظ الولايات المتحدة بأكثر من 15% من القوة التصويتية في مجلس المحافظين من أجل امتلاك حق الاعتراض (الفيتو) على القرارات التي يتم اتخاذها بأغلبية والتي تتطلب أغلبية خاصة 85%. كما جرت العادة أن تعين الولايات المتحدة رئيس البنك الدولي إلى جانب دعم المرشح الأوروبي لرئاسة صندوق النقد الدولي. كما يقول وايد، ظل نصيب الولايات المتحدة وأوروبا في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كافيا لحماية احتكاراتهما طالما ظل كل منهم يدعم الآخر (المصدر السابق).

كان انحياز مؤسسات بريتون وودز للولايات المتحدة وأوروبا سببا في إثارة التساؤلات حول الأجندة السياسية الأمريكية والأوروبية. بداية لم تكن هذه المؤسسات خاضعة للمساءلة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي كانت تتلقى توصيات هذه المؤسسات مما كان يضمن ولاءها للمصالح الغربية وقد كان هذا أمرا شديد الأهمية وقت الحرب الباردة بشكل خاص حيث كان البنك الدولي يدعم الأنظمة الدكتاتورية الموالية للقوى الغربية كما يدعم المشروعات الاستعمارية الجديدة للغرب.

في عام 1947 على سبيل المثال أقرض البنك الدولي هولندا 195 مليون دولار أمريكي بينما كانت تحارب حركات التحرر في إندونيسيا (Shawki and D”Amato, 2000) كما أقرض ملايين الدولارات لجنوب أفريقيا أثناء الفصل العنصري وللبرتغال أثناء محاولاتها للحفاظ على مستعمراتها الأفريقية وحلفائها الاستراتيجيين في أنجولا وموزمبيق بالإضافة لإقراض الديكتاتوريات العسكرية في الأرجنتين وتشيلي والفلبين. على الجانب الآخر، امتنع البنك الدولي عن إقراض تشيلي بعد انتخاب سالفادور أيندي رئيسا في عام 1972 ثم مواصلة القروض بعد اغتيال أيندي واعتلاء الجنرال أوجوستو بينوشيه الذي قاد الانقلاب الدموي ضده للسلطة. تكرر نفس الأمر مع الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي ولازال يتكرر.

التوصيات

عبرت التوصيات التي أصدرتها مؤسسات بريتون وودز عن اتجاهاتها السياسية والتاريخية والتي طالما انحازت للمصالح الغربية وللاتجاهات الاقتصادية السائدة والتي كان من شأنها أيضا تعزيز هذه المصالح.

بإلقاء نظرة على القطاعات التي تلقت قروض البنك الدولي في مراحله الأولى أي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي يتضح أن التركيز الأكبر كان على البنية التحتية وخاصة في أوروبا (انظر الملحق رقم 1). مع الوقت تغير هذا ليصبح التركيز الأكبر على الزراعة والإنفاق الاجتماعي والصناعة في بعض مناطق العالم النامي. ظهر الاتجاه الأخير بقوة أثناء رئاسة روبرت ماكنامارا التي بدأت عام 1968 حيث تم التسويق لهذه المبادرات على أنها الطريق للحد من الفقر وتوفير الاحتياجات الأساسية. في ذلك الوقت، كان للهند وباكستان النصيب الأكبر من معونات البنك الدولي حيث كان الهدف الأساسي عزل الدولتين عن النفوذ الشيوعي سواء من الصين أو الاتحاد السوفييتي.

مع انهيار معظم نماذج التنمية المدعومة من الدولة في العالم النامي بحلول منتصف سبعينيات القرن الماضي وتزايد معدلات الدين العام بدأ البنك الدولي في مطلع الثمانينيات في تنفيذ أجندته الثالثة وهي “الإصلاحات الهيكلية.” دعم هذا الاتجاه تطبيق إصلاحات عامة في الاقتصاد القومي لجميع الدول النامية من خلال عشرة بنود عٌرفت بـ “إجماع واشنطن” (Williamson, 1990). تضمنت هذه البنود سياسة الانضباط المالي ومراعاة المصاريف (مما يعني عدم وجود عجز في الموازنة نسبة إلى إجمالي الناتج المحلي) وإعادة توجيه الإنفاق العام (مما يعني إلغاء الدعم) والإصلاح الضريبي بتوسعة القاعدة الضريبية ومنح الأسواق حرية تحديد الأسعار ومنح سعر صرف العملة قوة تنافسية وتحرير قطاع التجارة وتحرير تدفق الاستثمارات الأجنبية وخصخصة مؤسسات الدولة وإلغاء القوانين التي تعوق دخول الأسواق ومراعاة قوانين تملك الأراضي. كانت هذه الإصلاحات خطوة هامة في طريق زيادة القروض وبالتالي فرض المزيد من الشروط على اقتصاد الدول النامية بحيث تتغير أولوياتها واتجاهاتها ويتم إقصاء المواطنين المفترض أنهم معنيون بهذه الإصلاحات من عملية اتخاذ القرار.

بنيت هذه الإصلاحات الهيكلية على افتراض أن تحرير وخصخصة الاقتصاد في هذه الدول سوف يقودها للنمو والتطور. تم تبرير كل من هذه البنود في ضوء الاقتصاديات التقليدية المحدثة كحل تقني لخفض التضخم والقضاء على عجز الموازنة والقضاء على التشوهات السعرية ورفع مستوى الكفاءة. لكن في الواقع ما فعلته هذه السياسات هو تقليص صلاحيات الدول المعنية فيما يتعلق بإدارة وحماية اقتصادها وفتح المجال للتدخلات الخارجية مما أضر بالأسواق المحلية لهذه الدول. عن طريق هذا استطاع البنك الدولي بدعم من صندوق النقد الدولي أن يمكن الفاعليين الدوليين والمحليين المسيطرين من التحكم في اقتصاد هذه الدول على حساب الفقراء مما أدى إلى توسيع الفجوة بين الطبقات وغياب العدالة في توزيع الثروات.

أعطت الأجندة الثالثة للبنك الدولي إشارة البدء لمرحلة الليبرالية الجديدة تحت قيادة مارجريت تاتشر ورونالد ريجان وقد عرفت هذه المرحلة بحزمة من التغييرات السلبية مثل تراجع دعم الدولة للخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم وإعانات البطالة وخصخصة الأصول المملوكة للدولة وسيطرة النقد وسياسات السوق على كل أشكال التفاعلات الاجتماعية. بعد تراجع دور الدولة في مراقبة وإدارة الأنشطة الاقتصادية كان من المفترض أن تملأ مؤسسات القطاع الخاص هذا الفراغ لكن ما حدث أن هذه السياسات أدت فقط إلى نقص الاحتياجات الأساسية وإثراء النخبة وتعزيز التمييز الطبقي وإعادة تنظيم المجتمع على أسس الربح والجشع بدلا من حماية الفئات المهمشة في المجتمع.

جاءت نتائج الأجندة الثالثة للبنك الدولي مخيبة للآمال حتى بمقاييس مؤسسات بريتون وودز مما دفعها لإعادة النظر في سياساتها (Saad-Filho, 2005, p.116-17) لكن بدلا من محاولة إيجاد بدائل للإصلاحات الهيكلية تمسكت هذه المؤسسات بمبادئها السابقة وادعت أن الدول المعنية بالإصلاحات هي التي لا تملك البنية المؤسسية اللازمة لتحقيق هذه الإصلاحات. لهذا كان الهدف الأساسي للأجندة الرابعة للبنك الدولي هو إصلاح المؤسسات مما أدى لظهور بنود “ما بعد اجماع واشنطن” والتي أكدت على أهمية بناء المؤسسات والحوكمة الرشيدة وهي سياسات لا تختلف في واقعها عن الإصلاحات الهيكلية بل تدعمها. زعمت مؤسسات بريتون وودز أن الحوكمة الرشيدة المدعومة بواسطة السياسات الاقتصادية الليبرالية التي تشجع الاستثمارات الخاصة وتحرير السوق والخصخصة وإجراءات التقشف والملكية الخاصة هي السبيل الأمثل لاقتصاد كفء وروجت لهذه المزاعم على مستوى العالم.

الليبرالية الجديدة والعدالة الاجتماعية

يلقي تاريخ مؤسسات بريتون وودز والمراحل المختلفة لأجندتها الضوء على الموقع الذي تحتله العدالة الاجتماعية في أولويات هذه المؤسسات. تقوم أجندة الليبرالية الجديدة التي تتبناها هذه المؤسسات على خلق ظروف سوق مثالية مما يفترض أن يوفر الرخاء للجميع ويحقق العدالة الاجتماعية. إذا توقفت الحكومات عن التدخل في السوق وألغت القوانين التي تمنع تراكم الثروات وتخلق “تشوهات سعرية” خاصة فيما يتعلق بالتجارة وإذا تمت خصخصة مؤسسات الدولة ومنع الإعانات الاجتماعية فمن المتوقع أن يقوم القطاع الخاص بهذه الأدوار وأن يحل السوق محل الدولة فيما يتعلق بتلبية الاحتياجات الأساسية.

بهذا يتلاشى الاحتياج للممارسة السياسية واتخاذ القرار وتصبح الأمور السياسية والاحتياجات الاجتماعية مجرد متطلبات تتعلق بالاقتصاد الجزئي وبالتالي يمكن تلبيتها بشكل سلعي أو تقني من خلال السوق. هكذا تتحول الحرية للقدرة على الاختيار بين عمليات السوق المختلفة من بيع وشراء بدلا من أن تدور حول حقوق الإنسان ومقاومة أشكال القهر المختلفة. بنفس المنطق يتم اختزال العدالة الاجتماعية في الوصول إلى السوق والقوة الاستهلاكية فتتحول الحماية الاجتماعية لاستحقاقات وليس حقوق بينما تعمق العملية بأسرها من الفجوة بين الطبقات.

تجدر الإشارة إلى أن هذه الصورة المثالية لتفاعلات السوق تكاد لا تتحقق على أرض الواقع بل أنها تتجاهل التاريخ الذي أثبت بشكل مؤكد أن النظام الرأسمالي عادة ما يكون معرض للأزمات خاصة في بيئة لا يتم فيها تشجيع مراقبة وتنظيم السوق هذا لأن الأسواق يمكن أن تنهار ونتائج هذا الانهيار قد تكون مدمرة كما اتضح مؤخرا. بالإضافة إلى ذلك فإن عدم الاتساق بين المعلومات المتاحة وتفاضل القوى في المجتمع وبين الفاعلين المختلفين في السوق يؤثر بشدة على المخرجات الاقتصادية. ما ينتج عن هذا ليس انخفاض عام في الثروات والفرص ولا توزيع عادل للرخاء بل إلى تعميق انعدام المساواة.

اثبتت التجربة على مر الوقت أن الليبرالية الجديدة اعتادت على التسبب في العديد من الأزمات في المناطق التي تنفذ فيها مشروعاتها مثل تركيز الثروة في يد الأقلية وغياب المساواة وزيادة معدلات البطالة وعدم زيادة الرواتب وتراجع دور النقابات المهنية وزيادة معدلات الجريمة والتشرد والتسول وبناء المزيد من السجون وزيادة نفوذ الشرطة وتراجع الحريات المدنية وتقليص الممارسة الديمقراطية وتهميش المزارعين وأصحاب المشروعات الصغيرة وزيادة معدلات الهجرة وانخفاض ملحوظ في التضامن الاجتماعي وما صاحب كل هذا من حركات التمرد المسلح (Looney, 2013).

إذا كان هذا هو تاريخ هذه المؤسسات وإذا ثبت معظم الوقت أن تلك التجارب غير ناجحة فلما تستمر في الدفع بسياساتها في الدول النامية من خلال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي؟ يمكن الإجابة جزئيا على هذا السؤال من خلال ما سبق الإشارة إليه بشأن خدمة هذه المؤسسات للمصالح الغربية في المقام الأول ولكن لازال هذا لا يفسر عدم تبني الولايات المتحدة والدول الأوروبية سياسات أكثر عدلا نسبيا بحيث لا تتعارض مع مصالحها في ذات الوقت. يمكن تفسير هذا من خلال النظر للطبيعة التنافسية للنظام الرأسمالي نفسه والمبنية في الأساس على الصراع على الأسواق والموارد والقوى العاملة. يقول عالم الاقتصاد هاجون تشانج أن جميع الدول الرأسمالية المتقدمة لم تصل إلى ما وصلت إليه جراء تحرير التجارة واقتصاديات السوق على المستوى المحلي بل أن نفس هذه الدول عملت في بداياتها على حماية الصناعات المحلية من خلال الرسوم الجمركية والدعم وإجراءات أخرى لضمان قدرة هذه الصناعات الناشئة حينذاك على النمو للمنافسة لاحقا في السوق حين يتم تحرير التجارة. هذا يعني أن دعم مؤسسات بريتون وودز لليبرالية الجديدة في الدول النامية التي لا تزال في طريقها لتطوير الصناعة هو حرمان لهذه الدول من فرصتها في النمو الاقتصادي وبالتالي قدرتها المستقبلية على المنافسة في السوق. وبهذا تستطيع الدول الرأسمالية المتقدمة الهيمنة على الدول النامية والاستحواذ على مواردها أو ما يسميه تشانج “ركل السلم الخشبي” إشارة للتعبير الذي ابتكره عالم الاقتصاد الألماني في القرن التاسع عشر فريدريك ليست. يقول ليست “جرت العادة أن من يصل إلى القمة يركل السلم الذي استخدمه في الصعود حتى يحرم الأخرين من اللحاق به”. وفقا لليست ينطبق هذا على الدول التي وصلت باقتصادها إلى القمة والتي لا تريد خلق المزيد من المنافسين وعلى الرغم من أن هذه الدول نفسها لم تنهض باقتصادها من خلال السوق الحر بل فرضت العديد من القوانين التي حالت دون تحرير السوق وقتما كانت في طور النمو لكنها تتبنى نفس السياسات التي تجنبتها مع الدول النامية حتى لا تعطيها الفرصة للنمو الفعلي (List, 1885 295-96).

وجود هذه الأجندة وهي جزء لا يتجزأ من الليبرالية الجديدة هو ما يفسر ضرورة أن تتبنى الدول النامية السياسات التي تدعمها الدول الرأسمالية والتي تروج لها على أنها “المناسبة” لظروف هذه الدول. ثم يأتي دور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهما مؤسستان تزعمان أنهما بلا أجندة سياسية وتهدفان فقط لتقديم الحلول التقنية. لكن الواقع أن خطاب هاتين المؤسستين من شأنه إعادة هيكلة العديد من الأمور ذات الطبيعة السياسية مثل إدارة القطاع العام والمساءلة والشفافية والأطر القانونية والتي يتم التعامل معها على أنها “أمور تقنية.” تتجاهل هذه المؤسسات مدى تأثير تدخلها في هذه الأمور على الوضع السياسي في الدول التي تتدخل فيها حيث أنها تقوم بتغيير أولوياتها الاجتماعية وتعوق دور الدولة في حماية المواطنين من انهيارات السوق واختلال توازن القوى. كما أنها تتجاهل أن الليبرالية الجديدة تقتضي إدارة الجانب الأكبر من المشروعات الإنمائية من خلال القطاع الخاص وهذا في حد ذاته مقلق لأن ما يسمى “التطوير تحت قيادة القطاع الخاص” لا يتيح معرفة هوية الفاعلين في عملية التطوير وموقعهم السياسي والاجتماعي ولأن هؤلاء الفاعلين ينتمون للنخبة والطبقة الرأسمالية تتحول عملية التطوير إلى عملية استنزاف للموارد الغرض الأوحد منها هو الحفاظ على مصالح هؤلاء الفاعلين. قد يتعاون الفاعلون أيضا مع النخبة السياسية والعسكرية كما حدث في الشرق الأوسط مما يزيد من المشكلات الناتجة عن هذه السياسات في ظل الأنظمة الشمولية وواقع ما بعد الاستعمار.

يتضح من هذا أن الإصلاح الاقتصادي المبني على تحرير السوق والذي تتبناه مؤسسات بريتون وودز ما هو إلا “إعادة هيكلة للشبكات التي تدمج وتربط بين الأصول العقارية والقوى القانونية ومصادر المعلومات وتدفقات الدخول” من شأنها تفضيل النخبة (Mitchell, 2002, p.281). هذا يخدم في الأساس رأس المال والتكتلات السلطوية التي تبحث عن الربح السريع من خلال تركيز الاقتصاد على قطاعات مثل السياحة والعقارات والأغذية والمشروبات وهو نوع من النمو يشبه ما يسمي بـ”رأسمالية صالات القمار” (Strange, 1986). يتعارض التطور من خلال القطاع الخاص مع الهدف الأساسي من عملية التطور حيث أنه يساهم فقط في إثراء النخبة وتحقيق الربح السريع لأصحاب رأس المال على عكس التطور المحلي الذي يعتمد على حق الدول النامية في تحقيق مصيرها والصراع من أجل الحقوق السياسية وتحقيق العدالة الاجتماعية. لكن في الحالة الأولى يتم التضحية بالعدالة الاجتماعية من أجل مصالح النخبة المحلية والقوى الرأسمالية العالمية مما يعوق الممارسة الديمقراطية والتوزيع العادل للفرص والثروات.

الخاتمة:

تختلف طرق تنفيذ سياسات المؤسسات المالية الدولية وفقا للدولة التي تنفذ فيها المشروعات لذا يتحتم على الفاعلين المعنيين بتحقيق العدالة الاجتماعية فهم كيفية تطبيق سياساتها العامة على السياق المحلي للتعرف على الجوانب السلبية والنقاط المتناقضة في كل من هذه المشروعات والمقارنة بين الجوانب النظرية ونظرياتها التطبيقية.

يجب على الفاعلين في مجال العدالة الاجتماعية إدراك أن مناهضة سياسات المؤسسات المالية يتطلب حشد الفئات المختلفة التي يتم تهميشها على إثر المشروعات التي تنفذها أي يجب مخاطبة ضحايا هذه المؤسسات. الليبرالية الجديدة لا تعمل فقط على إثراء النخبة وإفقار الطبقات العاملة لكنها تعمل أيضا على ترسيخ الانقسامات الموجودة بالفعل في الدول التي تعمل بها سواء على المستوى العرقي أو الطائفي أو القبلي كما هو الحال في العالم العربي بحيث يصبح المجتمع مقسم رأسيا وليس أفقيا. يؤدي هذا النوع من الانقسامات لإضعاف البنية الاجتماعية للفئات التي يفترض أن تقوم بمناهضة هذا النظام. الصراعات الطائفية الدموية في العالم العربي هي خير مثال على هذا الأمر.

على الصعيد الآخر، يجب مناهضة سياسات المؤسسات المالية الدولية من خلال حركات اجتماعية وسياسية على وعي تام بمن تصارع ضده وما تصارع من أجله. يتطلب هذا ربط المشكلات الناجمة عن هذه السياسات بالحقوق الشخصية والاجتماعية وأهمية حماية المواطنين من انهيارات السوق وتوفير احتياجاتهم الأساسية والتأكيد على التوزيع العادل للثروات خاصة بين أفراد الطبقة العاملة التي تقوم بالإنتاج في الأساس. كما يجب أن تضع هذه الحركات صراعها المحلي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية في سياق الأجندة العالمية لهذه المؤسسات وجمع المعلومات اللازمة لتدعيم مطالبها مع أهمية أن تتحد الحركات المحلية مع نظيراتها العالمية. تتعدد الجبهات التي يمكن أن يدور فيها الصراع من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والوسائل التي يمكن استخدامها لتحقيقها مثل الصراعات السياسية من أجل الديمقراطية والصراعات الاقتصادية من أجل حقوق الطبقة العاملة. كما يجب ربط الصراعات ببعضها البعض حتى لا يتم إضعاف كل منها على حدة أو خلق انقسامات بينها وهذا أحد أهم مكونات أجندة الليبرالية الجديدة والتي تعمل دائما على تعميق الفجوات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كل هذا يتطلب قدر كبير من الصبر وكذلك الاهتمام بالتعليم ودعم التضامن الاجتماعي مع الأخذ في الاعتبار أنه صراع طويل الأمد وهو السبيل الوحيد لتحويل الشعارات لواقع.

قائمة المراجع


 

Looney, R. (2003). The Neoliberal Model”s Planned Role in Iraq”s Economic Transition. Middle East Journal, 57(4), 568-586.
(ر. لوني. “نموذج الليبرالية الجديدة في التحول الاقتصادي في العراق.”)
Maier, C. (1977). “The Politics of Productivity: Foundations of American International Economic Policy after World War II”. International Organization, Vol. 31, No. 4, Between Power and Plenty: Foreign Economic Policies of Advanced Industrial States (Autumn, 1977), pp. 607-633
(سي. ماير. “سياسات الإنتاجية: أسس السياسة الاقتصادية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية.”)

Mason, E. and Asher, R. (1973). “The World Bank since Bretton Woods.” Washington, DC: Brookings Institution.
(إي. ماسون وأر أشر. “البنك الدولي منذ بريتون وودز”)
Mitchell, T. (2002). Rule of experts: Egypt, techno-politics, modernity. Berkeley: University of California Press.
(تي. ميتشيل. حكم الخبراء: مصر والسياسية التقنية والحداثة.)
Saad-Filho, A. (2005). From Washington to Post-Washington Consensus: Neoliberal Agendas for Economic Development” in A. Saad-Filho & D. Johnston Neoliberalism: A Critical Reader, London: Pluto Press, 113-119.
(إيه. سعد فيلهو. “من إجماع واشنطن لما بعد إجماع واشنطن: أجندات الليبرالية الجديدة في التنمية الاقتصادية” في نقد الليبرالية الجديدة.)
Samuels, W.J. and Mercuro, N. (1984). A Critique of Rent-Seeking Theory. In D.C. Colander (ed.) Neoclassical Political Economy: The Analysis of Rent-seeking and DUP Activities, Cambridge, MA: Ballinger Publishing Company.
(“نقد لنظرية النزعة الريعية” في الاقتصاد السياسي في الاقتصاديات التقليدية المحدثة: تحليل أنشطة النزعة الريعية والربح غير المنتج.)
Shawki and D”Amato. (2000). “World Bank: Plunder with a Human Face” International Socialist Review, Issue #11, Spring
(شوقي وداماتو. “البنك الدولي: النهب في شكل إنساني.”)
Stein, H. (2008). Beyond the World Bank agenda: An institutional approach to development. Chicago ; London: University of Chicago Press.
(إتش. شتاين. ما وراء أجندة البنك الدولي: التناول المؤسسي للتنمية.)
Strange, S. (1986). Casino capitalism. Oxford, UK ; New York, NY, USA: B. Blackwell.
(إس. سترينج. رأسمالية صالات القمار.)
Wade, R. (2013) The Art of Power Maintenance, Challenge, 56:1, 5-39
(أر. وايد. “فن الحفاظ على القوة”.)
Williamson, J. (1990). What Washington means by Policy Reform. In J, Williamson (Ed.) Latin American Adjustment: How Much has Happened? Washington D.C.: Institute for International Economics.
(جي. ويليامسون. “ما تعنيه واشنطن بإصلاح السياسات” في إصلاحات أمريكا اللاتينية: ما الذي تحقق؟)
ملحق رقم (1)
قروض البنك الدولي وفقا للقطاع المستفيد

القطاع 1950-1959 1960-1969 1970-1979 1980-1989 1990-1994 1995-1999
الزراعة 4 13 28 24 15 11
التمويل والصناعة 13 12 16 18 10 13
البنية التحتية* 61 64 36 29 26 21
الإنفاق الاجتماعي** 0 4 13 15 27 26
قطاعات أخرى*** 22 8 8 15 22 28

المصدر: Kapur et al. 1997,6; World Bank 1999b
ملحوظة: الأرقام الأفقية نسب مئوية
*تتضمن البنية التحتية المواصلات والاتصالات والكهرباء
**يتضمن الإنفاق الاجتماعي التعليم والبيئة والإسكان والماء والنظافة والحماية الاجتماعية والتطوير العمراني
***تتضمن القطاعات الأخرى البترول والغاز والتعدين وإدارة القطاع العام والسياحة والهيئات التابعة لعدة قطاعات والهيئات غير المصنفة (على سبيل المثال 14% في 1990-1994 و16% في 1995-1999).
المصدر: Stein, 2008, p. 11

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart