بنية الدولة والعدالة الاجتماعية في المنطقة العربية: أزمة سياسات أم أزمة بنيوية؟

بنية الدولة والعدالة الاجتماعية في المنطقة العربية: أزمة سياسات أم أزمة بنيوية؟

فصل ضمن كتابالعدالة الاجتماعية بين الحراك الشعبي والمسارات السياسية في البلدان العربية

بينما يدفع منظرو الليبرالية بأن استغلال بعض الناس لبعضهم الآخر، ووجود دول قمعية، وخضوع النساء للرجال في الأسرة النووية على أنها نتاج طبيعي للطبيعة البشرية في تحليل نشأة الدول والمجتمعات البشرية الحداثية ونتاج طبيعي لتفاعل المزايا النسبية للبشر والأمم، فإن الاشتراكيون يرون ذلك نتاجا للتاريخ البشري وليس دالة حتمية في طبيعة البشر، إذن ثمة معضلات أساسية ترتبط بطبيعة النظرة إلى النفس البشرية والوحدات الاجتماعية الأساسية وطبيعة العلاقات البشرية القائمة في إطارها، ومن ثم تنعكس هذه المعضلات على اختلاف المنظورات لطبيعة نشأة الدولة بصفة عامة وعلاقة ذلك بالقيم الجمعية والعدالة الاجتماعية واحدة من أهم تلك القيم، وفي العالم العربي تصبح هذه المعضلة مركبة إذ تتخذ أبعادا دينية وتاريخية قد تدفع البعض إلى الاعتقاد بأن التفاوتات الحالية بين الأفراد والأقاليم داخل الدولة الواحدة هي طبيعية بل وحتمية، بينما هي في حقيقتها قد تكون نتاج لتطورات في بنية الدولة والمجتمعات العربية وطبيعة العلاقة بينهما وهذا ما تحاول الورقة تحليله عبر ثلاثة عناصر أساسية هي بنية الدولة العربية، بنية المدينة في المنطقة العربية، البنية الطبقية في المنطقة.

أولا: بنية الدولة العربية

إذا كان ثمة اختلاف في تفسير نشأة الدولة العربية الحديثة باعتبارها في بعض الحالات نتاج لتطورات محلية كان لكل منها تاريخ شبه مستقل عن الامبراطوريات المتعاقبة التي خضعت لها وحدود جغرافية أو على الأقل نواة جغرافية تشكل قاعدة حكمها مثل مصر وتونس والجزائر والمغرب وكثير منها سابق في وجوده واستقلاله على الاستعمار، أو باعتبارها في حالات أخرى صنيعة الاستعمار ونتاج لسايكس بيكو وما تلاها من ترتيبات باعتبار القوى الاستعمارية هي التي قامت برسم الحدود وصناعة مؤسسات الدولة بعد تجزئتها بما يخدم مصالحها في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى ومن ثم لا ترتبط أسباب نشأتها بمعطيات تاريخية محلية كما هو الحال بالنسبة لسوريا والعراق ولبنان وفلسطين والأردن، فإن الرابط بين النظرتين للدولة العربية هو قابليتها للاستعمار والخضوع لفئة تسلطية سواء خارج القطر أو متعاونة مع من في خارجه، ومن ثم هذه القابليات تعكس محاولة شرعنة التفاوتات من قبل السلطات التي حكمت هذه الدول.

وقد غابت الأسس الموضوعية لبناء الدول العربية التي أعقبت تدهور الخلافة العثمانية ومن ثم نشأت سلطات كان يفترض في نشأتها تجاوز قبليات وطبقيات، بينما نشأت في الواقع سلطات لتكريسها وتقنينها بحيث يتقبل المجتمع مزيدا من التمايزات على أسس مناطقية وجهوية وقبلية تحت مسمى دولة قطرية تتشدق بالسيادة الوطنية في مواجهة دول جوارها العربية مع تخلي كامل عن هذا في التعامل مع غير العرب كلما اقتضت حاجة السلطة الحاكمة لذلك.

وهناك تغيرات عدة طرأت على الدولة العربية منذ نشأتها وحتى قيام الربيع العربي الذي اعتبر في بعض الحالات اعتراضا على مسار التطور الخاطئ للدول العربية أو على الأقل محاولة لإعادة التأسيس لهذه الدول وفق مبادئ أكثر عدالة وأكثر قابلية للاستمرار، تشمل هذه التغيرات تغير طبيعة الخطر الخارجي المحيط بالدول العربية من كونه مستعمرا استعمار مباشر إلى نمط الاحتلال وإنشاء كيان من الصفر وسط إقليم جغرافي كان يفترض فيه التناسق والقوة، إذ نشأت إسرائيل واستطاعت البقاء والمقاومة للنمط السائد للدولة العربية وهو نمط الدولة المملكة أو الدولة المستعمَرة، ثم نمط الدولة القومية التي تحولت لنموذج الجمهوريات المستقلة المقاومة للاحتلال والاستعمار حيث بروز الزعامات العسكرية في مراحل ما بعد الاستقلال وما بني عليها من آمال في التحرر من الظلم والفقر بالتوازي مع التحرر من الاستعمار، ثم التحول تدريجيا لنمط الدولة الوطنية الريعية التي تعلي من قيم السوق وتفتقد لأسس لشرعية وجودها، إذ يقدم القطاع الخاص أغلب الخدمات، وفي سياق التحول لنمط الدولة الريعية في الدول النفطية العربية فإن ثمة التحول مادي هائل طرأ على هذه المجتمعات في العقود الأخيرة والذي أدى بدوره إلى ضعضعة البناء القبلي للمجتمع أن لم يكن قد قوضه بشكل كبير

إذن معظم هذه الدول لم تنشأ وفقا لعقود اجتماعية وإنما وفق أمر واقعي فوقي سواء تواجد هذا الواقع قبيل الاستعمار أو فرضه هذا الاستعمار على المجتمع بتناقضاته وتمايزاته المتراكمة، فكان للقبلية والطائفية حضور واضح في بنية معظم دول المشرق العربي إلى الحد الذي لا يمكن معه القول أن ثمة بنية حداثية لهذه الدول حتى وإن اتبعت مسارات تحديث في بناها التحتية وقوانينها لأنها بالأساس قامت على تكريس التمايزات، بينما في دول كمصر والعراق وبعض دول المغرب العربي التي شهدت عقود إذعان من قبل المجتمع للتأسيس لسلطة سياسية ملكية مستقلة نوعا ما عن الحكم العثماني منذ قرنين من الزمان، نجد هذه السلطة أساسا تقوم على تفاوض بين أعيان مجتمعات وبين مندوبي السلطة العثمانية لإنشاء الدولة للحفاظ على امتيازاتهم.

كان من الطبيعي في هذا السياق التاريخي أن تحاول الدولة العربية تأميم المجال العام المجتمعي لصالح السلطات الحاكمة واعتبرت ذلك مقياسا لقوة الدولة، وفي المقابل عمل المجتمع العربي على تطوير آليات بقائه،

‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬وفي مرحلة التحرر الوطني تم استخدام سياسات العدالة الاجتماعية لتغيير النخب الحاكمة وليس لتعديل الخلل في بنية الدولة، والمثال الأهم في ذلك قانون الإصلاح الزراعي الذي تم تطبيقه في مصر بعد أقل من ثلاثة شهور من ثورة 52، ورغم تمليكه أراض للفلاحين المعدمين فإنه استخدم كذلك كأداة إلى ضرب مصالح الطبقة الحاكمة قبل الثورة من ملاك الأراضي، وإذا كان البعض قد ركز على تطور الأزمة البنيوية للدولة العربية خلال عملية بناء مؤسسات الدولة في مرحلة ما بعد الاستقلال، سواء المؤسسات السيادية منها كالجيش والأمن والتمثيل الدبلوماسي٬ أو الخدمية كالتعليم والصحة والإسكان والإدارات المحلية ٬ أو الإنتاجية كشركات القطاع العام والمشروعات الاقتصادية الكبرى المملوكة للدولة، فإن تشكيل هذه المؤسسات عقب الاستقلال كان بشكل كبير في صالح الفئات الأكثر فقرا من أبناء الفلاحين والمهنيين إذ سبق عملية الاستقلال حراكات اجتماعية قوية ضد الإقطاع والطبقية في كل البلدان العربية التي كانت قد وقعت تحت الاستعمار، ومن ثم كانت هناك نزعة نحو تأسيس عدالة اجتماعية وقواعد عادلة لبناء هذه المؤسسات إلا أن التطور الذي لحق ببنية هذه المؤسسات بعد رحيل الزعامات التاريخية للاستقلال التي أسست للتماهي بين النظام السياسي والدولة كان هو الأسوأ بالنسبة للعدالة الاجتماعية إذ تصدرت المشهد السياسي مجموعات ترتبط بمصالح النظام الاقتصادي العالمي السائد وتصور نفسها باعتبارها الدولة، وكرست هذا التماهي بين القيادات السياسية في البلدان العربية وبين الدولة العربية ما أدى لمحاولة شرعنة عمليات التوريث في الدول غير الملكية والاقتراب بها من النموذج الملكي الأسري قبيل ثورات الربيع العربي.

ارتبط ذلك بالبنية الفوقية لهذه المجتمعات والدول العربية سواء من قبل هذه الزعامات أو حتى عبر التراكمات التاريخية للدول ذات العمق التاريخي في المنطقة، وهو ما خلف إشكالية غياب الديمقراطية، إذ تصنع السياسات وتنفذ وفق رؤية من أعلى دون النظر للتطور في الحاجات الموضوعية للسكان المعنيين بهذه السياسات، ومن ثم تصبح أية سياسات -حتى وإن بدت عادلة- مبتورة عن رؤية شاملة للعدالة الاجتماعية ولا تربطها بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأفراد والمجموعات باعتبارهم مواطنين، ومن ثم يغيب الحق في التنمية والتعليم والصحة والسكن والنفاذ للخدمات العامة بشكل عام في مقابل برامج مبتورة للمساعدات الاجتماعية هي أشبه بالرشوة الاجتماعية.

وهو الأوضح في حالة دول الخليج التي تحولت بنيتها وفقا لتحول النمط الاقتصادي السائد إلى نمط الدولة الريعية التي تعتمد على النفط بشكل مباشر، وقد جاء التفسير لطبيعة السلطة السياسية معتمداَ على أن النظام الاقتصادي في الخليج ولد دولة ريعية لا تفرض الضرائب والمكوس على مواطنيها، بل تقوم على عكس كل دول العالم، بالدفع لهم في دولة رفاه غير ضريبية, وعبر توظيفهم في جهاتها الإدارية والخدمية والأمنية، وهو شيء يشبه عملية رشوة سياسية حيث أسر حاكمة تحتكر السلطة السياسية مقابل عقد اجتماعي تقوم بمقتضاه بضمان الوظائف والخدمات الاجتماعية، ومجتمعات تستقبل هذه الخدمات لا كحقوق مواطنة بل كهبات تقوم مقابلها بالصمت عن إطلاق يد الحاكم ليتصرف على هواه. كل ما سبق يطرح أهمية الديمقراطية والمواطنة كأسس لإيجاد بنية دولة أكثر عدالة، كان هذا واضحا في مقايضة الاحتجاجات بالمساعدات في دول مثل المغرب والأردن ودول مجلس التعاون الخليجي ماعدا البحرين كنوع من الاستجابات السياسية السريعة لانطلاق الربيع العربي.

وقد أدى انفجار الثورات العربية إلى تداول واسع لمفهوم العدالة الاجتماعية في العالم العربي حيث فجرت الثورة ديناميات ومبادرات كثيرة ودعمت عمل المجتمع المدني في دول الربيع، وأنتجت الثورات كذلك تحالفات متعددة عابرة للطبقات والأيدولوجيات، وتعد من أهم نتائجها ارتفاع الطلب والوعي على التوزيع العادل للثروة وفق سياسات اقتصادية واجتماعية تراعي الاختلافات الكبيرة بين الدولة ومناطقها وطبقاتها، وأعادت الثورات النظر في العلاقة بين الدولة والمواطن على مستوى الواقع الملموس وعلى مستوى الوثائق الدستورية المختلفة، ولعل المكسب الأهم هو قوة الصوت (Power of Voice)، التي اكتسبتها الجماهير العربية وكشفت الثورات العربية عن العديد من التحديات التي تواجه الدول والحكومات.

كل هذه الحراكات الثورية تمس جوهر بنية الدولة العربية وتبرز الحاجة لتغيير أسس شرعية الدولة وطبيعة العقد الاجتماعي بينها وبين المواطن والمجتمع للوصول إلى دول أكثر عدالة ومن ثم استدامة في شرعيتها وقوتها، هذا لا يعني أن الثورات هي دعوة لهدم الدول، ذلك أن كثيرا من هذه الدول التي قامت فيها ثورات لا يمكن اعتبارها دولا بمعنى قدرتها على تقديم خدمات عامة صحية وتعليمية وخدمية إلى كل مناطقها بمساواة وعدالة، لكن النظم التي ترى في نفسها الدولة وفي غيرها من الأصوات دعوات لهدم الدولة وللإرهاب تستغل هذا لشرعنة ممارساتها ولتأجيل مطالب العدالة الاجتماعية، وإلا فثمة إعادة تأسيس لنظم قوية ودول ضعيفة، بل وربما نظم ضعيفة ودولا هشة في بعض دول الربيع العربي.

ثانيا بنية المدينة في المنطقة العربية:

كان ظهور المدينة العربية يقتضي الانتقال من الأنماط التقليدية لشرعية السلطة السياسية إلى نمط جديد قائم على المواطنة والمساواة إلا أن العصبية التي يقدم ابن خلدون نظرية فيها تحولت لنوع من الخضوع المديني حيث العصبيات المغلوبة تسلم أمرها للعصبيات الغالبة ولا تبذل أي خطاب مضاد لهذا الغلب، إذ صحب نشأة هذه المدن عملية تركيز للثروة والنشاط الاقتصادي والتجاري في مناطق وأقاليم جغرافية ومدن بعينها ما خلق ظاهرة الهجرة الداخلية والعشوائية في بعض المدن ومن ثم النظرة لهذه الأماكن العشوائية وساكنيها باعتبارهم وباء يجب التخلص منه، هذه العشوائية في بنية المدينة العربية خلقت مظاهر تفاوت جديدة وأبرزت صراع الحق في المدينة والحق في السكن.

وتتعقد هذه التفاوتات إذا نظرنا لتوزيع الخدمات من مطارات ووسائل نقل عام وطرق وخدمات صحية وتعيينات في مستويات وظيفية معينة من جهة أخرى إذ يثور تساؤل هل تتطابق تمايزات طبقية وقبليات وجهويات مع مستويات معينة في الهياكل والمؤسسات ومستوى تركز هذه التطابقات في مستويات بعينها، مستوى تركز السلطة والثروة في البلدان العربية وكيف خلق ذلك لا مساواة عبر المدن والمناطق وداخلها؟.

ففي كثير من المدن التاريخية العربية نمت ظاهرة العشوائيات، وبرز الجدل حول ترييف المدينة والثقافة ومدى كونه متعمدا أم عفويا باعتبارها ظواهر أنثروبولوجية جديدة، وظهر الصراع بين المدن الجديدة سواء تلك التي أنشأها المستعمر كما في المغرب العربي أو التي أنشأتها الحكومات العربية والمدن القديمة من حيث حيز الاهتمام وطبيعة الخدمات والتمايزات الاقتصادية والاجتماعية التي أبرزها هذا الصراع، كما برز النقاش المضاد حول تجريف الريف جراء السياسات القائمة على تقسيم المجتمع قروي/ريفي وحضري/مديني، حظي معها العالم الحضري بعناية أكبر ورعاية أفضل، وتمويل متزايد وضغط مصاحب للوعي والثقافة والتعلم، وتركيز للمصالح داخل فضاءاتها ومؤسساتها، الأمر الذي جعل العالم القروي تابعا للعالم الحضري، مهمشا حينا، مستغلا حينا آخر، دون أن يعني ذلك استفادته من ثرواته في تنمية قروية أو تجهيزات مناسبة أو هيكلة عمرانية للحياة السوسيوثقافية المناسبة للإنسان القروي والبدوي.

في تطور حديث للمدينة العربية التي سيطر عليها كبار رجال الأعمال تم تكريس الطبقيات باختراع إنشاء المدن المغلقة الخاصة بفئات اجتماعية من ذوي دخول بعينها وهو تطور جديد يصب في اتجاه تكريس اللا مساواة في اللاوعي أو حتى في الوعي الجمعي لقاطني المدينة إذ يتبادلون صورا نمطية سلبية تجاه بعضهم البعض.

وربما هذا ليس نتاجا عفويا لتنافس قوى السوق بقدر ما يعكس توجهات أنظمة حاكمة لفترات طويلة باتجاه خلق مناطق ومدن نموذجية سواء للتفاخر بها أمام الخارج أو سكنى لفئات مؤيديها ومن ثم يتم تسهيل إجراءات توصيل الخدمات العامة والبنية الأساسية لهذه المدن والمناطق دون غيرها، والتغاضي عن مخالفات قاطنيها مقابل التأييد المطلق من قبلهم للسلطة، يمكن قراءة ذلك في توزيع المطارات والموانئ والطرق الرئيسية على المدن ففي المغرب تتركز المطارات في الجنوب الغربي، وفي مصر على سبيل المثال لم تنتشر المطارات الدولية إلا مؤخرا في المناطق غير السياحية، وليست هناك مطارات في كثير من مدن الدلتا وبعض مدن الصعيد الطاردة للعمالة المهاجرة للخارج. هذا التركز للجامعات والسياحة والخدمات في مناطق بعينها يجعلها محلا للوافدين ويتحول أبناء المدن إلى مقدمي خدمات ليس أكثر.

أيضا هناك ما يشبه التطابق بين بعض المدن والمناطق من جهة وبعض القبائل من جهة أخرى ينتشر هذا في الكثير من البلدان العربية مثل اليمن وليبيا وحتى صعيد مصر وجنوب الجزائر والمغرب وموريتانيا في هذه المناطق تكاد تتقاطع قبليات وانتماءات مذهبية ودينية معينة مع حدود محافظات أو مدن تابعة، وتارة يغلب التمترس بالمدينة حال الخلاف مع مدن أخرى أو القبيلة حال الخلاف مع قبائل أخرى وهو ما يعني غياب علاقات تعاقدية فردية عادلة بين الفرد والمجتمع أو بين الفرد والدولة لغيابها عن هذه المناطق منذ عقود أو لحضورها الأمني وفقط، هذا الغياب للدولة يتناقض مع فكرة العدالة الاجتماعية في بعدها المناطقي الجغرافي، كما أن سوء وسائل الربط بين المدن المختلفة داخل الدولة العربية الواحدة وعدم توافر وسائل نقل عام مناسبة وسريعة يعضد من فكرة الجيتوهات إذ لولا ظروف نقص فرص العمل ونقص بعض المواد في مدينة بعينها لاكتفى أهلها بالبقاء فيها من دون انتقال منها، ومع وجود هذه الحاجات فإن من ينتقلون هم فئات محدودة في معظم البلدان وبالتالي لا يحظى الكثير من المواطنين بفرص عادلة للوصول إلى المدينة أو توصيل خدماتها إليهم من قبل الدولة اللهم إلا عن طريق قطاع خاص يستغلهم في وسائل الانتقال وفي نقل السلع والخدمات إليهم وهو يحافظ على الفروق والتناقضات والتمايزات بين المناطق لصالح بقائه واستمراره في جني الأرباح جراء هذه التناقضات.

وفيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية نجد أن ما يتوفر للأجهزة الأمنية العربية من إمكانيات تيسر عليها التغلغل في كافة الجهات والمناطق حسب ضرورة ذلك للسلطة الحاكمة، لا يتوفر لغيرها من مؤسسات الدولة المتعلقة بالخدمات التعليمية والصحية التي قد تحتفظ بتواجد مادي خالي من الجودة والكفاءة والمساواة التي تقتضيها العدالة الاجتماعية، وهو ما يجعل جهات محلية قبلية أو دينية تقوم بوظائف الدولة ويضعف فرصة وصول هذه الخدمات للجميع بحياد، بل في بعض البلدان يصبح الأمن من وظائف القطاع الخاص إذ تنمو شركات الأمن الخاصة في المنطقة العربية بشكل مضطرد، ما يعني انسحاب الدولة من أدوارها الأساسية المرتبط بحق المواطنين في الأمن الذي تقايضه بالعدالة كلما علت الأصوات المطالبة بمزيد من العدالة والحقوق المرتبطة بها بعد أن انسحبت في ظل السياسات النيوليبرالية من قطاع الخدمات الأساسية بشكل كبير سواء تحت مسميات الخصخصة والإصلاح الإداري أو الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

وهذه التمايزات تنتج آليات تعمل ضد العدالة الاجتماعية، إذ قد يتم التمييز المقصود أو غير المقصود بين المواطنين علي أسس تتناقض مع فكرة العدالة ووجود الدولة، فالمرأة والمرأة القروية أكثر معاناة من الأمية والبطالة في كثير من البلدان العربية وهذا مرتبط بالتوزيع غير الرشيد للمدارس في مختلف أرجاء الدولة العربية وهو ما يمنع الفتيات خاصة من إتمام تعليمهن لوجود المدارس بعيدا عن مقر سكنهم، أي أن السياسات المتبعة تعوق فكرة النفاذ للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على نحو عادل وهذا ما يعني أن الدولة أمامها تحدي كبير فيما يخص القضاء على الأمية في صفوف النساء، ومع أن الدولة وهيئات المجتمع المدني اتخذت خطوات ملموسة في هذا الإطار والمتمثلة في المشروعات الصغيرة وخاصة على مستوى القرى الفقيرة، وتشجيع الإنتاج المحلي، إلا أن هذه الاجراءات تبقى مشوهة وخاصة في ظل الظروف والأزمات الاقتصادية الحالية. وأما على المستوى السياسي فعوائق المشاركة أيضا متعددة ومتنوعة ومرتبطة من جهة بالمجتمع نفسه ومن جهة أخرى بالهيئات السياسية داخل الدولة، ويظهر ضعف مشاركة المرأة في ضعف تمثيلها في الهيئات السياسية داخل الدولة كالحكومة والبرلمان والنقابات والأحزاب.

من الممكن الحديث عن غياب نوع من المساواة المناطقية في أكثر من حالة عربية ففي العراق كحالة شارحة نجد أن المحافظات التي يخرج منها إنتاج النفط خارج المنطقة الكردية هي الأكثر فقرا فمنذ احتلال العراق في العام 2003، بدأ المأزق السني جليا عندما فشلت الرهانات على العملية السياسية، ولم تجد تلك التحولات نفعا في إعادتهم إلى النظام السياسي لم تقف الأمور عند هذا المستوى من الاستبعاد، بل جرت حملة واسعة ضدهم في مؤسسات الدولة، وفصلت قوانين تفصيلا لاستبعادهم ومعاقبتهم بتهم الإرهاب والاجتثاث البعثي. ازداد الأمر سوءا مع العام 2011، عندما أعلنت حراكا سنيا من نشاطات واحتجاجات سلمية في الأنبار ومناطق أخرى، تزامنا مع ثورات الربيع العربي، للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات وإنصاف السنة، فكانت النتيجة مزيدا من التضييق والاضطهاد والاعتقالات، وقتل عشرات المعتصمين في الحويجة، وصولا إلى العام 2014 حيث سيطر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام على مناطق واسعة من العراق هنا أيضا يمكن الحديث حول أن الدولة لم تعد هي الكيان الوحيد الذي ينتهك حقوق المواطنة فنجد أن الجماعات الدينية العنيفة وتحديدا تنظيم الدولة الإسلامية الذي يقوم بانتهاك حقوق جميع الطوائف غير المسلمة السنية وهذا لا يعد فقط قتل على الهوية وإنما يعطي انطباعا عن كيفية استيعاب هذه التيارات لمفهوم المواطنة واعلائهم للانتماء المذهبي فوق أي انتماء، هذه الممارسات من قبل التنظيمات الإرهابية تزيد بذاتها من حجم المظالم الاقتصادية والاجتماعية، وتعطي شرعية لتأجيل النظم الحاكمة لأي استجابات أو سياسات ممكنة لحل القضايا المرتبطة بالعدالة الاجتماعية، ويعطي زخما لأقل الإجراءات المرتبطة بها بحيث ينظر إلى خطة العبادي لمكافحة الفساد باعتبارها إنجازا تاريخيا.

يحيلنا هذا إلى سؤال كيف تلجأ مؤسسات هذه الدول لحل النزاعات القبلية والمناطقية والجهوية وكيف يؤثر هذا على العدالة الاجتماعية؟ إذ تلجأ كثير من الدول العربية المركزية في حل مشكلات الأقاليم إلى الحلول الأمنية العرفية وليس القانونية، وتشي هذه الحلول بضعف رابطة الدولة مقارنة بروابط الولاءات التحتية يتضح هذا من خلال العديد من المظاهر، منها على سبيل المثال لجوء الحكومة العراقية للسماح بتشكيل قوات الحشد الشعبي ذات الطبيعة الطائفية كوسيلة لمواجهة داعش كما يتضح أيضا من معالجة الحكومة الجزائرية للقضية الطائفية بين الإباضية والمالكية في مدينة غرداية في الجنوب الجزائري، ولا تعد مصر بتاريخ وجود الدولة الضارب في التاريخ استثناءً على ذلك فالكثير من النزاعات القبلية في الصعيد والأطراف تترك لحلول عرفية كان آخرها الاقتتال العنيف بين قبيلتي الدابودية (النوبية) والهلايل في مدينة أسوان والذي لجأت الدولة فيه لحل عرفي.

في معظم هذه الحلول تراعي الدولة موازين قوى مرسومة منذ عقود وربما تغيرت في الواقع، ومن ثم تكرس تمايزات وطبقيات وأنماط لتعالي بعض عناصر المجتمع على بعضها، ولا يهم الأجهزة الأمنية في تلك الدول سوى إبعاد موضوع الصراع ومظاهره عن أن يكون موجها ضد النظام القائم والطبقة الحاكمة المحيطة به، ويعد هذا مفسرا لعدم نجاعة المشروعات الصغيرة التي يطرحها الكثيرون لحل هذه الإشكالية إذ تتحول هذه المشروعات إلى مصدر أكبر لتكريس عدم المساواة من خلال استخدام العمالة الرخيصة فتنتج تفاوت طبقي على مستوى الإقليم ذاته، أو تتحول لوسيلة لإنتاج جزئي منخفض العائد لصالح صناعات أكبر في المركز بما يزيد الفجوة داخل الدولة.

ثالثا البنية الطبقية:

العلاقة بين الطبقة والدولة في العالم العربي بسبب البنية الفوقية التي سبقت الإشارة إليها علاقة جدلية تطرح تساؤل أيهما يستخدم الآخر هل الدولة أداة الطبقة للحكم والسيطرة أو العكس كما يفسر جويل مجدال هذه الجدلية مستخدما مفهوم الدولة العميقة الذي يشير إلى الدولة الأمنية التي تتغلغل فيها شبكات المصالح والفساد بين رجال المؤسسة العسكرية، ورجال الأعمال، ‬ورجال القضاء،

وهنا يجب أن نفرق بين الطبقة المسيطرة والطبقة الحاكمة فليس بالضرورة أن تحكم الطبقة المهيمنة بذاتها وإنما يمكن أن يكون لها وكيل يتولى السلطة ويحصل على نصيبه دون أن تكون هذه الطبقة في الواجهة، فالنظام الرأسمالي غالبا ما تتفرغ فيه الطبقة العليا لمشروعاتها وينوب عنها الشريحة العليا وأحيانا الوسطى من الطبقة الوسطى، وقد يحدث أن لا تقع سلطة الدولة في قبضة طبقة اجتماعية واحدة وإنما تقع السيطرة عليها من قبل تحالف طبقي من طبقات ومن فئات اجتماعية مختلفة، فينجم عن ذلك قيام سلطة معبرة عن ذلك التحالف الطبقي وعن مصالح القوى الاجتماعية المكونة له لكن ذلك لا يغير كثيرا من حقيقة التلازم بين الدولة والطبقة، إلا أنه أحيانا ما تخلق الدولة عبر ممارساتها طبقة خاصة بها مثلما حدث في نهايات فترة التحرر الوطني حيث نمت طبقة من البورجوازية الجديدة التي كانت قد حصلت على أكثر مكاسب ممكنة في ظل سيطرة الدولة على قطاعات الإنتاج وكان من صالحها في هذه اللحظة تحول النمط الاقتصادي لاقتصاد السوق بما يمكنها من تحقيق أرباح على الوساطة في بيع وخصخصة الشركات أو الدخول في شراكات مع شركات عالمية عبر تأسيس وكلاء محليين، أو حتى كما حدث في بعض الحالات شراء هذه الشركات بذاتها، أو كما نرى في نماذج المحاصصة الطائفية في العراق ولبنان حيث تحول تقاسم السلطة بين الطوائف إلى تقاسم للثروة بين مجموعات محددة داخل هذه الطوائف، تحولوا في حد ذاتهم إلى طبقة مسيطرة يعبرون عنن مصالحهم المشتركة أكثر مما يعبرون عن مصالح الطوائف التي يمثلونها، ولعل ما حدث في أزمة النفايات أغسطس 2015 خير دليل.

وليس الأمر عارضا فثمة عناصر مترابطة لاستمرار وتكريس الطبقية في المجتمعات العربية يؤسس لما يعرف بالطبقات الحاكمة التي تنتشر على المستوى الأفقي والرأسي للدول العربية، إذ يحيط بمعظم نظم الحكم مجموعة من رجال الأعمال المؤيدين والذين قد يتحملون مهمة إنقاذ النظام في لحظات الانهيار، ويستخدمهم النظام في إنشاء شبكة مصالح مرتبطة به تتغلغل وتنتشر في المجتمع لنشر شرعيته أو الحفاظ على ما يتبقى منها مقابل إطلاق أيديهم في المجال الاقتصادي، بحيث ترتبط عملية اعادة إنتاج وتكريس استمرارية هذه البنية الطبقية بكافة قطاعات الدولة العربية وعلى رأسها التعليم إذ تتنوع المدارس وتتفاوت في جودتها ما بين تعليم حكومي وأهلي وخاص، محلي ودولي ديني ومدني ما يعني مزيدا من استقرار الادراك المجتمعي لحدود التفاوتات باعتبارها أمرا طبيعيا ما حدا ببعض الباحثين السوسيولوجيين لتسميتها مدرسة إعادة إنتاج الطبقات.

ومن ثم لا عجب أن يرى بعض المنظرين العرب أن ما نشأ في الحالة العربية هو كيانات تشبه الدولة في شكلها السياسي والقانوني، وتناقضها كنظام ومؤسسات وأهداف، وهي أقرب إلى دول هجين، تمتلك جيشا وأجهزة أمنية ومؤسسات، مهمتها الأولى -وربما الأساسية- هي قمع الشعوب وتكبيل قواها الحية وقتل روح المبادرة الحرة، وتحولت إلى دولة منتجة لشبكات من الفساد والإفساد ولعصبيات مذهبية وطائفية، بدلا من أن تسهم في تأسيس الجماعة الوطنية الموحدة أو الأمة، وحاولت الدولة الهجين جعل المجتمع في خدمة نخبتها الحاكمة ومصالحها، أي أنها لم تعمل على خدمة المجتمع بمقدار ما أن المجتمع سخر بالقوة في خدمة الطبقة الحاكمة، ولم يعنها كثيرا أن تستمد من المجتمع شرعيتها وقوتها، فأوجدت شرعيات “ثورية” انقلابية، وشرعيات دينية ووراثية تجسد سندها في الواقع الجاثم على صدور عامة الشعب أو الرعية حسبما تفضل تسميتهم بعض الأنظمة “الثورية”، وقد نجحت هذه الدولة في إنتاج قدر كبير من السطوة والسيطرة على المجتمع، بمختلف جماعاته الوطنية، واستعانت بالخارج، كي تستقوي عليه وتزيد من قوتها وسلطتها، وباتت أشبه بقوة احتلال داخلي، وليس خارجي، وبالتالي لا يمكن لهذه الدولة الهجين أن تنتج دولة الأمة، أو دولة لمجموع مواطنيها.

بالطبع تقف هذه الطبقات ضد أي عملية تغيير لقواعد اللعبة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لأنها ترى فيها التضاد مع مصالحها، وهنا يصبح حديث الثورات فقط حول مجرد مكافحة الفساد أو إعادة أجزاء من الأموال المنهوبة، بل ويتحول الأمر للحديث عن خروج آمن لهؤلاء المجرمين جنائيا وماليا في حق الشعوب، أو إعادة دمجهم من قبل الإصلاحيين في عملية سياسية تدور عجلتها ضد عقارب ساعة العدالة الاجتماعية المنشودة، كما هو الحال في تونس حيث تم طرح قانون للمصالحة الوطنية يشمل مصالحة مالية واقتصادية مع رموز النظام السابق بحجة الأوضاع الاقتصادية المتردية.

ففي المنطقة العربية بعد الثورات لم نر أي تغير في شبكات المصالح الت كانت مشكلة في عهود ما قبل الثورات والتي كانت تفصل القوانين وتصوغ السياسات على مقاس مصالحها الضيقة، ففي مصر كانت رحلة الرئيس المصري محمد مرسي إلى الصين مليئة بوجوه من رجال أعمال نظام مبارك ولا تزال هذه الوجوه ترافق الرئيس السيسي في معظم جولاته الخارجية من هذا مثلا الجدالات التي تثيرها هذه الطبقات الحاكمة حول قوانين الحد الأقصى للأجور والضرائب التصاعدية في مصر، وما انتهى إليه الأمر من تفريغها من مضامينها بشكل ممنهج عن طريق أحكام قضائية تستند إلى إمكانية فقد بعض الجهات الحكومية للكفاءات الموجودة بها تارة وتارات أخرى بحجة أن هذه الهيئات لا تخضع لهذه القوانين، أيضا الجدل الدائر في تونس حول المديونية العمومية والاستمرار في سياسة الاقتراض، والذي تقف هذه الشبكات ضد أي حديث عن جدولة الديون الداخلية والخارجية أو حتى مجرد إعادة النظر في بعضها باعتباره ديونا كريهة ارتبطت مصادرها بالسلطات التي قامت ضدها الثورات.

وكان البديل الطبيعي لهذا الوضع هو كيانات مجتمعية قوية مثل النقابات تدافع وتتفاوض لمواجهة سعي الدولة -في ظل بنيتها الحالية- للسيطرة على كل مفاصل المجتمع باعتبارها المنتج الوحيد والموزع العادل للثروة والسلطة والنفوذ في المجتمع، وقد أدى تأميم الدولة للنقابات أيضا إلى تشويه صورة العمل النقابي وعدم قدرة القائمين بعمل نقابي مستقل على مواجهة التحولات الرأسمالية التي تعمل في المجتمعات العربية ضد العدالة الاجتماعية، حيث استهلك هؤلاء في صراعات إثبات الوجود أمام نقابات الدولة التي باتت عبئا على العمال والمهنيين والعمل النقابي ذاته، وعندما طغت التحولات الرأسمالية على كل مناحي الحياة ظهر المجتمع المدني كحل لعلاج تناقضاتها، لكنه لم يكن حلا ناجعا إذ تزامن مع تخلي الدولة العربية عن أدوارها الأساسية ومن ثم عن فكرة الحقوق والواجبات التي هي من مقومات وجود الدولة الحديثة.‬‬‬‬‬

هذه العلاقة بين الدولة والطبقة هي علاقة أكثر تعقيدا من النظريات التقليدية، إذ تصبح الدولة في تناقض مع المجتمع بمعنى أنها إذ تمثل مصالح طبقة أو تحالف طبقي فهي لا تمثل المجتمع برمته ثم بمعنى أن تمثيلها لمصالح طبقة بعينها إنما يكون، بالضرورة، على حساب مصالح سائر طبقات المجتمع الأخرى، وتتحول العدالة الاجتماعية فيها إلى أداة لتكريس الهيمنة أكثر منها سياسات تهدف لتحقيق العدل والمساواة، وفي حال استمرار هذه العلاقة بين الدولة والطبقة على هذا النحو فإن الاستقرار السياسي يعد أمرا بعيد المنال إذ أن استمرار الدولة دولة طبقة مالكة مستغلة، يوقع فعل الاستغلال الطبقي حكما على أغلبية المجتمع المكون من الطبقات الكادحة والمحرومة من وسائل الإنتاج ويؤجج الشعور بالحرمان الناجم عن علاقة الاستغلال الطبقي تلك، وهي الدينامية العميقة التي تقود بقية المجتمع إلى الرد على الاستغلال وعلى هذه الأوضاع بالنضال المطلبي (النقابي) أو عند حصول الوعي الطبقي وتحقيق التنظيم السياسي إلى الثورة، أي إلى تقويض سلطة الطبقة المسيطرة وتدمير علاقات الإنتاج السائدة، وفي حالة غياب نقابات فعالة يكون الأمر أكثر تعقيدا مثلما هو الحال في معظم دول المنطقة.

خاتمة:

ثمة خلل جوهري في بنية الدولة العربية يتعلق بأن نشأتها أقرب إلى إنشاء سلطة سياسية ملحقا به بناء مجتمعي يلحق به مجتمع أو هندسة فوقية تحشد المجتمعات لتنفيذها، وهو ما يجعله وفقا للفقه القانوني عقد إذعان وليس عقد اجتماعي كما النموذج الذي نشأت عليه الدول الأوروبية. ومن ثم كانت النظم المتعاقبة ترى في نفسها الدولة صاحبة الحق في توزيع امتيازات السلطة والثروة وفق ما يحلو لها وليس وفق أسس عادلة أو حتى قريبة من العدالة في معظم البلدان فيما قبل الاستقلال، وفيما بعد الاستقلال ارتبطت كثير من النظم بزعامات وربما بأيديولوجيات ونخب كانت ترفع شعارات العدالة وحاولت تطبيق بعض سياساتها مبتورة عن رؤية كلية تربط السياسي بالاقتصادي والاجتماعي ووفق مشروعات شخصية وليس بنية مؤسسية وهو ما أدى إلى ردة كلية عن هذه السياسات بل أن عوامل انهيارها جاءت من داخل هذه التجارب والطبقات التي تشكلت في ظلها، كان هذا واضحا في مصر السادات، وعراق ما بعد صدام حسين، وسوريا بشار الأسد، وتونس بن علي والمغرب في عهد محمد الخامس، حيث الانفتاح المبالغ فيه على النظام الاقتصادي والمالي العالمي ومن ثم تراكم الاختلالات وعوامل انعدام العدالة.

ما لم تمس سياسات نظم ما بعد الثورات بنية الدولة العربية وتعيد ترتيب علاقة النظام السياسي بالدولة والمجتمع، وبالذات في النواحي الاقتصادية والاجتماعية فإن هذه الثورات لن تكتمل ولن تحقق أي من أهدافها الرئيسية في تحقيق العدالة الاجتماعية والحرية والعيش الكريم، إذ أن البنى التقليدية للدول العربية بحالها الذي وصلت إليه لا تحتمل إصلاحات جزئية والنظم المسيطرة عليها لا تريد أدنى تغيير في قواعد التفاعل بين السلطة الحاكمة والمجتمع.

أيضا هناك حاجة ماسة لمناخ سياسي منفتح يضمن الحق في التنظيم وحرية التعبير، ومن ثم يوجد أنواعا من التنظيمات التي تقوم على أكتافها العدالة الاجتماعية من تعاونيات ونقابات قادرة على الدفاع عن سياسات أكثر عدالة في مواجهة شبكات المصالح المهيمنة والطبقات الحاكمة المرتبطة بها، بل تكون وسيلة أساسية في قلب المعادلة المبنية عليها الدولة العربية لتصبح بنية من أسفل لأعلى بدلا من الحالة التي هي عليها الآن، وهو ما يتطلب كذلك مراجعة علاقة المركز بالأطراف في الدول العربية المركزية، والتأسيس لعلاقات أكثر عدالة بين المدينة والأقاليم بين الريف والحضر، تصل الخدمات في هذه العلاقة بعدالة للجميع ويحافظ فيها الريف والمدينة على خصائصه الأساسية دون الاحتفاظ بفكرة الصهر والدمج وإنما التنوع والتبادل والمواطنة كأساس لعلاقة القبيلة بالمدينة والسلطة والمركز بالريف، وبالتالي عدالة توزيع مكانية تقتضي التفكير في النمط التنموي الأمثل لنظام أكثر عدالة.

بناء على ما سبق فإن بنية الدولة العربية هي معوق أساسي في تحقيق العدالة الاجتماعية وهو أمر صحيح، إلا أننا يمكننا أن نضيف أن غياب العدالة الاجتماعية خطر على الدولة العربية، أي أن إصلاح بنية الدولة واجب لتحقيق العدالة الاجتماعية كما هو أساس للحفاظ على الدولة في حد ذاتها، لكن بالتأكيد نعني هنا دولة المواطن وليس دولة الطبقة.

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart