العدالة الاجتماعية بين الحراك الشعبي والمسارات السياسية في البلدان العربية

العدالة الاجتماعية بين الحراك الشعبي والمسارات السياسية في البلدان العربية

مقدمة كتاب:  العدالة الاجتماعية بين الحراك الشعبي والمسارات السياسية في البلدان العربية

على مدار الأعوام الأربعة الماضية من عمر الحراك الثوري في بعض البلدان العربية التي كانت العدالة الاجتماعية جزءا رئيسيا من مطالبها، شهدت هذه البلدان الكثير من التطورات سواء الداخلية أو الإقليمية أو حتى من حيث التعامل الدولي مع هذا الحراك وهذه التطورات، ولا شك أن هذه التطورات في مجملها تؤثر بشكل أو بأخر في خطاب العدالة الاجتماعية والسياسات المرتبطة به، سيما إذا تمت قراءة هذا الحراك في ضوء مطالب اقتصادية واجتماعية ملحة من أجل تغييرات بنيوية، تتعدى الأشكال السائدة للاقتصاد والتنمية وتقدم نقدا لبنية المجتمع وطبيعته الطبقية.

وإذا كان مفهوم العدالة الاجتماعية وتطبيقاته وشعاراته، قد انعكس في الخطابات السياسية العربية المطروحة سواء في برامج حزبية أو انتخابية برلمانية أو رئاسية، فإن هذه الخطابات تظل بعيدة عن سياسات حقيقية على الأرض وبعضها مشوش ومغالط أحيانا لمفهوم وتطبيقات العدالة الاجتماعية. فإما حصر المفهوم وتطبيقاته في مدخل واحد والتركيز عليه، مثلا، عدالة الأجور تعد جزءا من المفهوم الشامل للعدالة الاجتماعية، ولكن نجد أنه يتم حصر مطالب المواطنين في المطالبة بها فقط، وعدم التركيز على مؤشرات العدالة الاجتماعية الأخرى والتي ترتبط بجملة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وعلى رأسها حقوق المواطنين في الخدمات العامة كالصحة والتعليم. أو يأتي التعامل مع مفهوم العدالة الاجتماعية كمفهوم فضفاض ومجرد وليس مرتبطا بسياسات ومؤشرات واقعية تعني تحقيقه، ويظهر هذا جليا في اعتبار مطالب المواطنين الاقتصادية والاجتماعية مطالب فئوية وليست مرتبطة بالحراك السياسي ويجب إرجاءها حتى تحقيق التغيير على مستوى النظام السياسي.

وتحاول هذه المقدمة تحليل وضعية العدالة الاجتماعية في المنطقة العربية بعد الثورات من خلال: تحديد الفرص والتحديات التي طرحتها هذه التطورات على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، سواء على بنية الدولة وطبيعة ودور المجتمع المدني، وعبر عملية تفاعل المجتمعين الإقليمي والدولي مع هذا الحراك وهذه التطورات، وكيفية تأثيرها في قضية العدالة الاجتماعية لتخلص إلى العناصر التالية:

أولا: الفرص التي يطرحها السياق العام

على المستوى الدولي: بينما كان خطاب العدالة الاجتماعية قاصرا على قوى اليسار عالميا ومرتبطا بصعود الصراع الإيديولوجي بين الاتحاد السوفييتي والقوى اليسارية العالمية من جهة، والولايات المتحدة والنظام الرأسمالي الناجم عن إجماع واشنطن وتجلياته السيئة المرتبطة بالسياسات النيوليبرالية التي تجلت بشكل واضح في نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، ومن ثم صعود خطاب عالمي يراجع هذه السياسات، باعتبار العدالة الاجتماعية هي عنصر مركزي لتأسيس شرعية واستقرار أي مجتمع سياسي، والحدود المفاهيمية للعدالة الاجتماعية دائما ما تكون في حالة تغير مستمر، حيث أن فكرة العدالة الاجتماعية في حد ذاتها تخضع لنظام قيمي وثقافي متغير، ما جعل البعض يتوسع في السياسات المرتبطة بمفهوم دولة الرفاهة من خدمات عامة قوية، ودور أكبر للدولة في تنظيم السوق ومن ثم العلاقة بين الفواعل الاقتصادية والاجتماعية.

كما أن التوسع في تعميم سياسات البنك والصندوق وتفاقم الآثار الناجمة عنهما أعطى فرصة قيمة لقوى اليسار الأوروبي لطرح مساوئ هذه السياسات ومن ثم كسب بعض الأرضيات في بعض الدول، فقد وجد ائتلاف اليسار الراديكالي “سيريزا” طريقه إلى السلطة في اليونان، بعدما حظي بثقة 36.34% من الناخبين، عن طريق تقديمه خطابا يساريا جديدا، ناهض فيه التقشف، وتخلى فيه عن الشعارات الإيديولوجية الكبيرة، والمفاهيم الغامضة، والمعاداة الكلاسيكية للرأسمالية والليبرالية، والتركيز على المطالبة بالعدالة الاجتماعية. مما يعد تطورا إيجابيا على مستوى البنية ومرتبطا بفكرة أثينا مراجعة داخلية في اليونان وأكثر من دولة لسياسات التعاون مع الاتحاد الأوروبي وفي الأطر الجماعية الأخرى وجدواها، كما أن هناك بعض الدول تقوم بتطبيق برامج حماية اجتماعية وصحية مثل الصين وبعض دول أمريكا اللاتينية وتقاوم النظام العالمي بتشجيع الطلب المحلي واعتماد مؤشرات مغايرة للتنمية، وأمام تلك المتغيرات، أصبحت العدالة الاجتماعية أحد المصطلحات التي ربما تحدد وجهة الناخبين في دول الاتحاد الأوروبي ذات الوضع القريب من الوضع اليوناني، وعلى رأس تلك الدول إيطاليا وإسبانيا.

وعلى المستوى النظري ارتبطت دراسة تأثير النظام الاقتصادي العالمي في التحولات الديمقراطية بموجة التحول الديمقراطي التي واكبت انتهاء الحرب الباردة، واستمدت المقولات والافتراضات الأساسية من تلك التجارب التي لعب فيها العامل الخارجي، خاصة الاقتصادي، دورا واضحا، وإن كان على هامش عمليات التحول. فقد شكل النظام الاقتصادي العالمي سياقا حاكما لكثير من عمليات التحول الديمقراطي، منذ انتهاء الحرب الباردة، إذ مثل حافزا مهما لها، خاصة في دول المعسكر الاشتراكي السابق، أو قوة ضغط رئيسية لدفع عمليات التحول أو منعها من الانتكاس في فئة أخرى من الدول التي تتمتع بحساسية أو انكشافية معينة تجاه تغيرات وضغوطات هذا النظام، خاصة في إفريقيا جنوب الصحراء.

وقد تراجع الاهتمام نسبيا بتأثيرات العامل الخارجي عموما، بما في ذلك بعده الاقتصادي، في عمليات التحول الديمقراطي مع بداية الألفية الجديدة، بينما تجدد الاهتمام بدراسته وبحث محدداته، وأشكال واتجاهات تأثيره في ضوء التحولات السياسية التي يشهدها العالم العربي بعد الثورات.

على المستوى الإقليمي: شهدت الدول العربية التي لم تمر بموجة الربيع العربي وبالذات القوى العربية المؤثرة كالسعودية ودول الخليج ارتباكا في مواقفها من تلك الانتفاضات الثورية، إذ بينما بدت خطابيا مسلمة بنتائجه وتتعامل معه باعتباره أمرا واقعا، بدا هناك تخلخل كبير في مواقفها من الحراك في كلا من البحرين واليمن من جهة، وسوريا ومصر وتونس من جهة أخرى، وهو ما أعطى مساحة للمعارضة في هذه البلدان لإبراز هذا التناقض، ما أدى لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لسكان هذه الدول ولو برشاوى ومنح ملكية لتفادي الربيع.
تفتت مواقف هذه القوى أدى لمساحة مناورة كان يمكن لدول الربيع العربي استغلالها بشكل أفضل، لولا الاستقطابات الدينية-العلمانية الوهمية التي قفزت بها تلك النظم على مطالب التغيير الاقتصادي والاجتماعي، ربما هذا علم الحراك الاجتماعي درسا ألا ينساق وراء هذه الفقاعات.

ولعل أبرز الأمثلة على تطور الحراك في المنطقة العربية، هو الحراك في كلا من العراق ولبنان في 2015، حيث قدم هذا الحراك نموذجا جديدا لتطور الحراك الاجتماعي المرتكز بشكل مباشر على المطالب الاقتصادية والاجتماعية. بدأ الحراك في لبنان مع أزمة النفايات ولم يتوقف عند هذا الحد بل امتد إلى مسألة علاقة البلديات بالمالية العامة، وتطور هذا المستوى ليشمل ملفات أخرى كالكهرباء أو الأملاك البحرية وغيرها من المطالب القديمة أيضا كموضوع الرواتب. وفي هذا السياق يمكن قراءة الحراك المدني على أنه نتيجة طبيعية لتردي الوضع الاجتماعي للشعب اللبناني حيث تتآكل الطبقة الوسطى وتتسع شريحة الطبقة الفقيرة على صعيد مساحة لبنان كله، بسبب الأزمات السياسية الداخلية المتلاحقة أو الاضطرابات التي يشهدها الإقليم التي من أبرزها مؤخرا “الحرب في سوريا”. وبرز الحراك المدني في مواجهة ملف النفايات في لحظة تعزز فيها الانتماء الطائفي بسبب هيمنة الأحزاب الطائفية على كل القطاعات في الدولة حيث لم تعد إدارة تسير أو يتم أي توظيف فيها أو إقرار لأي مشروع أو مؤسسة إلا بموافقة منها، أو يتم تجميده إلى حين التوافق عليه وتقاسم عمولته.

وكان قد سبق الحراك في لبنان، انطلاق حراك أخر في بغداد ومحافظات جنوبي العراق مظاهرات حاشدة استجابة لدعوات التيار المدني للاحتجاج على الفساد وتردي الخدمات وعدم توفر الوظائف. حيث طالب المتظاهرون بإجراءات حقيقية وفاعلة لمحاربة الفساد وتحسين مستوى الخدمات ومحاكمة المسؤولين الفاسدين في البلاد، وعمت المظاهرات الشعبية وسط العاصمة العراقية ومدنا أخرى، منها كربلاء والحلة والنجف والناصرية والبصرة والديوانية للجمعة الثالثة على التوالي رغم الإجراءات الأمنية المشددة، للمطالبة بإصلاح المؤسسات القضائية، وإبعاد مؤسسات الحكومة عن المحاصصة الطائفية.

وفي الحالتين نجد تركيز المواطنين على إضفاء الصفة المدنية والشعبية على الحراك في سياق يتسم بالطائفية والمذهبية، والإصرار على عدم الفصل بين جملة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وبين مطالب التغيير السياسي.

على المستوى المحلي: تطور النقاش العام حول موضوع العدالة الاجتماعية، ثمة تطور مرتبط بالرؤى الفكرية لدى الشباب للبحث عن بدائل، هناك أيضا تطور متعلق بمحاولات تنظيم المواطنين لأنفسهم في مبادرات وجمعيات ونقابات جديدة، هناك بحث عن العدالة الاجتماعية في النضال الحيوي اليومي، كما أن مؤسسات الدولة بدأت تتبنى العدالة الاجتماعية ولو خطابيا، كان هناك تطور خاص بوصول قوى اليسار أو اليسار الديمقراطي لبرلمانات ما بعد الثورات وكذلك جمعيات وضع الدساتير ومن ثم توفر القدرة على طرح العدالة الاجتماعية في السياسات والتشريعات.

على مستوى البنية: معظم الأحزاب والمؤسسات السياسية حاولت وضع العدالة الاجتماعية على أجندتها، وإن كان ذلك بشكل مجتزأ إلا أن بعضها وضعا أطرا لسياسات يعتبرها عادلة أو على الأقل أكثر عدالة مما هو موجود فعلا من سياسات، أو في إطار نقده لسياسات نظم ما قبل الثورة وما بعدها كان يصفها بأنها تغيب العدالة، ولا تخدم الجميع، وهو ما يخدم منظورا مساواتيا للعدالة، وإن كان الأمر يتطلب إعادة تصحيح الخلل في توزيع الثروة والسلطة قبيل الحديث عن مساواة.

كانت كل من مصر وتونس قد قادتا التحولات النيوليبرالية في المنطقة، بناء على خطط وسياسات المؤسسات المالية الدولية، وهي التحولات التي ولدت مقاومة اجتماعية اتسعت يوما بعد يوم، مهدت للربيع العربي، وتركت أثارها بامتداد الحركة الاجتماعية لما بعد الإطاحة بالأنظمة. وأمام ذلك وبالإضافة إلى ما تشهده دول أوروبية مثل اليونان وإسبانيا من مناهضة للسياسات المتبعة من المؤسسات الاقتصادية الدولية، حدثت مراجعات قوية لخطاب تلك المؤسسات تنتقد غياب العدالة في السياسات. بالإضافة إلى تصاعد النقاش حول قوانين العمل في بعض الدول الأوروبية ومدى اتفاقها مع المواثيق الأوروبية لحقوق الإنسان. بالإضافة إلى نمو الاتجاه لفتح حوار حول هروب الأموال الفاسدة للخارج وتعديل بعض القوانين لتمكين دول الربيع العربي من استرداد أموالها.

ومع تلك المعطيات، عقدت الدول الثمانية الكبرى مع الدول العربية التي تمر بمرحلة انتقالية، وهي مصر، تونس، ليبيا، المغرب واليمن، ما يعرف بشراكة “دوفيل”، وهي شراكة اقتصادية بمقتضاها تساعد الدول الثماني الكبرى، دول المرحلة الانتقالية اقتصاديا، وعلى الرغم من أن آليات الشراكة لا تختلف عما تطرحه المنظمات الاقتصادية الدولية من شروط اقتصادية رأسمالية إلا أنها تضم أيضا بعض المعايير التي تعبر عن العدالة الاجتماعية، مثل التنمية وتوفير فرص العمل وتوفير المساعدات للشباب والمرأة.

على مستوى مؤسسات الدولة: أبدت مؤسسات الدولة خطابا نحو تبني العدالة الاجتماعية في بداية الحراك، وبدأت تتفاوض مع القوى العمالية والاحتجاجية، وإن كان هذا من منطق إنهاء الحراك، إلا أنها في النهاية قبلت بإدخال بعض رموز هذا الحراك في هياكلها سواء كوزراء أو مسئولين عن إعادة هيكلة نقابات ومؤسسات تقوم على التعامل مع حقوق العمال.

المجتمع المدني والحراك العام: هذه الموجة من الثورات أعادت المفهوم لعالم السياسة في العالم العربي، وأنها مدت إلى المنطقة العربية توجها وجدلا عالميا على أرضية الضعف الفكري والسياسي لمشروع الليبرالية الجديدة.ومع عودة القضية، التي تفرض نفسها مرة تلو الأخرى على جدول أعمال حكام ما بعد يناير 2011، في كل إضراب عمالي كبير، أو حركة احتجاج اجتماعي، أو حملة تخص قضايا توزيع الدخل والثروة، يسيطر الغموض، ويتسع الانفتاح على التأويل.

وتبدو أهمية المجتمع المدني واضحة من خلال تكالب النظم السابقة في الهجوم عليه في مناسبة وغير مناسبة، فقد ساهمت هذه المؤسسات والمبادرات في بلورة وعي قطاعي بأهمية النضال من أجل الحقوق، ورغم ضعف إمكاناتها إلا أن المؤسسات البحثية تحديدا تقوم بجهد كبير في التوعية بالسياسات وآثارها الاقتصادية والاجتماعية يتضح هذا بشكل كبير في تونس ومصر، ويتجلى بدرجات أقل في الجزائر والمغرب وإن كانت مساحات الحراك فيهما قوية فيما يتعلق بمناهضة بعض السياسات الدولية التي تضر بالعدالة الاجتماعية.

ثانيا: التحديات التي يطرحها السياق العام

على المستوى الدولي: في ظل النظام العالمي الحالي، فإن البنك الدولي، وصندوق النقد، هما المحركان الرئيسيان للاقتصاد العالمي في ظل الأمم المتحدة، وقد وجه إلى المؤسستين في السنوات الأخيرة العديد من الانتقادات التي صاحبت تدخلهما في تحديد النهج الاقتصادي للدول في إطار سعيهما لرفع القيود وتحرير التجارة، وفي مسعاهما هذا فرضا خططا اقتصادية على العديد من الدول، ومنها دول الربيع العربي التي اختارت أن تنتهج هذه السياسات في أوقات شبه متزامنة قبل الثورات ومن أمثلة تلك السياسات رفع الدعم وتحرير الأسواق وتمكين القطاع الخاص، وهي سياسات من الممكن أن تؤدي إلى وضع أفضل في موازين مدفوعات الدول وتحسين مؤشرات النمو إلا أنه لا توجد ضمانة بأن يستمر نفس الحال فيما يخص العدالة الاجتماعية، خاصة لما قد يترتب عليها من سياسات تقشفية مرهقة مثل تلك التي فرضتها اليونان التي تتعرض لأزمة اقتصادية منذ عام 2007-2008، ومع التدخل المستمر للحكومات التي تنتمي إلى طيف اليمين السياسي، وضخها للمليارات لتنشيط القطاع المصرفي وقطاع المقاولات والبناء، وصل عجز الموازنة السنوي إلى 12.5% من الناتج القومي الإجمالي (GDP) وهي 4 أضعاف النسبة التي يسمح بها الاتحاد الأوروبي (3%)، والدين الخارجي وصل إلى 130% من الناتج القومي الإجمالي في حين أن المسموح به (60%)، وهي ضعف النسبة المسوح بها من الاتحاد الأوروبي. لجأت أخيرا إلى صندوق النقد الدولي ومفوضية الاتحاد الأوروبي اللذان كان حرصهما الأكبر على استمرار اليونان في الوفاء بالتزاماتها بغض النظر عن آثار ذلك على العدالة الاجتماعية.

وبري بعض المحللين أن الأزمة اليونانية كان من الممكن احتوائها عن طريق الاتحاد الأوروبي الذي يبلغ حجم اقتصاده 16 ألف مليار دولار، إذا ما توافرت الإرادة السياسية للدول الأعضاء على لذلك، إلا أن انخفاض معدلات الثقة لدى الدول الكبرى ورفض شعوبها تحمل أعباء الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا، حال دون ذلك، وهو ما يعني أن ثمة قوى في النظام الدولي تعمل على المحافظة على الفروق وربما تعميقها كآلية بنيوية لاستمرارية النظام المالي العالمي ومن ثم النظام الدولي على ما هو عليه تحت شعار الاستقرار.

إن المشهد في اليونان بعد وصول سيريزا إلى السلطة، يمكن تلخيصه في عملية كر وفر بين الحكومة اليسارية والمانحين الأوروبيين، حيث أن سيريزا والذي قدم وعودا بأنه لن يسمح بسياسة التقشف، ورفع الحد الأدنى للأجور، ووضع حد لارتفاع الأسعار، إما أن ينفذ تعهداته تلك، أو يسدد خدمات الديون المستحقة عليه، وعلى الرغم من التهديدات بالخروج من الاتحاد النقدي الأوروبي، والعودة إلى العملة المحلية (الدراخما)، وتأميم القطاع المصرفي في البلاد، على أمل أن تؤثر تلك التهديدات على الاتحاد الأوروبي وألمانيا بشكل خاص، إلا أن سيريزا اصطدم بموقف أوروبي صلب، مما جعل من محاولات سيريزا تصب في إطار تكييف الاقتصاد اليوناني مع وضع دولي وإن بشروط جديدة، في مقابل طرح المؤسسات المانحة التقشف مقابل المساعدات، الذي يضر بالعدالة الاجتماعية، والتي هي أحد الوعود الانتخابية لسيريزا.

وقد تطور المشهد اليوناني بشكل كبير، حيث قام تسيبراس بالاستقالة بعدما خسر ربع النواب الأكثر ميلا إلى اليسار خلال التصويت في 14 أغسطس على خطة المساعدة الثالثة للبلاد التي تبلغ قيمتها 86 مليار يورو وقبل بها رغما عنه في يوليو الماضي مع الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وكانت الحكومة اليونانية السابقة بقيادة تسيبراس قد دعت لانتخابات عاجلة بعدما فقدت الأغلبية في البرلمان السابق في أغسطس الماضي بعد التوقيع على حزمة للإنقاذ المالي مع الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، وفي الانتخابات التي أجريت في سبتمبر 2015، فاز سيريزا مرة أخرى ليقوم بتشكيل حكومة ائتلافية تستمر لمدة أربع سنوات. وهنا من الممكن رؤية نجاح سيريزا مرة ثانية في الانتخابات المبكرة -على الرغم من التوقيع على الخطة المالية-، مؤشرا على رغبة المواطنين الحقيقية في تحقيق الاصلاحات الاقتصادية مكافحة الفساد والتهرب الضريبي كواحدة من المعضلات التي عانى منها الاقتصاد اليوناني، والتخفيف من التقشف وآثاره والتي تعهد بها الحزب عند نجاحه في المرة الأولى.

وعودة للوضع العربي نجد ثمة خفوت لمثل هذه الحوارات حول الديون خاصة مع عدم وجود إرادة سياسية لاسترداد هذه الأموال أو محاسبة سارقيها، وأيضا فإن شراكة دوفيل تتعامل مع المنطقة ككتلة واحدة وتتدخل بشكل كبير في المشروعات المطروحة، فعلى سبيل المثال مبادرة أسواق المال والتي تم إطلاقها تحت مظلة شراكة دوفيل، حيث تعنى هذه المبادرة بتوفير ضمانات لإصدارات الأوراق المالية من أسهم وسندات التي تصدر عن دول التحول الديمقراطي في الأسواق العالمية بما يسمح بتقليل تكلفة تلك الإصدارات، ومثل تلك المشروعات على الرغم من أهميتها في تحسين وضع الدولة الاقتصادي، إلا أنها لا تساهم مباشرة معالجة المشكلات المزمنة كالتضخم والبطالة وانخفاض معدلات النمو، فشراكة دوفيل حين توقيعا كان مرجو منها علاقة مشاركة حقيقية ترتبط بزيادة الاستثمارات والعلاقات التجارية والاقتصادية مع دول مجموعة الثماني، وألا تقتصر فقط على المساعدات المالية المحدودة.

من الجدير بالذكر أن شراكة دوفيل ليست فقط مبادرة دول الثمانية، إنما أيضا تنطوي على شركاء مهمين، على رأسهم صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية من أمثال البنك الأفريقي للتنمية، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وصندوق النقد العربي، وبنك الاستثمار الأوروبي، والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، والبنك الإسلامي للتنمية، وصندوق الأوبك للتنمية، والبنك الدولي، وغيرهم. وهم اللاعبون الأساسيون في تحقيق أهداف الشراكة. فشراكة الدوفيل تصف حزم اقتصادية تتبع سياسات السوق الحر، وترى في فتح الأسواق وتحرير التجارة، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر والخصخصة والتقشف في المصروفات العامة أهدافا يجب أن تحقق من أجل الإصلاح الاقتصادي، وهي نفس السياسات التي طالما اتبعتها الدول العربية، فما كان منها إلا أن زادت من معدلات الفقر والبطالة، وأضافت للظلم الاجتماعي والتهميش أبعادا جديدة. لذا، فأهمية الدوفيل وغيرها من الأطر، سواء كانت الأوروبية أو الدولية، تكمن في تحجيمها لمساحة الاختيار وقدرة الدول على اتخاذ القرار المناسب ورسم السياسة العامة بعيدا عن الضغوط والشروط. وهكذا فهذه الأطر تتحدى محاولات التغيير التي تحاول الشعوب العربية الدفع بها منذ اشتعال شرارة ثورة تونس أواخر عام 2010.

على المستوى الإقليمي: تزايد نفوذ الدول النفطية والريعية، أدى إلى قدرتها على احتواء الحراكات الاقتصادية والاجتماعية، سواء بمنح أو عطايا لرعاياها أو بدعم توجهات نظم ما بعد الثورات تعادي العدالة الاجتماعية بشكل واضح، هذا التعاظم في نفوذ دول الخليج لدى دول الربيع العربي الأمر الذي وصل لحد تدخلها عسكريا في اليمن ومحاولة حكومات بعض دول الربيع العربي إقناعها بتمديد تدخلها ليشمل ليبيا، يعني تضييق وربما تغييب مساحة الحركة التي كانت تتمتع بها القوى الداعمة لفكرة العدالة الاجتماعية في بلدانها لصالح الاصطفاف حول الدولة في حروبها.

على المستوى المحلي: ثمة رضوخ لمحاولات المؤسسات الدولية فرض منهج التقشف كحل رأسمالي أضر بالعدالة، يتضح هذا من سياسات النظامين الجديدين في كلا من مصر وتونس، حيث الإسراع من وتيرة التخلي عن دعم الوقود، والإسراع في التخلي عن دعم السلع تحت مظلة ترشيد الدعم، وتحت شرعية الحرب على الإرهاب تمرر هذه النظم قوانين جديدة للعمل والاستثمار وتخصيص الأراضي دون رقابة، وتقولها صراحة أن على المواطنين تحمل إجراءات قاسية لاجتياز المرحلة الصعبة التي تمر بها هذه الدول، وهي نفس الظروف الصعبة مع تزايدها التي يحتملها المواطنون منذ عقود دون اجتياز لهذه المراحل. فعلى سبيل المثال أثار مشروع قانون المصالحة الوطنية” أو “المصالحة الاقتصادية” الذي عرضه الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي منتصف شهر يوليو 2015 جدلا سياسيا بين مرحب ورافض. ويرمي المشروع إلى إقرار عفو عام عن رجال الأعمال السابقين ممن ارتبطوا بالفساد المالي أو انتفعوا من الفساد أثناء فترة حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي يعرض المشروع حاليا على أنظار أعضاء مجلس نواب الشعب إلا أن ردود الفعل القوية التي أثارها قد أخرت من عملية مصادقة المجلس على إقراره.

على مستوى مؤسسات الدولة: سرعان ما تحولت هذه المؤسسات من خطاب استيعاب الحراك إلى مواجهته وتجريمه من منطق إما نحن أو هذه الاحتجاجات العمالية والاجتماعية تحت بند استرداد هيبة الدولة، بل شهدت بعض الحالات ازدياد تمترس مؤسسات الدولة حول ذاتها باعتبار أنها في سفينة واحدة ضد المجتمع وأي حراك خارج منه.

نجد مثلا أن السلطة الحاكمة في مصر بعد إزاحة مبارك كانت من أوائل ما قامت به هو إصدار ترسانة من القوانين التي تجرم الإضراب والاعتصام، بداية من قانون 34 لسنة 2011، مرورا بقانون تجريم التظاهر والاعتصام والإضراب، وفي 2013 أصدر الرئيس السابق عدلي منصور قانون تنظيم الحق في الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية والذي يمنح وزارة الداخلية سلطات واسعة للتعامل مع الاحتجاجات، ويضع شروطا فضفاضة يمكن أن يتهم المتظاهرون بناء عليها بانتهاك القانون.

ومن الملاحظ هنا أن هذه القوانين والاجراءات يتم اتباعها غالبا بعد حدوث حراك اجتماعي وسياسي على مستوى واسع مثل ما حدث في يناير 2011، ويونيو 2013.

المجتمع المدني والحراك العام: رغم وجود واستمرارية الحراك العام في معظم دول الربيع العربي ومحاولات تنظيمه سواء في مبادرات أو منظمات مجتمع مدني، تبقى في معظمها نضالات جزئية، ويحد منها بشكل كبير تسلط الدولة ومحاولتها إعادة إنتاج سياسات النظم السابقة سواء بتجريم التظاهر والاحتجاج أو بتسكين الحراكات أو حتى بالمواجهة مع أي حراك باعتباره يقلل من هيبة الدولة ويشكل جزءا من أجندات خارجية.

ثالثا: نقاط القوة المرتبطة بالعدالة الاجتماعية

على المستوى الدولي: صعود اليسار في اليونان واحتمالية صعوده في إسبانيا، وإيطاليا، وبروز اتجاهات في بعض دول جنوب أوروبا لإعادة هيكلة ديونها وإعادة التفاوض بشأن آثار الاتحاد النقدي الأوروبي عليها، هذا قد يعني مراجعة لسياسات الاتحاد الأوروبي تجاه دول الربيع العربي ومن ثم إدراك لتطلعات الشعوب نحو مزيد من العدالة الاجتماعية، كما يعني فرص قوية لتعاون بين اليسار الأوروبي واليسار في جنوب المتوسط. أيضا أحدث فوز السياسي اليساري البريطاني جيريمي كوربين في انتخابات زعامة حزب العمال مفاجأة، حيث تفوق كوربين، الذي اعتبره مراقبون مرشحا هامشيا في المنافسة، وهو المعروف عنه معارضته للقيود التي تعتزم حكومة المحافظين فرضها على النقابات. كما أن الحوارات داخل الحزب الديمقراطي الامريكي في ظل الانتخابات طرح خطابا جديدا خارج التيار العام (mainstream) الامريكي المسيطر بشدة على الخطاب السياسي الامريكي، وهو خطاب يطرح مفاهيم اساسية للعدالة الاجتماعية من رؤية خارج الإطار الرأسمالي.

حتى على مستوى خطاب المؤسسات المالية الدولية فقد حدثت مراجعات قوية عقب ثورات الربيع العربي تنتقد غياب العدالة في السياسات، بدا هذا واضحا بشكل كبير في البيانات الصادرة عن البنك الدولي وصندوق النقد حول أسباب الربيع العربي وطرق التعامل مع دوله، وبدا أكثر وضوحا واتساقا مع تطلعات هذه الشعوب في خطابات منظمة العمل الدولية التي انتقدت كثيرا سياسات البنك والصندوق باعتبارها سببا في تفاقم اللا مساواة التي أدت للحراك السياسي والاجتماعي في دول الربيع العربي.

الاتجاه نحو حوار حول هروب الأموال الفاسدة للخارج وتعديل بعض القوانين لتمكين دول الربيع العربي من استرداد أموالها، وقد انعقدت أكثر من فعالية عربية ودولية حول كيفية استرداد الأموال المنهوبة، ومنها المنتدى العربي الأول والثاني لاسترداد الأموال المنهوبة، وتشكيل لجان حكومية أوروبية مهمتها ملاءمة التشريعات لتسريع إعادة الأموال المنهوبة.

تطوير الاتحاد الأوروبي لشراكة دوفيل للتعامل مع دول الربيع العربي، هذا يعني أن ثمة إدراك أوروبي لاستحالة استمرار المعادلة القديمة في التعامل مع دول الربيع العربي بحزم مساعدات تقفز على المشكلات الأساسية، ومن ثم حدث تراجع وتردد كبير من قبل بعض الدول الأوروبية في دعم حكومات ما بعد الثورات، لربطها الأحداث السياسية بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، حيث مع إفراط الحكومات في استخدام القوة ضد الحراك الاجتماعي والاقتصادي كان يصعب على الحكومات الأوروبية تسويغ مساعدتها لتلك الحكومات.

هناك تطور إيجابي على مستوى البنية مرتبط بأن ثمة مراجعة داخلية في اليونان وأكثر من دولة لسياسات التعاون مع الاتحاد الأوروبي وفي الأطر الجماعية الأخرى وجدواها، كما أن هناك بعض الدول تقوم بتطبيق برامج حماية اجتماعية وصحية مثل الصين وبعض دول أمريكا اللاتينية وتقاوم النظام العالمي بتشجيع الطلب المحلي واعتماد مؤشرات مغايرة للتنمية.

على المستوى الإقليمي: تبدو قدرة الدول الريعية النفطية على السيطرة على الأوضاع ضعيفة، كما أن ثمة إعادة تشكيل لخرائط تحالفات المنطقة، ومن ثم يسهل على قوى اليسار العربي تفكيك طائفية الصراع لصالح وضعه على أجندة صراع اقتصادي واجتماعي توظف فيه الطائفيات والعرقيات، يبدو هذا واضحا في إفلات ملفات إقليمية من أيدي هذه الدول، وإمكانية ملاحظة التفاوت في رؤاها لما يجري في اليمن وليبيا وسوريا وترتيبها لأولويات هذه القضايا، بشكل يسهل اعتبار هذه الدول جزءا من النظام الدولي السائد المعادي لمصالح شعوبه في العدالة والحرية والعيش الكريم. ويظهر هذا جليا في محاولات استفادة الحراك في كل من العراق ولبنان من الخبرات السابقة في المنطقة العربية بالتأكيد على كونه مدنيا ويرفع مطالب اقتصادية واجتماعية في سياق الخلافات الطائفية والمذهبية وظهور التنظيمات المتطرفة في كلا البلدين. وفي هذا الإطار يعد دليلا على استمراره إقليميا بصورة واسعة.

على مستوى مؤسسات الدولة: ثبت على مدار الأعوام التالية للربيع العربي مدى هشاشة بنية مؤسسات الدولة ومن ثم، يمكن القول إنها إما أن تغير هي بنفسها سياساتها وهياكلها وتؤمن بحتمية التغيير الاقتصادي والاجتماعي لخدمة شرائح أكبر من المجتمع أو تسقط وتتهاوي لصالح حراكات قادمة قد تقوم بهذا التغيير.

المجتمع المدني والحراك العام: هناك تطور في وعي ومدركات الحراك العام والمجتمع المدني بأن الإصلاحات الجزئية لن تفيد، وأن اتباع نفس سياسات النظم السابقة سوف يؤدي لحتمية المصير، ومن ثم يتراكم الإيمان بحتمية التغيير وبجدلية قضية العدالة الاجتماعية، وهناك تطور متعلق بالاشتباك مع السياسات بالتحليل من منورات تستوعب العدالة الاجتماعية كفكرة، وتقوم بتفكيك انحيازات السياسات في دول الربيع العربي وربما تتجاوزها، سواء على مستوى الكتابات الأكاديمية والبحثية أو على مستوى خطابات نخب اليسار ويسار الوسط ويمين الوسط حتى.

رابعا: نقاط الضعف المرتبطة بالعدالة الاجتماعية

على المستوى الدولي: هناك توسع من قبل دول الربيع العربي في طلب المساعدات الفنية مع توسع المؤسسات المالية الدولية في تقديم هذه المساعدات إذ يستقر موظفوها في معظم وزارات دول الربيع العربي ويعملون كمستشارين فنيين لتسويق السياسات المالية الدولية.

  • يتكاتف السياق الأوروبي لوضع اليونان موضع التقيد بكافة التزاماتها تجاه الاتحاد أي أن ثمة تكتل ضد أي محاولة للخروج عن السياق أو النظام الاقتصادي السائد، وهنا نجد تكثيفا للجهود الأوروبية، للوصول لحل وسط فيما يتعلق بالديون السيادية اليونانية، والذي يتجه نحو تخفيض الفوائد على الديون وليس تخفيض أصول الديون نفسها، إذ لا يتعلق الأمر باليونان فقط بل بصراع اقتصادي بين دول جنوب أوروبا وشمالها حول جدوى منطقة اليورو، وتسعى دول جنوب أوروبا للحصول على نفس التسهيلات التي قد تحصل عليها اليونان في أي مفاوضات حول ملف ديونها وطبيعة علاقتها بالاتحاد النقدي لمنطقة اليورو.
  • مع صعود الجناح الشركاتي (القطاع الخاص العالمي) كجزء أصيل من السياسات المالية والاقتصادية الدولية السائدة وهيمنة الأسواق المالية ومؤسسات التصنيف الائتماني وما يشكله ذلك من خطورة على المجال السياسي قبل الاقتصادي تتأثر العدالة الاجتماعية سلبا إذ تتحدث الحكومات بلسان حلفائها من المستثمرين، ويصبح خطاب تذليل العقبات أمام المستثمرين وإشراك القطاع الخاص في تحقيق التنمية بل وفي تقديم الخدمات الأساسية هو الخطاب السائد في مقابل ضعف التيارات المطالبة بحقوق العمال وتعديل قوانين العمل والضمان الصحي والاجتماعي.

على المستوى الإقليمي: هناك موجة صعود للمشروطيات الخليجية المتعلقة بتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر في دول الربيع العربي واعتباره نموذجا ناجحا، وخير دليل على ذلك المؤتمر الاقتصادي المصري الذي تم برعاية خليجية كاملة، وبناء عليه يتم تجهيز قوانين الاستثمار والعمل لتستجيب لمطالب هؤلاء المستثمرين وليس لاحتياجات السوق المحلي، وهو ما يعني مزيدا من التسهيلات والفساد والتوسع في تخصيص الأراضي بالأمر المباشر دون رقيب أو حسيب، بل وصل الأمر في بعض دول الربيع العربي لتجريم الإضراب ووضع قيود شديدة على مظاهر الاحتجاج الأخرى كالتظاهرات والاعتصامات استجابة لهذه المشروطيات، ويعتقد البعض أن السعودية والإمارات تقومان بدور أكبر من الصندوق والبنك الدوليين في التأثير في توجهات النظم في المنطقة نحو مزيد من سياسات السوق وبالتالي تمرير الإخضاع والتبعية.

وعلى المستوى المحلي: ثمة عودة لخطابات التصالح مع النظم السابقة ورجال أعمالهم، وبرغم تطور النقاش العام حول العدالة الاجتماعية يظل نقاشا حول أفكار جزئية دون تعميق النقاش حول المفهوم وحول تساؤلات من قبيل ما هو النمط الاقتصادي الذي يحقق العدالة الاجتماعية؟.

  • السياسات في معظم دول الربيع العربي مناقضة للخطاب إذ تسير هذه الدول على خطط للبنك الدولي وصندوق النقد تتعارض جوهريا مع فكرة العدالة الاجتماعية، بل وتجاهر بأن على المواطنين تحمل إجراءات قاسية.
  • بعض البرلمانات التي انتخبت بعد الثورة قد حل والبعض الآخر تراجع فيه وجود اليسار ومن ثم تراجع لخطابات العدالة داخل هذه المؤسسات، أو رفعها كشعارات مفرغة من قبل قوى إصلاحية أو حتى محافظة.
  • تشهد بلدان الربيع العربي موجة ارتداد تظهر فيها هزيمة وقتية لموجة التغيير المتعلقة بالنقابات المستقلة وموجات الاحتجاج حيث تواجه بعنف مفرط وبتدخل أمني شديد، مع سيطرة القوى المحافظة والإصلاحية على برلمانات ما بعد الثورات، تنازع الشرعيات ما بين البرلمان والميدان، دون إدراك القوى التقدمية لألية إدارة هذا التنازع.
  • ثمة تراجع لخطاب العدالة الاجتماعية في مقابل صعود خطاب الحرب على الإرهاب في (مصر وسوريا واليمن وتونس) بدرجات متفاوتة، مع استمرار مقايضة العدالة والحرية بالأمن ومن ثم خسارة الاثنين، مع استمرار سياسات خادمة للاقتصاد الريعي ومن ثم استمرار خلق وتعميق الفوارق وتسليع الخدمات العامة وتأطير للاحتكار غير الموضوعي، مع توجه عام يخدم استقرار اقتصاد ريعي خدمي واستمرار تكييف لمؤسسات الدولة للتعامل مع هذا النمط.
  • هناك حالة عامة من ضعف اليسار، ولا عدالة اجتماعية دون يسار قوي، كما أن انزلاق خطاب الدولة الوطنية نحو تأييد التبعية والقمع ومن ثم انزلاق جزء من اليسار لتأييد هذا في إطار خطاب الحرب على الإرهاب أضعف موقف الداعين للعدالة الاجتماعية.

على مستوى مؤسسات الدولة: ثمة تطور جديد يرتبط باحتكار هذه المؤسسات لمفهوم الوطنية ومن ثم سهولة وصف كل من يحاولون طرح رؤى ولو للإصلاح من الداخل باعتبارهم يريدون هدم الدولة وكسر هيبتها، ومن ثم يسهل التشهير والتنكيل بهم.

المجتمع المدني والحراك العام: هناك هجمة كبيرة على المجتمع المدني والمبادرات الجديدة التي وجدت عقب الثورات، وتستغل النظم خطابات الحرب على الإرهاب في تشويه هذه المنظمات وناشطيها باعتبارهم يتلقون تمويلا أجنبيا تحظره القوانين التي ثارت عليها الشعوب، وفي ظل سيطرة النظم الحاكمة ورجالات أعمالها على وسائل الإعلام لا تتمكن هذه المؤسسات من الدفاع عن نفسها.

  • خاتمة وتوصيات:
  • ثمة أهمية لكيفية تجميع الحركات الاجتماعية (الحقوقية – النقابية – البحثية الأكاديمية) في العالم العربي في إطار ومأسسة هذا الإطار؟ بحيث يتم تجميع المهتمين بالعدالة الاجتماعية في إطار بديل مقاوم للنموذج الرأسمالي السائد، وتم طرح فكرة إنشاء موقع للعدالة الاجتماعية يجمع كل الجهود والأنشطة النضالية والبحثية في موقع واحد يطرح مؤشرات ونماذج لسياسات أكثر عدالة وآليات لتطبيقها وتوطينها محليا، وليكن تحت اسم “الشبكة العربية للعدالة الاجتماعية”.
  • كما أن المعارك السياسية لبناء العدالة الاجتماعية هي معارك ممتدة وأن بناء المجتمع العادل يحتاج بناء سياسي لا يغلب فيه الاقتصادي على السياسي ويذهب لما بعد الرأسمالية من أنماط تفكير وحياة من خلال بناء دول وطنية بمفاهيم مغايرة للمصطلحات والقيم الرأسمالية، ومن هنا يجب مناقشة الشروط المتعلقة بعدالة اجتماعية أكثر في السياسات في الوطن العربي، والتفكير في كيفية بناء مؤسسات تساهم في ترسيخ قضية العدالة الاجتماعية.
  • أهمية مناقشة مدى قبول فكرة العدالة الاجتماعية، إذ أن هذه الفكرة أكثر رواجا في المغرب العربي وهناك مجتمعات لديها أفكارا متجاوزة للعدالة الاجتماعية حيث تسود ثقافة مساواتيه شعبية، كما أن هناك دولا قدمت تنازلات كبيرة على مستوى التعليم والصحة والسياسات الاجتماعية وبالذات الدول النفطية، لكن هذا لا يعني إيمانا من قبل هذه النظم بقضية العدالة الاجتماعية أكثر منه رشاوى اجتماعية للتنازل عن الحقوق المرتبطة بالمواطنة والقفز على المطالبات السياسية بالتغيير.
  • يمكن ملاحظة أن ثمة فروق في جوهر الخلاف بين الجيوش والجماعات الدينية ففي المغرب العربي هذا الخلاف فكري وأيديولوجي بينما في مصر هو خلاف واستقطاب سياسي حاد بين طرفين أكثر محافظة من بعضهما البعض وهو ما يضر بالعدالة الاجتماعية.
  • برزت أفكار جيدة في سنوات الربيع العربي يمكن تفعيلها وهي فكرة المؤتمرات الاقتصادية للأحزاب السياسية، هذه الفكرة يمكن تطويرها لمؤتمر إقليمي أو دولي يناقش العدالة الاجتماعية بشكل دوري، يدعى إليه كل الفاعلين والمؤسسات العاملة على التعاونيات والمؤسسات الحقوقية والمراكز البحثية العاملة على قضية العدالة الاجتماعية في العالم العربي، مع مساعدة الأحزاب على بناء برامجها الاقتصادية بشكل أكثر انحيازا لتطبيقات واضحة للعدالة الاجتماعية وبشكل مفصل.
  • ضرورة مناقشة كيفية مواجهة منحى المنظمات المالية الدولية والرد على الحجج التكنوقراطية المضادة لفكرة العدالة الاجتماعية وكيفية طرح العدالة الاجتماعية كفكرة تقنية وسياسية وليس فقط قضية قيمية أو أيديولوجية، مع أهمية التفكير في شروط فك الارتباط بالأسواق العالمية والنموذج الاقتصادي السائد، وهو ما يتطلب تعبئة شعبية وقيادة سياسية قوية وواعية، يمكن تعزيز هذا من خلال تنظيم مؤتمرات قطرية حول الاقتصاد البديل أو مؤتمر جامع حول هذا الاقتصاد في العالم العربي.
  • ثمة معارك قطاعية أمام القوى الاجتماعية والسياسية المهتمة بالعدالة الاجتماعية، وثمة خبرات تاريخية مهمة في تطوير سياسات أكثر عدالة ومنها تجربة الإسكان الاجتماعي في تونس في عهد بورقيبة وتجربة التعليم في مصر في عهد عبد الناصر، وتجارب تحسين الخدمات الصحية في الأردن وبعض دول الخليج، هناك حاجة ماسة لإطار قوي يجمع بين الدول المدينة، إذ تقتصر جهود التنسيق الحالية على المانحين، ومن ثم هذا الإطار الذي يجمع بين الدول المدينة عليه أن يراجع هذه الديون ويقوم بعملية تدقيق موسعة لها.
  • البعد الدولي هو جزء أساسي من تكوين السياسات المعادية أو الداعمة للعدالة الاجتماعية، فالمواجهة الداخلية لن تكون كافية دون تنسيق إقليمي ومواجهة إملاءات المؤسسات التمويلية الدولية عبر تشكيل جبهة من الدول النامية تؤثر على أجندة هذه المؤسسات، عبر إيقافها في أقل الحدود، أو فرض أجندة بديلة في أقصي الطموحات. وهذه الجبهة يجب أن تتمثل في أشكال تنظيمية.. حركات، كيانات بديلة، وهنا تأتي دور القوى الاجتماعية في تأسيس تحالفات دولية داعمة بل وأحيانا مؤسسة لهذه الكيانات التي قد تتمكن في مرحلة تاريخية لاحقة أن تمثل ما هو أكثر من كونها مصدرا للضغط على هذه المؤسسات الدولية وإنما كذلك بديلا لها، في ظل أزمات النظام الرأسمالي وإعادة تشكل الخريطة الدولية قد تكون هذه المرحلة أقرب مما نتخيل وغياب البدائل لن يكون في صالح إلا القوى المعادية لمفهوم العدالة الاجتماعية المسيطرة حتى تاريخه.

ولمزيد من بلورة هذه الأفكار يتناول الكتاب مجموعة من القضايا المرتبطة بهذا التحليل بقدر من التفصيل من خلال 8 فصول تتناول قضايا إقليمية أو حالات مقارنة من المنطقة العربي:

لماذا يتواصل المشروع النيوليبرالي في المنطقة العربية؟

الرأسمالية والعدالة الاجتماعية: النمط الاقتصادي الرأسمالي القائم والعدالة الاجتماعية.

بنية الدولة والعدالة الاجتماعية في المنطقة العربية: أزمة سياسات أم أزمة بنيوية؟

المجتمع المدني والحركات الاجتماعية العربية وقدراتها على التأثير في قضية العدالة الاجتماعية.

الشفافية وحدود العدالة الاجتماعية في المنطقة العربية.

التحديات التي تواجه القوى الداعمة للعدالة الاجتماعية في المنطقة العربية.

ماذا عن العدالة الاجتماعية: الربيع العربي بين التدخلات الأوروبية والمساعدات العربية.

من الشعارات للواقع: المؤسسات المالية الدولية والنضال من أجل العدالة الاجتماعية في العالم العربي.

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart