وماذا عن العدالة الاجتماعية: الربيع العربي بين التدخلات الأوروبية والمساعدات العربية

وماذا عن العدالة الاجتماعية: الربيع العربي بين التدخلات الأوروبية والمساعدات العربية

فصل ضمن كتابالعدالة الاجتماعية بين الحراك الشعبي والمسارات السياسية في البلدان العربية

تظل العدالة الاجتماعية المطلب الأساسي الذي تتمحور حوله مطالبات الشعوب العربية. فبالرغم من أن مصطلح العدالة الاجتماعية صار مطاطا ومتسعا لسياسات ومفاهيم متنوعة، بل ومستغلا من كافة التيارات والأحزاب، إلا أن العدالة الاجتماعية تظل المقياس لصلاحية السياسات العامة بدول الربيع العربي، بل وأساس الحكم على مدى توافق السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمالية من ناحية، ومطالب الشعوب العربية من ناحية أخرى.

وبالرغم من ذلك، ظلت السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمالية تتخذ نفس التوجه، الذي يحبذ النمو على حساب عدالة التوزيع، ويعمل على تحفيز تراكم ثروات الأغنياء، وتجاهل حلقة الفقر المفرغة التي تدور فيها فئات عريضة من الشعب، مكررا نفس الوعود القديمة عن أن تراكم ثروات الأغنياء سينتشر ويعود بالفائدة على الفقراء، خالقا فرص للعمل ومنفذا للمشروعات الهامة التي من شأنها أن تحقق الأهداف التنموية للدول العربية. وهكذا، ظلت الوعود واحدة، وفشلت الحكومات العربية الجديدة في مصر وتنوس بالأخص في الاستجابة مطالبات المواطنين بالعدالة الاجتماعية من خلال سياسات مختلفة تعيد النظر في توزيع الثروة من ناحية، وفي توزيع الأعباء على المواطنين من ناحية أخرى. وبالتأكيد، فإن لاستمرار نفس النموذج الاقتصادي ونفس توجهات السياسة الاقتصادية والاجتماعية أسبابا عديدة، بعضها مرتبط بخيارات الحكومات التي استلمت إدارة الدول العربية بعد الثورات، وبشكل خاص في مصر وتونس. وبالرغم من أن الهدف من هذه الورقة هو التأكيد على الدور المحوري الذي تلعبه التدخلات الأجنبية من ناحية، والعربية (دول الخليج العري بالأخص) في تشكيل السياسات الاقتصادية في دول الربيع العربي، إلا أنه من الضروري التأكيد على أن الحكومات العربية في دول الربيع العربي اختارت طريق سياسات السوق، ولم تجبر عليه تماما كما يظن البعض. بل من الضروري أيضا أن نفهم توازن القوي في دول الربيع العربي نفسها، لفهم لماذا اتجهت الدول لنفس السياسات السابقة التي اتبعها بن علي في تونس ومبارك في مصر، متجاهلة البدائل العديدة التي طرحتها تجارب بلدان أخرى، لا تخفي عن صانعي القرار في مصر وتونس، ومتجاهلة بذلك كل مطالب الشعوب بتغيير السياسات الاقتصادية، حماية الفقراء، اعادة توزيع الثورة، التراجع عن خصخصة القطاع العام المنتج والخدمات العامة، وعكس سياسات تحرير قطاعات الزراعة والطاقة والبنية التحتية. ولعل من أهم الأمثلة التي تبرهن على اختيار الحكومات العربية سلك طريق السياسات الاقتصادية والاجتماعية ذاتها، دون التوجه لبديل، ودون فرضها بشكل لا فرار منه من قبل التدخلات الأجنبية، هو قبول مصر لمشروطية صندوق النقد الدولي، وتنفيذها لتوصياته الاقتصادية، من حيث تقليص الدعم وخفض الضرائب على الشركات والتوجه لضريبة القيمة المضافة بدلا من الضريبة العامة على المبيعات)، وذلك دون الحصول على القرض الذي بدأ التشاور حوله في 2012. وهكذا، لم تفرق مصر عن تونس كثيرا، بالرغم من أن الأولي لم توقع على القرض، والثانية وقعت على الاتفاق المبدئي للقرض مع الصندوق: في النهاية، التزمت الدولتان حرفيا بما يمليه صندوق النقد الدولي.

إذن، فثمة توازن دقيق يجب الانتباه له حين مناقشة السياسات الاقتصادية بعد الربيع العربي، توازنا بين اختيارات الحكومات، وبين التدخلات الأجنبية التي قد لم تفرض تلك السياسات بشكل مباشر، ولكنها جعلت من تلك السياسات شرطا للقبول السياسي والديبلوماسي لحكومات ما بعد الربيع العربي، وكانت من الفجاجة بحيث بدأت فعليا منذ مايو 2011 (من خلال شراكة دوفيل) في الغاء فرصة الاختيار، وتوفير الرؤية الوحيدة للاقتصاد والتنمية، على حد نص الشراكة.

وفي هذه الورقة، نناقش دور التدخلات الأجنبية، خاصة الأوروبية، في تعزيز السياسة الاقتصادية لما قبل الثورة، والتأكيد على أن الثورات العربية لن تطلق العنان لبدائل اقتصادية تحقق طموحات الشعوب العربية، وقد تهدد بذلك من قدرة الاتحاد الأوروبي على استغلال المنطقة العربية كسوق إضافي لمنتجاته. وبالرغم من الدور الضخم الذي تلعبه الدول الأوروبية في تحديد الخيارات الاقتصادية للدول العربية، الا أن الربيع العربي قد كشف عن أهمية الانتباه للدور التي تلعبه بعض الدول العربية، خاصة دول الخليج العربي، التي أصبحت اللاعب الأكثر تأثيرا في المنطقة العربية، خصوصا من حيث دور الاستثمارات الخليجية في التأثير على الأوضاع السياسية، بل في الضغط على سياسات اقتصادية تخدم الطموح الخليجي اللامتناهي، خصوصا في مصر.

ولعل الانتباه لدور دول الخليج العربي صار لازما، بعد أن أصبحت دول كالإمارات العربية والمملكة العربية السعودية والكويت من أهم المانحين، والمقرضين لمصر، تزامنا مع دورهم كمستثمر أجنبي تخضع مصر ودول عربية أخرى لشروطه وأمنياته. ولهذا، وكما ستناقش الورقة، تخطى دور الخليج العربي في السنتين الماضيتين دور الاتحاد الأوروبي من حيث المشروطية والتدخل في رسم السياسة الاقتصادية وإعادة رسم خريطة الاستثمار، بعد أن أصبح من أهم الداعمين لنظام ما بعد 30 يونيو.

وبالرغم من تشابه التوجهات الاقتصادية للاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربي، خاصة من حيث الدفع بسياسات التحرر الاقتصادي، وخفض الدعم، والتوجه للاقتراض الخارجي، وتغطية عجز الموازنة من خلال خفض الانفاق وسياسات التقشف، الا أن ثم اختلافات بين الاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربي لا يمكن اغفالها. فالاتحاد الأوروبي يخضع لقواعد تضمن قدر من الشفافية وقدر من الاهتمام بمصالح المواطنين في الدول خارج إطار دول الاتحاد الأوروبي وذلك حسب اتفاقية ليشبونة المنظمة لعمل الاتحاد الأوروبي في مجالات مختلفة. كما أن الاتحاد الأوروبي، بسبب تمثيله لدول هي في الغالب تقودها نظم تمثيل ديمقراطية، يقدر مواطنيها على محاسبة دولهم الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فان ثم آليات لمحاسبة الاتحاد الأوروبي ومساءلته عن السياسات اتجاه دول جنوب المتوسط (الدول العربية) حتى وان كانت آليات ضعيفة وفي كثير من الأحيان لا دخل للدول الأعضاء بتغيير السياسات أو الاعتراض مباشرة على الآليات في التدخل في دول الجوار للاتحاد الأوروبي. أما دول الخليج العربي، فتدور نقاشاتها مع الحكومات العربية الأخرى في غرف مغلقة، ويصعب، بل يستحيل، معرفة قدر وعمق تدخلاتها في صناعة السياسة العامة للدول العربية. فلا قدر من الشفافية، ولا امكانية للمشاركة، ولا مساحة للاعتراض. وهكذا وتعد هذه الورقة تنبيها للمجتمع المدني العربي، والخبراء والنشطاء والعاملين علي الصالح العام في دول الربيع العربي، مؤكدة على اهمية وضع أهم المتدخلين في السياسة العامة في الاعتبار حين العمل على تطوير البدائل، وهم في الفترة الحالية الاتحاد الأوروبي (وغيره من المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي) ودول مجلس التعاون الخليجي، خاصة المملكة العربية السعودية، ودولة الكويت والإمارات العربية المتحدة.

التدخلات الأوروبية: من سياسة الجوار إلى التوصيات الاقتصادية والتدفقات المالية الأوروبية

ظلت علاقة الاتحاد الأوروبي بدول جنوب المتوسط تؤسس لنظام التحرر الاقتصادي، الذي يضع على أولويته المصالح الأوروبية في المنطقة العربية، من خلال توفير القروض من المؤسسات والحكومات الأوروبية، وتوفير ضمانات مبالغ فيها لحماية المستثمرين الأوروبيين في المنطقة العربية. وهكذا، لم نتعجب من رد الفعل الأول ازاء الثورات العربية، والذي تمثل في وعد الاتحاد الأوروبي ببدء المفاوضات حول اتفاقيات التجارة الحرة الشاملة والعميقة مع دول مصر وتونس والمغرب والأردن وذلك بادعاء أن الاتفاقيات التجارية العميقة من شأنها مساندة دول الربيع العربي في تنفيذ آمال الشعوب في التنمية والعدالة الاجتماعية. ومن الغريب أن الاتحاد الأوروبي كان ينبغي أن ينتظر حتى تراجع الحكومات العربية حديثة المولد (خاصة في تونس ومصر) السياسات الاقتصادية، ولا سيما سياسات التجارة والاستثمار. فمن الواضح من خلال الثورات العربية أن الشعوب العربية كانت ومازالت تطمح لنظم مغايرة عن النظم التي أسس لها مبارك وبن على وغيرهم من الحكام العرب، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي وتكتلات اقتصادية أخرى مؤثرة. بل وهناك العديد من الدراسات التي قام عليها الخبراء الأوروبيين كاشفين عن أن دول جنوب المتوسط قد عانت من آثار سياسات التجارة الأوروبية، التي فشلت في توفير فرص العمل أو مستوي معيشي ملائم للمواطنين في شمال افريقيا، بل وتسببت في أزمات من حيث الانفاق الاجتماعي في هذه الدول. وهكذا، اعترض المجتمع المدني الأوروبي، سويا مع الفاعلين الناشطين في الدول العربية علي فجاجة الاتحاد الأوروبي الذي يعرض -ليس فقط الاستمرار في نفس السياسات- ولكن أيضا تعميقها وفرضها علي قطاعات أكبر علي رأسها قطاع الخدمات الذي ما زال يتمتع بالحماية الوطنية -من التنافس مع المستثمرين الأجانب كمقدمي الخدمات- في معظم دول شمال أفريقيا. فالاتحاد الأوروبي أبى ألا أن يستمر في النهج ذاته، داعيا الحكومات الجديدة التي جاءت بها الثورات العربية إلى اتباع نهج حكومات ما قبل الثورة، لاعبا بذلك الدور الذي لعبته تكتلات دولية أخرى لضمان السيطرة على زمام الأمور في دول الربيع العربي، قبل أن تنطلق الشعوب العربية إلى نظم بديلة تحقق من خلالها العدالة الاجتماعية المرجوة.

ولعل من أهم التكتلات الاقتصادية التي لعبت نفس الدور مع الاتحاد الأوروبي هي قمة الدول الثماني، والتي لعبت نفس الدور من خلال شراكة الدوفيل، التي تم توقيعها مع الدول العربية “في المرحلة الانتقالية” في 26-27 من مايو 2011، أي بعد شهور قليلة من سقوط نظامي مبارك وبن علي، وفي خلال انتفاضات بدأت تشهدها سوريا وليبيا والمغرب وغيرهم من الدول العربية. وجاءت الشراكة جامعة بين دول الثمانية الكبرى، والمؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والبنك الأوروبي لإعادة البناء والتعمير، وغيرها من المؤسسات المانحة والمقرضة الدولية. وسعت الشراكة بوضوح، في هذه الفترة المبكرة من بداية ما أسموه بالمرحلة الانتقالية في الدول العربية، إلى تأسيس بعض الثوابت التي تضمن انضمام الدول العربية في المرحلة الانتقالية إلى النظام الاقتصادي الدولي.

ولعل من أهم الأسئلة التي يجب أن نطرحها هو ما إذا كانت الدول العربية قد اشتركت في شراكة دوفيل وفي التفاوض حول اتفاقية التجارة المعمقة مع الاتحاد الأوروبي طواعية أم كرها. فاذا ما كانت الدول العربية قد اجبرت على اتباع هذا النهج، فإذن الحكومات العربية تحتاج إلى دعم من شعوبها للوقوف ضد استغلال الاتحاد الأوروبي ودول الثمانية وغيرهم من الفاعلين الأساسيين في الاقتصاد الدولي. واما أن كانت الدول العربية قد اتبعت هذا النهج طوعا، فمن المهم دراسة الأسباب المحلية والإقليمية وتوازنات القوي التي أدت لهذه النتيجة التي أعلنت في مجملها عن فشل الثورات العربية في تغيير النظام الاقتصادي وتغيير حياة المواطن في دول الربيع العربي. وبالرغم من عدم وجود إجابة بسيطة ومباشرة لهذا السؤال، فالإجابة تختلف من دولة عربية لأخرى، ومن لاعب أجنبي لآخر، ومن أداة للتدخل وفرض السياسات لأخرى، إلا أنه من المهم التنبيه على أن الالتفات إلى التدخلات الأجنبية لا تلغي من مسؤولية الحكومات العربية في اتباع تلك السياسات، ولا تقلل من دور الحكومات العربية كفاعل رئيسي وأساسي ينفذ التوصيات الأجنبية ويعطي الأولوية لإرضاء اللاعبين الدوليين، والطبقة الرأسمالية سواء المحلية أم الأجنبية، على إرضاء الشعب الذي تعد الحكومات ممثلة له. وهكذا، لزم التنويه على أن المسئولية مشتركة بين الحكومات العربية، وبين التدخلات الأجنبية الاستغلالية.

اختلفت التدخلات الأوروبية في المرحلة الانتقالية، ويمكن تقسيم سبل التدخلات الأوروبية إلى محورين أساسيين: أولا، التدخلات الأوروبية من خلال سياسة الجوار الأوروبية. سياسة الجوار الأوروبية تمثل أهم الأطر للعلاقة بين الاتحاد الأوروبي ودول جنوب المتوسط، أي الدول العربية المطلة على المتوسط، وهم مصر، الأردن، ليبيا، سوريا، الجزائر، تونس، فلسطين، المغرب، لبنان، وإسرائيل. ومن المهم الانتباه لأن سياسة الجوار تزداد أهمية سنويا مع زيادة سلطة الاتحاد الأوروبي على سياسات الدول الأوروبية، حيث تستبدل سياسة الجوار العديد من العلاقات الثنائية التي كانت تجمع بين فرنسا والمغرب مثلا أو ألمانيا ومصر وهكذا. أهداف سياسة الجوار، حسب الاتحاد الأوروبي، تحقيق العلاقة السياسية الوطيدة، والتكامل الاقتصادي، بين الدول الأوروبية ودول الجوار، وبناء هذين العلاقتين على المصالح المشتركة، الديمقراطية، سيادة القانون، حقوق الإنسان والتكافل الاجتماعي. وتتفق دول الجوار مع الاتحاد الأوروبي على خطط عمل سنوية، تقوم على مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان واحترام اقتصاد السوق، والمبدأين الأخيرين هما الذين طالما مثلا نقطة الخلاف، حيث تؤدي سياسات اقتصاد السوق في مجملها إلى انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، وتتسبب السياسات التقشفية الناتجة عن توصيات الاتحاد الأوروبي إلى زيادة معدلات الفقر وتوسيع الفجوة بين مستويات دخول ومعيشة الأفراد.

وبالرغم من أن سياسة الجوار الأوروبية طالما تتسع للدعوة لاحترام حقوق المواطنين، وبناء المؤسسات وأطر العدالة اللازمة، الا أن تعريف الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان لا يتسع للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، ويظل مختزلا في حقوق التصويت والانتخابات، والحق في المحاكمات العادلة. فالاتحاد الأوروبي على سبيل المثال قد أعرب عن استيائه من الوضع القانوني لقانون المنظمات غير الحكومية في مصر، ومن التعديلات الطارئة على قانون العقوبات بفرض عقوبة السجن مدى الحياة إزاء تلقي التمويلات المحلية أو الأجنبية. كما أعرب الاتحاد الأوروبي من خلال سياسة الجوار عن قلقه إزاء المحاكمات العسكرية للمدنيين في مصر، وإزاء تضاؤل جهود تطوير قطاع الأمن في دول مصر وتونس ولبنان. كما تشمل سياسة الجوار العديد من التوصيات حول حقوق المرأة والطفل في الدول العربية المختلفة. أما بالنسبة للحقوق الأخرى، كالحق في السكن، والعمل والتعليم، تكتفي سياسة الجوار بتقديم التحليل الاقتصادي لاقتصاديات الدول العربية المجاورة، وهو التحليل السطحي لمعدلات النمو، والعجز الكلي في الموازنة العامة للدول. وعلى نفس المنوال، يعتبر الاتحاد الأوروبي أن حل مشاكل دول جنوب المتوسط يكمن في قدرة تلك الدول على جذب الاستثمارات الخارجية، وجذب المؤسسات المالية الدولية لإقراض تلك الدول، ولاسيما المؤسسات المالية الأوروبية، وعلى رأسها البنك الأوروبي لإعادة التعمير والتنمية. وهو ما يعكس السياسة الاقتصادية اليمينية للاتحاد الأوروبي وأولوياتها، والتي تعتمد على النمو وحده كمؤشر لنجاح الاقتصاد، والتي تحلل الأوضاع الاقتصادية للدول العربية من خلال مؤشرات لا تتضمن معلومات حول تمتع المواطن بثمار هذا النمو، أو حول تحقيق المساواة والعدل في توزيع الثروات. ومن هنا، لا نتعجب أن تحليل الاتحاد الأوروبي للسياسة الاقتصادية في مصر ما بين 2007 و2013 ما هو الا دعم لسياسات اقتصادية نيو ليبرالية، على رأسها تشجيع الخصخصة والاستفادة من عوائد بيع الأصول المملوكة للدولة، وتعديل قوانين الضرائب والاستثمار واعادة هيكلة الدعم بهدف القضاء على عجز الموازنة، والموافقة على قرض صندوق النقد الدولي، والعمل على تنفيذ توصياته.

وثانيا، التدخلات الأوروبية من خلال التدفقات المالية الأوروبية، وعلى رأسها التدفقات من خلال البنك الأوروبي لإعادة التنمية والاعمار، وبنك الاستثمار الأوروبي. ولعل تلك التدخلات هي الأكثر توضيحا للمصالح الأوروبية، فبنك الاستثمار الأوروبي على سبيل المثال هو أكبر مقرض في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، حيث قام بإقراض حوالي 13 مليار يورو للمنطقة في الفترة ما بين عامي 2002 و2011 وقد كان المتلقي الرئيسي لقروض البنك الأوروبي للاستثمار دولة تونس، حيث حصلت على حوالي 31% من إجمالي استثمارات البنك في المنطقة. كما أتت خطة البنك بين عامي 2014 و2020 باستثمار 9.6 مليار يورو في منطقة جنوب المتوسط (دول الجوار العربية)، كما تعهد البنك في عام 2014 فقط باستثمارات في منطقة الجوار العربية تصل إلى 1.2 مليار يورو.

تعاملات البنوك الأوروبية يشوبها العديد من الاشكاليات. فقد تم تركيز تمويل البنوك الأوروبية على مشروعات شراكة القطاعين الخاص والعام، حيث لا يتعامل البنكين السابق ذكرهم مع الحكومة أو القطاع العام، وانما يشترط التعامل مع القطاع الخاص، مما يدفع عجلة الخصخصة بشكل واضح، وهي التي تعد واحدة من أولويات بنك الاستثمار الأوروبي في المنطقة، المثيرة للجدل عالميا وإقليميا، حيث تتسبب خصخصة الخدمات العامة على سبيل المثال في زيادة أسعار الخدمات، وزيادة الأعباء على المواطنين، خاصة فيما يتعلق بالوصول للخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والمواصلات، والماء والصرف الصحي والكهرباء، وغيرها. بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من التساؤلات حول القطاعات التي تهتم بها البنوك الأوروبية، حيث تتركز استثمارات البنوك الأوروبية في قطاعات النقل والطاقة والأسواق المالية، مما يطرح تساؤلات حول مدى ارتباط مشروعات تلك البنوك بأهداف تنموية، ترتبط بزيادة الإنتاج وتشغيل العمالة وغيرها.

في مصر على سبيل المثال، يذهب جزء كبير من اقراض بنك الاستثمار، والذي يحمل هدف تحقيق الانتعاش الاقتصادي والاجتماعي، إلى خط ائتمان البنك الأهلي المصري، ويتم الترويج لهذا القرض باعتباره “أداة من شأنها أن تساهم في تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة في القطاعات الإنتاجية” في مصر. ومع ذلك، فإن الأثر الإنمائي لهذه القروض بعيد المنال، خاصة لغياب الشفافية، وانعدام اللوائح التي من شأنها التأكيد على أن خط الائتمان الذي يدعمه القرض سوف يفيد المواطنين الأكثر حاجة، ولن يكون مجرد مشروع جديد للبنك، يخدم من يقوون على التعامل مع البنك من الطبقات المرتفعة.

وأخيرا، تظل اتفاقيات التجارة الحرة العميقة والشاملة هي الهاجس الذي يسيطر علي آمال الشعوب العربية. فهذه الاتفاقيات لم تعد تكتفي بفتح الحدود بين الاتحاد الأوروبي من ناحية، وكل دولة عربية على حده من ناحية أخرى، باسم التنافسية والتحرر الاقتصادي، مسيطرة بذلك على الأسواق العربية، إلا أنها اتجهت إلى تحديد سياسات الاستثمار في الدول العربية، وعلى رأسها ما أسمته بالإجراءات التي تسهل من عمليات الاستثمار، وهي الإجراءات المعنية بالتخلص من كافة أشكال الرقابة والاجراءات البيروقراطية، خاصة في تخصيص المشروعات للمستثمرين الأجانب وفض النزاعات المترتبة على الاستثمار الأجنبي.

ومن الجدير بالذكر، أن الاتحاد الأوروبي كان قد فوض شركة دراسات للقيام بدراسة أثر الاتفاقيات العميقة والشاملة على اقتصاديات الدول العربية، وبالرغم من العديد من الاعتراضات علي الشريك الذي اختاره الاتحاد الأوروبي، والمنهجية التي اتبعها الشريك والتي لا تستند لاعتبارات العدالة الاجتماعية والعدالة الاقتصادية كمقياس لنجاح أو فشل الاتفاقيات العميقة والشاملة التي يطرحها الاتحاد الأوروبي، إلا أن دراسة الأثر المحدودة تلك أظهرت أن اتفاقيات التجارة الحرة العميقة والشاملة سيكون لها الأثر المدمر علي الاقتصاديات العربية. أولا، الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأول للدول العربية، حيث تمثل التجارة بين مصر والاتحاد الأوروبي 30% من إجمالي تجارة مصر، وتمثل التجارة مع إسبانيا وفرنسا حوالي 40% من إجمالي تجارة المغرب، كما تمثل التجارة مع الاتحاد الأوروبي 70% من إجمالي التجارة الليبية! وهكذا، فأي تعديل في نمط أو طبيعة العلاقة بين الدول العربية من ناحية، والاتحاد الأوروبي من ناحية الأخرى، من شأنه التأثير على الاقتصاد العربي بشكل مباشر وعميق. لذا، فلا نستغرب أن حتى دراسة الأثر التي نشرها شريك الاتحاد الأوروبي تؤكد على أن الصناعات التحويلية في الدول العربية ستتأثر بشكل مباشر مع فتح الاسواق مع الاتحاد الأوروبي، فالدراسة تؤكد أن الصناعات التحويلية في مصر ستنكمش بنسبة تقارب الـ70% مع الدخول في الاتفاقية، وقدرت النسبة للمغرب وتونس بحوالي 65% لكل دولة. وهكذا، فليس من الغريب أيضا أن الدراسة ذاتها تتوقع ارتفاع معدلات البطالة في الدول العربية كنتيجة للاتفاقيات العميقة، بنسب تتراوح بين 3% كمعدل زيادة في الاردن و58% كمعدل زيادة في نسب البطالة بالنسبة لمصر. وهكذا، فالتدخلات الأوروبية لها الأثر المباشر علي حياة المواطنين، فرصة عملهم، ومستوي معيشتهم. أن كانت التدخلات الأوروبية تستمر متجاهلة المواطنين في دول الربيع العربي، محققة للصالح الأوروبي دون غيره، نتساءل عن دور الحكومات العربية؟ أليس من واجبها مراجعة سياساتها المشوهة والمنصتة باهتمام للاتحاد الأوروبي، وذلك تحقيقا لصال الدول العربية والشعوب العربية؟.

التدخلات العربية: دول الخليج العربي من المساعدات إلى الشروط

اللاعب الرئيسي الذي عادة ما يتم اغفال دوره الاقتصادي هو دول الخليج العربي. فعادة، نري دور دول الخليج العربي السياسي، ونغفل الأثر الاقتصادي الهام المترتب على تلك التدخلات الخليجية في الاقتصاد العربي. ولعل مسار المرحلة الانتقالية في مصر خير دليل على دور دول الخليج العربي في التأثير السياسي من ناحية، والتأثير على السياسات الاقتصادية بشكل مباشر من ناحية أخرى.

لعبت دور الخليج العربي دورا مباشرا في مساندة تغيير النظام في مصر ما بعد 30 يونية، فبجانب الدور السياسي والمساندة العلنية والمعنوية وفي المسارات الدولية، وصل الدعم المادي (النقدي والسلعي، سواء من خلال الاقراض أو المنح والمساعدات) حوالي 117 مليار جنيه حسب وزارة المالية، أي أكثر من خمس موازنة مصر العامة في العام المالي 2013-2014. وقد مكنت تلك المنح الحكومة المصرية الجديدة بعد تغيير النظام في 30 يونيو 2013 من الاستمرار رغم ارتفاع نسب العجز وانخفاض الايرادات، موفرة بذلك مناخا اقتصاديا وماليا شبه مستقر، كان من شأنه التعزيز من والتأسيس لنظام السيسي. ومن الجدير بالذكر أن المساعدات الاقتصادية والمادية (سواء من خلال القروض أو المنح) لم تتوقف بعد العام الأول لنظام ما بعد 30 يونيو، بل استمرت حتى اليوم، فالإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ودولة الكويت قد عرضوا حزمة مساعدات على مصر في مارس 2015 تبلغ حوالي 30 مليار جنيه لدعم الموازنة العامة.

من ناحية أخرى، لم تكتف دول الخليج العربي بدعم النظام الحاكم في مصر من خلال دعم نقدي للموازنة العامة، بل اتجهت دولة الإمارات العربية المتحدة بالخصوص للمشاركة في مشروعات التنمية الحكومية المختلفة في مصر، للمساهمة في تعزيز الدور التنموي لنظام السيسي في مصر. وهكذا اشتركت دولة الإمارات في بناء حوالي 100 مدرسه في الريف في مصر، أكثر من 70 وحدة صحية وتوفير 600 حافلة للنقل العام بحلول 2015. ولعل اشتراك الإمارات في هذه المحاولات البسيطة التنموية التي تنتهجها الحكومة المصرية ليس بالظاهرة الجديدة: فالإمارات لطالما دعمت نظام مبارك اقتصاديا، فنتذكر على سبيل المثال أن الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان قد أرسل قافلة قمح، محملة بـ850 ألف طن من القمح لجمهورية مصر العربية في 2008 لمساعدة الحكومة في مواجهة ارتفاع الأسعار وأزمة الغذاء. وهكذا، فهذا النوع من المساعدات التي لم يتمتع بها نظام السيسي وحده، بل تمتع بها نظام مبارك لسنوات أيضا، تمثل أحد أهم عناصر علاقة مصر بدول الخليج العربي.

على صعيد آخر، الاستثمارات الخليجية في السوق المصري تمثل أحد ركائز العلاقة بين مصر ودول الخليج: فمن ناحية، مصر كدولة تسعي بكل طاقتها خلف الاستثمار الأجنبي المباشر، بكافة اشكاله وانواعه، تعمل على ارضاء المستثمر الأجنبي، ولاسيما المستثمر الأجنبي من دول الخليج العربي. ومن ناحية أخرى، يمثل الاستثمار المباشر من دول الخليج أهم مؤشرات النمو الاقتصادي التي تستند اليها الحكومة المصرية لقياس نجاح سياساتها، وهكذا، يصبح زيادة صافي الاستثمار المباشر من دول الخليج الهدف، وليس الوسيلة. فيصبح كل شيء مباح في سبيل تحقيق هذا الهدف الأسمى، حتى لو كانت سياسات تهدد الشفافية والمحاسبة، وتعزز مناخ الفساد.

وهكذا، نجد أن المؤتمر الاقتصادي في مصر المنعقد في مارس 2015 لم يأتي فقط كفكرة طرحتها المملكة العربية السعودية، وبالأخص الملك عبد الله الراحل، بل مولتها دول الإمارات والسعودية والكويت أيضا مباشرة ومن خلال مستثمريها الذين ساهموا كرعاة رسميين للمؤتمر. ثم جاء دور الدول نفسها كمشاركين في المؤتمر لتعد كل منهم باستثمارات تبلغ 4 مليارات دولارات في قطاعات طرحتها الحكومة المصرية من خلال المؤتمر للاستثمار، أهمها قطاعي البنية التحتية والطاقة. وبالطبع لا نغفل بعض المشروعات الهامة التي أطلقها المؤتمر الاقتصادي كمشروع العاصمة الجديدة الذي بدأ بمذكرة تفاهم مع المستثمر الإماراتي محمد العبار، ولكن سرعان ما تراجعت الحكومة المصرية عن هذه الشراكة الوحيدة وفتحت الباب لشركاء اضافيين، بعد الاعلان عن تأخر الشريك الإماراتي في طرح خطة للعاصمة الجديدة.

ولعل مشروع المليون وحدة سكنية من أهم المشروعات الاستثمارية التي توضح الدور السياسي-الاقتصادي الذي تلعبه دول الخليج، وهنا بالأخص دولة الإمارات العربية المتحدة: فالمشروع الذي بدأ كوعد من الرئيس السيسي للمصريين خلال حملته الانتخابية في 2014، بتوفير مليون وحدة سكنية لمحدودي الدخل من الشباب في محافظات مختلفة حول الجمهورية، استلمته الإمارات العربية المتحدة من خلال شركة اراب تيك، ومقرها دبي، وهي الشركة المعروفة ببناء برج خليفة في الإمارات لصالح شركة إعمار. وهنا بدأ التضارب: المشروع الذي وعد السيسي أن يستفيد منه محدودي الدخل من الشباب، أعلنت الشركة أنه مشروع استثماري ضخم لتوفير وحدات سكنية لأصحاب الدخل المتوسط. فالاستثمار الخليجي في مصر هو في نهاية المطاف استثمار، وهدفه الربح أولا وأخيرا. فكيف كان للحكومة المصرية أن تترك المشروع التنموي، الذي لا تقوم به إلا الدول لخدمة مواطنيها، للقطاع الخاص الأجنبي، ليحوله لمشروع استثماري؟

ولكن هذه ليست الملاحظة الوحيدة علي هذا المشروع وغيره: فثمة ملاحظتين في غاية الأهمية: أولا، أن القوات المسلحة هي شريك آراب تك في المشروع وليس الحكومة المصرية فقط، وبهذا فإن اراب تيك لم يتم اختيارها كمجموعة من خلال نظام المناقصات والمزايدات، بسبب تقديم أفضل عرض، ولكن تم الاتفاق بينها وبين القوات المسلحة بشكل مباشر، مما يطرح العديد من الأسئلة حول دور الدولة، والرقابة والشفافية، ومدي خضوع هذا المشروع الضخم الذي يعد أكبر مشروع في تاريخ الشرق الأوسط بميزانيته البالغة 40 مليار دولار لأجهزة الدولة الرقابية، وعلي رأسها الجهاز المركزي للمحاسبات، ولرقابة المواطنين والبرلمان المنتظر انتخابه بنهاية 2015.

ثانيا، الدور الكبير والمهم الذي تلعبه دول الخليج في ضخ الاستثمارات إلى مصر له وجه آخر: المشروطية. فإلى أي مدي تخضع الحكومة المصرية لتوصيات وشروط دول الخليج العربي، وذلك لضمان استمرار هذه الدول في ضخ الاستثمارات إلى مصر ومساعدة مصر بالمنح والقروض والدعم السلعي؟ ولعل آخر تعديلات قانون الاستثمار المصري من أهم السياسات الحديثة التي تشير إلى تنامي دور الخليج العربي في رسم السياسات الاقتصادية في مصر، ولا سيما سياسات الاستثمار. فالمستثمرين السعوديين طرحوا مذكرة بقانون مقترح للرئيس السابق عدلي منصور في يناير 2014، يطرحون من خلالها تعديلات هامه لقانون ضمانات وحوافز الاستثمار المصري رقم 8 لعام 1997. وكانت أهم التعديلات المقترحة خاصة بمنع التقاضي والطعن حول عقود الاستثمار الا من قبل وزير الاستثمار المصري، واضافة بند التحكيم الدولي الذي يمنح المستثمرين من دول مجلس التعاون الخليجي الحق في مقاضاة مصر أمام التحكيم الدولي في حالة عدم الوفاء بتعهداتها للمستثمر، وبنود خاصة بحماية كافة الحوافز والضمانات التي يحصل عليها المستثمر من أي قوانين جديدة قد يتم اصدارها وتقلل من تلك الحوافز، وأخيرا، بند يطالب الحكومة المصرية بضمان أنه في حالة قرر القضاء المصري الأمر ببطلان أحد عقود الاستثمار بين مستثمر خليجي والحكومة المصرية، أنه يتوجب على الحكومة المصرية إعادة التعاقد مع نفس المستثمر، بنفس شروط ومحتويات العقد الأول (الذي قضت المحكمة ببطلانه). إذن، فالمستثمرين السعوديين قدموا هذه المذكرة الفجة للرئيس الموقت، مطالبين ليس فقط إلغاء رقابة المواطنين على عقود الدولة، بل أيضا أن تتجاهل الحكومة المصرية أحكام القضاء المصري! ولكن الأكثر فجاجة، هو أن الرئيس المؤقت في غضون شهرين كان قد أصدر تعديل يضمن نفس ما طالب به المستثمرون السعوديون! وبعد انتخاب السيسي في منتصف 2014، جاء الأخير بتعديلات أعمق تحقق أحلام المستثمرين السعوديين من خلال حزمة تشريعية صدرت ليلة المؤتمر الاقتصادي في منتصف مارس 2015، لتخفض الضرائب على المستثمرين، وتؤكد على عدم مساس الدولة بحقوق المستثمرين الاجانب، لا سيما من الخليج العربي، ولا حتى من قبل القضاء أو الجهات التشريعية. كما جاءت الحزمة التشريعية مستجيبة لمطالبات العديد من الشركات الخليجية، وعلى رأسها شركات إماراتية كأراب تك، مطالبة بالتخلص من الاجراءات البيروقراطية، وأهمها اجراءات تخصيص المشروعات من خلال المناقصات والمزايدات. هكذا، جاءت آخر التعديلات على قانون الاستثمار لتلغي العمل بقانون المناقصات والمزايدات في تخصيص عقود الاستثمار من قبل الدولة (الباب الخامس، المادتين 71 و72)، فاتحة بذلك المجال للفساد والقدرة على “خدمة” المستثمرين الاصدقاء أكثر من ذي قبل.

وأخيرا، فالسؤال الأخير هو: ما مدى قدرة دول الخليج العربي على إرضاء مصر ماديا، خصوصا في ظل أزمة النفط؟. فالعديد من الشركات والمستثمرين الخليجيين لم يجدوا في البنوك المصرية السيولة التي تساند مشروعاتهم في مصر، ولم يستطيعوا تدبير السيولة اللازمة من دولهم. وهكذا، رأينا العديد من المشروعات المعطلة في مصر، وعلي رأسها مشروع المليون وحدة سكنية، الذي من أسباب تعطله نقص السيولة، ومشروعات أخرى كمشروع بناء أول محطة كهرباء بالفحم مسؤولة عنه مجموعة النويس الاستثمارية الإماراتية الأصل أيضا.ومن الجدير بالذكر أن الدعم الذي وعدت به دول الخليج في المؤتمر الاقتصادي، حوالي 12 مليار دولار في المجمل، لم يتحقق بعد، ولا ذكر له من الناحيتين، مما يطرح العديد من الأسئلة حول قدرة دول الخليج العربي على الاستمرار في الدعم الباهظ لمصر في ظل تنامي أزمة البترول عالميا. وان لم يهدد نقص السيولة الاستثمارات الخليجية في مصر على المدي البعيد، فمن المنتظر أن يهدد استمرار الدور المانح الذي تلعبه نفس الدول، من خلال التبرع والمنح وغيرها من آليات مساندة النظام في مصر. فالأزمة المالية التي تلوح أمام دول الخليج أعقد من مجرد أزمة عابرة متعلقة بأسعار البترول، فهي أزمة هيكلية، قد تحتاج معها دول الخليج العربي أن تغير نظامها الاقتصادي المحلي الذي يعتمد على نسبة كبيرة من الدعم والرفاهة، كما سنرى في الجزء الأخير من الورقة.

الاقتصاد الحر في الاتحاد الأوروبي ودول التعاون الخليجي مقابل العدالة الاجتماعية في دول الربيع العربي

بالرغم من الاختلافات العديدة بين التدخلات الأوروبية والخليجية في دول الربيع العربي، سواء كان من حيث الشفافية، أو الأطر المنظمة للعلاقة بين الجهتين، أو من حيث الاهتمام بحقوق الإنسان وغيرها من الأمور كحقوق المرأة وحرية التعبير عن الرأي، الا أن التوصيات الاقتصادية، التي تصل إلى درجة الشروط في العديد من الأحيان، تظهر توافقا مبدئيا في السياسة الاقتصادية التي يدفع بها الكيانان (مجلس التعاون الخليجي من ناحية والاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى). فنموذج الاقتصاد الحر، الذي لا يعترف بتدخل الدولة إلا في أضيق الحدود، ويدعو للتنافسية التامة، سواء بين المستثمرين الوطنيين والأجانب، أو بين السلع المحلية والمستوردة، كما يدعو لخفض الانفاق واستغلال السياسة الضريبية لدعم المستثمر، بدلا من التعامل مع النظام الضريبي كأداة لزيادة الدخل القومي وإعادة توزيع الأعباء المادية بين المواطنين هو الغالب من الجهتين.

ولعل من أهم النقاط التي يتوجب علينا الانتباه لها، هو أن كلا من الاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربي، يشرع في تطبيق أجزاء محدودة من السياسات الاقتصادية التي يوصون بها دول الربيع العربي. فسياسات التقشف الأوروبية طالت العديد من الدول الأوروبية، ولعل على رأسها إسبانيا واليونان، اللاتي عانين من ارتفاع معدلات الفقر وتدني مستوى الخدمات، وزادت السياسات التقشفية من معاناة شعوبهم. أما بالنسبة للخليج العربي، فشهدت دولة الإمارات العربية حديثا قرارا بخفض الدعم عن الوقود، وهو ما يعد تطورا على سياسات الدعم الخليجية، كما تعد سابقة قد تتكرر في دول التعاون الخليجي الأخرى، خصوصا مع استمرار توصية صندوق النقد الدولي للمملكة العربية السعودية باتباع نفس النهج لخفض الانفاق. فبالرغم من أن دول الخليج العربي ظلت تدعم الوقود والخدمات المختلفة وحتى الأجور، وذلك تأسيسا لرفاهة تكون بدلا عن نظم الحكم الديمقراطية والشفافة، الا أن قرار الإمارات العربية المتحدة الأخير يعد نقطة تحول، ويؤكد على أن السياسات التي تدعمها دول مجلس التعاون الخليجي في مصر وتونس وغيرها، تجد في أحيان قليلة صداها في دول الخليج. فهي سياسات الاقتصاد الحر التي تؤمن بها الكيانات الاقتصادية الكبرى، والدول الأوروبية ودول التعاون الخليجي، بالرغم من فشل تلك السياسات الفعلي في الحفاظ حتى على استمرارية نظم الحكم في شمال أفريقيا.

وبالرغم من توجه الاتحاد الأوروبي، ودول مجلس التعاون الخليجي لبعض السياسات التقشفية، الا أن توصياتهم للدول العربية لا تزال أكثر جرأة وعمقا من تلك التي يطبقونها في بلادهم. فما زال الدعم الزراعي يمثل حوالي نصف إجمالي الدعم في الاتحاد الأوروبي، فيما تلاشى في معظم الدول العربية، كما لا تزال الخدمات العامة في دول الخليج، والأجور والدعم النقدي ودعم النقود بحجم يضمن حياة أكثر من الكريمة للمواطنين في دول الخليج. كما لو أن مصر وتونس والمغرب والأردن وغيرهم من الدول العربية والشعوب العربية فئران التجارب التي تقيس عليها دول الخليج ودول الاتحاد الأوروبي سياسات التقشف وقدرة احتمال الشعوب لغياب العدل الاجتماعي وتلاشي فرص الحياة الكريمة. وبهذا الشكل، تظل السياسات الاقتصادية التي توصي بها دول الخليج ودول الاتحاد الأوروبي، بل وتشترطها علنيا على دول الربيع العربي، من أهم العوائق التي تحول دون توجه الشعوب العربية لمناقشة البدائل المنطقية للنظام الاقتصادي، ولطرح -مجرد طرح- حلول عملية عادلة لإعادة توزيع الثروات وضمان القضاء على الفقر وتحقيق طموح الشعوب العربية في العدالة الاجتماعية. حيث أضحى التفكير -مجرد التفكير- في نظم بديلة عن تلك التي تدفع بها دول الخليج العربي، يعد خطرا على الأمن القومي وتحديا لتوازنات القوى في المنطقة العربية، بل وقد يعتبره البعض دعما للإرهاب وإثارة للشغب.

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart