الرأسمالية والعدالة الاجتماعية.. النمط الاقتصادي الرأسمالي القائم ينفي العدالة الاجتماعية

الرأسمالية والعدالة الاجتماعية.. النمط الاقتصادي الرأسمالي القائم ينفي العدالة الاجتماعية

فصل ضمن كتابالعدالة الاجتماعية بين الحراك الشعبي والمسارات السياسية في البلدان العربية

ربما تركزت كل النقاشات حول العدالة الاجتماعية انطلاقا من الحاجة الداخلية، وكذلك الإمكانية الداخلية لتحقيقها. لكن ستكون كل النتائج هنا بعيدة عن أن تكون إمكانية واقعية. حيث أن التكوين الاقتصادي المحلي مندمج أصلا بالنمط الاقتصادي العالمي، ومهيمَن عليه من قبل الرأسمال في المراكز. لهذا سيخضع كل ميل مساواتي داخلي لما يمكن أن يكونه موقف الطبقة المسيطرة في النمط الرأسمالي ككل.

الفكرة الأساسية هنا تتمثل في أن النمط الرأسمالي عالمي الطابع، وهو يخضع الأطراف لمصالح المراكز، ويجعل الوضع الاقتصادي في الأطراف منحكما لمصالح الرأسمال في المراكز. وأن هذه العلاقة هي علاقة نهب واستغلال بالأساس، لهذا تفرض تعميم الفقر والبطالة والتهميش في الأطراف. حيث أن الطبقة المسيطرة في الأطراف هي “جزء” من الرأسمالية المسيطرة، لكن من موقع التابع نتيجة اشتغالها بالقطاع الاقتصادي المكمل، أي الذي لا ينافس في إنتاج السلع بل الذي يقوم على توزيعها. وهذا الأمر هو الذي يجعل الرأسمالية المحلية مجبرة على أن تعمم البطالة والفقر والتهميش نتيجة التكوين الاقتصادي الذي تفرضه محليا لكي يحقق المصالح المزدوجة لها وللرأسمال الإمبريالي.

كل ذلك يحتاج إلى تحليل سوف يتناوله الفصلين الأول والثاني، لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن مفهوم العدالة الاجتماعية هو ما يفرض بعض التوضيح، حيث يرتبط فهم التكوين الاقتصادي والمصالح الطبقية، ونشوء حالات التفارق الطبقي والفقر والبطالة والتهميش، بالتصور الذي يطرح من أجل تجاوز اللا مساواة هذه. وفي هذه الدراسة، كما فعلنا في الدراسة السابقة، سوف ننطلق من مفهوم العدالة الاجتماعية بمعناه الغامض والعام والمجرد. والذي يتعلق بتحقيق “حياة كريمة”. بعيدا عن التحديدات الطبقية أو عن طبيعة النمط الاقتصادي السائد. لأن المفهوم متعدد المعاني، ويرتبط بخيارات عدة، حيث يطرح من كل طبقة بمعنى مختلف، وتتبناه التيارات السياسية وفق أرضيات متمايزة أو حتى متناقضة. فالليبرالي يطرح العدالة الاجتماعية، فيما إذا أراد طرحها، كشكل من أشكال تحسين وضع قطاع من المفقرين في ظل استمرار النمط الرأسمالي، وبما يحافظ على استقراره. هذا ما جرى في البلدان الرأسمالية المتطورة بعد أزمة “الكساد العظيم” سنة 1929، التي أفضت إلى نشوء دولة الرفاه المستمرة بقاياها إلى الآن. وهو ما تحقق بشكل آخر (لكن ربما مشابه) في “نظم التحرر الوطني” (أي النظم التي حكمتها أحزاب “قومية اشتراكية”). وهو ما تتلمسه بعض التيارات الليبرالية جزئيا، لكن ليبدو أنه بروباجندا، أي كخطاب إعلامي. وهو ما فعلته بعض التيارات الإسلامية (الإخوان المسلمون) في بعض اللحظات بعد نشوب الثورات العربية. والذي ظهر كخطاب إعلامي بعد وصولها إلى السلطة، حيث أبقت التكوين القائم دون أي تعديل في النمط الاقتصادي (من ريعي إلى منتج) أو الوضع المعيشي.

وحدها قطاعات من اليسار تكرر المفهوم، وهي أصلا التي أقحمته في شعارات الثورات بدءا من مصر، حيث أصبح الشعار العام هو: عيش، حرية، عدالة اجتماعية. لكن معنى المفهوم ملتبس، ويطرح في سياق استمرار النمط الرأسمالي وليس بتجاوزه. رغم أن المشكلة الجوهرية تتمثل في النمط ذاته. وهذا ما يوضحه البحث في طبيعة النمط الرأسمالي محليا، وما سوف أوضحه في البحث المتعلق بانعكاس النمط الرأسمالي العالمي على الوضع المحلي، وبالتالي تأثير ذلك على “العدالة الاجتماعية”. لهذا فإن السؤال حول أي نمط اقتصادي هو الذي يحقق “العدالة الاجتماعية” ليس مطروحا لديها، انطلاقا من بديهية استمرار النمط القائم، أو مع تعديل جزئي فيه. رغم أنه حتى هذه الأفكار التي تتداولها كانت تتلاشى إزاء التركيز على المستوى السياسي، والدخول في صراعات بعيدة عن الأساس الطبقي، مثل صراع دولة دينية ودولة مدنية (الصراع ضد الإخوان المسلمين)، أو ضد الإرهاب. والتركيز على “الوطن” و”الدولة”.

بعنى أن شعار “العدالة الاجتماعية” مطروح في سياق إصلاحي، وفي إطار عمومي غير محدد، الأمر الذي يجعله بلا معنى. ربما “تزيينة” لكي يقال إن البرنامج المطروح يمثل اليسار.

للوصول إلى تحديد واضح لما يمثل عدالة اجتماعية حاولت في ورقة سابقة التركيز على النمط الاقتصادي المحلي وكيف ينزع إلى خلق اللا مساواة، ويرفض تحقيق أي عدالة، لأصل إلى أن تجاوز اللا مساواة يفترض أصلا تجاوز النمط القائم. هنا سوف أتناول النمط الاقتصادي العالمي لكي أوضح كيف أنه ينفي “العدالة الاجتماعية”. أن البحث في التكوين العالمي يوصل إلى تلمس كيف يتبلور شكل معين للنمط الاقتصادي محليا، هذا الشكل الذي يرفض أي عدالة اجتماعية، لأن الربط القائم بين المحلي والعالمي يهدف أصلا إلى النهب، ومراكمة الأرباح، دون حساب لوضع الشعوب، أو على حسابها. لهذا أفضت كل الميول لتحقيق “العدالة الاجتماعية” إلى تطوير الصراع مع المراكز الإمبريالية، ومحاولة الاستقلال عنها. بالضبط كما ظهر في التجارب الاشتراكية (الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، وكوبا والصين وفيتنام وغيرها)، وكذلك في المحاولة التي قامت بها نظم “التحرر الوطني”.

ما نحاول توضيحه هو أن أي شكل من أشكال العدالة الاجتماعية يفترض التركيز في البحث على طبيعة النمط الاقتصادي، وفهم هل أن النمط الرأسمالي القائم يمكنه أن يستوعب أي شكل منها، أم أن الأمر يتعلق أصلا بتجاوز هذا النمط؟ هذا يفرض البحث في البنى الاقتصادية المحلية التي تشكلت تحت تأثير سيطرة الرأسمالية عالميا، لتوضيح لماذا أنتج الفقر والبطالة والتهميش، بالتالي اللا مساواة. ومن ثم هل يمكن أن يتحقق شكل ما من العدالة الاجتماعية في ظل استمراره أو أنه يجب تجاوزه أصلا من أجل تحقيق ذلك؟ وهنا يرتبط تحقيق العدالة الاجتماعية بمشروع مجتمعي طبقي لا بد منه من أجل ذلك. وسنلمس بأن الأمر يتعلق كذلك بتحقيق التطور الذي تحتجزه السيطرة الرأسمالية عالميا، وأن التطور الاقتصادي، بمعناه الصناعي والزراعي والمجتمعي، هو الذي سيفتح على تحقيق “العدالة الاجتماعية”، لكن في سياق طبقي مختلف مع سيطرة الرأسمالية ومضاد لها، ويهدف إلى تجاوزها.

هذا ما توصلنا إليه سابقا، وما سنجد أننا إزاءه ونحن ندرس أثر السيطرة الرأسمالية على الاقتصادات المحلية. وكيف أن هذه الاقتصادات كانت مصاغة لكي تخدم مصالح الرأسمال الإمبريالي، أي الرأسمالية المسيطرة في المراكز، وبالتالي كانت معرضة للنهب الذي كان يفرض الإفقار والبطالة والتهميش بالضرورة.

سوف نقوم بالبحث ضمن مرحلتين، الأولى هي تلك الممتدة منذ بدء توسع الرأسمالية عالميا واستعمارها الشعوب، وبالتالي التكوين الاقتصادي الذي أوجدته، والثانية الوضع الآن بعد التحولات التي شهدتها الرأسمالية، خصوصا بعد سبعينيات القرن العشرين، والتي تحكم تشكيل الوضع الاقتصادي المحلي.

(1)

لم تتشكل بلداننا عبر تطور مستقل، حيث فرضت أسبقية تطور أوروبا وانتقال بعض دولها إلى الرأسمالية بعد اكتشاف الصناعة، التي باتت وسيلة الإنتاج المركزية، فرضت أن تصبح عنصرا حاسما في التطور العالمي ككل، لأنها سعت كي تصيغ العالم على ضوء مصالحها، ولخدمة هذه المصالح، التي تمثلت في الحصول على مواد أولية مثل القطن والحرير وأيضا الذهب، وكذلك القمح، من جهة، ومن جهة أخرى توفير الأسواق لسلعها التي باتت معنية بالأسواق من أجل تصريفها، وكذلك تصدير الرأسمال من أجل النهب الخارجي. ولأجل ذلك بالضبط كانت معنية بمنع توسع الصناعة وحصرها في شركاتها و”حدودها القومية”، كي تمنع وجود منافسين سواء للسيطرة على المواد الأولية أو السيطرة على الأسواق. هذه المسألة كانت تعني منع تطور البلدان التي لم تستطع التطور قبل بدء الزحف الاستعماري، وخصوصا بعد نشوء الإمبريالية كرأسمالية عالمية مهيمنة. كانت هذه هي مشكلة تجربة محمد علي باشا حينما قرر بناء الصناعة والهيمنة على المنطقة والانتقال إلى الحداثة، حيث ووجه بحرب دمرت مشروعه وحصرته في حدود مصر، وبشرط ألا يعمل على بناء الصناعة.

هذا الميل لدى الرأسمالية فرض عليها عبر استعمارها أن تصيغ البنى المحلية انطلاقا من تلك المصالح، وأن تكون قادرة على ذلك نتيجة الاحتلال المباشر. لهذا أبقت البنى التقليدية، التي تمثلت في نمط زراعي متخلف، وسيطرة كبار ملاك الأرض، ووجود حرفي تجاري في المدن التي كانت كذلك مركز كبار ملاك الأرض. وحيث كان يعم التخلف المجتمعي، ويسيطر وعي تقليدي مستمد من دين مبسط، لكنه يتمثل في التمسك بالعبادات وجزئيا في الأحكام الشرعية، فيما عدا المدن التي كان يعمم التجار وعيا دينيا “أصوليا”.

كان يهم الرأسمالية أن تحول في الزراعة بما يخدم حاجتها، خصوصا هنا القطن والحرير والقمح، لهذا فرضت زراعة هذه المواد، أو شجعت على زراعتها، وهو ما كان يوجد اختلالا في الحاجات المحلية نتيجة نقص العديد من السلع الزراعية. وأيضا كان يهمها أن توسع من الطبقة المدينية التي تحتاج إلى سلعها، لهذا عملت على توسيع فئات التجار والنخب، وشجعت على تدريس نخب ضرورية للإدارة والبنوك وغيرها. لهذا تشكلت رأسمالية موصولة بكبار ملاك الأرض وتنشط في قطاع اقتصادي “مكمل”، هو قطاع التجارة والخدمات والبنوك، هاربة من التوظيف في بناء الصناعة نتيجة اختلال وضع المنافسة في سوق مفتوح ومسيطر عليه من قبل دولة الاحتلال. وبالتالي تكيفت مع التكوين الذي أراد الاحتلال إنشاءه، متداخلة مع الإقطاع ومتعايشة مع البنى التقليدية.

لقد ظل التكوين “الزراعي” (الريفي/ الإقطاعي) هو الغالب، ونشأت المدن كهامش يحتوي “الحداثة” المفروضة استعماريا، وظل الفقر والتخلف والأمية هي السمات التي تطبع الريف، بينما نشأت فئات حداثية في المدينة، وتكونت طبقة عاملة، لكنها كانت مفقرة وتعاني من استغلال الرأسمال. وبالتالي نشبت الصراعات الاجتماعية في الريف الذي كان يشكل الكتلة الأساسية من المجتمع (بنسبة 80 إلى 90%)، ويخضع لنهب كبار الملاك. وتطور صراع العمال في المدن من أجل وضع أفضل في الجور والضمان الاجتماعي، وحق العمل. لقد تحكمت في المجتمع طبقة من كبار ملاك الأرض والتجار، وكانت أساس السلطة، ومدخل السيطرة الاستعمارية نتيجة تشابكها مع الرأسمال الاستعماري (الإمبريالي). بينما ظلت الأغلبية الشعبية تعاني من الفقر والبطالة والجهل والأمية والأمراض والتهميش. وظل الوجود الاستعماري والدولة التي أسسها هما القامع لطموحات الشعب، وأساسا المانع لمسار التطور الحداثي.

وإذا كان الوجود الاستعماري هو الذي يفرض هذه المعادلة بقوة جيوشه، فقد سمح ذلك لتعميق الهوة بين المراكز الرأسمالية التي تطورت بتسارع، وأصبحت تتسم باستحواذ التمركز المالي والتقنية العالية والأسواق الواسعة بعد أن سيطرت على أغلب العالم، وبين الأطراف التي ظلت دون صناعة، أو بصناعة هامشية هي أقرب إلى الحِرَف (المانيفاكتورات)، وفي ظل اقتصاد زراعي متخلف، وضعف الرأسمال المتراكم، وكذلك الجهل والأمية. لهذا لم يغير من الأمر خروج الاحتلال و”استقلال” الأطراف، فقد بات استقرار السوق المفتوح، المدعم في الأطراف من قبل الطبقة الرأسمالية التي نشأت، والمسيطرة على السلطة، هو عامل التأثير في مسار الأطراف، بالضبط نتيجة اللا تكافؤ الذي نشأ بين المركز والأطراف، والذي كان العنصر الحاسم في استمرار هيمنة الرأسمال الإمبريالي، مدعما بقوة الدول الإمبريالية، وبالتالي بالضغوط التي يمكن أن تمارسها من أجل استقرار الوضع القائم. لهذا كانت الأطراف تعيش حالة إعادة إنتاج البطالة والفقر والتهميش مع استمرار النمط الاقتصادي الذي تكرس، أولا نتيجة الوجود الاستعماري، ثم ثانيا نتيجة تكريس بنى مجتمعية محلية تتحكم بالدولة وتدفعها مصالحها التي نشأت لأن تحافظ على النمط الاقتصادي مستخدمة سطوة السلطة، ومدعومة من قبل الدول الإمبريالية.

كل ذلك كان يجعل الشعب المفقر إلى الصدام مع السلطة، ومع الدول الإمبريالية التي تحميها. وإذا كان يريد تحسين وضعه المعيشي عبر مطالب عديدة تتعلق بالريف وبالعمال وحتى بالفئات الوسطى، فقد بدا واضحا أن تحقيق ذلك يفترض الصدام مع الدول الإمبريالية ومع الطبقة الرأسمالية المسيطرة، والسعي لتدمير النمط الاقتصادي القائم. لقد كانت مطالب الشعب هي التحرر وتحقيق الاستقلال، والإصلاح الزراعي، وتحسين وضع العمال والفلاحين، والتعليم المجاني. وهي المطالب التي حملتها الأحزاب التي طمحت في تحقيق التطور (الشيوعية والقومية)، والتي ارتبطت بتغيير النمط الاقتصادي بعد تصفية الطبقة المسيطرة، التي كانت متشكلة من كبار ملاك الأرض والتجار.

إذن، يمكن القول إن هذا الميل الرأسمالي للهيمنة على العالم وصياغته وفق مصالح الرأسمالية في المراكز، والذي أنتج عالما مستقطبا بين مراكز وأطراف، كان يفرض في الأطراف أن يكون القطع مع الرأسمالية ذاتها هو المدخل لتحقيق “العدالة الاجتماعية” بالترافق مع تحقيق التطور بشكل أو بآخر. هذا ما تحقق في التجارب الاشتراكية التي حققتها أحزاب شيوعية (وشملت نصف العالم)، وما تحقق بشكل ما في تجارب ما أسمي “نظم التحرر الوطني”، أي حينما لعبت أحزاب قومية عبر الجيوش، أو قامت الجيوش بدورٍ كرافعة للتغيير. في التجارب الاشتراكية تحقق القطع مع النمط الرأسمالي وجرى إلغاء الملكية الخاصة، فتحقق “العدل الاجتماعي” في الوقت الذي كان المجتمع يعاد بناءه كمجتمع صناعي حداثي (وإنْ في ظل نظم شمولية). في تجارب التحرر الوطني جرى تدمير النمط الاقتصادي، وإنهاء الإقطاع ومحاولة بناء الصناعة، وفرض مجانية التعليم والضمان الاجتماعي والحق في العمل، لكن مرحلة محدودة، حيث سرعان ما انهارت التجربة بفعل ميل فئات حاكمة إلى مراكمة الثروة عبر السرقة (نهب المال العام)، والتحول إلى اللبرلة من جديد، وبالتالي إلغاء كل المنجزات السابقة، وخصخصة كل شيء تقريبا.

ما ظهر هنا هو أن تحقيق “العدالة الاجتماعية” يفترض تغيير النمط الاقتصادي، والميل لتحقيق التطور الصناعي والمجتمعي معا. أي هنا القطع مع النمط الرأسمالي العالمي، وتجاوز كل الآليات التي فرضها ويفرضها. لأن العدالة تفترض وجود اقتصاد منتج، وضامن للعمل، وقادر على ربط الأجور بالأسعار، ويوفر التعليم المجاني والضمان الاجتماعي والسكن اللائق. ولهذا من حمل مطلب “العدالة الاجتماعية” هي تلك الأحزاب والقوى التي دخلت في صدام مع الدول الإمبريالية، وحاولت أن تحقق التطور بعيدا عن آلياتها. ولم تظهر تجارب غير ذلك، سوى في بلدان المراكز التي كانت قد تطورت وباتت هي المهيمنة، وتنهب طغمها المالية العالم، للحفاظ على استقرار المراكز.

(2)

هذا التكوين كان يفرض نشوب الثورات والصراعات والانقلابات، ويؤسس لنشوء الطموح لتحقيق العدالة. ولقد أشرت إلى أن هذا الطموح عبر عن ذاته من خلال القطع مع النمط الرأسمالي ككل، والسعي لتحقيق التطور والحداثة والعدالة، في صيغة اشتراكية وأخرى “تحررية” وإن كانت تغطت بغطاء “اشتراكي”.

وإذا كان جوهر السيطرة الرأسمالية ظل قائما، أو أعيد إنتاجه بعد انهيار حركات التحرر ثم النظم الاشتراكية، فقد جرت تحولات في المراكز الإمبريالية زادت من إشكالية الأطراف. لقد بني “النظام القديم” على ضرورة تصدير السلع والرأسمال والحصول على المواد الأولية، لهذا جرى تشكيل الأطراف في الصيغة المشار إليها سابقا، حيث للزراعة دور منتج، وتشكلت البرجوازية كبرجوازية تجارية خدمية بنكية. لهذا كانت المشكلة الأكبر تتمثل في وضع الريف الذي يشكل المجتمع. وكان طموح الريف للتحرر والحصول على الأرض هو محرك الصراع الطبقي. ولقد حققت تجارب التحرر والاشتراكية مطامح الريف، فأعادت تشكيل المجتمع طبقيا، واقتصاديا بما أدى إلى تراجع دور الريف مع تزايد دور الصناعة. وحين انهارت التجارب كان انخراطها في النمط الرأسمالي مختلفا، لكن المراكز الإمبريالية عملت على تكييفها وفق مصالحها كذلك. هذا التكييف الذي خضع لطبية النمط الرأسمالي الذي أخذ في التبلور بعد أزمة سنة 1972 وفك ارتباط الدولار بالذهب، وبالتالي نهاية اتفاق بروتون وودز. وهو الفك الذي سمح لأميركا بطباعة عملتها دون حدود.

في الربع الأخير من القرن العشرين طرأ تغير كبير في بنية النمط الرأسمالي، فرض أن تسيطر الطغم المالية بعد أن تعمم الاقتصاد المالي كبديل عن الاقتصاد الحقيقي. أي أصبح التداول المالي هو المسيطرة بعد أن طغت أشكال النشاط المالي على النشاط المنتج والاقتصاد الحقيقي. وبالتالي بات النمط ينزع إلى أن يكون اقتصادا “ريعيا”، يعتمد على النهب عبر آليات غير اقتصادية بالمعنى الذي قامت على أساسه الرأسمالية، حيث الإنتاج السلعي عبر الصناعة، أو كما وصفه ماركس في معادلة: ن – س – نَ، أي نقد/ سلعة نقد أكثر، حيث بات الأمر يتعلق بمعادلة: ن – نَ، أي نقد/ نقد أكثر دون الحاجة إلى السلعة، رغم أن النمط الرأسمالي لا زال يقوم على الصناعة وإنتاج السلع، لكن الذي هيمن خلال العقود الأخيرة هو المعادلة الأخيرة.

لماذا هيمن المال على الرأسمال إذن؟ إذا كان الرأسمال هو النقد الموظف في الإنتاج، فإن المال وهو النقد الموظف في مجالات أخرى لا تتعلق بالإنتاج (ولا بالتوزيع، وأيضا ليس الخدمات الضرورية لكل ذلك، وهذا ما يسمى الاقتصاد الحقيقي). في الماضي كان هذا يسمى الربا، أي الفائدة على الدَيْن، وهو الآن يتخذ أشكالا عديدة منها الدين، ومنها “المشتقات المالية”، والمضاربات في أسواق الأسهم وعلى السلع والعقارات والنفط والنقد ذاته. والسؤال هنا هو لماذا هذا التحول في النشاط الاقتصادي من الاقتصاد الحقيقي إلى الاقتصاد الريعي؟

إذا كان النمط الرأسمالي يتسم بعلة فيض الإنتاج، وهي الحالة التي كانت تفضي إلى الركود الاقتصادي وتسبب في أزمة الكساد، وبالتالي تؤدي إلى الحروب وإعادة تقاسم العالم، فقد كان النمط الرأسمالي يفضي كذلك إلى حصول فيض الأرباح، وبالتالي تسارع التراكم المالي. هذا التراكم الذي كان يدمر بعضه في الحروب الإمبريالية، ويوظف بعضه الآخر في إعادة البناء، وعموما في الاقتصاد الحقيقي. لكن السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية شهدت أولا نهاية الحروب الإمبريالية وتقاسم العالم، وثانيا توسع المنظومة الاشتراكية بعد أن باتت تشكل نصف العالم تقريبا، وهو الأمر الذي كان يعني تقلص السوق الرأسمالي. هذه الحالة الأخيرة كانت تؤدي إلى نشوء حالة إشباع في الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي ككل، خصوصا مع زيادة المزاحمة بين الشركات، وانهيار بعضها واندماج بعضها الآخر كما حدث خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين. لهذا نشأت حالة من التراكم المالي في البنوك كانت تكبر، وباتت تشكل أزمة للبنوك ذاتها، لأنها تدفع الفوائد لمال يخسر نتيجة التضخم “الطبيعي”، الأمر الذي يعني إفلاس البنوك وانهيارها. إذن، يمكن القول بأن هناك كتل مالية باتت تتراكم دون أن تجد منفذا تستثمر فيه بعد أن أشبع الاقتصاد الحقيقي، بل بات يعاني من مظاهر الركود والإفلاس. ولأن كل مال لا يتحول إلى رأسمال يموت، جرى البحث عن منافذ للاستثمار خارج الاقتصاد الحقيقي، وهنا ليس غير لعبة المال/ مال (أي ن – نَ). أي الانتقال من الاقتصاد الحقيقي إلى الاقتصاد الافتراضي.

ترافق ذلك مع أزمة الدولار بداية سبعينيات القرن العشرين، حيث حصل اختلال في الميزان التجاري الأميركي لمصلحة أوروبا واليابان بعد أن نهضت من الدمار الذي حاقها خلال الحرب الثانية، الأزمة التي أدت إلى تحرير علاقة الدولار بالذهب كما أشرتا. هذا الوضع الذي أعطى بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي حرية طباعة الدولار دون مقابل، والذي فرض نشوء مسار تراكمي من عملة الدولار، الأمر الذي صاعد من مشكلة التراكم المالي. لكنه نتيجة الهيمنة الأميركية بات يفرض أن تتراكم الأموال في البنوك الأميركية، وفي المؤسسات المالية التي جرى إنشاؤها، أكثر من تراكمه في البلدان الرأسمالية الأخرى، خصوصا مع رفع سعر الفائدة في البنوك الأميركية. بالتالي اصبحت هناك أرباح تتراكم، ودولارات تتراكم، ويتمركز كل ذلك أكثر في أميركا، بالتالي بالدولار. فوصل المال المتداول سنة 2008 (أي سنة الأزمة) إلى ألفي تريليون دولار، بينما بلغ الناتج العالمي 44 تريليون دولار، والفارق هنا يظهر حالة التضخم التي باتت تحكم الاقتصاد العالمي. وفي هذه الفترة بلغت كتلة الدولارات المتداولة بين 600 و700 تريليون دولار، وهذا يؤشر إلى حالة التضخم التي باتت تحكم الاقتصاد الأميركي، والعالمي. يؤشر إلى السيولة النقدية التي تفوق كثيرة حجم وقدرة الاقتصاد العالمي.

تلك الكتل المالية التي باتت متراكمة فرضت البحث عن “منافذ”، أي عن مجالات استثمار جديدة. ويمكن هنا الإشارة إلى عدد منها، كما سنلاحظ أن هذه المجالات باتت تزيد من تضخم الكتلة المالية نتيجة الأرباح التي تحققها، والتي كانت في العديد منها على الربح في الاقتصاد الحقيقي عشرات المرات، فإذا كان الربح في الإنتاج السلعي يبلغ 5% فقد بلغ 15% وأحيانا أضعاف ذلك في الاقتصاد المالي.

يمكن هنا أن نشير إلى الاتجاه للاستثمار في مسألة “التعديل الجيني” في الزراعة، والتي أفضت إلى فيض في الإنتاج الزراعي. كذلك يمكن أن نشير إلى الاستثمار في “المشتقات المالية”، هي المشتقات التي فتحت بابا عريضا لأشكال من “النشاط الاقتصادي” مستحدث، رغم أن لا قيمة له. ومن ثم الاستثمار في الديون، حيث فرض الضغط السياسي من قبل الإمبريالية الأميركية على “بلدان التحرر” أولا، في سياق ما أسمي “سياسة التصحيح الهيكلي”، وتحت حجة تصحيح عجز الميزانية، الحصول على القروض عبر صندوق النقد الدولي. ورغم أن الحديث كان يجري عن مساعدة، فقد كانت هذه القروض تدر أرباحا هائلة. ولقد تعممت فيما بعد على بلدان أميركا اللاتينية ثم بلدان أوروبا الشرقية، وبلدان جنوب أوروبا. ومالت البنوك والمؤسسات المالية الأميركية إلى توسيع سياسة الإقراض الداخلي بشروط مخففة، وكانت أزمة الرهن العقاري هي مدخل الانهيار المالي سنة 2008. ومع سياسة العولمة جرى فرض عولمة الأسواق المالية (البورصة)، التي تقوم أصلا على المضاربة، وبالتالي توسيع الاستثمار فيها، عبر المضاربة في العالم وليس في بلد بعينة. وشهدنا بعد ذلك المضاربة على السلع (المواد الغذائية مثلا) والخدمات والنفط، وحتى العملة (النقد).

وكانت مؤشر حركة التداول اليومي للنشاط الاقتصادي يشير إلى أن 90% منه يتعلق بنشاط مضارب، وبالتالي ظهر أن الطغم المالية هي التي باتت تهيمن على مجمل الاقتصاد العالمي كما يشرح فرانسوا موران. لكن كل ذلك لم يستوعب التراكم المالي، لهذا تعممت وتعمقت سياسة الخصخصة، وأصبحت تطال ما كان يبدو أنه “حق طبيعي” للبشر، مثل البنية التحتية والتعليم والماء. فقد انتشر نشاط الشركات بشكل يوحي بأنها باتت تمتلك كل شيء بما في ذلك الجيوش، وإدارات الدولة، والطرقات والتعليم والمستشفيات. كما أصبح الرأسمال المصدر إلى الأطراف ينشط في القطاعات الريعية، مثل العقارات والخدمات والسياحة والبورصة.

لا شك أن لهيمنة هذا النمط “المالي” على المجمل النمط الرأسمالي قد فرض تكييف الأطراف بما يخدم الطغم المالية. وكانت العولمة هي المدخل لفرض التحرير الكامل للأسواق، والدفع بالخصخصة إلى النهاية، وبالتالي تحصين “الاستثمار” من كل تدخل للدولة، على العكس الفرض على الدولة الوطنية حماية هذه الاستثمارات. لقد عملت أميركا كزعيمة للدول الإمبريالية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي على تخلي الدولة عن كل دور اقتصادي، وتحويلها إلى حامي للاستثمار الأجنبي، وفتح الآفاق لهذا الاستثمار للنشاط في كل القطاعات. ومن ثم تشكيل “طبقة جديدة” هي أشبه بالمافيا تتمركز في الاقتصاد الريعي، الذي بات يتركز في العقارات والخدمات والسياحة والبنوك والبورصة والاستيراد.
وإذا كانت الرأسمالية قد منعت التطور الصناعي في الأطراف، فقد أدت سياسة الخصخصة إلى تدمير الصناعات التي أقيمت في مرحلة “التحرر الوطني” (وجرى أمر مماثل تجاه البلدان الاشتراكية السابقة لم ينجح عموما). لكن فيض الإنتاج الزراعي في المراكز نتيجة سياسة التعديل الجيني فرض تدمير الزراعة في العديد من بلدان الأطراف (البلدان العربية مثلا)، حيث باتت الرأسمالية بحاجة إلى الأسواق لمنتوجها الزراعي. وهو الأمر الذي أدى إلى انهيار كبير في الريف وانتقال نسبة مهمة من الفلاحين إلى العشوائيات في أطراف المدن بحثا عن العمل. لقد أصبحت المجتمعات تتشكل من طبقة رأسمالية ريعية مافياوية تنشط كما أشرنا في العقارات والخدمات والسياحة والبنوك والاستيراد، وتمركز الثروة بيدها، وطبقات شعبية مفقرة، سوى أقلية استفادت من النمط الاقتصادي (مهنيون خصوصا، وموظفون في قطاعات معينة مثل البنوك والتقنيات الحديثة). ويبدو واضحا أن الطبقات المفقرة تشكل النسبة العظم في المجتمع (تقريبا 30% بطالة، وأكثر من ذلك يعيشون تحت خط الفقر). وفي ظل تضاؤل القطاع المنتج توسعت الفئات المهمشة، وتقلص عدد الطبقة العاملة، والفلاحون.

هذا هو التكوين المجتمعي الذي تشكل في العقدين الأخيرين، بعد سنوات من الخصخصة وتحويل النمط الاقتصادي بالتركيز على القطاع الريعي. وهو وضع يظهر مدى الفقر والتهميش الذي تعمم بفعل التكوين الرأسمالي العالمي بالترابط مع “رجال أعمال جدد” محوروا الاقتصاد في قطاعات ريعية. لكن سنلمس بان هذا الربط الذي أخضع النمط الاقتصادي المحلي لهيمنة الطغم المالية الإمبريالية، والذي أنتج هذا الشكل المحلي، يؤثر في التكوين المحلي بشكل مستمر لغير مصلحة المفقرين، على العكس من ذلك يفضي إلى تصعيد الفقر والتهميش ويزيد في البطالة. فالمديونية التي طرحت كحل لأزمة عجز الميزانية تحت تضليل إعلامي يقول بأن سببها هو خسائر القطاع العام ودعم الدولة للسلع والخدمات، وبالتالي كانت تقدم الديون مقابل إنهاء القطاع العام وإنهاء تدخل الدولة في الاقتصاد عبر تحرير الأسواق. أن عجز الميزانية لم ينته بل اصبحت فوائد الديون هي العبء الذي يفرض سياسات اقتصادية جديدة تتمثل في زيادة الضرائب، وبالتالي تحميل الشعب نتائج المديونية التي مررت تحت عنوان حل مشاكله.

لقد أدى تحرير الأسواق والخصخصة إلى نهب القطاع العام. فمثلا كانت قيمة القطاع العام في مصر سنوات ثمانينات القرن العشرين هي 360 مليار دولار، نلاحظ أنها تلاشت، وتراكم على الدولة ديونا وصلت إلى 50 مليار دولار، بعد سداد لفوائدها منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين. ولقد استفادت مافيا الدولة ومحيطها من ذلك، لكن الرأسمال الإمبريالي استفاد أكثر. رغم ذلك بات تسديد فوائد الديون يقع على كاهل الشعب عبر الضرائب. وهذه مسألة تزيد من فقر جزء كبير من الشعب بشكل مستمر، وليس من الممكن وقفها دون إلغاء الديون، وهو الأمر الذي يعني الصدام مع الطغم الإمبريالية.

في مستوى آخر نشير إلى أن المضاربات على السلع والخدمات تنعكس ارتفاعا في اسعارها تتحمله الشعوب. وهذا ما ظهر قبيل وخلال الأزمة المالية التي حدثت سنة 2008، حيث كان ارتفاع أسعار النفط والمواد الغذائية سببا في زيادة أزمة الأطراف، وفي تسريع انفجار الثورات في البلدان العربية. وفي ظل تحرير الأسواق وتطرف السوق الحرة، سوف تبقى الشعوب خاضعة لتحكم الرأسمالية في أسعار السلع والخدمات عموما، في وضع محلي لا يساعد إلى زيادة الأجور بما يوازي زيادة الأسعار.

إضافة إلى ذلك سنجد بأن الاستثمار في البورصة (المسمى الاستثمار قصير الأجل) يفضي بالضرورة إلى نهب المستثمرين الصغار، وربما تحقيق التوازن في النهب بين المافيا المحلية والطغم الإمبريالية. وهذا الأمر يعني نهب جزء من الناتج المحلي وتصديره إلى الخارج، مع خلق مشكلات متواترة في الاقتصاد نتيجة افلاس فئات وسطى وصغار المستثمرين الذي يحاولون الاستثمار في البورصة. وهذا ينعكس على مجمل الاقتصاد، وبالتالي يؤدي إلى إفقار فئات جديدة باستمرار. وتأتي عملية الاستثمار في قطاعات البنية التحتية لتكمل الأزمة المجتمعية، حيث أن خصخصة الطرق والتعليم والصحة وقطاعات النفط والغاز، والتنظيفات، وبعض قطاعات الدولة، يعني أن يدفع المواطن في مجالات كان يتحصل عليها دون مقابل، أو يدفع أسعارا أعلى في قطاعات كان يدفع فيها أقل. أي أن المواطن هنا سوف يخضع لأسعار جديدة ربحية تضعها الشركات في هذه القطاعات الحيوية. المعنى هنا أن أعباء المواطن تزداد، حيث يجب أن يشتري بأسعار اعلى، ويدفع في قطاعات كانت مجانية، في وضع لم يتحصل فيها على أجور أعلى. وأيضا هذه عملية مستمرة وتتزايد.

يمكن أن نقول هنا بأن الشعوب باتت تخضع لتحكم الشركات الإمبريالية مباشرة، كما باتت تخضع لابتزاز الدولة. وهي في الحالين لا تقابل بزيادة في الأجور، لأن النمط المعمم بات يعني النهب المتصاعد والمستمر. والسبب في ذلك هو طبيعته المشار إليها قبلا، حيث أن آليات النظام المالي تفرض التراكم المتسارع في سياق عملية تضخمية لا توقف لها. فنسب الأرباح تزيد من تراكم المال، الذي يعود للتوظيف في القطاع ذاته. وطبيعة الأرباح تضخمية أصلا كما أشرنا. ولهذا تصبح عملية النهب متسارعة ومتوسعة، وهو الأمر الذي يلقي بالشعوب في مجاهل البطالة والفقر الشديد.

هذا النمط الاقتصادي هو نمط نهب، وهو بطبيعته يصاعد النهب وفق الأشكال التي جرت الإشارة إليها. وهو يسير في “خط واحد” يهدف إلى تضخيم التراكم بأقصى سرعة، وبأكبر إمكانية. من هذا المنطلق نقول بأنه يدفع إلى عكس تحقيق العدالة الاجتماعية، أي إلى إفقار متزايد. وهذه العملية موضوعية لا إمكانية لتغييرها من داخلها، بالضبط لأن هذا الشكل المالي هو الذي بات يتحكم (وليس يسيطر فقط) في النمط الرأسمالي ككل. ولقد أشرنا إلى أن كل الآليات التي يتمدد فيها تدفع إلى زيادة الأعباء على الطبقات الشعبية، على عكس ما يصور عادة من قبل منظري اللبرلة.

بالتالي يمكن تلخيص الأمر بالقول إن النمط الرأسمالي قد تحول إلى سيطرة الطغم المالية التي تنشط في المضاربات وأسواق الأسهم والمديونية والمشتقات المالية والاستثمار في “أوليات الحياة”. وأن الفائض المتحقق في هذه العملية هو فائض متضخم، وهو الأمر الذي يزيد التراكم المالي الذي أفضى إلى ذلك، كما يزيد الحاجة إلى تضخيم الفائض من جديد. ولقد فرضت هذه الآليات ذاتها منذ تسعينيات القرن العشرين بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، حيث همشت دور الدولة إلا لخدمة الطغم المالية، وفتحت الأسواق مشاعا للنهب. وشكلت طبقة محلية مافياوية خادمة لها. لهذا بات التكوين المحلي مؤسسا على أساس النهب، ووفق آلياته لا يستطيع سوى تصعيد النهب. وهي عملية تدفع إلى تصعيد الإفقار والتهميش والبطالة بالضرورة. وليس من الممكن تجاوز ذلك من خلال الاستمرار في وجود هذا التكوين.

هنا نحن إزاء نمط ينفي العدالة الاجتماعية بشكل كامل، لأنه يكرس النهب بأفظع أشكاله.

(3)

بالتالي، وقبل البحث في مسألة العدالة الاجتماعية لا بد من التأكيد على مسألة “القطع” مع النمط الرأسمالي القائم، حيث ليس من الممكن أن نفكر في العدالة الاجتماعية في نمط اقتصادي قائم على التهميش والنهب، وعلى الإغراق في التهميش والنهب نتيجة أن بنيته باتت تحتم ذلك. وهنا ينتقل الأمر من البحث في خيار “تقني” يتعلق بإمكانية تحقيق العدالة الاجتماعية في ظل النمط الرأسمالي القائم، إلى خيار طبقي يفترض تجاوز الرأسمالية ذاتها. فالمسألة بالأساس تتعلق بالإجابة على أسئلة مثل، كيف يمكن توفير بنية اقتصادية تحقق الاستيعاب الكامل لقوى العمل؟ وكيف يمكن لهذه البنية أن تسمح بالحصول على أجور تسمح بـ “عيش كريم”؟ وبتحقيق مجانية التعليم وعلميته؟ وتحقيق ضمان اجتماعي شامل؟ وبنية تحتية متطورة؟ وحتى بنظام ديمقراطي حقيقي؟.

هذه أسئلة تحتاج إلى إجابات ونحن نبحث في تحقيق حتى الحد الأدنى من “العيش الكريم”. وكلها توصل إلى أنه ليس من الممكن تحقيق ذلك في ظل استمرار النمط الريعي القائم، والمتشابك تبعيا بالنمط الرأسمالي بشكليه القديم والجديد. حيث أن تحقيق حتى الحد الأدنى يفترض تغيير النمط الاقتصادي من طابعه الريعي التابع إلى نمط منتج زراعيا وصناعيا، فهذه القطاعات هي التي يمكنها أن تستوعب العمالة وأن تنتج فائضا يسمح بتحسين الأجور، وأيضا تسمح بتغيير وضعية الميزان التجاري لمصلحة تقليص الاستيراد بشكل كبير، الأمر الذي يوقف النهب من جهة لكنه من جهة أخرى يسمح بربط متوازن للعلاقة بين الأجور والأسعار.

وهذا النمط الاقتصادي لا يتوافق مع مصلحة الرأسمالية المحلية ولا مع مصلحة رأسمالية المراكز، ولا الطغم المالية المتحكمة الآن. لهذا فإن تحقيقه يفرض أن يصبح هدف طبقات أخرى، ولقد كان كذلك كما أشرنا إلى تجارب “التحرر الوطني” (أو النظم القومية)، لكنه فشل بسرعة فائقة نتيجة تمسك تلك الفئات بـ “الملكية الخاصة” رغم رفعها شعارات اشتراكية واتباعها سياسات اقتصادية مشابهة لسياسات النظم الاشتراكية. حيث سرعان ما انتقلت من تحقيق التطور المجتمعي إلى تحقيق الميل الفردي الهادف إلى الارتقاء الطبقي، الذي جعلها تعيد التشبيك مع النمط الرأسمالي وفق شروط الأخير، فهي تمثل فئات وسطى ريفية كما أشرت يسكنها هوس الملكية الخاصة. هذا ما جعلني أشير إلى أن تحقيق العدالة الاجتماعية لا يتعلق بحل “تقني” بل بخيار طبقي.

بالتالي سيكون السؤال المركزي هنا هو: من سيحقق هذا القطع مع النمط الرأسمالي؟

الأمر يتعلق بالقطع مع النمط الرأسمالي القائم، وبتجاوز الرأسمالية بالتالي. ويقوم على مشروع يهدف أساسا إلى بناء قاعدة صناعية متطورة، وتوسيع وتحديث الزراعة، كأوليتين لبناء اقتصاد منتج يمكن على أساسه بناء مجتمع يحقق “العدالة الاجتماعية”. ويحقق كذلك الديمقراطية، لأن النمط الريعي لا يسمح أصلا ببناء دولة ديمقراطية لأنه نمط نهبوي مافياوي متحكم به، في التحليل الأخير، من قبل الطغم الإمبريالية.

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart