التحديات التي تواجه القوى الداعمة للعدالة الاجتماعية في المنطقة العربية

التحديات التي تواجه القوى الداعمة للعدالة الاجتماعية في المنطقة العربية

فصل ضمن كتابالعدالة الاجتماعية بين الحراك الشعبي والمسارات السياسية في البلدان العربية

I محطات سياسية مفصلية في مسار العدالة الاجتماعية الشاق والطويل

طرد الشعبان، التونسي والمصري، في مستهل 2011، بفضل أولى الانتفاضات الشعبية الثورية ضد سياسات التعديل الهيكلي، المدمرة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للغالبية الساحقة للسكان ولحرياتهم ولسيادتهم الوطنية، رأسي السلطة الاستبدادية المكلفة بتطبيقها. وفتحا بذلك مسارا ثوريا مناسبا للخروج من مأزق التعديل الهيكلي والتقشف، ولبناء نظام اجتماعي جديد، قوامه علاقات اجتماعية جديدة أقل حيفا واستغلالا للأغلبية المستغلة والمسحوقة من قبل الأقلية المهيمنة.

1) فشل برنامج العدالة الاجتماعية البرجوازي العربي

برزت مسألة العدالة الاجتماعية، في المنطقة العربية، لأول مرة، في علاقة بالنضال الوطني ضد الاستعمار، حيث كانت من أبرز النقاط التي ارتكزت عليها برامج حركات التحرر الوطني في العديد من الأقطار العربية. كما ساهم تبني القيادات الوطنية لمبادئ العدالة الاجتماعية، باعتبارها أحد أبرز شروط البناء الوطني وتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي المرتقب، في إضفاء شرعية على نضالها وتبرير دورها القيادي. وساعد بالتالي على إحراز التفاف الجماهير حول المطالب الوطنية وتعبئتها من أجل تحقيقها.

سمح، فيما بعد، دحر الاستعمار المباشر، وقيام دولة الاستقلال، ووصول قيادات الحركة الوطنية إلى السلطة، بالشروع في تطبيق سياسة اقتصادية واجتماعية وثقافية تطوعية وذات بعد وطني، حظيت فيها الحقوق الاجتماعية حيزا هاما من مجهود الدولة الناشئة.

تمحورت آنذاك إجراءات العدالة الاجتماعية، بالأساس، حول برامج نشر التعليم والصحة العموميين والمجانيين، مع مجهود خاص لنشر المدارس في القرى والأرياف، ودمج الفتيات في الحياة المدرسية. وبرامج سكنية كبرى للنهوض بالسكن الاجتماعي، على غرار البرنامج التونسي، الذي تواصل من بداية الستينات حتى منتصف الثمانينيات، لإزالة أحياء الصفيح في المدن، وإزالة الأكواخ في القرى والأرياف. وخطة وطنية لتوفير مواطن الشغل على نطاق واسع، خاصة في الوظيفة العمومية وفي شركات القطاع العام. كما تم إنشاء وتطوير شبكات ووسائل عمومية لنقل المسافرين والبضائع، بما فيها منتجات صغار الفلاحين والحرفيين، مما مكن من فك عزلة العديد من أقاليم البلاد وربط المدن بعضها ببعض، وتوسيع دائرة اقتصاد السوق.

وكان يجري في العديد من الأقطار، بالتوازي مع برامج النهوض الاجتماعي، تطبيق برامج للرعاية العائلية وتنظيم النسل، مثل ما هو الشأن بالنسبة إلى تونس، حيث تم إطلاق برنامج “التنظيم العائلي” في بداية عقد الستينات من القرن الماضي، في سياق سياسة تحرير المرأة التونسية التي اتبعها النظام البورقيبي، وكذلك لتمكين آلية التخطيط المركزي لدولة الاستقلال من التحكم في نسق التزايد السكاني وملائمته مع متطلبات تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

كما قامت دولة الاستقلال بنشر دور الثقافة والشباب في المدن والأرياف، في سعيها لنشر الثقافة العصرية ولمقاومة الفكر الرجعي، الذي كانت تعتبره حكومات الاستقلال عائقا أمام مجهودات تحديث المجتمع وبناء الدولة العصرية. وكذلك من أجل التأطير السياسي للشباب المتعلم، خاصة منه المتخرج من الجامعات.

نذكر من بين أبرز هذه التجارب التنموية الوطنية للنهوض الاجتماعي، كرافد من روافد النهوض الوطني وبناء الدولة العصرية واستكمال السيادة والوطنية، تجارب كل من مصر وتونس والجزائر خلال عقد الستينات، أثناء حكم عبد الناصر وبورقيبة وبومدين.

لقد حققت هذه التجارب، وغيرها من التجارب التي قادتها العديد من الحكومات العربية ذات التوجه الوطني الاجتماعي، مثل العراق وسوريا، نجاحات عديدة على درب تمكين السكان والرفع من قدراتهم وخرطهم في المجهود الجماعي للنهوض الوطني، حيث أصبحت محاور العدالة الاجتماعية محركات النهوض الوطني والرقي الاجتماعي لشرائح عديدة من السكان ما فتئت تتسع. وساد الاعتقاد بأن الأقطار العربية قد دخلت تباعا، في سيرورة نهوض وطني ورقي اجتماعي ستمكنها، في المدى المنظور، من “اللحاق بركب الأمم المتقدمة”. ولم تتردد وسائل الدعاية الرسمية في إطلاق الحملات لدعم هذا الاعتقاد وتغذيته.

بلغت هذه المسارات الاجتماعية، التي كانت تقودها حكومات متشكلة من البرجوازيات المحلية، حدودها القصوى في بداية عقد الثمانينيات، خاصة بسبب تواصل ارتباط الأقطار العربية العضوي بالتقسيم العالمي للعمل، في إطار النظام الرأسمالي العربي، بوصفها أحد أبرز القطاعات الإقليمية للنظام الرأسمالي العالمي، وكذلك بسبب انحطاط الأنظمة العربية البيروقراطي وقمع الحكومات للحريات واستبعادها للمشاركة الشعبية، وهو ما كان يغذي نزوعها لمزيد الاستبداد السياسي والانحطاط البيروقراطي.

وعبثا حاولت مختلف الحكومات العربية، الإفلات من قبضة نظام العولمة الرأسمالية المتوحشة، عبر تقديمها المزيد من التسهيلات والامتيازات للرأسمال الأجنبي، بالإضافة إلى بعض المحاولات المحتشمة للانفتاح الديمقراطي. لكن التغيرات الكبرى التي كانت تحدث على مستوى النظام العالمي، منذ بداية الثمانينيات، كانت بمثابة رصاصة الرحمة لمحاولات النهوض الاجتماعي والوطني لمختلف الأنظمة العربية.

ومع انتهاء نظام المعسكرين، واكتساح نظام العولمة الرأسمالية المتوحشة الكوكب، أسدل الستار نهائيا على تجارب دول الاستقلال البرجوازية.

كان الرابط المشترك بين كافة التجارب العربية، خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، هو كونها تجارب قامت بها نخب محلية اقتنعت، إلى هذا الحد أو ذاك، بأهمية البعد الاجتماعي في مسار تعزيز الاستقلال وتحقيق النهوض الوطني الشامل.

أما الشعوب، فإنها كانت موضوع فعل النخب البرجوازية المحلية، حيث اقتصر دورها على تزويد أجهزة الدولة بالموظفين والمهندسين والاخصائيين. فيما ظلـت الجماهير الشعبية عامة، والطبقات الكادحة، في الريف كما في المدينة، بشكل خاص، مبعدة من كل مشاركة سياسية فعلية في تحديد مصيرها بنفسها. ولم يكن الحضور الشعبي والجماهيري إلا شكليا ومبرمجا من أنظمة الحكم لتبرير انفرادها بالسلطة وجزء هام من الدخل المحلي، ومحاولة الحفاظ على شرعية كانت آخذة في التلاشي، بعلاقة مع تأكد فشل الأنظمة القائمة. ولم تزد التجارب الانتخابية المحتشمة والنادرة، هنا وهناك، الأنظمة العربية الحاكمة، إلا عزلة ووحدة داخل أوطانها.

كما كان تفاقم الأزمة واتساع دائرتها، وتعطل مسار العدالة الاجتماعية، وتراجع أغلب المؤشرات الاجتماعية، يغذي بدوره عزلة هذه الأنظمة، ويدفعها بالقدر ذاته نحو مزيد الخضوع لهيمنة القوى الامبريالية.

لقد كان فشل مشروع التنمية البرجوازي الوطني، واكتساح نظام العولمة الرأسمالية المتوحشة العالم، إيذانا بانتهاء محاولات تحقيق مطالب العدالة الاجتماعية، كمِنة من النخب البرجوازية المحلية الحاكمة، وبداية مسار طويل من الألآم والدموع، على طريق التعديل الهيكلي والالتفاف على ما تحقق من مكاسب اجتماعية، كان لها الفضل في ترسيخ فكر العدالة الاجتماعية في وعي الشعوب العربية، وفي ترجمتها العملية في واقعها المعاش. لقد ذاقت هذه الشعوب طعم التعليم والصحة والسكن والنقل وغيرها من الحقوق الاجتماعية التي كانت تضمنها وترعاها دول الاستقلال، وكانت كلما تلقت منها القليل إلا وطالبت بالمزيد.

كانت صدمة زوال نظام رأسمالية الدولة وسياسة الرعاية ومنطق العدالة الاجتماعية، وقيام نظام التعديل الهيكلي والتقشف الرأسمالي المتوحش، ومنطق الربح الأقصى للاستثمارات المالية والمشروعات الاقتصادية لفروع الشركات العابرة فوق القوميات، منطلقا لسيرورة تراجع اجتماعي شامل ولتشديد الاستبداد السياسي في كامل أقطار المنطقة. وبذلك غطى جليد العولمة الرأسمالية المتوحشة ونظام الاستعمار الجديد، خلال ما يربو عن ربع قرن، المنطقة العربية بأسرها. فشهدت الشعوب العربية، طوال هذا العصر الجليدي، تدهورا فادحا في ظروف عيشها. وكان من أبرز مظاهر هذا التراجع الاجتماعي، البطالة الجماهيرية والبؤس الاجتماعي. الذي كان يطال بالأساس جماهير الشباب.

2) الشعبان التونسي والمصري يَفتتحان عهد الثورات الشعبية ضد سياسات التقشف

ظلت قضية العدالة الاجتماعية، خلال النصف الأخير من القرن العشرين، حكرا على الحكومات العربية التي كانت تترجمها إلى سياسات تعكس أولوياتها السياسية والمصالح الاجتماعية البرجوازية التي ترعاها.

في المقابل كانت هذه الحكومات تمنع تعدد الأحزاب وتضطهد كل معارضة سياسية جدية، وفي حال تواجد أكثر من حزب في المشهد السياسي، إلى جانب الحزب الحاكم المهيمن، فإن الأمر لا يعدو أن يكون سوى محاولة لتنميق واجهة تعدية دعائية، بدون دور سياسي مستقل عن الحزب الحاكم.

كما كانت تضيق الخناق على الجمعيات والمنظمات المستقلة التي تعنى، إلى هذا الحد أو ذاك، بقضايا العدالة الاجتماعية. وكذلك الشأن بالنسبة للنقابات العمالية، باستثناء تونس التي تَجذر فيها العمل النقابي، منذ فترة الكفاح الوطني، وحيث حافظت المنظمة الشغيلة على تمثيلية عمالية، وقدر هام من الاستقلال على السلطة الحاكمة والالتصاق، بالقدر نفسه، بمشاغل الأجراء، ومطالبهم المهنية.

أما الانتخابات، باعتبارها الوسيلة الديمقراطية التي تمكن الناخبات والناخبين من اختيار الحزب الحاكم وبالتالي برنامج الحكومة، فإنها كانت، دون استثناء، مَسْخرة للديمقراطية.

بالتالي كانت كافة السبل، في المنطقة العربية، مسدودة في وجه الجماهير الشعبية، كي تحدد طبيعة سياسة الحكومة في المجال الاجتماعي، أو حتى مجرد الـتأثير فيها. لكن استبداد أنظمة الحكم العربية، لم يمنع تَواجد هامش من الحريات، وفضاءات للنشاط المستقل، تتفاوت أهميتها من قطر عربي إلى آخر. مما كان يسمح لقضايا العدالة الاجتماعية، بأن تكون محل تجاذب بين بيروقراطية الدولة والمنظمات النقابية، بالخصوص. كما كانت هذه القضايا تغذي أيضا نقد المعارضة اليَسارية للنظام القَائم وتلهم أعمالها النضالية. أخيرا، كانت قضية العدالة الاجتماعية، تعود من حين لآخر، إلى ساحة النزاع الاجتماعي، من خلال لوائح المنظمات والجمعيات الحقوقية أو عبر البعض من أنشطتها التي كانت تعنى بالشأن الاجتماعي، على غرار الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أو الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات.

في المقابل، ظلت الجماهير الشعبية، المعنية الأساسية بالعدالة الاجتماعية، مَحرومة من حقها في إبداء رأيها في محتوى البرامج الاجتماعية وفي المشاركة في رسم السياسات لضبط الخطوات العملية ونسقها لبلوغ الأهداف التي يتم الاتفاق عليها، لتحقيق تقدم فعلي على درب تحقيق العدالة الاجتماعية الطويل.

وفي نهاية المطاف، عندما فشلت الأنظمة العربية البرجوازية في تحقيق وعود التقدم الاقتصادي والرقي الاجتماعي، وبعد أن قادت بلدانها إلى حافة الإفلاس، خيرت البرجوازيات العربية الاستسلام لقوى العولمة الرأسمالية المتوحشة، بدل السماح للقوى الاجتماعية والسياسية المحلية التقدمية، ببلورة بديل ديمقراطي واجتماعي وطني، للخروج من مأزق فشل التنمية.

لكن هذه القوى كانت، في المقابل، غير قادرة، لعديد الأسباب، لعل أبرزها شدة الاستبداد والقمع المسلط على المجتمع بشكل عام وعلى قوى المعارضة، خاصة، وكذلك السلبية النسبية للجماهير الشعبية، في مواجهة المشروع الاستعماري الجديد، ومحاولة فرض بديل اجتماعي يضمن حقها في تقرير مصيرها بنفسها وبكل حرية.

أجبرت السلطة الدكتاتورية الطبقات الكادحة على تحمل نتائج سياسة التقشف المؤلمة لفترة طويلة. لكن استمرارها هذه السياسة واستفحال نتائجها، جعل هذه الطبقات ترفض، بعد صبر طويل، تحمل المزيد وتنتفض ضدها، مؤذنة بذلك عن بداية عصر الثورات الشعبية ضد نظام العولمة الرأسمالية المتوحشة.

تكمن أصالة الثورة العربية، التي انطلقت شرارتها من مدينة سيدي بوزيد التونسية، في نهاية 2010، في كونها أول انتفاضة شعبية تخطت حدود القطر الواحد لتصبح حركة تمرد شعبي، اكتست، في ظرف وجيز، كامل المنطقة العربية. ثورة عربية ذات مضمون اجتماعي معاد لنظام العولمة الرأسمالية المتوحشة عموما، ولنظام الاستعمار الجديد الذي كرسه في المنطقة، بتواطؤ البرجوازية المحلية، بعد أن فشلت في تحقيق وعود البرنامج الديمقراطي والاجتماعي المزعوم. ثورة عربية نجحت في مدة وجيزة، في طرد عدد من الدكتاتوريين العرب الذين تميز حكمهم بالإضافة لطول مدته وفساده، بفداحة الدمار الاقتصادي والاجتماعي الذي ألحقه ببلدانهم.

كما تكمن أصالة الثورة العربية، في كونها ثورة ضد التقشف ونظام الاستعمار الجديد، من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية. وتحديدا، ثورة ضد الأضرار الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة الناتجة عن ربع قرن من السياسات الرأسمالية المتوحشة. أضرار من أبرز مظاهرها الاجتماعية بروز آفة البطالة الجماهيرية واستفحالها غير المسبوق، وما كان يستتبعها من انعدام الدخل لعدد متزايد من أبناء الشعب الذين كان يَجري، تبعا لذلك، تفقيرهم وحرمانهم من حقهم في الحياة في ظروف معيشية تليق بالبشر. مجتمعات عربية أخضعتها العولمة الرأسمالية المتوحشة لاستبداد المنطق السلعي وربحية الرأسمال، وأضعفت قدرة دولها على ضمان حقوق مواطناتها ومواطنيها الاجتماعية الأساسية.

لا نغالي أن أكدنا على كون الثورتان التونسية والمصرية، خلافا لبقية الثورات العربية، هي أولى الثورات الشعبية التي يشهدها العالم ضد التعديل الهيكلي والتقشف. ثورتان كذلك ضد منظومة الاستبداد والفساد المحلية، التي كانت عصى العولمة الرأسمالية الغليظة التي تسقي بها كأس عَلقم التقشف لعموم الكادحات والكادحين بالمنطقة.

هكذا، وبفضل الثورتين التونسية والمصرية، خرج النضال ضد سياسات التقشف، لأول مرة في تاريخ نظام العولمة الرأسمالية المتوحشة، من دائرة نضال النخب السياسية والنضال النقابي والحركات الاجتماعية، إلى دائرة الفعل الجماهيري الثوري. وليس أدل على ذلك أكثر من انتشار حركة التمرد الثوري إلى أقطار أخرى، خاصة دولة إسبانيا واليونان، التي تشهد تعبئة شعبية وحراك سياسي، غير معهود، ضد التقشف. حركات جماهيرية تعد بمثابة رجع الصدى، من بلدان شمال المتوسط، للثورتين التونسية والمصرية التي حولت قضية العدالة الاجتماعية من برنامج النخب إلى مطلب الجماهير الثوري.

II قوى الثورة المضادة: تنوع المنطلقات وتوحد الغايات

أصبح من الممكن بفضل الثورة، لأول مرة في تونس كما في مصر، الشروع في بناء نظام اجتماعي جديد، يستفيد من تجارب الماضي، ويتعظ من أخطائه. نظام جديد يعيد للعدالة الاجتماعية اعتبارها، ويدعم مكاسبها ويطورها، ويوسع هامش الحريات الفردية والجماعية، ويعيد النظر، من منطلق الحرص على السيادة الشعبية الوطنية، في كافة الاتفاقيات الاستعمارية الجديدة، ونظام الديون وامتيازات الرأسمال الأجنبي الكبيرة، القاتلة للديمقراطية والمضرة بحقوق المواطنات والمواطنين الاقتصادية والاجتماعية.

هكذا، ما كان قبل الثورة، مجرد أحلام أقلية من المناضلات والمناضلين التقدميين، الذين ظلوا أوفياء لقضايا شعوبهم العادلة، بما فيها العدالة الاجتماعية، أصبح بعدها مطلبا ثوريا تتقاسمه معهم الجماهير الشعبية. حيث عم الاعتقاد، بعد أن نجحت الانتفاضات الثورية في طرد الحاكم المستبد والإطاحة بسلطته الدكتاتورية، بأن المستقبل سيكون أفضل، وأنه أصبح بالإمكان إيقاف التدهور الاجتماعي الشامل، وتحسين الوضع المعيش للأغلبية الساحقة، وفتح آفاق واعدة لهم.

لكن، على عكس التوقعات، سار الوضع من سيء إلى أسوأ، حيث تبدو الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية اليوم، خمس سنوات تقريبا بعد اندلاع الانتفاضات الثورية الظافرة في تونس ومصر، أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل الثورة.

لماذا لم تشهد الأزمة انفراجا بعد الإطاحة بالسلطة الدكتاتورية؟ لماذا لا يزال النظام الجائر الذي ثارت ضده الطبقات الشعبية قائما ضد إرادتها، يتحكم في حياتها ويخضع مصيرها إلى مصالحة الضيقة والضارة؟

1)قوى الثورة المضادة الداخلية

من الطبيعي أن يكون الدكتاتور أول من يحرص على سلطته بنفسه. وكذلك الشأن بالنسبة لشبكته العائلية الواسعة، ولحكومته ولقيادات الداخلية والجيش وحزبه، التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم. لم تدخر جميع هذه الأطراف جهدا في الدفاع على النظام القائم. لكن هذا الخط الدفاعي الأساسي لسلطة بن علي لم يصمد طويلا أمام الاتساع السريع لرقعة الانتفاضة الثورية، وإصرار الجماهير الشعبية على إسقاط النظام، وانضمام الاتحاد العام التونسي للشغل للثورة في تونس، حيث بدأ الانهيار الفعلي لهذا الخط الدفاعي بفرار الدكتاتور يوم 14 يناير 2011، وتواصل خلال الأشهر الثلاثة الموالية، التي فرضت خلالها الحركة الثورية حل حكومة بن علي، ثم حل حزبه وعزل قادة الداخلية المورطين في القمع. لكن النظام القائم كان في كل مرة يجبره فيها المسار الثوري على التراجع خطوة إلى الوراء، إلا ويتمكن من تدارك الأمر واستعادة تماسكه وترميم صفوفه.

الحفاظ على جهاز الدولة، قلب رحى النظام القائم

أزاحت الثورة إذن، بسهولة نسبية، كل الذين كانت لهم علاقة مباشرة بسلطة الدكتاتور، الذي أضعف فراره، بدوره، النظام القائم، مما جعل الإطاحة به أمرا ممكنا. لكن، لا أحد سعى إلى ذلك، باستثناء حركة الجماهير الشعبية الثورية التي واصلت المطالبة بإسقاط النظام، حتى بعد طرد بن علي، والتي لم يكن باستطاعتها تحقيق ذلك، في غياب قيادة سياسية جريئة، وخاصة بسبب ضعف تجربة الجماهير السياسية، ونجاح القوى الرأسمالية الماسكة بزمام الأمور في التستر، وحتى في الظهور بمظهر الصديق، مثل ما هو الشأن بالنسبة للمؤسسات المالية العالية، أو المفوضية الأوروبية، مما أعطى الفرصة لقوى الثورة المضادة المحلية، وخاصة الخارجية، لكي تشرع في تطويق الثورة، ووقف تقدمها واستنزافها، مع السعي إلى الحفاظ على سلامة مؤسسات النظام الأساسية، قبل المرور، في مرحلة ثانية، إلى محاولة الالتفاف على الثورة ودحرها، كشرط لترميم جهاز السلطة الاستبدادية.

يمكن الجزم بأن موظفي وأعوان الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية، خاصة شركتي الكهرباء والماء، قد ساهموا بصفة مباشرة وفعالة، خلال الأيام الثورية التسعة والعشرين، ثم خلال الأسابيع الحاسمة في حياة النظام القائم، التي تلت فرار بن علي، في الحفاظ على السير العادي لجهاز الدولة، واستمرار الخدمات الاجتماعية الأساسية. ممكنا إياها من لعب دور هام في العودة السريع لحالة من الهدوء النسبي والتي كانت ضرورية لمحافظة النظام القائم على توازنه وتماسكه.

يعد هذا الأمر، في حد ذاته، من المفارقات العديدة للثورة التونسية، حيث أن أجراء قطاع الوظيفة والمنشآت العمومية الذين يعدون من بين أبرز ضحايا سياسة إعادة الهيكلة والتقشف التي سارت عليها خلال ربع القرن الأخير، هم أنفسهم الذين كان لهم دور مساهم في الحفاظ على الدولة البرجوازية في وجه رياح التغيير الثوري.

لم يتصرف مئات الآلاف من هؤلاء بدافع التضامن مع النظام القائم والرغبة في الدفاع عليه، وإنما تعامل أغلبهم بحكم قوة العادة، والانضباط المهني الذين تربوا عليه، ومن باب الشعور بالمسؤولية تجاه المواطنات والمواطنين، الذين هم في حاجة لمواصلة إسداد الخدمات التي يتوقف عليها استمرار السير العادي لحياتهم.

لا ينطبق هذا السلوك التطوعي والمتشبع بمعاني الخدمة العمومية على الجميع، حيث كانت المصلحة الخاصة لجزء من إطارات الدولة تدفعهم إلى العمل على ضمان بقاء الدولة البرجوازية واستمرار نشاطها العادي. يعد هؤلاء بالآلاف، وهم يحتلون المناصب القيادية في جهاز الدولة، وقد تدربوا، على امتداد ربع قرن، على تطبيق سياسة التعديل الهيكلي والتقشف بكل تفان، كما تعودوا على الامتثال إلى تعليمات المؤسسات المالية الدولية. وقد مكنهم هذا الولاء، بالإضافة إلى انخراط العديدين منهم في شبكات الفساد المالي، من بلوغ وضع اجتماعي مريح. مكث أغلب هؤلاء في مناصبهم بعد الثورة، مما سمح لهم بلعب دور حاسم في الحفاظ على مؤسسة الدولة البرجوازية، أي الأداة السياسية لتطبيق سياسة التعديل الهيكلي والتراجع على المكاسب الاجتماعية.

البرجوازية المحلية قوة شد للوراء

من الطبيعي أيضا، أن تسعى البرجوازية المحلية إلى الحفاظ على جهاز الدولة، ومن خلاله حماية النظام القائم. فهي وإن عبر جناح هام منها على سروره لسقوط الدكتاتور، وإضعاف شبكات المصالح الاقتصادية التي كونتها عائلته الواسعة، فإنما فعلت ذلك قبل كل شيء مراعاة لمصالحه إلى ضاقت ذرعا بممارسات شبكات العائلات الحاكمة وجشعها الذي كان يأتي على الأخضر واليابس، وهي أساليب لم تكن تختلف غالبا عن أساليب المافيا.

بالإضافة إلى تنامي قدرة الشبكات العائلية الحاكمة على الأذى والاضرار بمصالح البرجوازية المحلية، كانت هذه الأخيرة، منذ بداية مسار التعديل الهيكلي وتحويل وجهة جزء متنامي من جهاز الإنتاج المحلي نحو السوق الخارجية، موضوع فرز ما بين شريحتها التي ارتبطت مصالحها بالسوق الداخلية، والجناح الذي استفاد من منطقة التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي وتدعم تواجد الرأسمال الأجنبي في تونس، لكي يطور مشروعاته بعلاقة مع الأسواق الخارجية. بينما كان نفوذ الأولى ومشروعاتها يشهد انكماشا متزايدا، كانت مشروعات الثانية تنمو باطراد وسطوتها السياسية تزيد بالقدر ذاته. كما تجدر الإشارة في هذا الصدد، أن الرأسمال الأجنبي شرع منذ نهاية التسعينيات في عقد الشراكات مع عديد رؤوس الأموال التونسية، كما واصل بعث مشروعاته الخاصة، أو عن طريق التخصص في التوسع في السوق الداخلية، في مجالات الاتصالات وتجارة التجزئة والبنوك والأسمنت والسياحة بالخصوص.

ربطت هذه التغيرات الهيكلية مصير قسم كبير من البرجوازية التونسية بمصير الرأسمال الأجنبي، مما جعلها تعادي بشدة كل تغيير في البنى الاقتصادية والاجتماعية، من شأنه أن يمس من مصالح هذا الرأسمال، وبالتالي من مصالحها الخاصة. لقد “وافقت” البرجوازية المحلية، تحت ضغط الثورة، على طرد بن علي، لأنه أصبح مصدر خطر متزايد لها، لكنها ليست مستعدة بالسماح للحركة الثورية بالتقدم أكثر من ذلك.

ترعى مصالح هذه البرجوازية وتحميها الدولة البرجوازية عامة. لذلك فإنه الدفاع عن هذه الدولة ضد الخطر الثوري الداهم هو من أوكد أولويات هذه البرجوازية. وهو ما يبرز من خلال القيام بتعويض بن علي على رأس الدولة حالما غادر البلاد وقبل أن تهبط طائرته على أرض المملكة السعودية التي لجأ إليها.

لكن البرجوازية التونسية لها أيضا، بالإضافة للدولة التي ترعى مصالحها، منظمتها المهنية الخاصة: الاتحاد العام التونسي للصناعة والتجارة. وهو بالإضافة إلى دوره في تنظيم صفوف البرجوازية والتنسيق بينها وتقريب وجهات النظر بين مختلف المصالح الفردية المتنافسة، يتصرف كقوة ضغط سياسية على الحكومة لفرض وجهة نظرها الطبقية الحكومة.

شهدت منظمة الأعراف، مباشرة بعد الثورة، العديد من الاضطرابات الناتجة عن إزاحة العناصر المنتمية إلى الشبكات العائلية الحاكمة أو المتورطة معهم، لكنها سرعان ما استعادت مكانتها في الدفاع المستميت على النظام القائم، ورفض مطالب الثورة الاقتصادية والاجتماعية.
كما يوجد العديد من الرأسماليين المحليين، أو كما يحلو للفكر السائد تسميتهم برجال الأعمال، على رأس شبكات تهريب تفرض سطوتها على أقاليم بأكملها أو على قطاع تهريب محدد. ويعد هؤلاء من غير منازع من أبرز المدافعين على النظام القائم، شريطة أن يلتزم هذا الأخير الحياد تجاه أعمالهم ويغض الطرف عن أنشطتهم الاجرامية. وليس من الغريب أن يبادر رئيس الجمهورية التونسية الحالي عرض مشروع قانون، على مجلس نواب الشعب، يهدف إلى منح أباطرة التهريب، وكذلك كافة إطارات الدولة المبعدين بسبب الفساد زمن المخلوع، صك الغفران من خلال مسخرة محاسبة-مصالحة أمام لجنة إدارية تشكل للغرض، وفي كنف التكتم التام. ويتضح من خلال هذه المناورة التي يتم التسويق لها تحت عنوان المصالحة الوطنية والرغبة في تعبئة مداخيل مالية إضافية إلى خزينة الدولة، أن إتمام عملية ترميم النظام القديم تتطلب تحقيق المصالحة ما بين سلطة الاستبداد ومنظومة الفساد.

أخيرا، تمكن العديد من الرأسماليين المحليين من بناء جماعات ضغط تمكنهم من الضغط على العديد من الفاعلين الهامين في الدائرتين السياسية والاعلامية لحثهم على العمل على ترويج أفكارهم وتيسير سير مشروعاتهم. والتأثير، من خلالهم، على أفكار عموم التونسيات والتونسيين وتوجيهها وفق ما تتطلبه مصالحهم.

الحركة السلفية قوة مضادة للثورة وللتقدم الاجتماعي وللتحرر الوطني

ظلت الحركة السلفية، منذ نشأتها، قوة فكرية وسياسية رجعية معادية لكل نفس تقدمي وتحرري. وليس الخطاب الديني سوى ورقة التوت التي يحاول السلفيون التستر وراءها لإخفاء العداء المتأصل في فكرهم وفي برنامجهم، لمصالح الغالبية الساحقة من الشعب، وفي مقدمتها شرائحه الأكثر فقرا. وعلى الرغم كذلك من عدائهم للثورة الاجتماعية، نظرا لما تحمله من معاني تقدمية وأفكار تحررية، إلا أنهم لم يترددوا في ركوب موجة الحرية التي أطلقتها الثورة، للوصول إلى السلطة في كل من تونس ومصر.

لم يمض وقت طويل، بعد اعتلائهم سدة الحكم، حتى سقطت ورقة التوت، لتظهر طبيعة الإسلاميين الحقيقية، المعادية لمطالب العدالة الاجتماعية التي نادت بها الثورة. كما برهن الإسلاميون أثناء مرورهم على محك السلطة، برغم قصر مدة بقائهم في الحكم، على كونهم ليسوا أقل خضوعا للقوى الأجنبية المهيمنة على تونس، وكون أنهم كلهم رغبة واستعداد لملء الفراغ الذي أوجده فرار الدكتاتور العميل، وهو ما كان واضحا من خلال العديد من الاتفاقات التي أبرمتها الحكومة الإسلامية مع هذا الأخيرة، على غرار موافقتها على تشديد وتيرة الإصلاحات الهيكلية بما فيها تلك التي تعنى بميزانية الدولة، والتي عادت ما نسميها سياسة التقشف، ومواصلة تسديد ديون النظام الدكتاتوري ورفض البحث عن بدائل تمكن من تخفيف عبئها المالي على الدفوعات العمومية وتوجيه الموارد المالية النادرة نحو تلبية الاحتياجات الاجتماعية الأكثر إلحاحا مع العمل على إعادة الاعتبار للسوق المحلية وتعزيز الاستهلاك المحلي، وكذلك تدعيم مصالح الرأسمال الأجنبي، وتوسيع دائرة نفوذه في تونس.

تجسمت هذه السياسة المعادية لمطالب الثورة، باعتبارها مواصلة للسياسة القديمة، بالخصوص في تزكية حكومة الإسلاميين لمخطط الاتحاد الأوروبي الاستعماري الجديد، والمتمثل في تعميق وتوسيع برنامج الشراكة، الذي انطلق سنة 1995 مع بن علي. كما تمت تزكية مخطط صندوق النقد الدولي المتمثل في تطبيق برنامج تعديل هيكلي أكثر قسوة من البرنامج الذي تم تطبيقه في عهد المخلوع.

بالتوازي مع هذا التوجه المؤيد لتشديد الهيمنة الرأسمالية الأجنبية على تونس، سعت حكومة الإسلاميين إلى تجريم الحركة الاجتماعية، وتخوين الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالعدالة الاجتماعية. كما ركزت نيرانها ضد المنظمة الشغيلة، مما دفع بالعديد من أنصارها، أو من القريبين منها، إلى الاعتداء على عدد من مقراتها الجهوية وتخريب وحرق البعض منها. وقد بلغت حملة الإسلاميين ضد النقابة العمالية ذروتها عندما هاجمت مجموعة، محسوبة على ما يسمى “لجان حماية الثورة” القريبة من النهضة، المقر المركزي للاتحاد العام التونسي للشغل والاعتداء بالعنف الشديد على النقابيين.

شهدت الأوضاع الاجتماعية لعموم التونسيات والتونسيين، في ظل هكذا ظروف، تراجعا ملموسا، تجسم في تفاقم أزمة التشغيل، وتراجع ملموس للقدرة الشرائية للطبقات الشعبية، الذي تسبب بدوره في اتساع دائرة الفقر والخصاصة.

أفصحت تجربة الإسلاميين في الحكم، عن عدائهم السافر للمطالب الاجتماعية والتطلعات التحررية التي عبرت عنها الانتفاضة الثورية. حيث مكن مرورهم بالسلطة من اختبارهم والوقوف على حقيقة أمرهم. وهو ترجمت عنه الحركة الشعبية في مصر، خلال شهر جوان 2013، التي طالبت برحيلهم عن الحكم. أو التحركات الجماهيرية في تونس، على إثر اغتيال القياديان في الجبهة الشعبية، شكري بلعيد، في فيفري 2013، ثم محمد براهمي، في شهر يوليو من نفس السنة. أو التحركات المناهضة لحزمة الضرائب التي شملت قطاع النقل الصغير في يناير 2014 والتي عجلت باستقالة حكومة الترويكا التي كانوا يقودونها. وأخيرا ما ترجمت عنه انتخابات أكتوبر 2014 التشريعية، التي خسر فيها الإسلاميون زهاء 30 مقعدا في مجلس نواب الشعب مقارنة بانتخابات أكتوبر 2011.

2) قوى الثورة المضادة الخارجية تشدد الخناق على الثورة وترفض مطالب الحركة الاجتماعية

لقد كثف بن عَلِي ومبارك في شخصيهما، كما في شبكتهما العائلية وفي سلطتهما، كل مَساوئ النظام القائم ونتائجه الاقتصادية والاجتماعية السلبية، والمتمثلة بشكل عام في إضعاف الاقتصاد المحلي وتفكيك أواصره، وتعطيل دور الدولة الوطنية الاقتصادي والاجتماعي، وتفقير السكان وإضعاف قدرتهم على تحديد مصيرهم بأنفسهم.

في المقابل يظهر الرأسمال الأجنبي، للطبقات الشعبية التونسية، كما تصوره لها الدعاية الرسمية، بمثابة فاعل خير الأمة وصاحب نعمتها: فهو المصدر الحيوي “للعملة الصعبة” (استثمار مباشر وقروض)، والمساهم الكبير في خلق مواطن الشغل وفي دَفع عجلة التصدير، إلخ. بعبارة أخرى، تصور الإيديولوجيا السائدة الرأسمال الأجنبي على كونه نصير تطلعات الأمة وحليفها من أجل بناء مستقبل أفضل. في حين أنه عكس ذلك تماما، فهو المهندس الحقيقي للنظام الجائر، والمستفيد الرئيسي منه، قبل الثورة، وبالتالي المسؤول الأساسي عن الأزمة الخطيرة التي دفعت الشعب التونسي للانتفاضة. أما بعد الثورة، فهو يمثل، بلا شك، العقبة الرئيسية على طريق التغيير الاجتماعي.

ليست النخب التونسية أفضل حال. فهي بحداثييها ومحافظيها، وكذلك الشأن بالنسبة لجناح واسع من النخب التقدمية، التي وإن تعترف بطبيعة الرأسمال الأجنبي المهيمنة والاستغلالية، إلا أنها تتعامل باعتباره قضاء مبرما، بالتالي لا يمكن رد مشيئته. وهي تعتبر أنه من العبث بمكان محاولة الإفلات من قبضته، أو حتى التخفيف من حدة هيمنته، وإنما الأفضل، في رأيها، هو السعي، من خلال الاستجابة السريعة والكاملة وغير المشروطة لمطالبه، إلى الرفع من مستوى التعامل معه ونيل رضاه ومحاولة الاستفادة من ذلك. وبالتالي فإن الرأي السائد، قبل الثورة وبعدها، يظل ايجابيا تجاه الرأسمال الأجنبي ومتقبلا له ومبرؤه من كافة الآفات التي انتشرت في المجتمع والاقتصاد المحليين.

تبدو هذه النخب، التي كانت سباقة لإلقاء اللوم على الطبقات الشعبية وتحميلها مسؤولية ما كان يلحق بتٌونس من مصائب شتى، تبدو اليوم في منتهى الوهن والعجز، غير قادرة على تحمل مسؤوليتها التاريخية المتمثلة في تحقيق تطلعات الشعب التونسي إلى الحرية والكرامة والسيادة الوطنية. مفضلة على ذلك مواصلة لعب دور الخادم المطيع والوفي للقوى الأجنبية.

أثبتت تجربة الرأسمالية المتوحشة في تونس، خلال ربع القرن الأخير، أنها تتعارض بشدة مع مطالب العدالة الاجتماعية. وهو ما يفسر عناد هذه الأخيرة الاجرامي، وسعيها إلى تشديد سياسات التعديل الهيكلي والتقشف، لقطع الطريق أمام مطالب العدالة الاجتماعية.

 III ارتباك القوى التقدمية وعجزها عن الدفاع عن مطالب العدالة الاجتماعية

1-تخلي قطاع واسع من الحركة الديمقراطية والنخب الحداثية عن مطالب العدالة الاجتماعية

من المفارقات التي أفصحت عنها المسارات الثورية، التي ولدتها الانتفاضات الشعبية، في كل من تونس ومصر هو تراجع قطاع واسع من القوى الديمقراطية التقليدية، الداعمة لمطالب العدالة الاجتماعية، إلى مواقع دفاعية حول الحريات الفكرية والعقائدية، وتخليها على قضية العدالة الاجتماعية. وقد بلغ الأمر ببعض مكونات الحركة الديمقراطية إلى محاولة تجريم القوى الاجتماعية المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بحجة أولوية الدفاع عن الدولة المدنية في وجه القوى السلفية التي تهددت تماسكها ودوامها.

سمحت هذه الانتفاضات للأحزاب ذات الهوية الدينية السلفية المتأصلة في برنامجها وفي فكرها وفي خطابها، بالوصول إلى السلطة، لأول مرة في تاريخ تونس ومصر المعاصر. مما غذى، لدى قطاع واسع من الحركة الديمقراطية، المخاوف من احتمال قيام استبداد جديد باسم الدين. كما غذى هذه المخاوف، تزامن هذا الانقلاب السياسي مع موجة الاضطرابات والاحتجاجات الاجتماعية والسياسية غير المسبوقة، التي ترافقت مع تقهقر القوى السياسية التقليدية الحاكمة، مما عجل بتمترس هذه المكونات الديمقراطية وراء مهمة الدفاع عن الدولة القائمة، ذات الطابع المدني والجمهوري.

أثبتت تجربة المسار الثوري في تونس، بشكل خاص، تخلي جناح هام من الحركة الديمقراطية عن مطالب العدالة الاجتماعية التي رفعتها الجماهير الشعبية خلال الانتفاضة الثورية، وعدم ترددها في الالتقاء مع القوى الاجتماعية المعادية لهذه المطالب، بحجة حماية الدولة القائمة من خطر الدولة الدينية والفكر السلفي الداهم. ومن هذا المنطلق تنازل جناح واسع من الحركة الديمقراطية على برنامجه الاقتصادي والاجتماعي بحجة أولوية حماية الدولة القائمة.

يعتبر تخلي الحركة الديمقراطية التونسية تجاه البرنامج الاجتماعي، أمر على غاية من الخطورة بالنسبة لمستقبل البلاد. ذلك أن الدفاع على مقومات الحياة المدنية والمؤسسات الديمقراطية هو أمر على غاية من الأهمية خلال المسار الثوري، خاصة عندما يكون الخطر مزدوجا، متمثلا في المد السلفي من جهة، ومخاطر عودة المنظومة الاستبدادية، من جهة أخرى. لكن السؤال الأهم هو كيف يمكن ضمان الانتقال الفعلي من النظام القائم، الذي رفضته الطبقات الشعبية بعد أن أضر بها، إلى نظام جديد يضمن لها حقوقها وحرياتها الأساسية ويأمن بالتالي انتقال ديمقراطي واجتماعي حقيقي للبلاد؟

من دون شك أن إسقاط المضمون الاجتماعي والاقتصادي لبرنامج التغيير الذي ترفعه الحركة الديمقراطية، بحجة أولوية الدفاع عن مدنية الدولة ولكن أيضا قناعة منها بأن مقاومة الفقر المدقع والبطالة الجماهيرية أمر يتطلب وقتا طويلا ويتوقف على قدرة الاقتصاد على تحقيق نسب نمو عالية ومتواصلة، ليس من شأنه أن يعزز جانب القوى الداعمة للتقدم الاجتماعي في مواجهة قوى الثورة المضادة على اختلافها، وإنما على العكس، يزيد هذا التوجه في عزلتها لدى قطاع عريض من الجماهير الشعبية، ويقوي بالقدر نفسه قدرة الخصوم على تطويق مسار التحرر الاجتماعي والبناء الديمقراطي.

2-اليسار يتمسك بمطالب الثورة لكن يعجز على تحقيقها

لم تتردد القوى اليسارية، سواء بتعبيراتها السياسية أو النقابية العمالية، عن اعلان انحيازها الكامل لمسار الثورة ودعمها له، وتبنيها غير المشروط لمطالب الثورة والتزامها بالنضال من أجل تحقيقها. لكن اعتراض القوى الرأسمالية العالمية على ذلك، وخاصة إصرارها على فرض المزيد من السياسات الرأسمالية المتشددة والمعادية لمطالب العدالة الاجتماعية، وخضوع أغلب الأطراف السياسية المحلية لإملاءات هذه القوى الاستعمارية الجديدة، كما تطور الفكر السلفي وانتشار الجماعات الجهادية الارهابية، قد عقد المعادلة الاجتماعية، وأربك اليسار وحجب عنه الرؤية، وأفقد بالتالي القدرة على التأثير على مجرى الصراع الاجتماعي ما بين القوى الاجتماعية الدافعة للتحول الاجتماعية والاقتصادي والسياسي، والتي تعمل على استنهاض المسار الثوري وتحقيق المزيد من الاختراقات الثورية في قلب النظام القائم، وما بين والقوى التي، على العكس، تعمل جاهدة تطويق الصراع الاجتماعي الذي أسعرت نيرانه الانتفاضة الثورية واحتواء المسار الثوري، من أجل ترميم النظام القديم.

إن من بين العوامل العديدة التي ساهمت في إضعاف جانب القوى اليسارية خاصة، والقوى الثورية عامة، هو ارتباك الحركة الديمقراطية وهلعها الكبير بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة، وتقوي الميول نحو أسلمة المجتمع والضغوط نحو الدولة الدينية. كما أن التحاق عديد الوجوه الديمقراطية والنقابية باليمين الليبرالي والحداثي، وتحديدا بحزب نداء تونس الحاكم حاليا. لقد ساهمت هذه التحولات الجديدة، التي حدثت بعد الانتفاضة الثورية على مستوى الالتزامات الاجتماعية التاريخية لجزء هام من القوى الديمقراطية في تونس، في إرباك اليسار، وجر قسم منه كذلك، إلى تبني مهمة الدفاع على مدنية الدولة، مقابل الصمت على المطالب الاجتماعية، وعن نقد السياسة الرأسمالية الليبرالية المتبعة والتدخل السافر للمؤسسات المالية والمفوضية الأوروبية في الشؤون الداخلية، والسعي بالتالي إلى تكوين ما يسمى بالجبهة الديمقراطية الواسعة لمواجهة المد الإسلامي السلفي.

يتجلى ضعف القوى اليسارية بالخصوص، في عدم قدرتها على فرض أجندة المطالب الاجتماعية والاقتصادية على بقية الخصوم السياسيين. وهو ضعف يتأتى في معظمه من عجز هذه القوى على فهم طبيعة المجتمع والنظام القائمين، وبالتالي قدرتها على تصور البرنامج السياسي الذي بإمكانه أن يلائم ما بين خطة النضال من أجل المطالب المستعجلة والمباشرة والخطوات العملية والتحالفات السياسية الضرورية لتحقيقها. كما تعوزه وضوح الرؤيا فيما يتعلق بالخطوات الموالية على درب التحول الاجتماعي والسياسي. وحدها الحركة النقابية تميزت، خلال سنوات ما بعد الثورة، بنضالها المتواصل والمتماسك من أجل تحقيق مطالب الطبقة الشغيلة سواء المتعلقة بالزيادة في الأجور، والنظام الأساسي والترقيات المهنية، أو بشروط العمل عامة (خاصة بنوعية عقد العمل) وبممارسة الحق النقابي داخل المؤسسة. ولقد توصلت إلى حد الآن إلى تحقيق مكاسب هامة لا يمكن الاستهانة بها، ناهيك وأنها تحققت رغم الحملات الاعلامية والضغوط السياسية الكبيرة التي ترمي كلها إلى تجريم الحراك النقابي.

صحيح أن القوى الدافعة للنضال النقابي هي بالأساس القوى اليسارية التي تملك خبرة كبيرة في النضال النقابي، لكن هذه القوى لا تزال غير قادرة، على الرغم من تجربتها النقابية الهامة، على استغلال الظروف الملائمة التي ولدتها الانتفاضة الثورية، لكي تترجم المكتسبات التي ساهمت في تحقيقها في الحقل النقابي، إلى برنامج عمل اجتماعي وديمقراطي موفق في الحقل السياسي.

3-بعض السبل للتقدم نحو تحقيق مطالب العدالة الاجتماعية

لقد برهن النظام القائم، عن رفضه الاستجابة لمطالب العدالة الاجتماعية التي تطالب بها الحركة الاجتماعية منذ عقود، وهو لا يزال على هذا الإصرار حتى بعد الثورة، حيث يرفض تلبية المطالب الأكثر إلحاحا، خاصة منها المتعلقة بتوفير الشغل، والشروع الجدي في حل أزمة البطالة الجماهيرية، وتحسين القدرة الشرائية لعموم المواطنات والمواطنين، وخاصة وقف مسار التهميش الذي ما انفك يرمي بمزيد من الأفراد والفئات في دائرة الخصاصة والفقر.

وبالتالي أصبح من الواضح، أكثر من أي وقت مضى، أن وقف مسار الدمار الاجتماعي الرهيب الذي رافق، ولا يزال، مسار العولمة الرأسمالية المتوحشة، والشروع الفعلي في الاستجابة للمطالب الاجتماعية لا يمكن أن يكتب له النصر إلا في إطار ديناميكية ثورية ومسار تقدمي متواصل، يشرع في تخطي حدود النظام القائم، ويبدأ بضع حجز الأساس لنظام اجتماعي جديد، يتبنى مطالب العدالة الاجتماعية، ويحرص على ضمانها وتطويرها على الدوام.

لقد برهنت الطبقات الكادحة في تونس، خلال العقود الأخيرة، على قدرة كبيرة على العطاء وعلى تحمل الأعباء، ولكنها برهنت، في نفس الوقت، على قدرة، لا تقل أهمية، على الاندفاع في المجال الذي يتحدد فيه مصيرها الخاص، وإصرار على التحكم في هذا المصير لإعطائه دفعا نحو الأمام. كما أثبتت تجربة الصراع الاجتماعي المعاصر في تونس أهمية مطالب العدالة الاجتماعية كمعيار للحكم على مدى نجاح أي نظام اقتصادي واجتماعي ومدى استدامته.

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart