إصلاح التعليم بين نظام الرفاه ونظام السوق مصر في المرحلة الانتقالية: خبرات من دول الرفاهة

إصلاح التعليم بين نظام الرفاه ونظام السوق مصر في المرحلة الانتقالية: خبرات من دول الرفاهة

مقدمة:

يعاني النظام التعليمي في مصر بوجه عام من مشكلات كمية وكيفية عديدة، فمن عدم قدرة كم التمويل والمدرسين والمدارس والتسهيلات الحالي عن استيعاب الطلب على التعليم المتزايد بفعل ازدياد أهميته وارتباطه بالنجاح في الحياة. إلى مشكلاته الكيفية المتعلقة بسوء توزيع الموارد المالية الشحيحة وتردي مستوي المدرسين المعرفي والخلقي، وضعف تجهيز المدارس بما يمكن من تقديم خدمة تعليمية جيده.

أفرز هذا الوضع مشكلات كبيرة مثل ارتفاع معدلات التسرب من التعليم في المراحل الأولى، أمية الدراسيين التي قد تصل إلى المرحلة الثانوية، ارتفاع لتكاليف التعليم الحقيقية متوازي مع انخفاض في الجودة، ازدياد أشكال التعليم الموازي رأسيا وأفقيا. فانتشرت المدارس الخاصة والدولية بالإضافة إلى مأسسة الدروس الخصوصية لتصبح بمثابة نظام تعليم موازي غير نظامي بما يعنيه ذلك من مشكلات اقتصادية واجتماعية وثقافية خطيرة.

تؤكد هذه المشاهدات كافة التقارير المحلية والدولية، فتستقر مصر عند الترتيب 113 على مؤشر التنمية الإنسانية وفقا لتقرير التنمية الإنسانية عام 2012، بينما تستقر الدنمارك في المرتبة 16 وألمانيا في المرتبة التاسعة. ولا تبتعد مؤشرات التعليم عن هذا المستوى كثيرًا، فعلى سبيل المثال نجد أن عدد سنوات التمدرس الفعلية للجيل الحالي هي 6.4 في مصر مقابل 11.4 في الدنمارك و12.2 في ألمانيا.

مؤشرات تقرير التنمية البشرية () 2012

نصيب الفرد من الناتج المحلي

سنوات التمدرس المتوقعة سنوات التمدرس توقع العمر عند الولادة الترتيب الدولة
34.347 16.9 11.4 78.8 16 الدنمارك
5.269 11.811 6.4 73.2 113 مصر
34.854 15.9 12.2 80.4 9 ألمانيا
12.246 6.5 74 92 تركيا

وفي مؤشر آخر على ضعف الأداء للنظام التعليمي، بلغ معدل الأمية حوالي 43.6% من إجمالي السكان في مصر، مقابل صفر في كل من ألمانيا والدنمارك. ينشأ هذا المعدل المرتفع من الأمية كنتيجة للتسرب المرتفع من النظام التعليمي في مراحله المختلفة بالإضافة إلى ضعف النظام وعدم قدرته على تحقيق الأهداف المتوقعة منه لدرجة انتشار درجة أمية المتعلمين للصف الإعدادي والثانوي. يعزز هذا الاتجاه أيضا ترتيب مصر في تقرير التنافسية العالمي 96 من 142، مؤشر الصحة والتعليم الابتدائي 96، نمو التعليم الثانوي 92، توفر الانترنت في المدارس 107، جودة تعليم الرياضيات والعلوم 132، الذي يؤشر إلى ضعف مخرجات النظام بشكل كبير.

مؤشرات التعليم، تقرير التنمية الإنسانية 2012()

نسبة الطلاب للأساتذة الالتحاق القراءة والكتابة الدولة
جامعي ثانوي ابتدائي
77 118.4 98.6 100 الدنمارك
13 101.7 103.6 100 ألمانيا
27.2 28.2 67.2 101.1 66.4 مصر
38.4 82 99.3 90.8 تركيا

ولعل أكبر إفرازات النظام التعليمي المصري كارثية هي الدروس الخصوصية، التي تطال جميع أرجاء المجتمع رأسيا وأفقيا، ويمتد تأثيرها إلى كافة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أيضا. وعلى الرغم من أهميتها، فانه إلى الآن لم تظهر محاولات جادة لفهمها، ومحاولة حلها.

الدروس الخصوصية

عل الرغم من تعدد مشكلات النظام التعليمي المصري، إلا ان انتشار ظاهرة الدروس الخصوصية لها التأثير الأكبر على تشويه بنية الأسر المصرية المادية والثقافية، وإضعاف خريجي النظام في كافة مراحله. وعلى الرغم من أهمية الظاهرة إلا إن التفسيرات التي قدمت للظاهرة ومن ثم الحلول المقترحة لم تتجاوز في كثير من الأحيان توصيفها باعتبارها مشكلة أخلاقية تتمثل في جشع المدرسين والذي لا بد وان يواجه بقانون حاسم لمنع هذه المشكلة للأبد. إلا انه وبفرض نجاح تطبيق القانون بصرامة على المخالفين، فلن يكون هذا حلا ناجحا للمشكلة المركبة التي أفرزت الدروس الخصوصية.

فالدروس الخصوصية في حقيقة الأمر هي عرض لمرض أو انعكاس لمشكلة هيكلية أكبر داخل النظام التعليمي المصري، والقابلة للتكرار في الحالات المماثلة من التشوه في النظم في أي مكان في العالم. إذن من الطبيعي أن أي محاولات لفهم العرض بدون المرض، أو الاقتراب من الانعكاس وتجاهل البنية التي أفرزته ستؤدي إلى فشل بين في السياسات والإجراءات المتبعة.

تنتج الدروس الخصوصية كظاهرة وبنية كإفراز لتركيبة معقدة من التشوه في التوازنات الكمية للنظام التعليمي، مترافقة مع تشوهات كيفية تراكمية تدرجية ناتجة عن التكيف السلبي مع اختلال التوازن الكمي.

تاريخ مختصر للدروس الخصوصية

لم تعرف مصر الدروس الخصوصية كظاهرة متفشية منتشرة بهذا الحد قبل عقدين من الزمان. فعلى الرغم من وجود بعض الطلبة ممن يحتاجون إلى مساعدات اضافية نتيجة ضعف تحصيلهم العلمي أو ظروف خاصة، إلا أن الأمر كان في عداد الاستثناء الذي لا يقاس عليه.

كانت المدارس المصرية تقدم خدمات تعليمية متميزة بمعايير عصرية، فتأهيل المعلمين كان متميزا، واهتمام الطلبة كان مرتفعا. احتوت المدارس على مسارح وملاعب ومعامل تكفل للطالب تنمية مهاراته واكتشاف مواهبه. كذلك كانت الجامعات المصرية بها أقوى الأساتذة وأنجب الطلبة وتدور في رحابها أعمق المناقشات وتلقى في جنباتها أرصن المحاضرات وتجرى في معاملها أحدث التجارب.

كان هذا قبل البدء في تعميم التعليم على الشعب، بدون ما يكفي من موارد للحفاظ على التوازنات الكلية التي أفرزت النظام المتميز الذي كان. كانت نسبة الطلبة للأساتذة مقاربة للنسب العالمية، مما ساهم في إنشاء علاقة متميزة بين الأستاذ والتلميذ نجم عنها تواصل ونقاش وحوار وهو ما أفرز العقلية النقدية والابتكارية والمنفتحة التي تميز بها خريجو هذا الجيل من النظام. اختلال آخر حدث هو نصيب الطالب من الإنفاق على التعليم، فمع زيادة عدد الطلاب بشكل هائل، وبدون زيادة موازية في إنفاق الدولة، ظهرت مشكلة عدم كفاية الأماكن في المكتبات والمواد في المعامل والمساحات للملاعب والأماكن المفتوحة، والتي تدريجيا تم استغلالها لبناء مباني للمحاضرات في الجامعات او للدروس في المدارس.

الإنفاق علي التعليم في مصر من 2000- 2012 (جدول-2)

الإنفاق علي التعليم في مصر

جدول- 3 ( الإنفاق على التعليم في بعض دول العالم

 إصلاح التعليم بين نظام الرفاه ونظام السوق

السنوات المالية نسبة الإنفاق على التعليم إلى GDP نسبة الإنفاق على التعليم ما قبل الجامعي إلى GDP نسبة الإنفاق على التعليم

الجامعي إلى GDP

زادت كثافة الفصول في المدارس والمحاضرات بشكل هائل لتصل إلى 70-100 في بعض الفصول و5000 لبعض دفعات كليات التجارة والحقوق، هذا مع ثبات نسب زيادة المدرسين وأعضاء هيئة التدريس والمدارس والجامعات. أدي هذا الخلل الكمي إلى تحولات كيفية سلبية نتيجة لتكيف المدارس مع الوضع الجديد تمثلت في عدم قدرة المدرسين أو أعضاء هيئة التدريس على التواصل كما في السابق مع الطلبة من أجل الحوار والنقاش. قاوموا في البداية العدد الضخم، لكن كانت كل محاولة لفتح باب النقاش تنتهي إلى فوضى عارمة، نتيجة لصعوبة تنظيم العملية في المدرجات المتسعة، أو لصعوبة السيطرة على التلاميذ الكثر في الفصل، ما انتهى بها إلى عملية مضيعة لوقت المحاضرة. كانت هذه نقطة تحول رئيسية نحو اتجاه المدرسين والأساتذة الى تصميم طريقة تدريسهم على الإلقاء والاهتمام بالانتهاء من المقرر فى الوقت المحدد.

توزيع المدارس وفقا للكثافات ()
نسبة المدارس  الكثافة
18% 10-30 طالب
72% 40-50 طالب
9% 60-100

 

تأتي المرحلة الثانية من التشوه عند إعداد الامتحانات. عندما كان الفصل أو المحاضرة محدود العدد، كانت عملية التدريس معتمدة علي النقاش والنقد، وكان الامتحان بالتالي يأتي قياسا للمجهود المبذول، ويطلب من الطلبة التعبير عما فهموه أو نقدهم له. ومع قلة عدد الطلبة يمكن للمدرس أن يستغرق وقته في التقييم والتحليل، وتكون النتيجة معبرة بشكل كبير عما هو موضح بورقة الإجابة. كان مثل هذا النوع من الامتحانات مانعا طبيعيا للدروس الخصوصية، من جهة صعوبة توقعه والتنبؤ به، من جهة عدم قابلية الأسئلة للتنميط ناهيك عن الإجابة. كانت الأسئلة أبعد ما تكون عن التوقع، وكانت الإجابات النمطية من قبل الطلبة بمثابة علامة على عدم الإبداع والجمود، وهو ما يعني تقييما أقل.

في البداية كانت المقاومة كالعادة، لكن أني لها أن تفلح أمام هذا الطوفان. لاحظ الأساتذة أنهم يستغرقون وقتا طويلا في تصحيح الأوراق اذ يستلزم هذا أسابيع في بعض الأحيان. ومع ضخامة عدد الأوراق الناجمة عن زيادة الطلبة وزيادة العبء التدريسي، أصبح من المستحيل الاستمرار في القراءة المفحصة والناقدة والأمينة للتقييم. كان لابد من تسهيل العملية على الأساتذة من جهة تقليل العبء بتسطيح الأسئلة وتنميط إجاباتها. كان هذا عدلا أيضا من جهة أنه من الظلم أن نختبر الطلبة في قدرات لم نشارك في تنميتها لهم، فنحن نزرع ما حصدنا في النهاية.

أدى تسطيح الأسئلة، وتنميط إجاباتها، مترافقا مع تحول العملية التدريسية إلى شكل روتيني يمكن التنبؤ به إلى تسهيل مهمة الدروس الخصوصية. فأنت لست بحاجة الى حضور الدروس أو المحاضرات، يكفيك درس خصوصي مع مدرس يعطيك كل الأسئلة المحتملة في الامتحان وإجاباتها. وبتنا نرى الطلبة تعترض عن ورود سؤال يحتاج الى بعض التفكير في الإجابة، أو غير مباشر وصريح وواضح من جهة علاقته بالمقررات.

عنصر آخر ذو أهمية هو انخفاض دخول العاملين في التدريس بشكل كبير، فمن المعروف أن مرتبات الحكومة لا تخضع لاعتبارات الزيادات في التضخم، وهو ما تصاعدت معدلاته بشكل هائل وكإرثي في الثمانينيات والتسعينيات. أدى هذا إلى تآكل القوة الشرائية لدخول المصريين عموما، والعاملين في التدريس خصوصا باعتبارهم من أصحاب الدخول الثابتة التي تتأثر بشكل أكبر بالتضخم. فكانت الدروس الخصوصية بالنسبة للمدرسين أحد البدائل الهامة لتعويض هذا الانخفاض في الدخل، خصوصا وأن عملية التدريس في ظل العدد الكبير في الفصول وقلة إمكانيات المدارس كانت بالفعل ضعيفة الأداء.

حدثت كل هذه التطورات عبر أجيال مختلفة، فلدينا الآن جيل أو جيلين من المدرسين ممن تربو على الدروس الخصوصية، وهذا يؤشر إلى مدى تغلغل الدروس الخصوصية في نمط حياة وأسلوب عمل المدرسين، ناهيك عن التلاميذ بالطبع.

إذن، تكاتفت عوامل زيادة الكثافات الناجمة عن قلة المدارس والجامعات، وضعف دخل القائمين على العملية التعليمية، والتشوهات التالية من تنميط للمناهج والامتحانات وضعف مستويات المدرسين كنتيجة لمشكلات كلية التربية، وضعف الإشراف عليهم كانعكاس لسوء إدارة وزارة التربية والتعليم، ومع عدم وجود أي أفق لحل الإشكال، حتى بفرض إدراك المشكلة واقتراح حلول لها في الوصول الى ما نحن فيه.

مخاطر استمرار النظام الحالي

المخاطر السياسية

مخاطر الهوية: تنتج حالة التشرذم في النظام التعليمي مواطنين متعددي الخلفيات الثقافية بدون وجود حد أدني مشترك يضمن التفاهم والتناغم، ويحول حالة التشرذم إلى حالة تنوع وثراء. ما ينجم عنه إنشاء وتعميق لاستقطابات متعددة الاتجاهات تتكامل مع شروخ أخرى على جبهات اقتصادية اجتماعية تنتهي بالوطن إلى حالة انقسام واستقطاب سياسي واجتماعي متدهورة.

مخاطر المواطنة: تنتج حالة عدم المساواة وعدم الكفاءة (التسرب والدروس الخصوصية) في النظام التعليمي تحديا أمام الفئات المهشمة والفقيرة باستبعادها من الاستفادة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية عن طريق نزع قابليتها للاندماج في النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي سواء بأميتها أو ضعف تعليمها على السواء. وهذا ما يمثل حرمانا مستداما ومورثا للأجيال من حقوق المواطنة بكل أطيافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

مخاطر الديمقراطية: تنتج حالة الدروس الخصوصية إدراكا فرديا مصلحيا انتقائيا يهدد فكرة وقيم الوجود المشترك وأهمية احترام النظام والمصلحة العامة لصالح قيم الشللية والمزاجية والاهتمام بالنطاق الخاص على حساب العام. وهذا ما يعمق حالة السيولة المجتمعية والسياسية ويضعف إمكانيات التوافق والتجاوز والاحترام للأخر وحقوقه وإمكانياته، وهو ما يمثل قلب قيم الديمقراطية والجمهورية والدستورية. هذا بالإضافة إلى تداعياته الخطيرة في المجال العام الإداري والاقتصادي من تبرير للكثير من ممارسات الفساد والمحسوبية والتعدي علي المال العام.

أيضا تمثل تدميرا لقيم العمل الجماعي، والعيش المشترك (يمكن للطالب اختيار المدرس والمجموعة التي يدرس معها في الوقت الذي يريد في المكان الذي يريد)، واحترام الكبير في المجال العام (رمزيا هنا هو المدرس الذي تنتهك رمزية دوره بلجوئه للدروس الخصوصية)، واحتقار المؤسسات العامة (المدرسة هنا ترمز لكل ما هو عام وعبثي وقاتل للإبداع ومضيع للعمر) وهذا مدمر بكل تأكيد لفكرة الدولة والمؤسسات والمجتمع وقد يكون مدخلا لفهم الكثير من الظواهر المنتشرة مثل الأناركية والفساد والشللية والجماعات المنظمة غير الرسمية.

المخاطر الاقتصادية:

الكفاءة والإبداع: ينتج عن ضعف كفاءة وجودة النظام التعليمي تقليص قدرة القوة البشرية المستقبلية على الإضافة والتراكم والإبداع لزيادة الإنتاجية، والتي هي قلب مشاكل النظام الاقتصادي المصري. يضاف إلى هذا فإن مشكلة عدم التناسق الثقافي تؤدي إلى مشكلة التضارب في الفهم والتواصل في مواقع الإنتاج المختلفة سواء بين العاملين وبعضهم البعض نتيجة لتفاوت واختلاف خلفياتهم التعليمية والثقافية، أو بين العاملين وأرباب العمل، وهذا ما يؤدي إلى صعوبة في الإنتاج وفقا للمواصفات ناهيك عن الإبداع والإتقان والإضافة.

التنافس واحترم قواعد اللعبة: حيث تؤدى إمكانية التخلص من المدرس والمدرسة كنظام بشراء المدرس أو الامتحان إلى تدمير فكرة احترام قواعد اللعب، وتعزيز ثقافة التحايل والاستسهال والطفيلية، وهذا ما يدمر إمكانية تأسيس أنشطة ذات طبيعة منتجة.

المعرفة والتكنولوجيا: يمثل كره الثقافة والبعد عن طرق المعرفة الحديثة أحد النواتج السلبية للنظام التعليمي كرد فعلي لخبرة الطلاب السلبية مع الكتاب المدرسي والمناهج وطرق تدريسها، ما يشكل أحد العوائق أمام التعامل مع التكنولوجيا وإنتاجها لتكوين مجتمع واقتصاد المعرفة المعتمد على ثقافة المعرفة الذاتية والمستمرة عبر مراحل العمر.

التحديات الثقافية والمجتمعية:

يمثل النظام التعليمي أحد المؤسسات التي تصهر الأمم بما تتيحه من غرس لقيم وأخلاقيات وسلوكيات متسقة متفق عليها تساعد على التواصل والتفاهم في كافة مناحي الحياة. يهدد استمرار النظام التعليمي الحالي المجتمع المصري بالتحلل نتيجة لما ينتجه من قيم الفهلوة والتهرب من المسئولية وسيادة تفسيرات مصلحيه فردية ضيقة وقصيرة النظر وغياب أي معايير يتم الاستناد عليها عند إقامة أي تعاقد اجتماعي (صداقه، زواج) أو اقتصادي (عمل، شراكة) أو سياسي (تحالفات) مع سيادة نزعه تشرذمية ناجمة عن عدم قدرة مزمن على الثقة أو حتى بنائها.

تؤثر الضغوط المالية والنفسية سلبا على الأسرة المصرية من جهة ارتفاع نسبة الإنفاق علي التعليم من ميزانية الأسر، والاهتمام والتركيز المبالغ فيه علي قضاياه، وتضخم الوقت المستغرق في العملية التعليمية الرسمية وغير الرسمية مع شكوك كبيرة في جودة نتائج هذه العملية من جهة القدرة علي الحصول على عمل مستقر وبراتب يساوي الاستثمارات السابقة في التعليم.

ويؤدي التزايد المستمر في تكاليف التعليم إلى تشويه في أسلوب حياة الطبقة الوسطي وتهديد جدي بفقدانها لمزاياها ودورها، هذا يؤدي إلى القلق والتوتر من فقدان المكانة وعدم القدرة على ضمان المستوي الاجتماعي المكتسب للأجيال الحالية للأجيال اللاحقة.

تحدي المستقبل

يمثل كل ما ذكر من تحديات وتهديدات هما ثقيلا على الجميع من أسر وأرباب أعمال وحكومة، والعجيب أن هذا النظام لا يوجد له أي مؤيد، وفي نفس الوقت لا توجد أي بدائل جادة مطروحة للتخلص منه. إن استمرار هذا النظام هو انتحار مجتمعي واعي، وأي تردد أو تأخير في البدء في تنفيذ إصلاحات جذرية مبدعة يعني إعادة إنتاج النظام من خلال مخرجاته المشوهة التي تعود ليعاد إنتاجها في ديمومة ذاتية. لابد من قطع تسلسل الفشل والتوليد الذاتي بأقصى سرعة ممكنه لضمان مكان في المستقبل لأطفالنا، علهم يعوضون فشلنا وعجزنا.

توصيات التعامل مع الدروس الخصوصية

كما هو واضح إذن، لابد من تكامل المداخل، وتدرج التأثير في حل مشكلة النظام التعليمي المصري، لذلك هناك توصيات على المدى القصير وأخرى على المدى المتوسط والطويل.

المدى القصير:
الكثافات

للتخلص من مشكلة الكثافات يجب ضخ مزيد من الاستثمارات فى بناء مدارس وجامعات أكثر للوصول الى النسب العالمية للكثافات المقبولة لنجاح العملية التعليمية. فعلى مستوى المدارس أشارت دراسة فى عام 2005 إلى ضرورة بناء حوالى 10000 مدرسة (متوسط 12 فصل للمدرسة) وذلك للوصول الى نسبة كثافة 25 طالبا فى الفصل الواحد. وحيث أنه قد تم بناء حوالي 5000 مدرسة فقط منذ ذاك الوقت، ومع مراعاة زيادة عدد الطلبة مع زيادة السكان فمن المتوقع الاحتياج إلى حوالي 15000 مدرسة جديدة. كذلك هناك حاجة لبناء 55 جامعة جديدة للوصول إلى نسبة جامعة لكل مليون من السكان، وذلك فقط لتخفيض الكثافات مع الحفاظ علي نفس نسبة الالتحاق.

وهذا ما يعني حصول كل طالب على نصيبه من المعامل والمكتبات والمساحات الخضراء، وهو ما يؤدي الى تعميق استفادته من التجربة المدرسية والجامعية، بما ينتهي بتحقيق الهدف من استثمار المجتمع في هذه الفترة من عمره.

عدد المدارس المطلوبة عام 95

عدد المدارس المطلوبة عام 95

تطور عدد المدارس )7( من 2006 – 201

تطور عدد المدارس )7( من 2006 - 201

المرتبات:

لابد من التعامل بجدية مع احتياجات المعلمين والأساتذة وذلك بضمان مرتبات تكفل الحد الأدنى من حياة كريمة، مع وضع نظم تحفيز للمتميزين فوق هذا. إذ بدون حد أدنى يضمن الكرامة لا يمكن الحديث حول أي إصلاحات أو توقع احترام أي قوانين. لذلك لابد من النظر في إصلاحات جدية في نظم الأجور والتحفيز.
الامتحانات:

يجب تطوير نظم امتحان تصعب من عملية التنبؤ، وتساعد على اكتشاف الفروق والمهارات الفردية، وتتسم بسهولة التصحيح. يمكن الاستفادة من التكنولوجيا في وضع الامتحانات وتصحيحها.

المدى المتوسط والطويل:

الكثافات

يجب الاستمرار في ضخ المزيد من الاستثمارات في البنية الأساسية للتعليم والتوسع في المدارس والجامعات بمشاركة المجتمع المدني في صيغ غير هادفة للربح للوصول إلى نسبه مدرس للتلاميذ تقترب من 1:15 بدلا من 1:27 الحالية. ونسبة جامعتين لكل مليون من السكان.
التدريب للمدرسين والأساتذة والإداريين

يجب إعادة النظر في منظومة تأهيل المدرسين والأساتذة باتجاه ضمان جودة أكبر عند التعيين وطوال حياته المهنية، وهذا يكون بالتركيز على كليات التربية، وبرامج التأهيل التربوي، وكذلك بتشجيع النقابات المهنية على ضمان حد أدنى من التأهيل والمستوى المهني لأعضائها.
العلاقة بسوق العمل

يجب العمل على ربط البرامج والمحتويات التعليمية باحتياجات سوق العمل عن طريق زيادة تمثيل المجتمع المدني ومجتمع الأعمال في تصميم البرامج والمناهج وتقييم الامتحانات، بالإضافة تعزيز الروابط مع الصناعة عن طريق التدريب والشراكات. حيث يضمن هذا التطوير المستمر للعملية التعليمية.

احتياجات الإصلاح

تمويل: تكلف المدرسة في 2005 ما بين 800 ألف جنية إلى مليون و200 ألف جنية، ومع مراعاة زيادة الاسعار فيمكن وضع رقم تحكمي هو 2 مليون جنية مصري للمدرسة ما يعني تكلفة 30 مليار جنية لبناء 15000 مدرسة جديدة. وبافتراض تكلفة قدرها 2-3 مليار جنية للجامعة الواحدة فهناك احتياج إلى 137.5 مليار جنية لبناء 55 جامعة للوصول الى نسبة جامعة لكل مليون من السكان، و362.5 مليار جنية لبناء 145 جامعة للوصول الى نسبة جامعتين لكل مليون من السكان. وجدير بالذكر أن تركيا لديها نسبة أكبر من 2 وأمريكا 6 والنرويج 9 لكل مليون من السكان.

حوكمة للنظام وللمؤسسات: هناك حاجة الى اصلاح إطار علاقة الدولة بالمؤسسات التعليمية، لصالح مزيد من رقابة المجتمع ومشاركته في الإدارة، كذلك هناك حاجة لإطلاق صلاحيات أكبر للمؤسسات في إدارة شئونها مع توفير إطار مرجعي للرقابة والمساءلة والشفافية. وينعكس هذا التغيير بالتبعية على الإطار القانوني المنظم للعملية التعليمية في مصر.

إذن هناك احتياج إلى كم هائل من الموارد للوصول بالنظام التعليمي إلى نقاط التوازن الكمي، الذي يمهد ويوفر المجال لأي إصلاحات كيفية مرجوة، والتي من الصعب أن تؤتى ثمارها بدون هذا الإصلاح في التوازنات الكمية. لكن هل يستوعب الإطار العام للسياسات والتوجهات العامة للنظام هذا الإصلاح؟

تناقضات الوضع الحالي

قد تلاقي احتياجات الإصلاح صعوبة في ظل تناقضات السياسات الاقتصادية المتمثلة في وعود بلا إمكانيات مالية، ورهان في غير محله على السوق، ومركزية شديدة مكبلة لأي مبادرات محلية، تؤدي في النهاية إلى تجميد الوضع وتعويق أي إمكانيات للإصلاح.

وعود بلا إمكانيات

يأتي التناقض في السياسات الاقتصادية من حقيقة أن هناك بنية دستورية وقانونية داعمة للرفاه، وبنية مالية وإدارية داعمة للسوق. فتعد الدولة بتقديم الخدمات وليس لديها ما يكفي للتمويل بسبب طبيعة نظام الإيرادات المعتمد على ضرائب متساوية منخفضة النسب. نشأ هذا التناقض منذ السبعينيات عندما تحولت السياسات الاقتصادية باتجاه السوق الحر، مع الاحتفاظ بالبنية القانونية والمؤسسية البالية لقطاع الخدمات. فتم تحرير الأسعار وفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية والانفتاح على العالم بانتظار أن يقوم السوق بواجبات الدولة. لكن مع وجود البنية القمعية للنظام والتي تخشى من انفتاح رأسمالي حقيقي يقوم بنقل مراكز الثقل والنفوذ إلى فئات أكثر اتساعا ليست بالضرورة موالية للنظام، انتهى التحول الرأسمالي إلى تمكين فئة طفيلية تقوم بدور مقاول الدولة من مقدرات الاقتصاد. وساد الاحتكار والفساد وتداخل الثروة والسلطة، ما يؤشر إلى فشل النموذج السابق والحاجة إلى نظام جديد.

في إطار التجهيز للتحول للسوق، انسحبت الدولة من قطاعات الرفاه (التعليم، الصحة والاستثمارات العامة) وذلك كمحاولة لتخفيض الأعباء ما أدى إلى اتساع الفجوة بين احتياجات المواطنين من الخدمات وحجم المقدم منها من قبل الدولة كذلك من قبل القطاع الخاص الذي لم يكن من ضمن أهدافه التوسع في هذه القطاعات.

تراكم تحول في البنية المالية للدولة باتجاه السوق عن طريق مراجعة نظم الإيرادات وتخفيضها في إطار تهيئة المناخ للاستثمارات، ما أدى إلى تخفيض الدولة لإنفاقها الاجتماعي إلى ما دون المستويات العالمية، حتى في الدول الرأسمالية العتيدة، ومن هنا نشأت الفجوة المزمنة بين وعود الدولة وبين إمكانياتها المالية المتمثلة في نظامها الضريبي المنخفض النسب والمتساوي في تحميل الأعباء.

يفترض النظام السابق أن السوق يستطيع أن يكون فعالا بدون دولة تضمن الخدمات الاجتماعية، وأن تعليم منخفض وصحة ضعيفة ليست ذات تأثير على الإنتاجية والإبداع. وأنه يمكن تحقيق تنافسية السوق ومحاربة الاحتكار وتشجيع الابتكار بدون مؤسسات حكومية تدار بكفاءة من قبل موظفين محترفين. سقطت هذه الافتراضات على حقيقة أزمات الاقتصاد المصري الحقيقية المتمثلة في انخفاض الإنتاجية وضعف التنافس المحلي والدولي وضعف الابتكار والإبداع في المنتجات.

في مثل هذه الأوقات يجب المصارحة بأن الحل يكمن في الحسم باتجاه أحد الخيارين، خيار السوق المطلق، وهو استمرار الإيرادات على ما هي عليه من الانخفاض، مقابل تخلي الدولة عن وعودها بتقديم خدمات مجانية. أو زيادة الإيرادات عن طريق نظم ضرائب تصاعدية مع التزام الدولة بتقديم خدمات ذات جودة مرتفعة للجميع بدون تمييز.

لكن هل يمكن احتمال الحل الأول والتخلي عن تقديم الخدمات الاجتماعية وترك المواطنين يتولون أمرها بأنفسهم وفقا لقدراتهم الشرائية. هذا في ضوء ارتفاع نسب الفقر وتفاوت توزيع الدخل وعمق المشكلات التعليمية والصحية وانتشارها. في الحقيقة يبدو مثل هذا الحل غير واقعي من وجهة النظر الاقتصادية ناهيك عن أبعاده الإنسانية والاجتماعية والسياسية.

لا تحتمل مصر مستويات مرتفعة من الأمية والمرض في حالة رغبت في تأسيس قوتها التنافسية لاقتصادها على المعرفة واقتصادياتها. لا يمكن أن تتوقع معدلات إنتاجية ونمو مرتفعة في ظل ضعف مستوي التعليم والصحة. لا يتوقع ارتفاع القدرات الابتكارية في الصناعة والتي تؤدي إلى هوامش ربح استثنائية تقود إلى نمو اقتصادي يتجاوز معدلات الزيادة السكانية في ظل نسب فقر ومرض مرتفعة.

تبدو التكلفة الإنسانية المتمثلة في وجود جزر غنى في ظل محيط من الفقر والمرض مرتفعة أيضا، فمع اعتبار أن هذه المأساة البشرية هي انتهاك لكرامة المصريين التي نادت الثورات المتعاقبة بصونها، فلا يمكن السكوت عن هذا الوضع. إلا أن المخاطر الاجتماعية والسياسية المتوقعة أيضا تدعو إلى النظر بجدية في أن أي اضطرابات اجتماعية أو سياسية لن تؤدي إلى استقرار وازدهار اقتصادي.

إلا أن الخيار الآخر على الرغم من أنه قد يبدو خطيرا من وجهة نظر التصورات التقليدية عن اقتصاد السوق المتمسكة بحريات اقتصادية مطلقة وتدخل منعدم للدولة. إلا أن هذه التصورات لا تصمد أمام حقائق سياسات الدول العتيدة في الرأسمالية مثل أمريكا وألمانيا. حيث تمول المدارس الابتدائية في أمريكا من أموال الضرائب العقارية وتقدم الخدمة التعليمية مجانا للجميع، كذلك فان التعليم بكل مراحله مجاني في ألمانيا التي هي أكبر مصدر في العالم.

يجب التخلي عن الأفكار البالية بأن الضرائب المرتفعة وكبر حجم الإنفاق الحكومي هو طارد للاستثمار ومثبط للنمو ومضاد لحركة الاقتصاد. تجبي الحكومة الألمانية ما يقارب 45% من الضرائب، وتجبي الحكومة الأمريكية 35% وتركيا 36% وهم من الدول الأكثر جذبا للاستثمارات في العالم. الإنفاق الحكومي المرتفع على التعليم والصحة يضمن مواطنين فاعلين منتجين ذوي كرامة، وعلى الرغم من أن مستوى الأجور في ألمانيا وأمريكا هو الأعلى في العالم فإن الاستثمارات تتدفق للاستفادة من مزايا السوق وارتفاع إنتاجية العامل وإمكانيات البحوث والتطوير والتقدم التكنولوجي الموجود.

لابد من تأسيس تنافسية الاقتصاد المصري الجديد على كرامة المصري ريادته المتمثلة في ارتفاع مستوى تعليمه وإنتاجيته ومساهمته في رفاه وطنه والبشرية معتمدا على تعليم متميز ونظم صحية واجتماعية كفء. وهذا لن يتأتي إلا بإنفاق اجتماعي مرتفع يمول من نظام ضرائب تصاعدية عادل وعاجل.

إن من فائدة رجل الأعمال أن يقوم بتوظيف عامل متعلم جيدا وذو إنتاجية مرتفعة وذو قدرات ابتكاريه مبدعة خير من توظيف أمي كسول وأحمق. كما أن إصلاح الأجور الحقيقي من شأنه محاصرة الفساد، وبالتالي انخفاض تكاليف العمليات على صاحب العمل. فهنا تم تحقيق إنتاجية حقيقية وانضباط ملموس في الجهاز الحكومي وتخفيض التكاليف الذي من شانه أن يرفع القدرة التنافسية للمنتجات المصرية لتحقيق عوائد تساهم في النمو والرخاء للجميع.

التعليم والسوق

ما يعزز الرأي السابق بضرورة انخراط الدولة في تقديم الخدمات الاجتماعية لضمان العدالة، بل وكذلك الكفاءة. حيث لا يتوقع من القطاع الخاص أن تكون لدية الحوافز للذهاب إلى القرى والنجوع حيث الأمية الأكثر والفقر الأكبر. حيث من المتوقع أن تؤدي هوامش الربح المنخفضة في هذه الأماكن إلى العزوف عنها من قبل القطاع الخاص. لذلك وجب تواجد الدولة في هذا الميدان ضمانا للكفاءة في التنفيذ.

هذا كان عن أولويات السوق، لكن هناك قضية أيضا هامة وهي: هل التعليم سلعة؟ يتنافس فيها الموردون على قدرات العائلات الشرائية. هناك حاجة إلى تقديم مفهوم القطاع الأهلي غير الهادف للربح. حيث تستطيع مؤسسات المجتمع الأهلي تقديم الخدمات التعليمية والصحية بمقابل يغطي التكاليف، لكن بدون استهداف للربح، قد يتولد لديهم فوائض تستخدم في الصيانة والتنمية، لكن لا تعود كأرباح إلى أصحاب رأس المال.

تنتشر هذه التقنيات من المشاركة المجتمعية في تقديم الخدمات في ألمانيا والدنمارك، وتختفي من مصر علي الرغم من قربها الشديد من فكرة الأوقاف التي سادت لفترات طويلة وكانت عماد تقديم الخدمات في مصر قبل تأميمها من قبل الدولة بعد ثورة يوليو 1952.

لا مركزية ومشاركة

تحتاج الفجوة الهائلة في الاستثمارات التعليمية إلى نظام ينحو أكثر نحو اللامركزية والمشاركة من أجل تمكين المجتمعات المحلية من إبداع حلولها لمشكلاتها وتحريكها لمواردها المحلية في اتجاه المساهمة في حلها. فدعم نظم التمويل المحلية مثل الأوقاف، ودعم نظم الإدارة غير الهادفة للربح سيساعد بكل تأكيد في حل المشكلة.

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart