الشفافية وحدود العدالة الاجتماعية المغرب ومصر نموذجا

الشفافية وحدود العدالة الاجتماعية المغرب ومصر نموذجا

فصل ضمن كتابالعدالة الاجتماعية بين الحراك الشعبي والمسارات السياسية في البلدان العربية

مقدمة

شهدت المنطقة العربية العديد من التغيرات السياسية، وخاصة ما يطلق عليه ببلدان الربيع العربي، وقد كان الدافع وراء هذه التغيرات السياسية هو البحث عن الكرامة والحرية ولقمة العيش ومن ثم كان شعار العدالة الاجتماعية أحد أهم أيقونات منطقة الثورات العربية.

ولا شك أن استشراء الفساد يعد أحد الكوابح الأساسية في وصول المواطنين للفرص الاقتصادية وتعميق التفاوت بين المواطنين وتضييق المجال العام في التمتع بالحقوق التي ترد على الحق في الحياة من بينها الكرامة في العيش، والمشاركة في ثروات البلاد؛ ومن ثم إعاقة فرص النمو سواء الاقتصادي أو السياسي في البلدان التي تعاني من تفشي ظاهرة الفساد وما يصاحبها من انعدام معايير النزاهة والمحاسبة.

وعلى الرغم مما يقال عن معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة التي كانت تسجلها بلدان مثل مصر وتونس قبل عام 2011 وذلك وفقا لمؤشرات البنك الدولي، إلا أن هناك العديد من العوامل التي كانت تقف كحجر في مواجهة تمتع أو تساقط ثمار النمو على المواطنين في تلك البلدان؛ الأمر الذي يشير أن ظاهرة الفساد يمكن أن تستشري في بلدان قد تتمتع بنمو اقتصادي ولكن وعلى الجانب الآخر يتم تبديد هذا النمو عندما يصبح الفساد نمطا إنتاجيا أن جاز القول بذلك.

وعلى الرغم من الخروج الجماهيري الهادر في ميادين بلدان الربيع العربي إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل استطاعت تلك البلدان التخفيف من حدة الفساد ووصول مواطنيها إلى الحدود الدنيا من العدالة الاجتماعية، وخاصة بعد مرور ما يقرب من أربع سنوات على ثورات الربيع العربي؟.

في هذا الإطار تحاول هذه الورقة التعرف على بعض صور الفساد التي تعانيها بعض البلدان في المنطقة العربية وخاصة تلك التي شهدت ثورات الربيع العربي، وأيضا بعض الإجراءات التي تتخذها بشأن إعمال الشفافية ومعايير النزاهة لمواجهة المشاكل الناجمة عن استشراء الفساد، ومدى حدود الوصول للعدالة الاجتماعية من خلال عدد من المحاور التي تتناول ملامح تلك الظاهرة.

هكذا، تحاول الورقة استعراض الوثائق الدولية الخاصة بالمعايير الواجبة بالشفافية وذلك في المحور الأول منها، في حين يتناول المحور الثاني الإطار القانوني والمؤسسي للشفافية في بعض البلدان العربية، بينما نتناول في المحور الثالث من هذه الورقة بعض الممارسات الميدانية لتطبيقات الشفافية كآلية للوصول للعدالة الاجتماعية.

وسوف نحاول مناقشة هذه المحاور من خلال التركيز على مصر والمغرب كنموذج تنطبق عليهما موضوع الدراسة من ناحية، وباعتبارهما من البدان التي شهدت انتفاضات الربيع العربي من ناحية أخرى. وعلى الرغم من وجود بلدان أخرى شهدت هذه الانتفاضات إلا أنه من الصعوبة تناولها جميعا ضمن إطار هذه الورقة.

كما أن بلدان مصر والمغرب تمنحنا إطارا يمكن أن يساعد في بحث العلاقة التي تتناولها هذه الدراسة وأيضا لتوافر بعض المعلومات بشأنهما في ضوء موضوع الدراسة.

وفيما يتعلق بالإطار الزمنى فسوف تلتزم هذه الورقة بمنهجية تاريخية زمانية مقارنة تدرس واقع الشفافية في مصر والمغرب قبل وبعد ثورات الربيع العربي للتعرف على التغيرات التي يمكن أن تكون قد احدثتها هذه الثورات سواء ما يتعلق بالإطار القانوني أو المؤسسي.

ظاهرة الفساد على ضوء المعايير الدولية

يعتبر الفساد أحد الظواهر الاجتماعية الناجمة عن العديد من القيم الناتجة عن سيادة الفردانية في مواجهة القيم القائمة على التعاون والعمل الجماعي، بالإضافة أيضا إلى ارتباط هذه الظاهرة بالأبعاد الاقتصادية والسياسية مما يزيد من معدلات ومستويات الفقر. كما أن هذه الظاهرة كما باقي ظواهر الفساد، تكون مصحوبة وبشكل كبير في المجتمعات التي تسود فيها العديد من أشكال التفاوت الاقتصادي، بصعوبة الوصول إلى الفرص الاقتصادية؛ ومن ثم فإن الفساد هو النقيض لمفهوم العدالة في أبعادها المختلفة خاصة الاقتصادي والسياسي، حيث يعد إعمال المبادئ المتعلقة بتسييد قيم المساواة والتخفيف من حدة التفاوت الاقتصادي هو أحد أهم المعايير التي ينطوي عليها مفهوم العدالة الاجتماعية. فالعدالة في بعدها الاقتصادي والسياسي تعني مساواة المواطنين في الوصول لفرص العمل أو الوصول للموارد التنموية وأيضا ارتباط ذلك بإمكانيات الوصول للحق في إدارة هذه الموارد مجتمعيا، وذلك في مقابل الاحتكارات التي تبسط سيطرتها على الموارد التنموية كالأرض، المياه، الموارد الطبيعية…إلخ.

وفى سياق ما سبق لا يمكن حصر معايير العدالة فقط في القضاء على صور التفاوت في الأجر وعدالة توزيع عوائد الإنتاج، بل يمتد إلى الحق في الوصول للموارد وأيضا المساواة في الحقوق المتصلة بإدارة هذه الموارد؛ ومن ثم فإنه ليس باستطاعتنا النظر إلى الفساد كما ذهب البنك الدولي إلى ذلك في سياق تعريفه لهذه الظاهرة، باعتبارها “إساءة استعمال الوظيفة العامة” على اعتبار أن الفساد يحدث عادة عندما يقوم موظف بقبول رشوة أو طلبها، لتسهيل عقد، أو إجراء عرض لمناقصة عامة؛ بل يمكن أن يتم كذلك عندما يقوم وكلاء أو وسطاء لشركات أو أعمال بتقديـم رشاوى للاستفادة من سياسات أو إجراءات عامة للتغلب على منافسين، وتحقيق أرباح خارج إطار القوانين الجاري بها العمل. كما يـمكن للفساد أن يحدث عن طريق استغلال الوظيفة العامة، دون اللـجوء إلى الرشوة، وذلك بتعيين المقربين، أو سرقة أموال الدولة بطرق مباشرة أو استخدام المقدرات العامة في شأن خاص.

في نفس السياق، ذهبت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والتي دخلت حيز التنفيذ في منتصف ديسمبر 2005، باعتبار أن ظواهر الفساد تكمن في السرقة والرشوة وليس في النظم الاقتصادية والسياسية الناظمة لواقع المجتمعات التي تعاني من مظاهر الفساد. وفى هذا الإطار تسعى الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة لمكافحة الفساد إلى ﺗﺮﻭﻳﺞ ﻭﺗﺪﻋﻴﻢ التدابير ﺍﻟﺮﺍﻣﻴﺔ إلى ﻣﻨﻊ ﻭﻣﻜﺎﻓﺤﺔ الفساد ﺑﺼﻮﺭﺓ ﺃﻛﻔﺄ وأنجع، وأيضا ﺗﺮﻭﻳﺞ وتيسير ﻭﺩﻋﻢ ﺍﻟﺘﻌﺎﻭﻥ ﺍﻟﺪﻭلي والمساعدة ﺍﻟﺘﻘﻨﻴﺔ في مجال ﻣﻨﻊ ﻭﻣﻜﺎﻓﺤﺔ ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ بالإضافة إلى ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﻨـﺰﺍﻫﺔ والمساءلة ﻭالإﺩﺍﺭﺓ ﺍﻟﺴﻠﻴﻤﺔ ﻟﻠﺸﺆﻭﻥ والممتلكات ﺍﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ.

كما تطالب الاتفاقية بضرورة قيام الدول الأطراف وضع التدابير الواجبة التي تعمل وتساعد في مواجهة وتثبيط الفساد في القطاع العام، فضلا عن التشريعات القانونية الواجبة لتجريم الفساد في القطاع العام.

وعلى الرغم من الأحكام التي اتخذتها الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة بشأن مكافحة الفساد في القطاعين العام والخاص بمنع وتجريم الرشوة في القطاع الخاص، بما في ذلك الوعد بتقديم الرشوة أو قبولها، وضرورة اتخاذ التدابير اللازمة الرادعة وفرض عقوبات مدنية أو إدارية أو جنائية مناسبة لمواجهة الفساد، فإنها وعلى الجانب الآخر، تفتقد لوجود آلية لاستعراض دوري من أجل مراجعة وتقييم مدى التزام الدول التي وقعت عليها.

وقد وافق مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، في شهر نوفمبر من عام 2009، على وجود آلية للمراجعة وإن كان ذلك على أساس طوعي تنفذ على مرحلتين، تستغرق كل منهما 5 سنوات وتغطي كل مرحلة قضايا محددة ومحدودة من مواد الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة لمكافحة الفساد. تقتضي المراجعة من البلد المتطوع جمع قائمة مرجعية بالتقييم الذاتي، يتم تقييمها من قبل فريق من الخبراء من البلدان الأخرى الموقعة. بعد ذلك، يتم توحيد نتائج المراجعة في التقرير الخاص بالبلد المعني الذي يسلط الضوء على الإنجازات وكذلك التحدَيات. ويتولى فريق المراجعة صياغة التقرير الخاص بالبلد المعني، لكن الصَيغة النَهائية، تنجز بالتعاون مع البلد قيد المراجعة، والذي يمتلك أيضا القرار النهائي فيما يتعلق بنشر التقرير من عدمه.

على نفس المنوال سارت الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد التي استهدفت تعزيز التدابير الرامية إلى الوقاية من الفساد ومكافحته وكشفه بكل أشكاله، والجرائم المتصلة به وملاحقة مرتكبيها. وأيضا تعزيز التعاون العربي فيما يتعلق بالوقاية من الفساد ومكا فحته وكشفه واسترداد الموجودات وتعزيز النزاهة والشفافية والمساءلة وسيادة القانون. ()

وذهبت الاتفاقية إلى ضرورة مشاركة المجتمع في الرقابة على الفساد من خلال توعية المجتمع بمكافحة الفساد وأسبابه وما يمثله من أضرار على مصالح المجتمع. كما أوصت بالقيام بأنشطة إعلامية تسهم في عدم التسامح مع الفساد وكذلك بوضع برامج توعوية بضرورة مكافحة الفساد وأيضا تعريف الناس بهيئات مكافحة الفساد وتوفير سبل الاتصال بتلك الهيئات للإبلاغ عن أي حالات للفساد. وعلى الرغم من أن الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد لا تضع أي معايير تتعلق بالمسألة القانونية أو المراجعة الدورية بالنسبة للبلدان العربية، إلا أن هذه الاتفاقية لم تدخل حيز التنفيذ إلا في شهر يونيو 2013، بعد أن كان قد تم التوقيع عليها في ديسمبر 2010 وذلك بعد توقيع سبع دول فقط من بينها المغرب، الاردن، الإمارات، السودان، فلسطين، قطر والكويت، وذلك من بين 22 دولة عربية؛ في الوقت الذي لم توقع فيه مصر حتى الآن على هذه الاتفاقية.

واقع الشفافية ومكافحة الفساد في المنطقة العربية

حسب الشبكة العربية لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد، كل الدول العربية تعتبر عضوا طرفا في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ما عدا سوريا التي وقعت الاتفاقية والصومال وجزر القمر التي لم توقع هذه الاتفاقية. ()

كما تتوفر، وفقا لنفس المصدر، كل من موريتانيا والعراق والأردن وفلسطين والسعودية واليمن وجزر القمر على استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد. وتعتبر استراتيجيات المغرب وتونس ولبنان في طور الإنجاز، أما باقي الدول فلا تتوفر على أي استراتيجية لمكافحة الفساد.

تتوفر دول المغرب والجزائر وفلسطين والأردن والعراق والسعودية واليمن وجزر القمر على هيئات وطنية لمكافحة الفساد. وتعتبر الهيئات الوطنية لكل من لبنان وليبيا في طور الإنجاز، فيما باقي الدول لا تتوفر على مثل هذه الهيئات.

.1.II مؤشر الموازنة المفتوحة

تقوم مؤسسة الشراكة الموازنة الدولية(IBP) بإنجاز مؤشر الموازنة المفتوحة بناء على ثلاثة معايير أو دعائم، وهي حالية شفافية الموازنة وكيف تغيرت على مدار الزمن؛ والدرجة التي تتوافر بها فرص المشاركة العامة في عملية الموازنة؛ وقوة جهازي الإشراف الرسميين، أي السلطة التشريعية وجهاز المراقبة الأعلى. وقد خلص التقرير الخاص لسنة 2015 إلى أن، من أصل 102 دولة في العالم شملتها الدراسة، جل الدول العربية حصلت على مراتب متدنية جدا ما عدا الأردن التي جاءت في المرتبة 33 بعدما حصلت على النقطة 55 وتونس في المرتبة 66 بالنقطة 42، حيث صنفتا في خانة الدول التي تعطي معلومات محدودة لكن غير كافية عن موازنتها. وقد جاء المغرب في المرتبة 74 بـ38 نقطة واليمن في المرتبة 80 بـ34 نقطة، وصنفا ضمن الدول التي توفر الحد الأدنى من المعلومات. أما باقي الدول العربية التي شملتها الدراسة فقد صنفت كلها في خانة الدول التي لا توفر معلومات أو توفر معلومات نادرة عن موازناتها وهكذا جاءت الجزائر في المرتبة 86 بـ19 نقطة ومصر في المرتبة 90 بـ16 نقطة والسودان في الرتبة 93 بـ10 نقط. وجاءت كل من العراق ولبنان وقطر والسعودية في آخر الترتيب الدولي بأقل من 3 نقاط. ()

.2.II مؤشر مدركات الفساد أو مؤشر الرشوة

يشكل مؤشر مدركات الفساد مقياسا لمستوى الفساد الذي تم إدراكه في القطاع العام المحلي وصورة إجمالية لدرجة الفساد في الدول، ويعتبر مرحلة أولى لقياس الفساد تتلوها مراحل أخرى تساعد في عملية التحليل لتشخيص وتحديد أولويات المكافحة والإصلاح.

يركز المؤشر على الفساد في القطاع العام ويعرفه بسوء استغلال الوظيفة العامة من أجل مصالح خاصة ويقيم ويرتب الدول طبقا لدرجة إدراك وجود الفساد بين المسؤولين والسياسيين في الدولة، وتستند تقارير المنظمة على اعتبار أن صعوبة الحصول على معلومات ملموسة للمقارنة بين مستويات الفساد في عدد كبير من الدول، كالمقارنة بين إعداد الدعاوى أو القضايا المعروضة على المحاكم لا تمكن من الحصول على صورة واقعية عن الفساد، بل إنها تشير إلى نظرة المدعين العامين والمحاكم ووسائل الإعلام إلى طريقة عرض الفساد لذلك فإن الوسيلة الوحيدة لجمع المعلومات لغرض المقارنة هي الاعتماد على خبرات ومدركات الأشخاص الأكثر مجابهة مباشرة مع حقائق الفساد. ()

بدأت منظمة الشفافية الدولية بإصدار مؤشر مدركات الفساد منذ العام (1995). وقسم المؤشر إلى صفر ومئة درجة، وتعكس الدرجة الدنيا وجود مستويات عالية من الفساد وانعدام الشفافية بينما تشير الدرجات العليا لنظافة وشفافية كبيرين.

واحتلت الدانمارك في مؤشر مدركات الفساد لسنة 2014 الرتبة الأولى بـ92 درجة من بين 175 دولة، بينما تقاسمت الصومال المرتبة الأخيرة مع كوريا الشمالية كأكثر الدول فسادا وانعداما للشفافية بـ8 درجات لكل منهما. وجاءت نتائج معظم الدول العربية مخيبة للآمال مع عدم حدوث تغيير ملحوظ في ترتيبها مقارنة مع السنوات الماضية، ولم تفلح سوى دولتين عربيتين من اجتياز حاجز الخمسين درجة المطلوبة للنجاح في الشفافية ومكافحة الفساد بالمؤشر، وهما الإمارات العربية المتحدة (70 درجة) وقطر (69 درجة). واحتلت دول العراق واليمن وسوريا وجزر القمر مراكز متأخرة جدا في الترتيب، بينما تشاركت البحرين والسعودية والأردن المرتبة 55 وجاءت الكويت في المرتبة 67، وتونس 79 والمغرب 80 ومصر 94 والجزائر 100. وأشارت رئيسة قسم الشرق الأوسط وإفريقيا بمنظمة الشفافية الدولية، خلال تقديم نتائج مؤشر مدركات الفساد لسنة 2014 بمقر المنظمة ببرلين، إلى أن النخب الحاكمة المسيطرة على دول الربيع العربي في الـ30 عاما الأخيرة واصلت اختطاف هذه الدول والسيطرة على مقدراتها وتغيير إرادة شعوبها عبر تزوير انتخاباتها وتقويض التداول السلمي للسلطة فيها وتغييب الشفافية في المعاملات الحكومية خاصة صفقات الأسلحة ونفقات المؤسستين العسكرية والأمنية.

3.II. المؤشر العربي

لقد كان عام 2011 عاما مفصليا في مسيرة الشعوب العربية؛ إذ شهدت المنطقة العربية قيام الثورة التونسية وسقوط بن علي، لتفتح الطريق لتوالي الثورات في المنطقة العربية، وتوالي سقوط بعض الحكام فيها. وشهدت الأغلبية العظمى من البلدان العربية حركات شعبية واسعة تراوحت ما بين انتفاضات واحتجاجات. ودخلت معظم البلدان العربية في مراحل انتقالية، حيث اعتمدت إصلاحات متفاوتة بتفاوت النماذج.

ويظهر المؤشر العربي الذي ينجزه المركز العربي للبحوث والدراسات عند تحليل اتجاهات الرأي العام العربي في المنطقة نحو مدى نجاح الثورات العربية في محاربة الفساد المالي والإداري، أن %13من المستجوبين يعتبرون أن الثورات قد نجحت، أو نجحت إلى حد ما، في تحقيق هذا الهدف، مقابل %26 قالوا إنها لن تنجح على الإطلاق. ويعتقد حوالي 51% بأن الثورات العربية سوف تنجح في محاربة الفساد في المستقبل سواء على المدى القريب، المتوسط أو البعيد. ()

وفي نفس المنحى، أظهر المؤشر عند تحليل اتجاهات الرأي العام في المنطقة نحو مدى نجاح الثورات العربية في تحسين الأوضاع الاقتصادية للمواطنين، أن%11 من المستجوبين أفادوا أنها، أي الثورات نجحت أو نجحت إلى حد ما في تحقيق هذا الهدف، مقابل %25 قالوا إنها لن تنجح على الإطلاق. و55 %عبروا عن ثقتهم في إمكانية نجاحها في تحسين الأوضاع الاقتصادية للمواطنين في المستقبل.

.4.II المنظومة الوطنية للنزاهة

لقد عملت المجتمعات منذ القدم على إحداث منظومات للنزاهة والشفافية تركز على قيم أخلاقية أو دينية تنظم العلاقات بين مختلف مكونات المجتمع وتحصنهم من الممارسات الغير مرغوب فيها التي من شأنها أن تلحق أضرارا بهذه المجتمعات. وتعتبر الديمقراطية في وقتنا الراهن، أهم ركيزة يمكن أن ترتكز عليها أي منظومة للنزاهة والشفافية.

وقد ظهر مفهوم “النظام الوطني للنزاهة” في السنوات الأخيرة انطلاقا من الدراسات التي قامت بها مؤسسة ترانسبارانسي الدولية والتي خلصت إلى ضرورة بلورة مقاربة شمولية سواء على مستوى التحليل أو على مستوى استراتيجيات محاربة الرشوة. ويمكن أن نجسد هذا النظام بصفة عامة، بمعبد يوناني يعلوه سطح مستو يمثل نزاهة الأمة، وتدعمه سلسلة من الأعمدة (عموما 16 عمودا) تمثل مختلف القطاعات والمؤسسات العمومية والخاصة التي تساهم في نشر النزاهة والشفافية وتقديم الحسابات والمعاقبة في كل مجتمع. ويرتكز هذا النظام على قيم أساسية هي النزاهة والمسؤولية والشفافية، والتي تعتبر حاسمة لتحقيق حكامة جيدة. وتشكل هذه القيم في كليتها ثلاثية تتكامل عناصرها وتقوي بعضها البعض. ()

كما يعتبر النظام الوطني للنزاهة جزءا لا يتجزأ من الصراع الشامل ضد الفساد السياسي والاقتصادي وفساد القضاء.

النموذج الوطني للنزاهة في المغرب                                                                   النموذج النظام الوطني للنزاهة بالمغرب

.4.II واقع الشفافية ومكافحة الفساد في المغرب

إن تفكيك منظومة الفساد السائدة ووضع حد للإفلات من العقاب كان ولا يزال على رأس المطالب الملحة للحركة السياسية والاجتماعية المناضلة والجادة بالمغرب، لذا كان أهم شعار رفعته حركة 20 فبراير هو إسقاط الفساد والاستبداد. وقد استغل حزب العدالة والتنمية الإسلامي نفس الشعار في حملته الانتخابية خلال الانتخابات التشريعية التي تلت إصدار دستور 2011 رغم أن هذا الحزب لم يشارك في الحراك الشعبي ولم يسانده بل اعتبره احتجاجا لشباب غير مسؤول قد يجر البلاد إلى حالة من عدم الاستقرار. لكن وبمجرد توليه رئاسة الحكومة، بعدما تصدر نتائج الانتخابات، تنكر لشعار حملته الانتخابية وللوعود التي أعطاها لناخبيه وللبرنامج الحكومي وصرح في أول لقاء تلفزيوني بعبارته الشهيرة “عفا الله عما سلف” عندما سئل عن الإجراءات التي ستقوم بها حكومته لاسترجاع الأموال المنهوبة ومعاقبة المفسدين. وبالفعل فقد تم العفو عن مهربي الأموال إلى الخارج بمقتضى مرسوم، كما يوجد ضمن الحكومة الحالية وزير طالب الشارع المغربي بمتابعته بتهمة نهب المال العام، بل ولقد تمت متابعة موظفين بوزارة المالية بتهمة تسريب وثائق تثبت هذا النهب في إطار ما بات يعرف بعملية “اعطيني نعطيك”.

ويعد الإفلات من العقاب أحد الأسباب الرئيسية التي أدت ولا زالت إلى تفشي الفساد والرشوة في المغرب رغم أن الدستور الجديد يربط المسؤولية بالمحاسبة (فضائح التعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية على عهد رئيسي مجلسها الإداري السابق والحالي، مكتب المطارات…….الخ)، مما يؤثر سلبا على الاقتصاد الوطني بتقليص الاستثمار المنتج وتقويض المنافسة الشريفة وتعطيل تنافسية المقاولات وتعميق الفقر وتهديد السلم الاجتماعي وتخريب البناء الديمقراطي.

ومن جهة أخرى خلصت الدراسة الدولية حول الميزانية المفتوحة التي ساهمت في إعدادها جمعية ترانسبارانسي المغرب بشراكة مع الشراكة الموازنة الدولية (IBP) في نسختها الخامسة إلى أن الحكومة المغربية توفر بالكاد الحد الأدنى من المعلومات المتعلقة بالموازنة للعموم، كما لا توفر أية إمكانية للتتبع الشعبي للميزانية. وقد خلص التقرير أيضا، إلى ضعف آليات المراقبة التي تتوفر عليها كل من السلطة التشريعية والمجلس الأعلى للحسابات لمتابعة الموازنة.

في الوقت ذاته تمثل الصفقات العمومية حصة الأسد من النفقات العمومية وتعتبر شفافية المساطير المتبعة في الصفقات العمومية بما يضمن المنافسة الشريفة وصولا إلى أسعار تنافسية ومعقولة مقابل الأشغال والسلع أو الخدمات المقدمة، حقا أساسيا ومشروعا باعتبارها مدخلا أساسيا لحماية المال العام ومرتكزا رئيسيا لدولة الحق والقانون والنظام الديمقراطي.

وقد سن المشرع المغربي عدة نصوص قانونية لضمان شفافية ونزاهة الصفقات العمومية كان آخرها المرسوم رقم 2.12.349 الصادر في 20 مارس 2013. ()

ولكن الواقع يؤكد أن الصفقات العمومية ورغم كل النصوص القانونية وكل الشعارات الحكومية، لا تزال مجالا خصبا لتفشي الرشوة وجميع أنواع الفساد (صفقة تدبير النفايات بمدينة سلا خلال هذه السنة، صفقة اللقاحات في عهد وزيرة الصحة السابقة……الخ)، مما يؤثر سلبا على جودة السلع والخدمات ويضيع على الدولة مليارات الدراهم، مما يرهن التنمية الاقتصادية والأجيال القادمة عبر الالتجاء إلى القروض.

.5.II واقع الشفافية ومكافحة الفساد في مصر

لم تكن ثورة 25 يناير في مصر مفاجئة لأحد، لكن المفاجأة كانت في توقيت حدوثها، فقد كانت روح الثورة تعتمل في رحم الواقع المصري وخاصة منذ بداية الألفية الجديدة، فلا يكاد يمر يوم إلا ويشهد احتجاجات اجتماعية وسياسية. وفى هذا الصدد تشير العديد من الدراسات والتقارير الحقوقية الخاصة برصد وتوثيق تلك الاحتجاجات أن جملة الاحتجاجات في الفترة من 2006 حتى أبريل 2010، قد بلغت 2026 احتجاجا.

وترجع أسباب هذه الاحتجاجات أساسا إلى الفساد السياسي والإداري اللذان ضربا أرجاء مصر من أقصاها إلى أدناها، والذي تجلى في العديد من المؤشرات منها حالة التفاوت الاجتماعي الحاد بين الأجور في مصر والتي تتمثل في حد أدنى لأجر العامل بخمسة وثلاثين جنيها شهريا أي ما يوازي ستة دولارات شهرية، مقابل أجور شهرية تصل لثلاثة ملايين من الجنيهات الشهرية لأحد رؤساء الصحف المصرية. الأمر الذي وصفته محكمة القضاء الإداري بأنه “لا يجوز لجهة الإدارة أن تترك تحديد أجرة العمال لهوى أرباب الأعمال دون التزام منهم بحد أدني للأجور، مستغلين حاجة العمال إلى العمل، وإجبارهم على تقاضي أجور غير عادلة، لا تتناسب مع الأعمال التي يؤدونها، ولا تساير ارتفاع الأسعار وزيادة نفقات المعيشة”.

كما تمثل الفساد الإداري والمالي في غياب الطابع المؤسسي للدولة واستبداله بتزاوج فادح بين الثروة والسلطة، حيث أصبحت الدولة يتحكم في مسارها الاقتصادي والسياسي حفنة من رجال الأعمال لا يتجاوز عددهم العشرات، وبات واضحا هيمنة السلطة التنفيذية -ممثلة بالتحديد في مؤسسة الرئاسة والإدارات التابعة لها- على باقي السلطات، للدرجة التي كان يجري استخدام السلطة التشريعية لإسباغ الطابع القانوني على ما يتم نهبه من الثروات المصرية.

وهناك العديد من الأمثلة الصارخة الدالة على ذلك مثال قانون مكافحة الاحتكار الاقتصادي الذي تأخر إصداره أكثر من عشر سنوات (جرى النقاش حوله من عام 1994 حتى إقراره في البرلمان سنة 2005) وعندما تم إقراره تغاضى عن الكثير من صور الاحتكار الاقتصادي مثال سيطرة شركة حديد عز التابعة لرجل الأعمال أحمد عز على 72% من سوق الحديد في مصر.

في الإطار ذاته فقد تم استحداث مجموعة من القرارات المتعلقة بإدارة المال العام، التي بموجبها تم حجب رقابة السلطة التشريعية على إدارة المال العام وذلك من خلال استحداث نماذج الشركات القابضة فيما يتعلق بإدارة الموارد الاقتصادية في البلاد. وهذا النوع من الشركات لم يكن متداولا قبل عام 1991 وهو العام الذي صدر فيه القانون “203” المعروف باسم قانون قطاع الأعمال العام، وهو القانون الذي جرت في ركابه سياسة خصخصة شركات القطاع العام وتحويلها إلى ملكية خاصة، حيث شهدت عملية الخصخصة تلك صنوف عديدة من الفساد المالي والإداري والذي تجلى في العديد من الأمثلة، من بينها بيع حصة الدولة المصرية في بنك مصر- أمريكا إلى بنك “كاليون”. () نفس الشيء تكرر مع بيع شركة “عمر أفندي” لشركة أنوال السعودية. ()

وهذا النموذج من الشركات جرى تعميمه في كافة القطاعات الاقتصادية، فقطاع الإسكان شهد إنشاء الشركة القابضة لهيئة المجتمعات العمرانية،() الأمر الذي أتاح التصرف بالبيع في أراضي مصر، وقد تمت عمليات البيع بأسعار بخسة لا تتجاوز الــ21 قرش للمتر مربع أي ما يوازي 3.5 سنت أمريكي مثال شراء الشركة المصرية الكويتية للتنمية والاستثمار لمساحة 109 مليون و200 ألف متر مربع.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل امتد إلى بيع الأرض لأصحاب الأعمال بالأمر المباشر مثال بيع وزارة الإسكان المصرية 13 مليون فدان لرجل الأعمال المصري هشام طلعت مصطفى، لإقامة منتجع سكني باسم “مدينتي” بدون مقابل، بحيث تقوم الدولة بتوفير البنية الأساسية كاملة وذلك دون أي مقابل مالي للدولة على أن تقوم الشركة لاحقا بإعطاء الدولة 7 % من الوحدات السكنية للمدينة. وقد قضت المحكمة المصرية برفض هذا الأمر على اعتبار أن عقد البيع اشتمل على بيع مساحات شاسعة تكفي لإنشاء مدينة بأكملها، جرى إبرامه بالأمر المباشر في خروج سافر وإهدار واضح لأحكام قانون المناقصات والمزايدات، وما تقتضيه أصول الإدارة الرشيدة. ()

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل امتد إلى قطاع الصحة حيث قام رئيس الوزراء المصري (أحمد نظيف) بمخالفة القانون وإصدار القرار رقم 637 لسنة 2007 ()، بتحويل الهيئة العامة للتأمين الصحي التي تقوم بتقديم الخدمة العلاجية لــ52% من الشعب المصري والتي تمتلك منشآت صحية تبلغ 41 مستشفى تم إغلاق ثلاثة منها، ومئات العيادات، وبموجب هذا القرار تم إخراج هيئة التأمين الصحي من الملك العام إلى الخاص وذلك بالمخالفة للدستور ولقانون الهيئة العامة للتأمين الصحي الصادر بالقرار الجمهوري رقم 61 لسنة 1963، ()الأمر الذي دفع محكمة القضاء الإداري المصرية إلى إصدار حكمها بوقف هذا القرار. ()

هذا بالإضافة إلى العديد من صور الفساد الأخرى التي أدت إلى تجريف قطاع الصحة في مصر وغيره من القطاعات الأخرى والتي كانت أحد الأسباب القوية والدافعة لتحريك بركان الغضب في نفوس المصريين وإشعال ثورة الغضب.

الإطار القانوني والمؤسساتي

.1.III الإطار المؤسساتي بالمغرب

يتوفر المغرب على مجموعة من النصوص التشريعية والهيئات الدستورية والتي أنشئ جلها قبل حراك 2011، لكن الدستور الجديد قام بدسترتها ونص على استقلاليتها ووسع من صلاحياتها، إلا أن كل ذلك لا يرقى لمطالب القوى الحية في المجتمع والتي نزلت إلى شوارع البلاد مطالبة بإسقاط الفساد والاستبداد. ونعرض في هذه الورقة لبعض هذه الهيئات والقوانين.

.1.1.III الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها

وقع المغرب على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في 9 ديسمبر 2003، وصادق عليها يوم 9 مايو 2007. وفي إطار تطبيق مقتضيات المادة 6 من هذه الاتفاقية التي تنص على أن الدول الأطراف ملزمة بإحداث هيئة أو هيئات مستقلة للوقاية من الرشوة، () وتنفيذا لمقتضيات الاتفاقية الأممية وتحت ضغط المجتمع المدني الفاعل في مجال محاربة الفساد وخاصة جمعية الشفافية المغربية (ترانسبرانسي المغرب) والشبكة المغربية لحماية المال العام (الهيأة المغربية لحماية المال العام سابقا) تم إحداث الهيأة المركزية للوقاية من الرشوة بمقتضى المرسوم رقم 2-05-1228 الصادر بتاريخ 13 مارس 2007. ()

وقد أنيطت بالهيئة المركزية مهام استشارية لا ترقى لطموحات الفاعلين في مجال محاربة الفساد المالي والإداري ولا تحترم المادة السادسة من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد حيث تقتصر مهام الهيأة على تقديم المقترحات وإبداء الآراء للحكومة وإخبار السلطة القضائية فيما يخص القضايا المرتبطة بالرشوة وجمع ونشر المعلومات المتعلقة بهذا المجال.

إضافة، يعد غياب الاستقلالية المالية والإدارية عن السلطة التنفيذية كما تنص عليه الاتفاقية الأممية وعدم الأهلية القانونية لتحريك المتابعة من الأسباب الأساسية التي تعوق عمل هذه الهيأة.

وقد نص دستور فاتح يوليو 2011 الذي جاء كنتيجة مباشرة للحراك الشعبي الذي عرفه الشارع المغربي في إطار ما سمي بالربيع العربي، على إحداث صيغة جديدة للهيأة وهي “الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها” وذلك وفق مقتضيات الفصلين 36 و167، كما أقر الفصل 159على مبدأ استقلاليتها واستقلالية كافة هيئات الحكامة الجيدة. ()

لكن مشروع القانون 12. 113 المتعلق بإحداث الهيئة الوطنية للنزاهة الذي أعدته الحكومة لا يترجم التزامات الدولة تجاه المعاهدات التي وقعتها ولا المقتضيات الدستورية فيما يتعلق بمهامها واختصاصاتها التي تقتصر في هذا المشروع على الاستشارة والدراسة والتوعية وتلقي الشكاوى وإحالتها على النيابة العامة، وفيما يتعلق باستقلاليتها المالية والإدارية من حيث تشكيلة أجهزتها وطرق تعيينها. ()

.2.1.III المجلس الأعلى للحسابات

نص دستور 2011 في الفصل 147 من الباب العاشر على أن المجلس الأعلى للحسابات هو الهيأة العليا لمراقبة المالية العمومية بالمملكة. كما حدد نفس الفصل مهامه واختصاصاته المتمثلة في تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة، بالنسبة للدولة والأجهزة العمومية.

ويتولى المجلس الأعلى للحسابات ممارسة المراقبة العليا على تنفيذ قوانين المالية، ويتحقق من سلامة العمليات المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبته بمقتضى القانون، ()ويقيم كيفية تدبيرها لشؤونها، ويتخذ، عند الاقتضاء، عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة.

بالإضافة إلى ذلك أناط الدستور بالمجلس مهمة مراقبة وتتبع التصريح بالممتلكات، وتدقيق حسابات الأحزاب السياسية، وفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية.

وأناط به كذلك مهمة تقديم المساعدة للبرلمان في المجالات المتعلقة بمراقبة المالية العامة وتقديم الاستشارات المرتبطة بوظائف البرلمان في التشريع والمراقبة والتقييم المتعلقة بالمالية العامة، وأيضا تقديم مساعدة الهيئات القضائية والحكومة في الميادين التي تدخل في نطاق اختصاصاتها بمقتضى القانون.

كما يقوم المجلس بمراقبة مالية الجمعيات بناء على منشور رئيس الحكومة بشأن مراقبة المجلس الأعلى للحسابات لاستخدام الأموال العمومية، وفي إطار المساعدة المقدمة للحكومة طبقا للفصل 148 من الدستور، وكذا الاختصاصات المسندة إلى المجلس الأعلى للحسابات والمنصوص عليها في مدونة المحاكم المالية.

ومن الإشكالات التي تقف في وجه عمل المجلس الأعلى للحسابات، هو أن تقاريره تفتقر للوثائق والأدلة التي تثبت الاختلالات التي ترصدها. إضافة فوزارة العدل غير ملزمة بقوة القانون بتحريك المتابعة في حق كل مؤسسة تعرض لها المجلس في تقريره، حيث يمكن لوزير العدل أن يحتمي بسلطته التقديرية في الإحالة. وهكذا لا تعرف العديد من الملفات طريقها إلى القضاء وتظل حبيسة رفوف المجلس، خصوصا حينما يتعلق الأمر بمؤسسات عمومية ذات طابع خاص. والملفات التي أحيلت على القضاء كانت انتقائية وتدخل في إطار تصفية حسابات سياسية ليس إلا.

.3.1.III مجلس المنافسة

في إطار تبني النظام المغربي لاقتصاد السوق، كخيار لسياسته الاقتصادية وتشجيع الاستثمار الأجنبي، تم سن القانون رقم 06.99 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة سنة 2001. وينص هذا القانون على إحداث مجلس المنافسة الذي أنيطت به مهمة مكافحة الممارسات المنافية للمنافسة ومراقبة احتكار وسائل الإنتاج. ولم يرى النور هذا المجلس إلا سنة 2009، لكن دوره الاستشاري لم يمكنه من الحد من الفساد داخل النسيج الاقتصادي مما استوجب مراجعة اختصاصاته من خلال إصدار قانونين جديدين سنة 2014 بعدما تم التنصيص عليه في الفصل 166 من الدستور الجديد الذي صدر في أعقاب الاحتجاجات التي عرفها الشارع المغربي التي دعت إليها حركة 20 فبراير سنة 2011.

وهكذا تم توسيع مجال تدخل مجلس المنافسة وصلاحياته، حيث أصبح من صلاحياته حق التقرير والإحالة الذاتية والتحري والمرافعة وهي الصلاحيات التي من المفترض أن تخول له إمكانية نشر أخلاقيات المنافسة النزيهة في السوق والحد من حالات عدم احترام شروط هذه المنافسة اعتمادا على تحليل واقع المنافسة في السوق الوطنية ومراقبة الممارسات المنافية لها والممارسات التجارية غير المشروعة وعمليات التركيز الاقتصادي والاحتكار.

لكن بالرغم من هذه الترسانة القانونية فواقع الحال يبين أن لوبيات الاقتصاد لا زالت تشتغل بنفس الأساليب للحفاظ على مصالحها.

.4.1.III مؤسسة الوسيط

تم إحداث مؤسسة الوسيط بمقتضى الظهير رقم 1-11-25 الصادر بتاريخ 17 مارس 2011 في خضم الحراك الشعبي الذي عرفه الشارع المغربي ومباشرة بعد خطاب 9 مارس وهي مؤسسة أنشئت لتعوض ديوان المظالم الذي كان قد أحدث سنة 2001 كوسيلة غير قضائية تلعب دور الوساطة بين المواطنين والإدارة لرفع الظلم أو الشطط ().

وقد تم التنصيص على اختصاصاتها وصلاحياتها بمقتضى ظهير ملكي، كما تمت دسترتها بمقتضى الفصل 162 من دستور فاتح يوليوز 2011 الذي عرفها بأنها مؤسسة وطنية مستقلة ومتخصصة، مهمتها الدفاع عن الحقوق في نطاق العلاقات بين الإدارة والمرتفقين، والإسهام في ترسيخ سيادة القانون، وإشاعة مبادئ العدل والإنصاف، وقيم التخليق والثقافة في تدبير الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية والهيئات التي تمارس صلاحيات السلطة العمومية. ()

لكن مؤسسة الوسيط وكما ينص على ذلك نفس الظهير، تعتبر غير مختصة للنظر في القضايا المتعلقة بالتظلمات الرامية إلى مراجعة حكم قضائي نهائي، أو الشكايات المعروضة على القضاء، أو القضايا التي تدخل في اختصاص المجلس الوطني لحقوق الإنسان. كما أبانت التقارير السنوية التي تقدمها المؤسسة على محدودية دورها نظرا لعدم تفاعل مختلف الإدارات مع مراسلاتها.

.5.1.IIIالحق في الحصول على المعلومات

يكتسي موضوع الحق في الحصول على المعلومات أهمية خاصة، ليس فحسب لارتباطه بالحقوق الأساسية، ولكن أيضا لكون هذا المطلب يشكل المدخل الرئيسي للوقاية من الفساد وترسيخ أسس المنظومة الوطنية للنزاهة.()

وقد أقر دستور 2011 هذا الحق من خلال مقتضيات الفصل 42، لكن مشروع القانون رقم 13- 31 الذي صادقت عليه الحكومة في مجلسها المنعقد بتاريخ 13 يوليو 2014، يفرغ المقتضيات الدستورية من مضامينها ويقطع مع المعايير الدولية في هذا المجال بتقنينه للالتفاف على الحق في الحصول على المعلومات، حيث تمت صياغة الاستثناءات بطريقة واسعة وغامضة تسمح بتأويلات تقييدية لهذا الحق. كما اقتصر حق تقديم الطلبات على من لديه مصلحة مباشرة وإلزامه بتحديد الغرض من المعلومات المطلوبة وإنزال عقوبات جنائية به في حالة استخدامها لأغراض غير تلك التي تم تحديدها في الطلب. ()

وتجدر الإشارة أن هذا المشروع تم تحضيره من طرف الحكومة بتكتم شديد وبدون أية استشارة مع مختلف الفاعلين في محاربة الفساد.
.2.III الإطار المؤسساتي الخاص بمكافحة الفساد بمصر

هناك عدد من المؤسسات في مصر تلعب دورا في الرقابة على الأموال العامة وأيضا الرقابة على السياسات والتشريعات توضع بواسطة السلطة التنفيذية أو التشريعية من بينها المحكمة الدستورية العليا التي تقوم بالرقابة اللاحقة على التشريعات والقوانين المصرية والجهاز المركزي للمحاسبة، بالإضافة إلى عديد من الأجهزة الرقابية الأخرى لكننا نكتفي في هذا السياق بعدد من الأطر المؤسساتية التي نراها على درجة كبيرة من الأهمية.

.1.2.III الموازنة العامة للدولة

تعد الموازنة العامة للدولة واحدة من الأدوات الخاصة بالرقابة والمحاسبة التي تتعلق بإدارة نفقات وإيرادات الدولة المصرية. فقد شهدت مصر في عام 2006 إجراء تعديلات دستورية على دستور 1971، الذي كان قائما قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير. وقد استهدفت التعديلات التي أجريت على الدستور فيما يتعلق بالجوانب المتعلقة بالشفافية من بينها الموازنة العامة، حيث أنه وبموجب الدستور المصري لسنة 1971 وقبل إجراء تلك التعديلات كان ينص في مادته الــ(115) بأنه لا يجوز لمجلس الشعب أن يعدل مشروع الموازنة إلا بموافقة الحكومة “، ومن ثم كان جل ما يقوم به مجلس الشعب آنذاك هو تقديم مجرد اقتراحات، ولم يكن له الحق في تعديل مشروع الموازنة ومن ثم عدم قدرة البرلمان على رفض الموازنة. ولكن وبعد التعديلات التي تمت عام 2006 أصبح بموجب المادة (115)، حق مجلس الشعب في تعديل النفقات الواردة بمشروع الموازنة عدا التي ترتب تنفيذ التزامات على الدولة وبموجب هذا التعديل أصبح بمقدور المجلس اقتراح أي تعديلات سواء بالحذف أو الإضافة على مشروع الموازنة، وتضيف ذات المادة بأنه “إذا لم يتم اعتماد الموازنة الجديدة قبل السنة المالية عمل بالموازنة القديمة لحين اعتمادها” وهو ما يعنى قدرة المجلس في تأجيل العمل بالموازنة الجديدة وبالتالي قبولها أو رفضها. ولم يختلف دستور 2014 في المادة 124 عما سبق وتم من تعديلات في عام 2006.

في السياق ذاته، أعطت التعديلات الدستورية التي تم إجراؤها عام 2006، مزيدا من الوقت لسلطة مجلس الشعب المصري (البرلمان) لفحص وتدقيق الموازنة مدة ستة أشهر كاملة قبل بدء السنة المالية الجديدة، بدلا من فترة ثلاثة أشهر التي كان معمولا بها وفقا لنص المادة (118) من دستور 1971 قبل إجراء تلك التعديلات. كما كان النص السابق لتلك المادة يعطي الحكومة مدة سنة كاملة لعرض الحساب الختامي للموازنة على مجلس الشعب (البرلمان) في حين جاء التعديل ليقصر تلك المدة إلى ستة أشهر فقط بما يعطى مزيدا من الشفافية ومنح البرلمان المزيد من إحكام الرقابة المالية على الموازنة العامة للدولة.

.2.2.III المجالس المحلية

تعد المجالس المحلية واحدة من المؤسسات الهامة التي تساعد في تعميق المعايير الخاصة بالشفافية والمحاسبية وعلى الرغم مما جاء به الدستور المصري في 2014 من إجراء تعديلات هامة على دور المجالس المحلية من بينها المادة 178 التي تنص على وجوب أن يكون للوحدات المحلية موازنات مالية مستقلة. وما ذهبت إليه المادة 189 من قيام كل مجلس محلي بوضع موازنته، وحسابه الختامي، على النحو الذي ينظمه القانون. كما أكد الدستور أيضا على عدم جواز حل المجالس المحلية بإجراء إداري وينظم القانون طرق حلها وإعادة انتخابها، وهي بلا شك تطورات هامة وذات طابع إيجابي مقارنة بدستور 1971، وإن كانت ترجع الأمر في الكثير من المناحي الخاصة بها للقانون.
.3.2.III حق المواطنين في الرقابة على أعمال الحكومة والبرلمان

جاء الدستور المصري بمادة جديدة مستحدثة تتيح لكل مواطن أن يتقدم بمقترحاته المكتوبة إلى مجلس النواب بشأن المسائل العامة، وله أن يقدم إلى المجلس شكاوى يحيلها إلى الوزراء المختصين، وعليهم أن يقدموا الإيضاحات الخاصة بها إذا طلب المجلس ذلك. ويحاط صاحب الشأن بنتيجتها، الأمر الذي يعطي إمكانيات أوسع لمشاركة المجتمع والمواطنين في مراقبة الشأن العام ومن بينها إعمال آليات الشفافية والمحاسبة.

خلاصات وتوصيات

.1.IV بعض الخلاصات

يتضح أن تغافل الاتفاقيات الدولية وخاصة الإطارية منها النظم الاقتصادية والسياسية الفاسدة التي تعيد إنتاج الفساد، والاقتصار على تعريف ظاهرة الفساد باعتبارها جريمة سرقة أو رشوة لموظف عام أو خاص وباعتبارها ظاهرة فردية يجب محاربتها، لا يمكن من الحد من هذه ظاهرة. ومن تم، يجب التأكيد مثلا على ضرورة تضمين النظم السياسية غير الديمقراطية والتي لا تلتزم بمعايير الشفافية كاستقلال القضاء ونزاهة العمليات الانتخابية، باعتبارها من الممارسات الفاسدة التي يتوجب مكافحتها.

كما يتضح أن أهم النتائج التي يمكن استخلاصها فيما يتعلق بموضوع الفساد والشفافية في بلدان الربيع العربي وخاصة المغرب ومصر، هو استمرار نمط الفساد وإعادة إنتاجه. حيث لا زالت أوضاع الفساد قائمة ولم تتقلص معدلاته سواء قبل عام 2011 أو بعده، ومن ثم تظل إمكانية الوصول لمقتضيات العدالة في حدودها الدنيا غائبة.

ولعل التناقضات الواضحة بين الحقوق التي ترد بالدساتير وخاصة الدستور المغربي والمصري فيما يتعلق بإعمال المعايير المتعلقة بالشفافية ومكافحة الفساد وبين التشريعات والقوانين التي تعكس تلك الحقوق حيث تفرغها من محتوياتها، راجعة بالأساس إلى ما ذهبت إليه الدساتير في إرجاع تنفيذ الحقوق التي ترد بالدساتير إلى القوانين التي تفرغها من محتواها (الحق في الوصول إلى المعلومات، الهيئات الوطنية للنزاهة ومحاربة الفساد…..).

وفي نفس السياق، لا زالت الموازنة في المنطقة، تعتمد في إعدادها على كونها مجرد بيان مالي دون الاهتمام الكافي بتعديلها بحيث تقوم على قاعدة البرامج والأداء. ففي مصر مثلا ورغم أن قانون الموازنة العامة للدولة قد أعطى فترة انتقالية مدتها خمس سنوات كفترة انتقالية منذ 2005، إلا أنه حتى الآن، لم يتم إجراء التعديل المطلوب. ()كما أن غياب المقاربة التشاركية في إعداد الموازنة وسيادة المركزية الشديدة رغم كل دعاوي اللامركزية في برامج الإصلاح المختلفة، تحد من إمكانية إشراك المواطنين في إعداد الموازنة.

ومن جهة أخرى، لا زالت الانتخابات التشريعية والمحلية لا تتمتع بالنزاهة الكافية وذلك فيما يتعلق بكافة إجراءات العملية الانتخابية، الأمر الذي يأتي بمجالس لا تعبر عن الإرادة الحرة للناخبين. ومما لا شك فيه فإن افتقاد العملية الانتخابية لمعايير النزاهة تنعكس سلبا على عملية ومراحل إعداد الموازنة والموافقة عليها أو رفضها من قبل المجالس المنتخبة.

.2.IV بعض التوصيات

وضع استراتيجية واضحة تشمل تنفيذ جميع الالتزامات الدولية والدستورية في هذا المجال، كإصلاح القضاء، وإصلاح المنظومة التشريعية وتمتيع هيئات المراقبة والتفتيش بالصلاحيات اللازمة ووسائل العمل الضرورية، وربط المسؤولية بالمحاسبة؛

  • ضرورة اعتماد موازنات وبرامج الأداء كأحد الأدوات في إعمال مبادئ المحاسبة والشفافية؛
  • اعتماد مبدأ وجود لجان استماع حول إعداد الموازنة؛
  • إعمال مبدأ المشاركة والرقابة الشعبية (منظمات المجتمع المدني، النقابات المهنية والعمالية، الأحزاب…الخ) في إعداد وتنفيذ الموازنة وما يستوجب ذلك من تعديلات للعديد من القوانين؛
  • ضرورة تأكيد مبدأ اللامركزية في إدارة الشؤون الجهوية والمحلية وإعداد الموازنة في البلدان العربية؛
  • ضمان نزاهة الإجراءات المتعلقة بعملية الانتخابات التشريعية والمحلية، من تأكيد معايير النزاهة والإشراف الكامل للقضاء على العملية الانتخابية من بدايتها لنهايتها، وضمان مبدأ استقلال القضاء، وما يستلزم ذلك من تعديلات للقوانين التي لها علاقة بذلك.

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart