هل يَنجح تأسيس شركة أهلية في جمنة في الحفاظ على تجربة الاقتصاد التضامني؟
في الاجتماع العام الذي دَعَت له جمعية حماية واحات جمنة، يوم السبت 24 فيفري 2024، لمناقشة الإجراءات والتراتيب التي تؤدّي لبعث شركة أهليّة تعوّض الجمعية الحالية، استقرَّ الخيار على الموافقة على تأسيس شركة أهليّة لإدارة وتسيير الضيعة التي تُديرها جمعية حماية واحات جمنة حاليا. يأتي هذا الحسم نحو الشركة الأهلية، بعد مناقشات استمرّت فترة طويلة منذ خريف العام الفارط، وتخلّلَتها اجتماعاتٌ عامّة حَضرهَا ممثلون ومسؤولون عن ملفّ الشركات الأهلية بوزارة الشؤون الاجتماعية، وذلك بعد صدور المرسوم المنظم للشركات الأهلية (مرسوم عدد 15 لسنة 2022 مؤرخ في 20 مارس 2022 يتعلق بالشركات الأهلية).
جَاءت فكرة الشركات الأهلية كعنوان بارز في المشروع السياسي للرئيس سعيد. وقد سَعت السلطة الحالية ومسؤوليها طيلة الفترة السابقة للدفع بجمعية حماية واحات جمنة نحو الذهاب في هذا المسار. لم تكن النقاشات في جمنة سهلة، لأنها تطلّبت أشهرًا وتخلّلَتها اجتماعات عامة مع المواطنين في المنطقة.
منذ بداية النقاشات، تَعلّقت التساؤلات أساسا بالإمكانات القانونية والواقعية التي يُوفّرها الإطار القانوني للشركات الأهلية، حتى تَكون مناسبة لتجربة جمنة، ولا تمسّ بروح الاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي كرّسته التجربة، خُصوصا أمام انسداد الآفاق وعدم الوصول إلى حلول مقبولة لإشكالية “هنشير” جمنة طيلة 12 سنة، رغم التواصل مع كلّ الحكومات منذ الثورة وسعي الجمعية إلى الوصول إلى حلّ قانوني “يضمن هيبة الدولة وحق أهالينا في أرضهم ونخيلها”، مثلما أكّدَه أعضاء الجمعية. ظهرَ هذا الحرص في البحث عن حلّ قانوني من خلال التمسّك أولاً بالفصل 14 من قانون عدد 21 لسنة 1995، وهو القانون الذي يُنظّم تسويغ الأراضي والعقارات الدّولية. ومن الملاحظ أن هذا الحلّ القانوني الذي عَرضَته الجمعية لم يَقبله كل الوزراء باستثناء غازي الشواشي وزير أملاك الدولة في حكومة إلياس الفخفاخ. ولكن لاعتبارات “سياسوية” سقطَت الحكومة سريعا قبل إمضاء الاتفاق. وتواصلَ هذا السعي مع صدور قانون الاقتصاد الاجتماعي التضامني في جوان 2020 (قانون عدد 30 لسنة 2020) الذي خلق تفاؤلاً لم يستمرّ، لأنّ القانون لم يَجِد طريقه للتطبيق العملي، حيث لم تصدر أوامره التطبيقية.
فاقمت سياسات التّجاهل التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة وعدم الجدية في المعالجة القانونية لهذه الوضعية، من الأعباء التي تحمّلتها تجربة جمنة في إدارة وتسيير الضيعة، خصوصا بعد تعثر التفاوض مع الدولة والوزراء الذين تداولوا على المسؤولية سواء في وزارة أملاك الدولة أو الفلاحة، أو داخل مجلس النواب الذي أقرّ مشروع قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بعد تعديلات أخلّت بالنسخة الأولى لمشروع القانون التي قدّمها الاتحاد العام التونسي للشغل. وقد انتهى هذا المسار إلى تخلي السلطة في 25 جويلية 2021، منذ إعلان “التدابير الإستثنائية”، عن قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني و إعلان مرسوم الشركات الأهلية الذي صدرَ بعد أقل من تسعة أشهر من ذلك التوقيت. وبذلك ظل إيجاد الإطار القانوني الملائم لتجربة جمنة مرتبطا بالتغيرات السياسية التي شهدتها البلاد. ومرّت التجربة بمراحل مختلفة ارتهنت لموقف الحكومات المتعاقبة. في الأثناء، فشلت كل الحكومات في القضاء على التجربة، رغم محاولة حكومة يوسف الشاهد سنة 2016 -وخاصة كاتب الدولة ثم الوزير لأملاك الدولة والشؤون العقارية مبروك كورشيد- محاصرة التجربة، ثم محاولة فرض نموذج شركة إحياء فلاحي وتنمية فلاحية، وهو ما قُوبل بالرفض نظرا للطابع التجاري لشركات الإحياء الذي يتناقض مع المبادئ التي رسّخَتها التجربة.
ما بين حلّ يحافظ على مكتسبات التجربة ومحاولات الاحتواء السياسي والقانوني
تأتي اليوم محاولة التأطير القانونيّ لتجربة جمنة كحلّ لحالة الفراغ القانوني، مثلما يؤكد المشرفون على جمعية حماية واحات جمنة. وبالعودة إلى النقاشات المواطنية التي تمّ إجراؤها في جمنة بخصوص المقترح المتمثل في تأسيس شركة أهلية محلية، لا يبدو أن الذهاب نحو هذا الخيار يَنبع عن قناعة بأن هذا الحلّ القانوني بإمكانه أن يُلبّي حاجيات تجربة جمعية حماية واحات جمنة، بقدر ما يمثلّ حلاًّ أمام انسداد الأفق القانوني، مثلما عبّرت عن ذلك جمعية حماية واحات جمنة أثناء الدعوة للاجتماع الذي نُوقشت فيه مسالة اللجوء لبعث شركة أهلية. وأشارت الجمعيّة إلى أنّ “الهدف منه هو المحافظة على التجربة وعلى الهنشير”. كما دعت الجمعية قبل الاجتماع، الذي انعقد أواخر فيفري الفارط، كل الرافضين لمقترح تأسيس شركة أهلية للمشاركة في النقاش حول هذا المقترح.
أحد الإشكالات التي طُرحت في الطريق أثناء اللجوء لهذا الحل، هو مسألة المساهمات عبر الأسهم وإمكانية توزيع الأرباح والفوائض التي يُتيحها مرسوم الشركات الأهلية بنسبة لا تتجاوز 35 بالمائة. إضافة إلى اقتصار النسبة التي تُخصّص للأنشطة الاجتماعية والثقافية والبيئية على حدود لا تتجاوز 20 بالمائة، وهو ما يُمثّل تعسفًا على المبادئ التي شكّلَت الأساس لتجربة جمعية حماية واحات جمنة كنموذج للاقتصاد الاجتماعي والتضامني. إذ أن الأرباح التي تحقّقَت في الفترة السابقة تم الاستفادة منها عبر توظيفها في مشاريع اجتماعية ترجع بالفائدة على مجموع المواطنين في جمنة.
هناك أيضا إشكال آخر مُتعلق بروح القوانين التي يتمّ تشريعها، سواء في فترة الحكومات السابقة أو خلال الرئاسة الحالية التي تعاظَمَ نفوذها منذ 25 جويلية ممّا أدّى لسنّ دستور يكرّس نظاما مركزيا من حيث موقع رئاسة الجمهورية كسلطة وحيدة واعتبار بقيّة السلطات مجرد وظائف. إذ أنه عوض أن تَعكس القواعد القانونية التي يتمّ سنّها مصالح المجتمع وخاصة الطبقات والفئات الأكثر هشاشة، والاستفادة من الممارسات المحلية، فإنها تَهدف إلى خلق إطار قانوني من الأعلى لتأطير الواقع المحلي. وهو نفس الشيء الذي حدث مع قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني -على أهميته- الذي وضع بنية قانونية لا تعكس بالضرورة الحاجيات الواقعية والمثال هنا تجربة جمنة. وفي الحالتين، لم يتمّ الاستماع لوجهات نظر الفاعلين، على غرار جمعية حماية واحات جمنة عند صياغة ومناقشة مشروع قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وهي إحدى المؤاخذات التي وُجّهت لمراحل صياغة المشروع منذ أن قدّمه الاتحاد العام التونسي للشغل، أو فيما بعد عند مروره لمجلس النواب. أما في ما يتعلق بمرسوم الشركات الأهلية، فإن النص الرئاسي صَدرَ بشكل سلطوي ومركزي، من دون إجراء أي تشاور مع أيّ جهة كانت. بما جعله نصًّا وضع بمعزل عن أي نقاش عام أو استماع لتصوّر الفاعلين، بما فيهم جمعية حماية واحات جمنة.
كما أن مرسوم الشركات الأهلية يُسنِد دورًا محوريا للسلطات الجهوية (الوالي) والمركزية (وزير الاقتصاد)، وهو ما يُمثّل ضربًا لمبدأ الاستقلالية الذي يشكّل أحد مبادئ الاقتصاد الاجتماعي والتضامنيّ. إضافة إلى أنّ نصّ المرسوم لم يُشر للأراضي الدولية، واكتفى فقط بالإشارة إلى الأراضي الاشتراكية. والحال أن وضعيّة جمنة تتعلّق باستغلال أرض دولية. كما أن عدم صدور الأوامر الترتيبية المتعلقة بالمرسوم، يؤسس لضبابية قانونية لم يحسمها القانون إلى حدّ الآن، ويمكن أن يتمّ استغلالها في المستقبل لتفسيرات ونصوص ترتيبية لا يُعلم محتواها أصلاً. وكل هذا لا يشكّل ضمانا حقيقيا للمحافظة على روح تجربة جمنة والمبادئ التي رسّختها عبر الممارسة.
التحدّي الذي تقف أمامه جمنة هو الحفاظ على روح التجربة عبر تجاوز العقبات القانونية التي لا تحترم قواعد التجربة التي راكمتها جمعية حماية واحات جمنة، وضمَنت لها تماسكا مواطنيا حولها ودفاع الأهالي عنها أمام محاولات السلطات المتتالية محاصرتها. كما أعطتها إسنادًا وتضامنا على المستوى الوطني من الفاعلين الذين دعموا التجربة.
محطّات هامّة في تاريخ التجربة
مُنذ ثورة 2011، شَهدت جمنة احتجاجات شَمِلَت طرد المستثمرين في هنشير ستيل، الذي كانت الدولة تسوّغه لشركتين بمقابل زهيد، دون أن يَعود بفائدة لسائر المواطنين الذين أكّدوا أن الهنشير كان ضحية عملية استيلاء منذ عهد الاستعمار الفرنسي الذي استحوذ على الأرض وعاملَ المتساكنين كيَدٍ عاملة رخيصة. وهو ما لم تقُم سياسات دولة الاستقلال بتغييره بشكل جذري، رغم وعودها التي قدّمَتها لمتساكني جمنة. مَرَّ هنشير جمنة بثلاث مراحل:
الأولى، عندما تعهّدَت الدولة للمتساكنين بإرجاع الأرض لهم بعد اعترافها بأحقية ملكيتهم لها، ثم تراجَعَت عن ذلك رغم دفع عدد من المتساكنين مبالغ مالية مقابل شراء النخيل الذي تمّت غراسته في الفترة الاستعمارية من قبل أجدادهم الذين اشتغلوا فيه بالسخرة. أدى تراجع الدولة إلى اكتشاف أن الأموال التي قدّموها -والتي احتفظوا بوثائق تثبت ذلك- قد تمّ استثمارها في مشاريع تعاضدية أثناء مرحلة التعاضد الدستورية.
والمرحلة الثانية، بدأت عندما قامت الدولة بتأسيس ضيعة تُديرها الشركة التونسية لصناعة الحليب (ستيل) –ومنه أخذت الضيعة إسمها فيما بعد- وهي شركة شبه حكومية تمّت إدارتها بطريقة شبه عائلية داخل دوائر الوزراء طيلة فترة الحكم البورقيبي.
أما المرحلة الثالثة فقد انطلقت مع إفلاس شركة ستيل في 2002 وتسويغ الدولة للضيعة لصالح مستثمرين خواصّ كجزء من سياسات الخوصصة التي دعّمَهَا نظام بن علي.
لذلكَ مثلت الثورة الفرصة التي تمكّن فيها مُتساكنو جمنة من استرجاع الهنشير الذي تمّت إدارته شعبيّا عبر رابطة حماية الثورة، إلى حين حلّها تزامنا مع انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011. بعد ذلك تأسست جمعية حماية واحات جمنة، والتي حافظت على وحدة الهنشير وعدم تقسيمه، ووِحدة المنفعة العامة والجماعية. طيلة تلك الفترة وإلى حدود سنة 2016 -عندما حاول كاتب الدولة لأملاك الدولة والشؤون العقارية، مبروك كورشيد، منع الجمعية من إنجاز بتة (مزاد) بيع تمور 2016- نالَت التجربة اهتماما وطنيا ودوليا. وشهدت تلك الفترة تضامنا واسعًا ضد سياسة المحاصرة التي سعى إليها مبروك كورشيد، عبر تجميد الحسابات البنكية للجمعية، بعد فشله في منع بتّة (مزاد) ذلك الموسم، ودخوله في مفاوضات مع الجمعية دون أن تفضي إلى حلّ قانوني مُرضي للجمعية ومواطني جمنة. واستمرّت المفاوضات مع الحكومات المتعاقبة، من دون أن تؤدّي أيّ منها لإيجاد حلّ قانوني يَحفظ مكتسبات التجربة. أدّت سلسلة النضالات إلى محافظة الجمعية على إدارة وتسيير الهنشير. أما اليوم، يأتي خيار الشركة الأهلية كـ”حلّ قانوني”، تراه الجمعية الخيار الوحيد المتاح رغم التحدّيات والإشكالات التي يثيرها. وهو ما يجعله حلّا غير مُرضٍ بالضرورة، لكنه العرض المقدم من قبل السلطة في المرحلة الحالية. ويندرج هذا العرض القانوني الذي لجأت إليه الجمعية للمحافظة على واحات جمنة، ضمن السياق السياسي الضاغط الذي يُهيمن فيه الرئيس سعيد على الحياة السياسية في البلاد.
تجربة جمنة وتحديات أخرى مهمة
من المهمّ أن لا يَحجب هذا النقاش القانوني بعض النقاط الأخرى، التي ظلّت مؤجلة بحكم أن المرحلة الحالية مثلت ضغطا على تجربة جمعية حماية واحات جمنة نحو التركيز على إيجاد حلّ قانوني، وهو ما مثّل عائقا نحو تطوير التجربة، مثلما عبّر عن ذلك أعضاء الجمعية خلال مناسبات عدة. من بين هذه النقاط: التأثيرات المناخية على إنتاج التمور، وهي تطورات تشهدها جهة نفزاوة والفلاحون في قطاع التمور بشكل عام. إضافة إلى أهمية التفكير في بدائل تتجاوز الفلاحة الأُحَادية المختصة فقط في إنتاج التمور والتفكير في إمكانيات تطوير الضيعة بما يعطي أولوية لانعكاسات كل ذلك على حاضر ومستقبل المنطقة. إضافة إلى كيفية التعامل مع صابة التمور من ناحية التصرف فيها بشكل أكثر إنصافًا. إذ أنّ الاعتماد على بيع التمور بطرق أخرى دون المرور ببتة (مزاد) مثّل أحد الحلول التي لجأت إليها جمعية حماية واحات جمنة الموسم الفارط، لأنه الأكثر إنصافا، وهو ما يُمكّن من التركيز على المحافظة على الدور الاجتماعي للتجربة وتحقيق المصلحة العامة والجماعية لمتساكني جمنة.