مفهوم السيادة الغذائية

مفهوم السيادة الغذائية

في مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والبيئية التي أبرزتها الأزمة الصحية العالمية المرتبطة بفيروس كوفيد-19، طرحت جهات عديدة السيادة الغذائية كبديل ممكن لمواجهة عطب النظام الغذائي المهيمن حاليا والقائم على سياسات الأمن الغذائي وتحكُم الشركات والإنتاج الزراعي الرأسمالي.  نحاول هنا تقديم وصف مبسط وغير مخل لمفهوم السيادة الغذائية وجوانبها المتعددة.

تم تعريف مفهوم “السيادة الغذائية” لأول مرة من طرف حركة طريق الفلاح الدولية la Via Campesina [1] في قمة الغذاء التي نظمتها منظمة “الفاو” بروما عام 1996 ، بأنها “حق الشعوب في الغذاء الصحي والملائم ثقافيا من خلال أساليب سليمة بيئيا ومستدامة، وحقها في تحديد طعامها والنظم الزراعية المناسب للظروف الخاصة بها”. ومنذ ذلك الحين، بدأت السيادة الغذائية تتطور كإطار بديل للتيار الرئيس المهيمن على النظم الغذائية والزراعية. وفي العام  2007 ، خلال المنتدى  الدولي للسيادة الغذائية  المنعقد في قرية تيليني بمالي، أطلقت وثيقة نيليني مفهوما أوسعا للسيادة الغذائية مفاده أنها : ” حق الشعوب والمجتمعات المحلية والبلدان في تحديد سياساتها الخاصة بالزراعة والعمالة الزراعية وصيد الأسماك والغذاء والأراضي بطريقة ملائمة بيئيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا لظروفها. ويشمل الحق في الغذاء وإنتاج الغذاء أن لجميع الناس الحق في النفاذ لغذاء آمن ومغذ ملائم ثقافيا والنفاذ لموارد إنتاج الغذاء والقدرة على إعالة أنفسهم ومجتمعاتهم. تولي السيادة الغذائية الأولوية لحقوق الناس والمجتمعات المحلية في إنتاج الغذاء واستهلاكه، سابقا للاعتبارات التجارية والأسواق العالمية” [2].

تعطي السيادة الغذائية الأولوية للاقتصادات والأسواق المحلية والوطنية، ولتمكين الزراعة التي يقودها الفلاحون والأسر المزارعون، والصيد الحرفي، والرعي بقيادة الرعاة، وإنتاج الغذاء. وهي تدعم إعداد الأغذية وتوزيعها واستهلاكها على أساس الاستدامة البيئية والاجتماعية والاقتصادية. وتتبنى أنظمة إنتاج وتوزيع تحمي الموارد الطبيعية وتحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وتجنب الأساليب الصناعية كثيفة الاستخدام للمبيدات والأسمدة والطاقة التي تضر بالبيئة وصحة المنتجين والمستهلكين. حيث تفضل التقنيات الزراعية التي تعزز استقلال الفلاحين مثل الزراعة البيئية. ويجب أن نشير هنا إلى أن السيادة الغذائية لا تطالب بتحويل البيئات الريفية والمصائد السمكية والمناظر الطبيعية وتقاليد الأغذية إلى معارض قديمة أو متاحف بالية للأشكال البدائية للإنتاج، بل تروم بشكل أساسي إعادة تأهيل نظم الإنتاج المحلية على أساس الإدارة المستدامة بيئياً للتربة والمياه والبحار والبذور والثروة الحيوانية وجميع أنواع التنوع البيولوجي الأخرى. فالهدف هو تطوير الزراعات المحلية وأساليب الصيد والرعي بما يحفظ التقاليد ويدعم التحول إلى أساليب أكثر احتراما للبيئة وللمنتجين الصغار.

يدعم مفهوم السيادة الغذائية أيضا الاعتراف بإسهامات النساء الزراعية، ليس فقط في إنتاج الغذاء، بل أيضا وبشكل أساسي الاعتراف بمعارفهن وتقنياتهن. حيث تسهم النساء بشكل أساسي في بلدان الجنوب في إنتاج الخضروات والنباتات الطبية وتربية الحيوانات والحفاظ على البذور وحفظ الأصناف البلدية والتنوع البيولوجي وابتكار أساليب بيئية لحفظ وتخزين المحاصيل.

ورغم التركيز على صغار الفلاحين، يعني مفهوم السيادة الغذائية بستة قطاعات وهي: 1) الفلاحات والفلاحون وصغار المزارعين. 2) الصيادون التقليديون. 3) الرعاة ومربو الماشية. 4) المجتمعات الأصيلة. 5) عاملات وعمال الزراعة المهاجرون. 6) المستهلكون والحركات الحضرية.

يكمن اختلاف السياسات المبنية على السيادة الغذائية عن تلك القائمة على الاكتفاء الذاتي التي تبنتها دول ما بعد الاستعمار في العالم العربي في تركيز هذه السياسات على الجانب الكلي من الاكتفاء الذاتي. كما أنها رفعت معدلات الاكتفاء الذاتي من الحبوب باستخدام تقنيات الثورة الخضراء، من تسميد واستخدام كثيف للمبيدات، مما أثر سلبا على البيئة. كما جرى التخلي عن البذور المحلية، ما اضر بالتنوع البيولوجي والسيادة على البذور. وتختلف أيضا السيادة الغذائية عن سياسات الأمن الغذائي، المعتمدة في معظم دول العالم، بما توليه من أولوية لإنتاج الغذاء محليا؛ في حين يرتكز الأمن الغذائي على تأمين الغذاء من أي مصدر (الإنتاج – الاستيراد – المعونات الغذائية). كما تعني السيادة الغذائية بطريقة إنتاج الغذاء، وبمنتجيه وبيئة الإنتاج، أي أنها تأخذ بعين الاعتبار جميع العمليات والفاعلين المرتبطين بسلسلة إنتاج واستهلاك الغذاء، بينما يركز مفهوم الأمن الغذائي على النتائج الكلية (توفر غذاء صحي وآمن من أي مكان وفي أي ظروف).

تمثل السيادة الغذائية محاولة لتطوير إستراتيجية بديلة، من أجل مقاومة وتفكيك النظام الحالي لهيمنة منطق التجارة الدولية والقيمة التبادلية المعتمدة على التسليع وهيمنة الشركات الكبرى والعابرة للقوميات على أدوات إنتاج الغذاء، ونهب الأراضي وتحكم منطق الأرباح. هذه إستراتيجية البديلة تقوم على سبعة مبادئ هي: الغذاء – حق أساسي من حقوق الإنسان: الإصلاح الزراعي، الديمقراطية التشاركية، حماية الموارد الطبيعية، إعادة تنظيم تجارة المواد الغذائية، إنهاء عولمة الجوع، السلام الاجتماعي.

شكل: المبادئ الأساسية للسيادة الغذائية

Yap, Christopher. Urban food sovereignty: food, land and democracy in Kampala. Development Planning Unit, Bartlett, University College London, 2013.

وأخيرا، لم تقتصر الاختلالات الناتجة عن انتشار فيروز كوفيد-19 على الجوانب الصحية فقط، بل  أظهرت بشكل أساسي  مواطن الخلل في بنية نموذج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفي سلاسل الإمداد الغذائي التي بدت أكثر هشاشة مما كان يعدنا بها السوق الحر ومنطق الميزة النسبية. لذلك فإن الأزمة المستمرة للقطاع الزراعي، والتنامي المقلق لعدد فقراء الريف، وتدهور أحوال عاملات وعمال الزراعة والرعاة والصيادين المحليين، واحتمالات تجدد أزمات غذاء عالمية، يفرض علينا أن نسهم في دعم وتمديد الحركة الاجتماعية الفلاحية والمساهمة في رسم سياسات زراعية وريفية بديلة.


الدكتور صقر النور

باحث – مصر

إحالات

  1. حركة طريق الفلاح la Via Campesina هي حركة دولية تجمع ملايين الفلاحين وصغار المزارعين والمزارعين المتوسطين والفلاحين بلا ارض والنساء والشباب الريفيين والسكان الأصليين والمهاجرين والعمال الزراعيين من جميع أنحاء العالم. وهي تدافع عن زراعة الفلاحين من أجل السيادة الغذائية كوسيلة لتعزيز العدالة والكرامة الاجتماعية وتعارض بشدة الزراعة التي تقودها الشركات والتي تدمر العلاقات الاجتماعية والطبيعة. تضم La Via Campesina  182منظمة محلية في 81 دولة من إفريقيا وآسيا وأوروبا والأمريكتين. يمثلون حوالي 200 مليون مزارع. وفي العالم العربي هناك العديد من النقابات الفلاحية والمنظمات المعنية بشئون الفلاحين والزراعة منخرطة في تلك الحركة الدولية. في ديسمبر من العام 2018 ، استطاعت حركة طريق الفلاح بالشراكة مع حلفاء دوليين من إقرار  منظمة الأمم المتحدة الإعلان حقوق الفلاحين وغيرهم من العاملين في المناطق الريفية والذي يعزز دخول السيادة الغذائية للتيار الرئيسي للأفكار حول نموذج بديل.
  2. اعلان نيليني بمالي:  https://nyeleni.org/spip.php?article290

جرى نشر هذا المقال في العدد الأول من مجلة ” سيادة” : رابط تحميل المجلة هنا

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart