السيادة الغذائية أم الأمن الغذائي؟

السيادة الغذائية أم الأمن الغذائي؟

لا ينحصر الإشكال المرتبط بمفهوميْ “الأمن الغذائي والسيادة الغذائيّة” في مفردتيْ ”الأمن” و”السيادة” فحسب، بلْ يشمل خلفيّات كلٍّ منهما وآفاقه وانعكاساته كمشروع اقتصادي واجتماعي ومجتمعي وكذلك سياسي. فما هي خلفيّات المفهوميْن؟ وإلى أيِّهما يُفتَرض أن ينتصر صغار ومتوسطو الفلاحين، وأن ننتصر نحن أيضا كشعوب؟

الأمن الغذائي:


 ظهر مفهوم الأمن الغذائي في نهاية ستينيّات القرن الماضي. ويُعرَّف حسب منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو) بـ “توفير الغذاء لجميع أفراد المجتمع بالكمية والنوعية اللازمتيْن، بما يلبّي احتياجاتهم بصورة مستمرة من أجل حياة صحية ونشطة”. يلاحظ في التعريف المعتمد أعلاه أنّ جوهر مفهوم الأمن الغذائي يتلخّص في ”توفير الغذاء”، دون الخوض في سبل وإمكانيات توفيره. وهنا يكمن الإشكال الرئيسي. أتى مفهوم الأمن الغذائي في أدبيات المؤسسات الدولية كتعويض لمفهوم ” الاكتفاء الذاتي ” المُقترن بموجات التحرر الوطني التي جعلت من مهمة تحقيق الاكتفاء الذاتي المحلي من الغذاء على رأس اهتماماتها وأولوياتها التحررية وفي أفق بناءها الذاتي.
يستبعد مفهوم الأمن الغذائي المسؤولية الإلزاميّة للإنتاج المحلي في توفير الاحتياجات الغذائية الضرورية، فيما يقترح بالمقابل أن تعوّض سياسة استيراد المواد الغذائية مهام إنتاجها محليا. بمعنى آخر فإنّ مفهوم الأمن الغذائي يقترح عدم ضرورة إنتاج بلد ما لحاجياته الغذائية الأساسيّة، طالما يؤمّن استيرادها من دول أخرى توفير هذا الغذاء بشكل كافٍ.

قد تبدو فكرة استيراد الاحتياجات الضرورية من الأغذية حلًا سحريا لمشكل الغذاء في العالم وتكريسا لمبدأ التضامن بين الشعوب. إلّا أنّها تنطوي في حقيقة الأمر على آليات تهدف إلى تفقير الشعوب وتجويعها وسلبها سيادتها بغاية إخضاعها والتحكّم فيها. إذ شهدت منظومة الانتاج الفلاحي تغيّرا جوهريا ارتكز على ثنائية الإنتاجية – الربح لتفقد بذلك عمق جوهرها المعيشي (الفلاحة المعيشية) والاجتماعي والإنساني، لصالح ما يعرف بالفلاحة التجارية (l’agrobusiness). وهو ما يؤكد صحة الأطروحة القائلة بأنّ هذا النمط الإنتاجي الجديد لا يمثل سوى آلية سلب وانتزاع وإخضاع.
إضافة إلى انعكاسات سياسات الاستيراد على مدخرات الشعوب ومحاولات إخضاعها فان لهذه الفلسفة انعكاسات كارثية مباشرة على بنى الإنتاج الفلاحي المحلي والوطني وخصوصا على صغار ومتوسطي الفلاحين لعل أهمها:

  • تدمير إمكانيات الزراعة المحلية وبالتالي تفقير صغار ومتوسطي المزارعين، بفعل الميزات التفاضلية للمنتوجات الغذائية المستوردة وضعف إمكانيات المنافسة المحلية سيجد آلاف المزارعين المحليين أنفسهم بصدد الإفلاس مما سيضطرهم إلى هجران العمل الفلاحي أو التأقلم مع منطق السوق.
  • تعويض نمط الإنتاج الفلاحي المحلي المرتكز على توفير أساسيات التغذية المحلية نحو منتوجات أخرى ثانوية أكثر ربحية.
  • تحويل وجهة الفلاحة الوطنية من استيفاء الاحتياجات المحلية (الاكتفاء الذاتي) إلى مهمة استنزاف الثروات الطبيعية المحلية بغية الترفيع من حجم صادراتها ومعاملاتها.
  • تخريب المخزون الوطني من البذور المحلية لصالح البذور المستوردة والمعدَلَّة جينيا.
  • تأبيد حالة التبعية الاقتصادية وخصوصا الغذائية وفقا لمقولة الاستيراد والارتهان الهيكلي لأسواق الغذاء العالمية.

السيادة الغذائيّة:


ظهر مفهوم السيادة الغذائية سنة 1996 من قبل حركة نهج المزارعين خلال قمة الغذاء المنعقدة من طرف منظمة الأغذية والزراعة (الفاو). ووقع تعريف مفهوم السيادة الغذائية بـ: حقّ الشعوب في إتباع نظام غذائي صحي وثقافي وملائم ينتج بطرق مستدامة. ويشمل مفهوم السيادة الغذائية المبادئ التالية:

  • الأولوية للزراعة المحلية لتغذية الشعب وإمكانية نفاذ الفلاحين والفلاحات غير المالكين للأرض إلى الماء والأرض والبذور والاقتراض. لذا وجب ضرورة انتهاج مسارات الإصلاح الزراعي للنضال ضد الكائنات المعدلة جينيا من أجل الحصول المجاني على البذور والحفاظ على المياه كمنفعة مشتركة وعامة لتوزيعه بشكل مستدام.
  • حق المزارعين والمزارعات في إنتاج الأغذية وحق المستهلكين والمستهلكات في تحديد نوعية ما يريدون استهلاكه وممن وكيفية إنتاجه.
  • حق الدول في إتباع إجراءات حمائية من الواردات الزراعية والغذائية المنخفضة الأثمان.
  • ضرورة ربط أسعار المواد الزراعية بتكاليف الإنتاج. بحيث يكون للدول الحق في فرض الضرائب على الواردات المنخفضة الأسعار والتزامها بإنتاج فلاحي مستدام ومراقبة الإنتاج في السوق الداخلية لتجنب الفوائض.
  • تشريك الشعوب في اختيارات وتوجهات السياسات الزراعية المزمع اعتمادها.
  • الاعتراف بحقوق الفلاحين والفلاحات الذين يؤمّنون دورا رئيسيا في الإنتاج الزراعي والغذائي.

لعلّ أهم ما يمكن أن نستخلصه من ظهور مفهوم ” السيادة الغذائية ” على حداثته، أنّه كان تعبيرة حقيقية نابعة من عمق جمهور صغار ومتوسطي المزارعين. وقد استطاعوا من خلاله تضمين مجمل ما يعانونه من إشكالات تعيق عمليات إنتاجهم الفلاحي وتصوراتهم من أجل مشروع فلاحي ينتصر في النهاية لفائدتهم وللشعوب عموما.
في الحقيقة، يمكننا الجزم بالقول أن مفهوم السيادة الغذائية أتى على النقيض من مفهوم الأمن الغذائي. ففي حين يدعو هذا الأخير إلي مزيد التعويل على آلية استيراد الاحتياجات الغذائية، تُولِّي السيادة الغذائية الأهمية المطلقة لضرورة دعم الإنتاج المحلي، وفي حين ينبني مفهوم الأمن الغذائي على الدور المركزي للأسواق العالمية في مسالة توفير الغذاء تنتصر السيادة الغذائية إلى حق الدول عبر تشريك المزارعين والمزارعات في تحديد سياساتها الزراعية وأولوياتها الغذائية.
تأثير النموذج الزراعي القائم على التصدير في المغرب وتونس:

ترتكز أطروحة الأمن الغذائي على مفهوم الفلاحة المتخصّصة. أي أنّها تشجّع أنماط الانتاج الفلاحي المعروفة بجودتها وانتاجيتها بغرض تصديرها. وذلك في مقابل التخلي عن باقي المنتوجات الفلاحية الأكثر استهلاكا على المستوى المحلي بتعلّة ارتفاع كلفتها أو لعدم ملائمة البنى التحتية الفلاحية على إنتاجها. وكان من تبعات انخراط تونس والمغرب في أطروحة الأمن الغذائي، أن ساهم ذلك في تعزيز إنتاج مواد فلاحية بعينها (كالزياتين والتمور والقوارص والطماطم والأرغان…) بغية الاستفادة من عائدات تصديرها على حساب أنماط إنتاجية أخرى أكثر ضرورية كالقمح واللحوم والألبان والخضروات وغيرها.

المقال أعلاه مأخود من الدراسة التالية: اضغط هنا

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart