أبعد من انتصار أهل الميناء- طرابلس: ما الذي يحصل على خطوط سكك الحديد؟
انتصارٌ جديد سُجّل لإرادة الناس، هذه المرّة في ملف خطوط سكك الحديد والنقل المشترك، مع إعلان مدير عام المصلحة زياد نصر تراجعه عن قرار تحويل براح محطة قطار ميناء طرابلس (البالغة مساحتها 50 ألف متر مربّع والممتد على طول كيلومتر من الشمال إلى الجنوب)، إلى موقف لركن الشاحنات.
قرار نصر كان قد سمح لشركة “الكمال للتجارة العامة” بالاستفادة من “موقف مؤقت لـ 15 شاحنة” في أملاك المصلحة، مقابل بدل 102 مليون ليرة لبنانية، من تاريخ 6/12/2023 لغاية 31/1/2024، وذلك وفق الإيصال الصادر عن الصندوق المركزي لمصلحة سكك الحديد، الذي حصلت عليه “المفكّرة”.
بعد تصدّي عدد من الأهالي والناشطين وممثلي الجمعيات لقرار نصر، تَراجع الأخير استجابة لهواجس المواطنين المعترضين، وتفهّم مواقفهم، وفق ما جاء في تصريح نصر لـ “المفكّرة”.
وعند هذه النقطة انتهت القضيّة لدى كثيرين، فكلّما حاولنا التواصل مع المعنيين وبخاصة لدى وزارة الأشغال العامة والبلديات، لكونها وزارة الوصاية، أتى الجواب كالتالي: “خلص تم التراجع عن القرار، وانتهت حبيًّا”.
الاّ أنّ هذه القضيّة فتحت باب التساؤلات مجدّدًا على واقع إدارة واستثمار مرفق النقل السككي في لبنان، خصوصًا في زمن قانون الشراء العام والدعوات إلى الإصلاح وتطبيق الحوكمة الرشيدة ووقف هدر المال العام.
وفي هذا الإطار، رصدت “المفكّرة” صدى هذا الانتصار الذي تحوّل صرخة جدّية تطالب “بتحرير عقارات السكة من كل المستأجرين والمعتدين، وبضرورة إعادة القطار على السكة”، كما جاء على لسان د. كارلوس نفّاع رئيس جمعية “تران تران”. ويلفت د. نفّاع إلى أنّ المشكلة الأساسية ليست في طرابلس بل في غياب الإرادة والرؤية لإحياء قطاع سكك الحديد الذي توقفت عجلته عام 1995 وهو تاريخ تسيير آخر رحلة نقل للركّاب، علمًا أنّ الحكومة اللبنانية قررت تسيير ما عرف بـ قطار السلام عام 1991، لإحياء السكة من جديد، وحصل أن افتتح وزير الداخلية آنذاك شوقي فاخوري خط الدورة، جونية، جبيل”.
ويوجز د. نفّاع لـ “المفكّرة” واقع عقارات السكة المترامية في كلّ لبنان، وكيف يتمّ الاعتداء عليها بقرارات غير شرعية بذريعة الطابع الخدماتي المؤقت، ومبنية على حجج تأمين الإيرادات: “وين في سكة مأجرينها، عاملينها مزراب ذهب.. إن عبر عقود إيجار أو إيصالات لاستخدامها بموجب دفع بدل، لقاء “خدمة مؤقتة”، فهنا معارض أو مواقف سيارات وهناك إنشاءات مؤقتة ومولّدات كهرباء، وحدائق مزروعة ومطاعم وملاهي ليلية وسواها…”.
ويحسم د. نفّاع موقف الجمعية: “نرفض تغيير وجهة استعمال ممتلكات سكك الحديد، بدنا نرجّع لبنان عالسكّة”.
وفي هذا السياق، أثيرت النقاشات العامة من جهة، حول مشروعية قرارات وإجازات الإشغال الصادرة عن مدير عام المصلحة، خارج سرب قانون الشراء العام، وما أرساه القرار رقم 144 بشأن الأملاك العمومية والصادر عام 1925.
ومن جهة أخرى، طرحت التساؤلات حول مدى احترام هذه الإجازات لمبادئ النزاهة والشفافية والتنافس وتكافؤ الفرص العادلة في ما بين المواطنين وحول ملاءمة الخدمات المجازة مع الوجهة الأساسية لهذا المرفق الحيوي.
وهذا ما دفع بـ “المفكرّة” إلى التقصّي عن المسوّغ القانوني لهذه القرارات التي تمنح بموجبها مصلحة سكك الحديد المواطنين الحق في إشغال ممتلكاتها أو الإفادة من “خدمات مؤقتة لقاء بدل”، وفق المصطلح الذي يحرص مدير عام المصلحة على استخدامه، متمسّكًا بتقيّده بالقوانين والأنظمة المرعيّة الإجراء.
وعليه، هل سينسحب انتصار طرابلس ببوادر واعدة لتفعيل الرقابة والمساءلة على براح السكّة، وتحريره من أي إشغال وتعدٍ؟ هذا البراح الذي يمتد، بطول 403 كلم، من الناقورة جنوبًا لينتهي في العبّودية، عند الحدود اللبنانية السورية شمالًا، مرورًا بمار مخايل، فرن الشباك، بعبدا، عاليه، رياق، بعلبك، القاع، وصولًا لـمنطقة سرغايا عند الحدود اللبنانية السورية في السلسلة الشرقية.
وهل ستمعن السياسات الحكومية في تسليع براح سكك الحديد، بحثًا عن إيرادات زهيدة بالليرة المنهارة التي تبدو عاجزة عن سد العجز؟ أم أن هناك رؤية جدّية لدى الحكومة اللبنانية ووزارة الأشغال والنقل العام، لإحياء سكك الحديد، وهي العمود الفقري للنقل الوطني، وصلة الوصل الاستراتيجية فيما بين القارات الثلاث؟ خاصة وأنّ لبنان قد وقّع سنة 2003 على ما يعرف بـاتفاقية “ممرات الإسكوا”، أو “اسكوا كوريدور” للبضائع، بهدف نقل وتأمين المواد الأولية فيما بين المنطقة وأوروبا.
وفيما معظم دول الجوار تجهد في إعداد العدّة والإفادة من الاتفاقية التي ستدخل حيّز التنفيذ عام 2025، إلّا أن لبنان الملتزم بإنشاء خط بيروت الشام عبر البقاع وخط طرابلس حمص.. لم يحرّك ساكنًا حتى الساعة.
عن محطة الميناء… وهواجس ناسها
“تحت جنح الظلام، بلّشت الأشغال على موقع سكّة الحديد بالمينا، وصار في جرف للأرض ونقل للأتربة وانتشال حديد من السكة وانحط برا وتم تغيير أماكن بعض القطارات…، ونحنا كأهل المدينة ما كنا فهمانين شو عم يصير”. بهذه العبارة يوجز الناشط السياسي يحيى مولود لـ “المفكّرة”، تلقّي أهل المدينة لخبر الأشغال التي طالت موقع محطة القطار التاريخية في طرابلس.
وعن حقيقة ما حصل، يوضح الدكتور سامر أنّوس، وهو أستاذ جامعي وناشط سياسي من المدينة: “فكّرنا عم يجهزوا الموقع لأن طرابلس عُيّنت مدينة للثقافة العربية لسنة 2024، بس بعد السؤال والتحرّي، طلع في شركة “الكمال” الخاصة، والتي تعود لكمال الخير وابنه محمد الذي يشغل منصب نائب رئيس اتحادات النقل في لبنان النقابي، آخدة إجازة من المصلحة، ومعها إيصال بحوالي 100 مليون ليرة كبدل ركن لشاحناتها”.
يتحدّث د. كارلوس نفّاع عن أهمية محطة طرابلس التاريخية، منذ لحظة إنشائها سنة 1901، إذ لعبت دورًا أساسيًا ومتكاملًا مع مرفأ المدينة: “التاريخ بيشهد انو أهل المدينة هني يلي بنوا المحطة ومشوا السكّة عام 1911 بأموالهم، في ذلك الزمن بليرات ذهب فرنساوية”. ويشير د. نفّاع إلى وجود لائحة بأسماء كل الذين ساهموا آنذاك، وقد حصلت عليها “المفكّرة”.
وعليه، نظرًا لقيمة موقع المحطة التاريخي وحضوره في ذاكرة أهل المينا، ومحاذاتها برج السباع الأثري الذي يعود إلى القرن الخامس عشر، يأسف د. أنّوس لنيّة الإدارة بتحويل براحها إلى موقف للشاحنات، ويستنكر القرار: “المتذرّع بتأمين إيرادات” ويراه: “تفريطًا بأصول الدولة ممّن هم مؤتمنون عليها”.
ولأجل التصدّي لأشغال الحفر المجازة، التي باشر بها “الخير”، تداعى أهالي الميناء– طرابلس بدعوة من الناشطين، لتوقيع عريضة إلكترونية حصدت أكثر من 1000 توقيع في أقل من 24 ساعة، ورفعوها إلى أمينة سر عام محافظة الشمال، إيمان الرافعي، بصفتها القائمة بأعمال بلدية الميناء.
كما توجّه عدد من الناشطين وممثلي الجمعيات والأهالي إلى مكتب المدير العام زياد نصر، ليسجّلوا رفضهم للقرار من جهة، متمنين الحفاظ على موقع المحطة، لما يشغله من إرث في ذاكرة الأجيال، متمسكين بحق لبنان وشعبه في إحياء سككه الحديدية.
ومن جهة أخرى، تمنّى الحاضرون أن تفتح الإدارة الباب أمام ترميم وحماية وتصنيف الموقع واستثماره وفق الأصول، وضمن مخطط توجيهي لوضعه على الخارطة الثقافية والسياحية للبلاد، لحين عودة القطار. ففي الآونة الأخيرة، تحوّل الموقع رغم الإهمال إلى مساحة عامة، احتضنت أهل طرابلس والزوار في قلب المدينة، مسجّلة بصمات ثقافية واجتماعية عديدة.
والملفت أنّ القائمة بأعمال بلدية الميناء إيمان الرافعي، كانت قد أعلنت بدورها وقوفها عند رغبة الناس، وأكّدت في اتصال مع “المفكّرة”: “يستفزنا كأبناء المدينة، تحوّل الموقع برمزيته وقيمته التي يحتلّها في وجدان الناس وذاكرتنا الحضارية، إلى موقف للشاحنات”.
وقد سجّل في تاريخ 9 كانون الثاني 2024، رفض الرافعي لطلب الشركة “صاحبة الإجازة”، ومضمونه إزالة أرصفة وشق طريق للشاحنات. وإثر هذا الطلب، توضح الرافعي أنّها توجّهت بكتاب لمصلحة سكة الحديد للتحقق من مدى قانونية المستندات التي تحوزها “شركة الكمال”. وتقول: “أكّد لي المدير العام أن الإجازة منحت وفق الأنظمة والأصول القانونية، وأنها إجازة بخدمة موقف مؤقت وليس إيجاراً لعقار”. وتنطلق الرافعي من مبدأ حسن النية وتوضح: “المرفأ عم يتوسّع كتير، يريدون محل للشاحنات، التي نشهد لظاهرة ركنها في الطرقات وتحت الجسور ما يتسبب بحوادث، ويبدو أنهم اختاروا هالموقع… وبدوري كبلدية بادرت وأعلنتُ عن كامل استعدادي لمساعدتهم بإيجاد أرض بديلة”. وتتابع الرافعي: “علمًا أنه لا يحق لي وقف الإجازة، فالأملاك خاصة بمصلحة السكك والنقل، وهي الموكلة إدارتها واستثمارها، إلّا أنّني توجّهت بكتاب اعتراض، متأمّلة من المدير العام العدول عن قراره، نظرًا لهواجس الناس”. وتختتم حديثها لـ “المفكّرة”: “انتهى الموضوع في غضون أيام وتم سحب الإجازة”.
“المهم”، وفق ما جاء على لسان الناشط علي جوهر أنه: “برصّ الجهود، والمتابعة الحثيثة قدرت الناس تحافظ على الملك العام، يعني على أملاكها”، أما الهاجس الأساسي لدى جوهر فيتمثّل بالأطماع والضغوطات السياسية التي قد تحاول إحياء المشاريع العشوائية بطريقة أو بأخرى.
وتعليقا على قرار “وقف العمل بالإجازة المؤقتة”، المعلن بتاريخ 11 كانون الثاني، يتمسّك المدير العام زياد نصر، في المقابلة التي أجرتها معه المفكرة، بـقانونية الإجازة التي مُنحت. وعن دوافع الرجوع يقول: “نظرا لما أثير من مغالطات حرفت الموضوع عن غاياته الأساسية، وتفهما مني لهواجس أبناء المدينة، ونزولا عند مراجعة الفعاليات الحريصة، والرغبة في تسليط الضوء على هذا المرفق الحيوي، ضمن فعاليات طرابلس عاصمة الثقافة العربية، سحبت الإجازة.”
وينفي نصر استلامه وفق الأصول لأي كتاب من القائمة بأعمال البلدية، ويستهجن نشره على مواقع التواصل الاجتماعي، معتبرًا أنّ “الرافعي قد تسببت عن غير قصد، في خلق بلبلة والتباس لدى الرأي العام، بوصفها الإجازة “إيجارًا لعقار السكة”، في حين أنّه “خدمة مؤقتة لقاء بدل”، وبالتالي برأي نصر: “لا حاجة للذهاب إلى مزايدة وفق أصول الشراء العام..”
وفي سياق مقابل، رصدت “المفكّرة” هواجس جدّية لدى أبناء المدينة، من إمكانية إعادة إشغال أملاك محطة الميناء فور انتهاء فعاليات إعلان طرابلس عاصمة للثقافة العربية. ويشرح الناشط يحيى مولود لـ “المفكّرة”: “من زمان، في عين على هيدي الأرض نظرًا لموقعها الاستراتيجي والمتاخم لمرفأ طرابلس، وفي خوف بكل لحظة من احتلال المتمولين والنافذين الذين يفكّرون بمرحلة إعمار سوريا أو خط الحرير أو دور لمرفأ طرابلس بالمنطقة!”
إلّا أنّ مدير عام المصلحة يطمئن أهل الميناء عبر “المفكرة”: “لن أقدم على أي خطوة تزعج أهل المدينة في هذا الموقع على الإطلاق… كوني أراعي مرارة أبناء المدينة وأتفهّم عدم ثقتهم بالوضع العام”.
وعن تفريط المصلحة بموقع المحطة التراثي، يوضح نصر: “ما حدا يزايد عليّ. لطالما شكلت محطة المينا اهتمامي الرئيسي، نظرًا لما تختزنه من مبان قديمة العهد، ولرمزيتها التراثية التي تحاكي ذاكرة اللبنانيين وتحديدًا أبناء مدينة طرابلس”.
وفي هذا الإطار، يطلع نصر “المفكّرة” على كتاب القائم بأعمال السفارة التركية ويوضح: “عام 2018، تواصلنا مع الأتراك ووقعنا اتفاقية لتنفيذ مشروع ترميم وإعادة استخدام محطة سكك الحديد في ميناء طرابلس.. إلّا أن المشروع جمّد لأسباب عديدة وأعملُ على إعادة إحيائه”.
ويأسف نصر إلى ما آل إليه الموضوع، ويعتبر أنّ قرار “الموقف المؤقت” الذي تمّ الرجوع عنه، كان من باب تحقيق إيرادات مقبولة للإدارة، وحرصه على حماية الموقع من ظاهرة السرقة التي تطال معظم خط السكة، ومن الأعمال المخلّة بالآداب التي تحصل، نظرًا لتقاعس الجهات المعنية. ويضيف: “اعتبرت عم نرجّع دور للمحطة، بما يصبّ بغايات النقل ويتكامل مع دور مرفأ طرابلس لتخفيف عبء عن المدينة، جراء ركن الآليات في الطرقات العامة”.
خطورة تغيير وجهة استعمال سكك الحديد وكلفتها
يلفت رئيس جمعية “تران تران” د. كارلوس نفّاع، إلى خطورة تغيير وجهة الإستعمال، وإن بقرارات مؤقتة: “التجربة في لبنان أثبتت أنّ المؤقت على الورق يصبح دائم”. ويتساءل: “مَن مِن الجيل الجديد يعلم بأن الطريق البحري الذي استحدث سنة 1996، تم تعبيده على أراضي السكة بشكل مؤقت، لتخفيف زحمة السير لأشغال توسعة اوتوستراد جل الديب – انطلياس؟ ويضيف د. نفّاع: “باتت هذه الطريق اليوم بحكم الدائمة بالنسبة للرأي العام، رغم أنها مؤقتة بحكم نص المذكرة الإدارية التي أنشأتها”.
ويأسف د. نفّاع أنْ تكون وزارة الأشغال، هي المعتدية عوض أن تمارس دورها كسلطة وصاية على هذا المرفق. ويستنكر: “ما منعرف على أي مسوّغ قانوني، اتحاد بلديات المتن، والتنظيم المدني، منحوا تراخيص بناء، وباتت كل أبواب الأبنية مفتوحة على السكة خلافًا للقانون، ما يعيق اليوم إحياء مشروع مرور السكة من جديد بساحل المتن”.
ويتابع د. نفّاع: “لتخطي هذه العقبة سنضطر، وفق دراسة EGIS التي أعدها بنك الاستثمار الأوروبي لخط بيروت طرابلس، وحتى ما نزعج أصحاب المباني التجارية يلي اعترضوا مرور السكة وعمّروا مستفيدين من قرار الوزير المؤقت، إلى إنشاء جسور تبدأ بالدورة وتنتهي بضبية.. كلفتها نصف مليار دولار”.
وعليه ينبّه د. نفّاع لخطورة أي قرار مؤقت لإشغال السكة أو عقاراتها بغير وجهتها، إذ قد تنشئ مصالح اقتصادية، ويصبح هناك مئات وآلاف العائلات اللي عم تعتاش من الاستثمار المؤقت، وقد تدفع بالرأي العام إلى الاعتراض يوم العمل على مرور السكة، فنكون قد قضينا على مشروع إحيائها.
يطلق د. نفاع، صرخة بوجه الحكومة لتنظيم هذا المرفق، ويناشد وزارة الأشغال بإزالة التعديات “التي لا تتجاوز نسبة 3%”، داعيًا للبدء بإلغاء جميع الإيجارات الممنوحة عبر هذه الإيصالات، للبدء بتنفيذ الخطوط الممكن إحيائها.
ولدى سؤال مدير عام سكك الحديد عن التعديات، ينوّه زياد نصر، بدور العاملين في هذا المرفق، والبالغ عددهم 125، (موزّعون على الشكل التالي: 125 مديرية النقل المشترك، 0 مديرية سكك الحديد)، “لولا حضور هذه المؤسسة، مع ضعف إمكانياتها، المالية والبشرية، كانت كل أملاك المؤسسة راحت..” ويضيف نصر: “في مواطنين وفي جهات رسمية وإدارات معتدية على السكّة”.. ويعلن عبر المفكّرة أنّ: “الكلام بأنّ التعدّيات باتت تحول دون إحياء النقل السككي كلام عار عن الصحة. أغلب الخطوط خالية، والمعتدي غالبًا ما يعلم أن اعتداءه واقع على ملك وخط السكة وأنه يومًا ما سيتم تشغيله. لذلك من موقعي، وأنا مسؤول عما أقول، كل التعديات يمكن إزالتها في مهلة 24 ساعة”.
ويوضح د. نفّاع الإمكانية الجديّة لإحياء الخطوط: “أولها، خط عكار طرابلس، اللي ممكن تنفيذه، فالحديد الجديد موجود بمرفأ طرابلس بموجب محضر أمانة من سنة 2004، وهو قادر على تغطية 50 كيلومتر، أي كفيل بربط عكار من قراها الحدودية إلى طرابلس.”
ويحسم د. نفّاع: “نعم ممكن تشغيله. فالمواد الأولية، والبنى التحتية والملف التقني، وحتى بعض القطارات كلها موجودة.” ويعلن بلا تردّد استعداد الجمعية للتشبيك مع الجهات المانحة لتأمين التمويل اللازم: “إذا التحجج بالتمويل، يعطونا الضوء الأخضر، ومتل ما عملنا المخطط التوجيهي، قادرين نسخّر كل طاقاتنا لنرجع لبنان عالسكة، وكل المطلوب أن يكون هناك إرادة حقيقية ورؤية وقرار بإحياء هذا المرفق.. وإلّا سيتم التمادي في تسليعه… الظاهر أنّهم مستقيلون من مسؤولياتهم ومستقتلين ينهبوا دولة وشعب”، وفق تعبير د. نفّاع.
استثمار المرفق على قاعدة: “اللي سبق شمّ الحبق”
إن قرار مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك هذا، ليس بالقرار اليتيم الذي يمنح مواطنين الحقّ في خدمات، أي في إشغال مؤقت لأملاكها لقاء بدل مالي. وعن مشروعية هذه القرارات ومدى احترامها للقوانين والأنظمة المرعية الإجراء، يرى د. أنّوس أنه: “خارج قانون الشراء العام، وفي غياب الرؤية والدراسات والخطط اللازمة، توحي هذه القرارات بالخفة والعشوائية والفوضى في إدارة المرافق العامة”. ويضيف د. أنّوس: “لا يجوز الاستمرار بهذا النهج، بل يجب فتح تحقيق بملف سكك الحديد وبكيفية إدارة أملاك هذا المرفق واستثماره.. ويجب مساءلة المدراء العامّين والوزراء المتعاقبين عن كلّ إشغال تمّ بعشوائية ومزاجية، أدّت إلى التفريط بالملك العام وهدر أمواله، بعيداً عن مبدأ الشفافية والحوكمة الرشيدة”.
ولدى سؤال “المفكّرة” عن المسوّغ القانوني لهذه الإجازات، وعن تفلتها من أحكام قانون الشراء العام، يتمسّك مدير عام المصلحة زياد نصر بالنظام العام للمؤسسات العامة الصادر بمرسوم رقم 4517، تاريخ 13/ 12/ 1972، ويؤكد قانونية منح الخدمات المؤقتة لقاء بدل. ويعتبر أنّ القانون قد أوكل إلى مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، بوصفها مؤسسة عامة، تجارية، صناعية: “إدارة واستثمار كافة خطوط النقل السككي وتوابعها وكافة الملحقات العقارية والممتلكات والموجودات، بوسائلها الخاصة، ووفق الأنظمة التي تحكمها، وحسب الغاية التي تعمل لأجلها”. ويلفت نصر إلى احتكام المصلحة لضوابط قانون إنشاء المؤسسة العامة، من دون الحاجة للذهاب إلى قانون الشراء العام، بخاصة عند تقديمها الخدمات للمواطنين لقاء بدل أو تعرفة ثابتة، ويستشهد بنص المادة 22 من المرسوم 4517 التي تجيز لمجلس الإدارة ذلك.
ويوضح نصر: “هذه التعريفات ثابتة، لا تتغيّر إلّا إذا أقرّ مجلس الإدارة تعريفات جديدة، تخضع حينها لمصادقة وزارة الوصاية الإدارية ووزارة المالية.. خلال مهلة شهر، وإلّا تعتبر سارية ومصدّقة حكمًا، كون المؤسسات العامة تتمتع باستقلال مالي وإداري”. ثم يضيف حاسمًا “قانونًا، مجلس إدارتها هو المخوّل إدارة شؤونها وموازنتها واستثمارها”.
وعليه ينبّه نصر إلى ضرورة التمييز بين تقديم خدمة وإعطاء استثمار أو امتياز للغير: “لو أبرمت عقد إيجار ومنحنا الاستثمار، كنا ذهبنا إلى المزايدة وإلى قانون الشراء العام، أما تقديم خدمات لقاء بدل.. أو إنشاءات مؤقتة للقيام بنشاط لقاء تعرفة، ما بدها مرسوم ولا قانون شراء عام..”. ويوضح أنّه “لكلّ مواطن لبناني، كائن من كان بجواره سكة حديد، الحق بالتوجّه إلى المصلحة وتقديم طلب للإدارة للإفادة من خدمة مؤقتة لقاء بدل لينظم احتفالات، أنشطة ثقافية ترفيهية، أعراس، خطوبة، أو ليلتقط صورًا خاصة”. وبعد أن تنظر الإدارة في الطلب، يصار إلى الكشف على الموقع المنوي إشغاله، وفي حال الموافقة تحدد المهلة المسموح أن يتم الإشغال خلالها.. ليوقّع عندها صاحب الطلب على “تصريح وتعهّد” حصلت “المفكّرة” على نموذج منه، ومفاده أنّ للإدارة الحق في إلغائه ساعة تشاء من دون أن يترتب له حقوق أو تعويضات.
فالتعهّد وفق نصر، “مكبّل بشكل يرتب التدخل الفوري لقوى الأمن، عند حصول أي خطأ بالإشغال، من دون الحاجة للقضاء، ما يرتبّ إزالته الفورية”.
ومع دفع البدلات المحددة عن كل يوم خدمة، يحرّر صندوق المصلحة إيصالًا بالدفع، كالذي حصلت عليه شركة الكمال. هذا ما أوجزه نصر لـ “المفكّرة” عن المسار القانوني المبتدع، في إشارة إلى أنّ كل هذه المستندات والخطوات والإجراءات لم توجدها النصوص القانونية والأنظمة، بل بادر نصر بنفسه إلى تنظيمها نتيجة تجربته ومعاينته للتحديات.
وبحزم يؤكد نصر لـ “المفكرّة”: “أحلى ما يضلوا الشبيحة عم يتزعرنوا على ملكنا، نظّمنا الموضوع. فقد حصل أن رفعنا دعاوى لدى القاضي علي إبراهيم على بعض الشركات والمؤسسات المجاورة للسكة ويلّي عم تصف سياراتها هي وموظفيها بأملاكنا، ومعتبرتها “ورثة بيها”.. وقفنا هيدي القصة، صاروا يجوا يتقدّموا بطلبات، وعلى أساس التعرفة يحددون عدد الآليات المطلوب ركنها”.
ولدى سؤال المدير العام عن العمل في حالة وجود شخصين أو أكثر ينوون الإفادة من خدمة ما على الموقع نفسه، أو في المحطة عينها للسكة، يجيب نصر: “هناك رزنامة بالأيام المشغولة، نطلب من المواطن تغيير الطلب، أو الانتظار لحين انتهاء المهلة الممنوحة”.
وفي السياق عينه، يشكّك أحد الناشطين السياسيين، بحسن إدارة المرفق، ويكشف أنّ “بدعة حجز أيام للحصول على خدمة إقامة نشاط، ليست سوى عقود إيجار مقنّعة لإفادة بعض النافذين أو المحسوبين على زعامات ومراجع سياسية”. ويشرح الناشط:” “ليهرب من قانون الشراء العام، والمزايدات، المدير العام ما بسمّي إيجار أو إشغال.. يقول أنا عم قدّم خدمة إستثمار الأرض لإقامة نشاط Event لقاء بدل، ولكن بالحقيقة كان يحجز للجهة “المدعومة” أيام جمعة وسبت وأحد على مدار خمس سنوات مثلًا”.
ويتساءل الناشط: “أليس بإيجار مقنّع، يمكن حرمان سائر المواطنين من عدالة الفرص المتاحة وحقهم بالمساواة المكفولة دستورًا؟”
عن الشفافية في إدارة واستثمار المرفق
في اتّصال مع مؤسّس “مبادرة غربال” أسعد ذبيان، يشبّه الواقع بـ “مغارة علي بابا”، مسلّطًا الضوء على انتهاك الحق في الوصول إلى المعلومات: كـ”غربال”، نسأل عن الشفافية بهذه الإجازات والعقود، ما هي الجهات المستفيدة في السنوات الأخيرة؟ وعن هذه التعريفات والبدلات الموضوعة، أين يتمّ نشرها؟ وماذا عن نشر المداخيل والإيرادات التي تمّ تحصيلها منذ 2018؟ هل تلحظ ضمن إيرادات المؤسسة؟ أم يتم تحويلها إلى المالية العامة كمداخيل إضافية للدولة؟” ويضيف: “المصلحة ما عندا لا موقع إلكتروني، ولا حتى صفحة فيسبوك لتنشر عليها المعلومات، أين الشفافية؟ وهل وجهة الاستعمال لأملاك سكك الحديد مدرجة ضمن باب خدمات المصلحة، منح الناس إجازات لتستثمر الأرض بأوجه مختلفة غير الغاية الأساسية للسكّة؟”
ويشير ذبيان إلى أنّ مبادرة “غربال” قد أرسلت كتبًا عدة إلى المصلحة بهدف الحصول على معلومات إلّا أنّ الصمت كان سيّد الموقف، باستثناء الجواب الذي سطّرته المصلحة بأنّ عدد الموظفين القليل لا يسمح بالردّ على الطلبات.
وهنا يتعجّب: “اذا ما في موظفين لتجاوب على طلب واحد، كيف ممكن المصلحة تكون قادرة تجهّز عقود ومستندات إدارية وتمضّي الناس عليها، وتقبض منهم..؟ وكيف ممكن تدير وتشرف وتحرص على حسن استثمار مئات أو آلاف المواقع، يلي منحت الناس عليها إشغال أو إيجار أو خدمة؟” ويعلّق: “سبحان الله، بأشياء وأشياء بصير في إمكانيات”.
هل من التفاف على قانون الشراء العام؟
مقابل تمسّك مدير عام مصلحة سكة الحديد بقانونية الإجازات الممنوحة، باعتبار أنّ الإدارة هي صاحبة الاستثمار، والغير يستفيد فقط من خدمة لقاء بدل، يبرز اتجاه معاكس تمامًا ينبّه إلى خطورة ما يحصل من هدر للمال العام ومن مخالفات جرّاء محاولات التفلّت من أحكام قانون الشراء العام ومبادئ الشفافية والحوكمة الرشيدة.
وبالعودة إلى طرابلس، طرح السؤال كيف تكون الإدارة هي الجهة المستثمرة والتي تمنح خدمة الموقف إن كانت شركة “الكمال للتجارة “هي الجهة التي جرفت الموقع وعملت على تنظيفه، بخاصة أن الشركة كانت تنوي تصوينه للحفاظ على سلامة شاحناتها، وفق ما أفادنا به المدير العام شخصيًا.
ويجيب نصر على السؤال المطروح بسؤال: مين قادر اليوم يطلّع بوبكات أو جرافة ع طرابلس؟ الإدارة لا تملك الإمكانيات، وكون مقدم الطلب صاحب مصلحة ارتضى بذلك..”.
وأثير التساؤل حول إدارة الموقف الذي كان منويًا إنشاؤه، والموظفين الذين سيراقبون حركة دخول وخروج الشاحنات، ومدى التزامها بالأعداد والمهل المحددة … إلّا أن نصر أكّد وجود مراقبين على الخط قادرين ولو بشكل دوري، على مراقبة وتنظيم الموقف.
يؤكد ذبيان لـ “المفكرة”: “أنّها المرة الأولى التي يتمكّن فيها قانون الشراء العام، ليس من إخضاع سائر أشخاص القانون العام من دون تمييز لأحكامه وحسب، بل كرّس فرض سلطته على البعثات الرسمية في الخارج أيضًا. ورغم محاولة بعض الإدارات، كالبلديات ومصرف لبنان، التفلّت من أحكامه، إلّا أنّ الأمر لم ينجح”.
وبحسب ذبيان: “التذرّع بتمتّع المصلحة بحق الإدارة والاستثمار وفق القوانين والأنظمة الخاصة بها تسقط”، ويذكر على سبيل المثال لا الحصر: “ما كان يخضع للقانون البلدي بات يخضع لأحكام قانون الشراء، فكيف للمدير العام التذرّع بقانون إنشاء المؤسسة العامة والمراسيم والأنظمة الداخلية؟”
وفي قراءة لمدى مشروعية الخدمات المجازة لقاء بدل، ينطلق مرجع حقوقي أكاديمي مطّلع على قانون الشراء العام وتطبيقاته، من كون سكك الحديد من الأملاك العمومية بموجب المادة 2 من قرار المفوض السامي رقم 144 تاريخ 10/06/1925، ليقول إنّ إجازات الإشغال المؤقت عليها تعطى بناء على قرار من رئيس الدولة (مرسوم) بحسب القرار نفسه.
أما بالنسبة للخدمات الممنوحة والمستندة على المرسوم رقم 4517 والصادر عام 1972، فيلفت المرجع عينه إلى أنّ قانون الشراء العام قد صدر في تاريخ لاحق، وهو إذن الواجب التطبيق وبخاصة أنّ المادة 114 منه في البند الخامس، تنص على إلغاء “كل نص مخالف لأحكام هذا القانون أو لا يتّفق مع مضمونه”.
ويضيف المرجع نفسه، معلقًا على التمسّك بمصطلح “خدمة لقاء بدل لا إيجار”، أنّ “قانون الشراء العام الواجب التطبيق واضح للغاية، ويعرّف بموجب المادة 2 الخدمات غير الإستشارية بالخدمات التي يكون التعاقد فيها على أساس أداء عمل مادي يمكن توصيفه من غير الخدمات الاستشارية”. وعليه يخلص المرجع عينه: “نحن أمام إشغال وهو خدمة غير استشارية خاضعة لقانون الشراء”.
ثم يستند المرجع على نص المادة 3 من قانون الشراء العام التي توضح صراحة خضوع “جميع عمليات الشراء العام من لوازم وأشغال وخدمات” لأحكام القانون عينه.
وأبعد من هذه النصوص، يفترض المرجع الحقوقي اختلاف الاجتهاد والاستشارات في تفسير النصوص القانونية، ليحسم لـ “المفكرة”: “في ما يتعلّق بالمال العام، نحرص على تبنّي المنحى الذي يُخضع الإشغال أو الإجراء أو الخدمة إلى الرقابة، وليس الذي يعفيه منها”.
ويشير المرجع هنا، إلى موضوع “التعرفة الثابتة” المأخوذة بقرار من مجلس إدارة المصلحة، وفق أنظمة المؤسسة، والتي تستدعي التعديل حتمًا، ويقول: لتجنّب أيّ استنسابية بتحديد البدل، يجب أن يعتمد السعر الرائج في السوق كسعر افتتاح، وأن يعلن عن مزايدة، فالتعرفة المقرّة من مجلس الإدارة، وإن خضعت لتصديق وزارتي المالية والوصاية، بل وحتى الحكومة مجتمعة، تختلف عن تلك التي توضع انطلاقًا من مبدأ المنافسة.
ويختتم المرجع حديثه لـ “المفكرة”، بالارتكاز على نصّ المادة الأولى من القانون نفسه، باعتباره الأساس القانوني والجوهري الذي يحتّم اللجوء إلى قانون الشراء العام: “هذه المادة أفردت في متنها هدف القانون ومبادئُه العامة كتطبيق الإجراءات التنافسية كقاعدة عامة وإتاحة الفرص المتكافئة من دون تمييز وتوفير معاملة عادلة ومتساوية وشفافة وعلنية الإجراءات ونزاهتها ومهنيتها بشكل يفعّل الرقابة والمحاسبة”. والأهم وفق المصدر أنّ “المادة الأولى تنصّ على أنّ كل هذه المبادئ متصلة بالانتظام القانوني العام، وبالتالي لا يجوز تفسير أي نص قانوني خلافًا لها”. وعليه يخلص المرجع إلى أنّ منح الخدمات لقاء بدل، بالمسار الذي تتبعه المصلحة، لا يحترم مطلقًا المبادئ التالية، وبالتالي لا يخالف القوانين وحسب، بل يخالف مندرجات الانتظام العام ومبادئ الحوكمة الرشيدة.
وفي السياق عينه، يلفت أحد قضاة مجلس شورى الدولة والذي طلب عدم ذكر اسمه، في اتصال مع “المفكّرة” إلى أنّه: “من الواضح أنّ هناك محاولة للالتفاف على قانون الشراء العام الواضح والصريح، وهو القانون اللاحق لقانون 4517 الصادر عام 72، المتذرّع به، وعليه يبقى وحده الواجب التطبيق أكان اشغال “بحصة” أو 100 دونم..”
ويؤكد المرجع القضائي عينه إلى أنّ العبرة ليست للتسميات سواء إشغال، استثمار، إيجار، تقديم خدمة أو سواها من التعابير المستخدمة لتضييع البوصلة: “يبدو أن هناك من يحاول تفسير القانون على هواه”.
ويفرّق المرجع عينه بين حالتين من الاستثمار، إما الذي تقوم به الإدارة بنفسها، كونها مؤسسة عامة استثمارية، أي بموظفيها، وممتلكاتها وأموالها، وهنا ليست بحاجة لشراء عام، وإما أن تعهد بالاستثمار إلى الغير، لعدم توفّر الإمكانيات، فتتعاقد مع الغير، وفق أحكام قانون الشراء العام.
أما عن الكافيهات والأنشطة والمواقف لقاء بدل والمعارض.. فيحسم المرجع القاضي: “ضمنًا المصلحة هنا تسمح لجهة ثانية بإشغال ملك عام.. هذا يعني أنّ هناك علاقة تعاقدية نشأت في ما بين المصلحة والغير، سواء بصورة ضمنية أو صريحة.. فوفق التصنيف القانوني، ثمة عقد قد نشأ..” ويشدد المرجع القضائي: “من غير الممكن التعاقد مع الغير لإشغال ملك عام وبخاصة لغايات شخصية إلّا عن طريق قانون الشراء العام، أي إشغال من الغير هو تفويض بالإشغال. والإدارة ليست مخوّلة بالترخيص لأحد”. ويستكمل القاضي حديثه: “أي عائدات نتيجة التعاقد مع الغير، يستلزم التوجّه إلى قانون الشراء العام، سواء مناقصة أو مزايدة…”
ولدى اطّلاع القاضي على المسار القانوني الذي يحرص عليه المدير العام بغية تنظيم الإدارة، والذي يبدأ من لحظة تقديم الطلب والكشف وصولًا إلى التعهد والإيصالات، فيعلّق: “من الطبيعيّ أن يتقدم أيّ مواطن بطلب، أما مرحلة ما بعد الطلب، على الإدارة إعداد دفتر الشروط وإرساله إلى هيئة الشراء العام لإجراء مزايدة، لا الترخيص”. ويختتم المرجع القضائي حديثه لـ “المفكرة”: “هذا هدر للمال العام، ومخالفة لأحكام النظام العام وقانون الشراء العام، كلّها إجراءات شكلية ليغطي حاله، وكأنه فاتح تجارة، أو في شرعنة للخوّات (…) إخبار للنيابة العامة من شأنه فتح التحقيق بالملف ومساءلة المدراء العامين، وحتى وزير الأشغال الذي يتحمّل المسؤولية بحكم وظيفته الدستورية”.
تجدر الإشارة هنا، إلى أنّ وزير الوصاية علي حمية، الذي لم يردّ على اتّصالات “المفكرة” للوقوف عند رأيه بأي ردّ، كان قد أعلن في بيان سابق صدر عنه بتاريخ 2022/10/19: “ضرورة التقيّد بتطبيق أحكام قانون الشراء العام رقم 244/2021، في جميع عمليات الشراء العام من لوازم وأشغال وخدمات”. وقد أكّد يومها أنّ “وزارة الأشغال العامة والنقل.. ستكون السبّاقة في التقيد بأحكام هذا القانون”، وأنه وجّه تعميمه إلى كل الإدارات والمؤسسات العامة التابعة للوزارة، بما فيها مصلحة سكك الحديد والنقل المُشترك.
وعليه، اختتم حمية البيان نفسه، مشددًا على أن “أي مخالفة لمضمونه، ستعرّض مُرتكبها للإجراءات والتدابير المُناسبة وفقًا لأحكام قانون الشراء العام والأنظمة المرعية الإجراء”.