حملة المقاطعة: فوائد أيضاً للخاسرين من العولمة والنيوليبرالية
منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على غزّة، انتشرت في العالم دعوات لمقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال. وعلى الرغم من عدم توافر أرقام عن تأثير المقاطعة، لكن يبدو من المشاهدات أن تأثيرها واسع.
في مقال الشهر الماضي، جادلت أن سلاح المقاطعة كفعل ضدّ البنية الاقتصادية الراسخة التي وجدنا أنفسنا نعيش في ظلها، يجب أن يكون عالمياً وجماعياً وتاريخياً وذي رؤية طويلة المدى كي يكون فعّالاً. وفي ظل الانتفاضة العالمية لمناصرة فلسطين، التي شارك فيها الملايين من البشر حول العالم، يبدو أن الأمر متّجه بالفعل نحو دعوات عالمية للمقاطعة، ولكن ما لا يزال مثار تساؤل هو مستوى التنظيم وطول النفس.
من خصائص هذه المقاطعة، مقارنة بتجارب سابقة، هو نطاقها الواسع الذي يشتمل على جزء كبير من منتجات الشركات متعدّدة الجنسيات، ما يجعلها تبدو وكأنها عصيان مدني ضدّ منتجات العولمة وسياساتها وثقافتها، وتشتمل في الوقت نفسه – على الأقل في بلدان المنطقة – على قدر من الحنين والفخر بالسلع الوطنية التي يختلط جزء منها بنوستالجيا لعصور ما قبل العولمة.
العولمة الحالية، مثل كلّ التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية التاريخية، لها رابحين وخاسرين. وهي دخلت في مرحلة تعثر مطوّلة – مع غطائها الأيديولوجي النيوليبرالي – منذ الأزمة المالية العالمية في العام 2008. في هذه المقالة أعدِّد بعضاً من فوائد هذه المقاطعة واسعة النطاق على الخاسرين من العولمة، وهم كثر، ويتركّزون بشكل رئيسي في البلدان الأقل دخلاً بطبيعة الحال.
الخاسرون من العولمة تجارياً وبيئياً
لم تعد التجارة العالمية مقتصرة على تجارة الحاويات والموانئ، بل إن نصيب السلع الملموسة من التجارة العالمية آخذٌ في النقصان، وهو واحد من أهم ملامح هذا الطور من العولمة الرأسمالية.
مع ظهور دعوات المقاطعة، ظهرت بعض ردود الأفعال التي تقول إن الشركات صاحبة العلامة التجارية العالمية هي شركات محلّية 100% تعمل بنظام الفرانشايز، وأن المقاطعة ستضرّ برأس مال محلّي وعمالة محلّية أكثر ممّا تضرّ بالشركة العالمية. لكن أرباح حقوق الملكية الفكرية ليست بالأمر الثانوي في هذه المعادلة، وتتراوح عادة بين 4% إلى 8% من إجمالي سعر المنتج ومبيعات الشركة الحاصلة على الفرانشايز. على سبيل المثال، لو كان سعر وجبة سريعة يساوي 10 دولارات، سيذهب حوالى 60 سنتاً منها إلى الشركة الأم كإيراد صافي لا يقابله تكلفة، وشركة مثل «ماكدونالدز» لا تربح من بيع الأطعمة والمشروبات، لكن يتشكّل ربحها بالكامل من بيع حقّ استخدام العلامة التجارية (الثلث) وتأجير فروعها (الثلثين)، لدرجة أن الكثير من المحلّلين يصفونها كشركة عقارية، لأنها تمتلك عدداً كبيراً من عقارات فروعها في العالم، وتقوم بتأجيرها لمالك الفرانشايز، ما يعني أن مالك الفرانشايز يدفع لشركة «ماكدونالدز» الأم مرّتين، مرة في هيئة إيجار ومرة في شكل حق استخدام العلامة التجارية، التي تشكّل في حالة «ماكدونالدز» 5% من إجمالي المبيعات. في العام 2022 تخطّت إيرادات حق استخدام العلامة التجارية 5 مليارات دولار، في حين شكّلت إيرادات الإيجارات نحو 9 مليارات دولار. وكلّ هذه الأموال تدخل في ميزان المدفوعات كواردات خدمية تضع الكثير من الضغط على العملة المحلّية، التي تعاني من ضغوطات عدّة في غالبية بلدان العالم الجنوبي بسبب عدم التوازن التجاري.
بلغ متوسّط حصة الأصول غير الملموسة 30.4% من إجمالي القيمة المنتجة في العالم، وما يقرب من ضعف حصّة الأصول الملموسة. وارتفع إجمالي الدخل من الأصول غير الملموسة في الصناعات التحويلية بنسبة 75% بين عامي 2000 و2014، وبلغت 5.9 تريليون دولار أميركي في العام 2014. في الولايات المتّحدة فقط يبلغ إجمالي تحويلات رسوم حق استخدام العلامات التجارية من الخارج نحو نصف تريليون (500 مليار) دولار سنوياً، وهو ما يشكّل أكثر من 2% من إجمالي الدخل القومي الأميركي السنوي. علماً أن هذه المبالغ لا تشمل أرباح الملكية الفكرية غير المباشرة، مثل أرباح بيع سلعة معيّنة بسبب علامتها التجارية أو المكوّن المعرفي في السلعة. في تقريرها السنوي لعام 2017، نشرت المنظّمة العالمية للملكية الفكرية نموذج لشكل إنتاج القيمة في العالم سمّته «الابتسامة المتنامية» (Growing Smile) (أنظر الشكل أدناه)، وسبب التسمية هو أن القيمة المضافة المستخلصة من طرفي عملية الإنتاج، والتي تشمل خدمات غير ملموسة مثل البحث والتطوير والتسويق، تحصل على نصيب متزايد من الأرباح والقيمة متخذة شكل الابتسامة الآخذة في الكبر. ووفقاً لتقرير الملكية الفكرية العالمية، يلعب رأس المال غير الملموس دوراً هاماً في قطاع المنتجات الغذائية، وينتزع حوالى ثلث إيرادات هذا القطاع في حين ينتزع رأس المال الملموس 16% فقط، وتشكّل العمالة الحصة الباقية.
يؤدي أيضاً تبادل الخدمات غير الملموسة بالسلع الملموسة إلى ما يُسمّى بالتبادل البيئي اللامتكافئ، حيث الحاجة لتوفير العملة الصعبة لتمويل هذا النمط من الاستهلاك تُجبر الاقتصادات الأقل دخلاً على تصدير المزيد من الموارد الطبيعية. ويحدث هذا بالتوازي مع التعميق الكبير للتجارة الدولية، إذ أصبحت تشكل 56% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بعد ما كانت تشكّل 25% في العام 1970.
في السنوات الأخيرة، نجح باحثون في قياس تبادل الموارد الطبيعية المتجسّدة (أي التي تُستخدم في إنتاج السلع والخدمات المختلفة) من خلال التجارة الدولية. توضح دراسة أجراها هيكيل وآخرون في العام 2022، أن الاقتصادات الاقتصادات ذات الأجور المرتفعة بالقيمة الصافية انتزعت من الاقتصادات منخفضة الأجور 12 مليار طن من المواد الخام المتجسّدة، و822 مليون هكتار من الأراضي، و21 إكساجول من الطاقة (ما يعادل 3.4 مليار برميل من النفط)، و188 مليون سنة من العمل من خلال التبادل التجاري في العام 2015 وحده. ووفقاً لمؤّلفي الدراسة، يعادل ذلك نحو 10.8 تريليون دولار وفقاً لأسعار الشمال العالمي، وهو ما يكفي، حسب حساباتهم، لإنهاء الفقر المدقع 70 مرّة.
يرى إنفانتي أماتي وكراوسمان أن التبادل البيئي اللامتكافئ يضع ضغوطاً كبيرة على عمليات الاستخراج المحلّية للموارد. وعلى الطرف الآخر من التبادل، يمكن لشروط التجارة المواتية أن تحفّز البلدان الغنية على تصدير التأثيرات البيئية السلبية لعمليات الإنتاج، ويمكنها استخدام هذه الميزة للحفاظ على رأسمالها البيئي بشكل أفضل. في القلب من هذه الدينامية هو تبادل سلع وأصول غير ملموسة لا تستهلك موارد تنتج بشكل رئيسي في البلدان الأعلى دخلاً، مقابل سلع وأصول ملموسة كثيفة الموارد تنتج في البلدان الأقل دخلاً.
الخاسرون من العولمة وظيفياً وضريبياً
يذهب المعارضون للمقاطعة دائماً إلى أنها ستفقِد الكثيرين وظائفهم، لكن في الواقع، يمكن أن تخلق المقاطعة المزيد من فرص العمل لأن الشركات متعدّدة الجنسيات تتميّز بالاستثمارات الكبرى في تكنولوجيا توفير العمل، ويصدّرون هذه النماذج إلى وكلائهم في العالم، وعادة ما تشكّل فائدة في زيادة إنتاجية العمال بالمقارنة بمنافسيها من الشركات الوطنية، بسبب تطويرها المستمر لوسائل توفّر من النفقات عن طريق الأتمتة المستمرّة في عملية الإنتاج. بالطبع تقوم الشركات الوطنية بالأمر نفسه تحت ضغوطات المنافسة، لكنها دائماً ما تكون رد فعل وتابع في عملية الأتمتة، ما يجعلها متأخّرة خطوة. إذا أخذنا أمازون على سبيل المثال، في هذه المقالة على موقع فوربس، يعترف كاتب المقال أن أمازون تقتل وظائف في قطاعات التجزئة التقليدية أكثر ما تخلق وظائف في شركتها والبيئة المحيطة بها، لكنه يعتبر الأمر إيجابياً لأن زيادة الإنتاجية يحرّر المزيد من القوى العاملة لإنتاج شيء آخر، فتزيد ثروة المجتمع ككلّ. تصلح هذه النظرة الليبرالية المهووسة بزيادة الإنتاجية في اقتصاد لا يعاني من الإنتاج الزائد وضعف الاستهلاك بسبب ركود الأجور، لكن ما يحدث في ظل اقتصاد يعاني من زيادة الإنتاج، أن هذه العمالة لا تتحرّر لإنتاج شيء آخر لكن الاحتمال الأكبر أنها ببساطة ستعاني من البطالة، أو على الأقل البطالة الجزئية (underemployment). لن يكون هذا مشكلة – بل قد يكون ميزة للاستمتاع بأوقات فراغ أكبر – في مجتمع لا يرتبط فيه كسب العيش ببيع قوّة العمل، لكن في ظل هجمة العولمة النيوليبرالية ضد جميع أشكال الرفاه، فلا يخلق هذا إلا احتقاناً اجتماعياً بسبب زيادة نسب البطالة مع تقلّص أشكال الحماية الاجتماعية.
باختصار، إن الإنفاق على منتجات لا تعتمد بجزء كبير من قيمتها على العلامة التجارية، يعني أن حصة أكبر من الإنفاق ستذهب إلى العمالة والاقتصاد الحقيقي، وستبقى داخل الاقتصاد الوطني، وغالباً ما ستخضع لتهرّب ضريبي أقل.
الشركات متعدّدة الجنسيات التي تعتمد على ريع الملكية الفكرية هي من أكثر نماذج الشركات تهرّباً من الضريبة، بسبب قدرتها على تسجيل كل حقوق الملكية الفكرية لشركات في بلدان منخفضة الضريبة. على سبيل المثال، يقول تقرير الملكية الفكرية العالمية لعام 2017، إن الإيرادات الناتجة عن الأصول غير الملموسة يمكن تجنّب دفع الضرائب عنها بشكل أسهل من أنواع الدخول الأخرى. زيادة حصة هذه الأنشطة من الاقتصاد تضع الدول الضريبية تحت ضغط مُتزايد. اتأثر البلدان الأقل دخلاً بشكل أكبر من هذا النمط بسبب ضعفها المؤسّسي، الذي لا يواكب قدرة الشركات متعدّدة الجنسيات العملاقة على سدّ تلك الفجوات الضريبية. يتضح هذا جلياً في نسبة الضرائب للناتج المحلّي الإجمالي في فئات البلدان المختلفة. ففي البلدان مرتفعة الدخل، تشكّل نسبة الضرائب للناتج المحلي الإجمالي 16% في حين تشكّل 11% في البلدان متوسّطة الدخل، وغالباً ما ستكون تلك النسبة أكثر انخفاضاً في البلدان منخفضة الدخل، لكن للأسف هذه البيانات ليست متاحة على موقع بيانات البنك الدولي. وهذا التراوح هو في النسبة فقط، لكن بما إن الناتج المحلي للبلدان الأغنى هو أضعاف البلدان الأقل دخلاً، فالفجوة في القيمة المطلقة للضرائب المحصلة ستكون أكبر بكثير. بطبيعة الحال، يؤثّر هذا بشدّة على جودة الخدمات الاجتماعية والبنية التحتية وأنظمة الرفاه، ويزيد من مديونية تلك البلدان لتعويض العجز في ميزانيّاتها الناتج عن انخفاض الضريبة.
الخاسرون من العولمة صحياً
غالبية المواد الغذائية التي تقع تحت مظلة المقاطعة هي من الأطعمة والمشروبات الأميركية فائقة المعالجة، والتي تحتوي على كميات هائلة من السكر المكرّر والملح والدهون المتحوّلة والعناصر الصناعية، وتعتبر انتشار هذه «الأغذية» المساهم الرئيسي في انتشار وباء السمنة العالمي، والذي يعاني منه مليار شخص حول العالم ويعد خامس سبب للوفاة على مستوى العالم، وفقاً منظمة الصحة العالمية. تقول المنظمة إن السبيل للحدّ من انتشار السمنة يشمل: «الخطوات الفعالة لتقييد تسويق الأطعمة والمشروبات التي تحتوي على نسبة عالية من الدهون والسكر والملح للأطفال، وفرض ضرائب على المشروبات المحلاة، وتوفير وصول أفضل إلى طعام صحي ميسور التكلفة».
العولمة ملامة بشكل كبير على انتشار وباء السمنة، خصوصاً بين الشرائح الأفقر من المجتمع، فللمرّة الأولى في التاريخ البشري، يكون عدد الأشخاص الذين يعانون من زيادة الوزن أكبر من عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص الوزن، وتكون السمنة مرتبطة بالفقر أكثر من النحافة. قام باحثون من كلية لندن للاقتصاد وجامعة نافارا في إسبانيا بمحاولة قياس العلاقة بين العولمة والسمنة في الظاهرة التي تم توصيفها بال «Globesity»، وهي الكلمة التي تجمع بين كلمتي العولمة (Globalisation) والسمنة (Obesity). وجد الباحثان أن العلاقة قوية جداً، وترتبط زيادة انحراف معياري واحد في العولمة بزيادة قدرها 23.8% في عدد السكان الذين يعانون من السمنة المفرطة وزيادة بنسبة 4.3% في تناول السعرات الحرارية للفرد. وجدت أيضاً دراسة أخرى علاقة قوية بين انتشار مطاعم «ماكدونالدز» في البرازيل وانتشار السمنة وسط الفئات العمرية المختلفة ولاسيما الأطفال. وأخيراً أظهرت إحدى الدراسات التي شارك فيها باحثون من المعهد الوطني للسلامة والصحة المهنية في اليابان وجامعات ومعاهد بريطانية باستخدام بيانات من 75 دولة أن كل زيادة بنسبة 1% في استهلاك المشروبات الغازية مرتبط بزيادة بنسبة 4.8% في زيادة الوزن والسمنة.
لكن ماذا عن الخسائر؟
مثلما ذكرت أعلاه، لكل نمط اقتصادي رابحين وخاسرين، لكن سوف أركز هنا على الخسائر المحتملة للقطاع العريض من المستهلكين.
من الخسائر المحتملة هي مسألة الجودة والتنوّع، فتذهب النظرية الشائعة في الاقتصاد إلى أن المنافسة تزيد من الجودة والتنوّع الذي يصب في مصلحة المستهلك. أولاً إن تحجيم المنافسة مدفوع من المستهلكين وليس الدولة، ما يعني أنه صعب جداً الاتكال على دوام هذا الوضع، وأيضاً في سوق تنافسي بشدة مثل سوق المنتجات الغذائية أو المشروبات الغذائية، هناك منافسة كاملة تقريباً بين السلع المحلّية. تعصف أيضاً في كثير من الأحيان المنافسة الكاملة بالجودة تماماً، حيث شدّة المنافسة تعني ارتفاع حساسية الطلب للسعر (أو ما يسمى بالمرونة السعرية المرتفعة) تؤدّي بالمنتجين إلى السعي الحثيث إلى توفير بعض القروش هنا أو هناك عن طريق تصغير الحجم أو تقليل المكوّنات الأغلى لصالح المكوّنات الأرخص، استخدام ألوان صناعية ومواد حافظة على حساب المكوّنات الطازجة، ولعل مسح سريع لأرفف أي سوبر ماركت على مستوى العالم، يوضح الوزن المتزايد للأطعمة فائقة المعالجة من إجمالي استهلاكنا كمجتمع.
من المهم أيضاً الإشارة إلى أن هذه الفوائد لن تحدث معجزات اقتصادية، حيث أن الصناعات الغذائية على أهمّيتها الاجتماعية تحتل مرتبة منخفضة على سلم القيمة المضافة بسبب المنافسة الكاملة فيها وانخفاض المكوّن التكنولوجي، فهي ممكن أن تكبّد خسائر للمستثمرين في العلامة التجارية، وهو مكسب سياسي مهم وهذا هو الهدف الرئيسي، لكن السلع التي ستحل محلها غالباً ما ستكون منخفضة القيمة المضافة، وبالتالي لن تحدث طفرة كبيرة في الاقتصاد ككل حتى وإن تحقّقت بعض من الفوائد أعلاه، خصوصاً أن مقاطعة واستبدال المنتجات عالية القيمة المضافة والمكوّن التكنولوجي أصعب كثيراً بسبب طبيعتها الاحتكارية أو شبه الاحتكارية، حتى وإن كان هناك بعض المنافسة في الهواتف والحواسيب، فمكوناتها عادة ما تكون احتكارية، ولعل النموذج الأشهر هو نموذج «إنتل الداعمة» بشدّة لإسرائيل، وهنا قد يكون هناك دور لـ«ثورة الشراء المستعمل والتصليح» المدفوعة باعتبارات بيئية (وأحياناً جمالية واقتصادية).
كثرت في العالم المتحدث بالعربية مقالات وفيديوهات تشير إلى بدائل منتجات العولمة الداعمة لإسرائيل أو النشطة فيها، ولكن غاب تماماً عن النقاش أسواق الحاجيات المستعملة كبدائل. يكبر حجم سوق الأغراض المستعملة في الولايات المتحدة مثلاً بمعدل ضعف تجارة التجزئة الأخرى، ومن المتوقع أن يكبر بنسبة 80% في الأعوام الخمسة المقبلة، ليصل حجمه إلى نحو 300 مليار دولار في الولايات المتحدة فقط. بسبب البعد البيئي والمعادي للاستهلاكية لهذه الأنشطة، ونشاطها في عالم الملابس والإلكترونيات والأجهزة الكهربائية والأثاث وأغراض المطبخ، يغلب على هذا النشاط بعد تقدّمي لا يجعله نصيراً محتملاً للقضية الفلسطينية فحسب، بل مستفيداً منها أيضاً. هنا يجب مدّ روابط بين الحراك المناصر لفلسطين والحركة البيئية التي قد تستفيد من حراك المقاطعة، وهو ما يضيف فوائد بيئية أخرى لقائمة الفوائد المذكورة أعلاه.
على سبيل المثال، تساهم صناعة الملابس وحدها في 10% من انبعاثات الكربون في العالم متخطّية انبعاثات قطاع الطيران والنقل مجتمعان، وتستهلك مياهاً تكفي لاحتياجات 5 مليارات شخص، ويأتي نحو 20% من مياه الصرف الصحي في العالم من صباغة المنسوجات ومعالجتها. أما بالنسبة للإلكترونيات، فسوف تساهم بنحو 4% من انبعاثات الكربون في العالم، بالإضافة إلى الأثر الكربوني للأجهزة الكهربائية والأغراض المنزلية ونقلها، إلخ.
ثورة العولمة والنيوليبرالية التي شهدها العالم في العقود الأخيرة وتجلّت في تعميق التجارة الدولية بشكل عام وتعميق التجارة غير الملموسة بشكل خاص، وما نتج عنها من تعميق في التقسيم الدولي للعمل أو ما يسمّى بسلاسل القيمة، بحيث أصبحت بعض البلدان تتخصّص في منتجات رخيصة لكنها كثيفة الموارد وملوّثة في حين أن بلدان أغنى تخصّصت في إنتاج الأصول غير الملموسة عالية الربحية وقليلة استهلاك الموارد، خلفت ورائها مئات الملايين من الخاسرين. هذا فضلاً عن التأثيرات البيئية والصحية الضارّة ودور العولمة في التطوّر الكبير في التكنولوجيا الموفرة للعمل، فضلاً عن تمكين الشركات الأقوى من التجنّب الضريبي. خلق كل هذا بيئة وسياق مواتي جداً لاستقبال دعوات المقاطعة من أجل فلسطين، والتي تشكّل حلقة جديدة في سلسلة أزمة العولمة والنيوليبرالية المستمرة منذ العام 2008.