نظرة عامّة إلى فقّاعة الدين العام العالمي
قفزت كتلة الدين العام في العالم بنحو 5 أضعاف منذ العام 2000 ووصلت إلى 92 تريليون دولار، بحسب تقرير «عالم من الديون» الصادر عن منظّمة الأمم المتّحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD). وحالياً هناك 3.3 مليار شخص، أي نحو نصف البشرية، يعيشون في بلدان تنفق أموالاً عامّة على مدفوعات الفائدة أكثر ممّا تنفق على السكان.
معظم هذه الديون راكمتها حكومات البلدان النامية مدفوعة بحاجتها المتزايدة لتمويل نفقاتها والتصدّي للأزمات العالمية المُتتالية، من التغيّر المناخي وتداعياته على الاقتصادات المحلّية ونوعية الحياة، إلى أزمات كلفة المعيشة وآثارها على رفاه المجتمعات، وصولاً للأزمات الصحّية وتفشّي الأوبئة وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية وآخرها جائحة كوفيد-19. وفي حين يمكن للدين العام أن يكون حيوياً للتنمية في حال استخدمته الحكومات لتمويل نفقاتها وتأمين الحماية لشعوبها والاستثمار فيهم وتعبيد الطريق لمستقبل أفضل للأجيال المقبلة، تحوّل إلى عبءٍ ثقيل نتيجة تضخّم الدين العام بكثرة وبسرعة، ممّا مدّد تداعياته إلى أجيال مقبلة.
يحدث هذا اليوم في معظم البلدان النامية بسبب ارتفاع الحاجات التمويلية في ظلّ بنية مالية دولية غير مُتكافئة تجعل وصول هذه البلدان إلى التمويل غير كافٍ ومُكلف، فيما تستفيد البلدان الغنّية من ارتفاع كلفة الاقتراض لتحويل ثروات الشعوب إليها وتوسيع دائرة مصالحها.
1. قفزة الديون العامّة العالمية إلى مستويات غير مسبوقة
تسير الديون العامّة في جميع أنحاء العالم بشكلٍ تصاعدي، وقد أدّت الأزمات المُتتالية في السنوات الأخيرة إلى تسارعٍ حادٍّ في هذا الاتجاه. وصل الدين العام العالمي، بما فيه الدين العام المحلي والخارجي للحكومة، إلى مستوى قياسي بلغ 92 تريليون دولار أميركي في 2022، بالمقارنة مع 17 تريليون دولار في العام 2000. أي أن الدين العام العالمي ارتفع بأكثر من خمسة أضعاف منذ العام 2000، متجاوزاً الناتج المحلي الإجمالي العالمي الذي تضاعف ثلاث مرّات فقط في خلال الفترة نفسها.
الدين العام العالمي ارتفع بأكثر من خمسة أضعاف منذ العام 2000، متجاوزاً الناتج المحلي الإجمالي العالمي الذي تضاعف ثلاث مرّات فقط في خلال الفترة نفسها
في خلال العقد الأخير، سجّلت وتيرة الارتفاع الأسرع في البلدان النامية، إذ ارتفع عدد البلدان المثقلة بمستويات مديونية ضخمة من 22 بلداً إلى 59 بلداً بين عامي 2011 و2022. ويعود ارتفاع الدين العام في البلدان النامية بشكل رئيس إلى ارتفاع احتياجات تمويل التنمية، التي تفاقمت أكثر مع تفشّي جائحة كوفيد-19 وأزمات كلفة المعيشة والتغيّر المناخي، بالتوازي مع محدودية مصادر التمويل البديلة.
2. زيادة التعرّض للصدمات الخارجية مع زيادة الاقتراض من الأجانب
زاد الدين العام للدول النامية من 35% من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2016 إلى 60% في العام 2021. وبالمثل زاد الدين العام الخارجي، أي المملوك من دائنين خارجيين، من 19% من الناتج المحلّي الإجمالي إلى 29% في خلال الفترة نفسها. ترافق ذلك مع تدهور قدرة الدول النامية على خدمة التزامات ديونها الخارجية عند مقارنتها مع قدرتها على توليد إيرادات بالعملات الأجنبية، إذ ارتفعت حصّة الدين العام الخارجي من صادرات الدول النامية من 71% إلى 112% بين عامي 2010 و2021. بمعنى أصبحت الديون العامة الخارجية المتوجبة على الدول تزيد عن قيمة صادراتها.
ارتفعت حصّة الدين العام الخارجي من صادرات الدول النامية من 71% إلى 112% بين عامي 2010 و2021. بمعنى أصبحت الديون العامة الخارجية المتوجبة على الدول تزيد عن قيمة صادراتها
تؤدّي زيادة الاقتراض من الدائنين الأجانب الى تعرّض البلدان للصدمات الخارجية. ففي حال قرّر المستثمرون الدوليون عدم المخاطرة والإقراض، ترتفع الفائدة أي كلفة الاقتراض على الدول النامية الساعية وراء تمويل. وكذلك في حال انخفضت قيمة العملة المحلّية لبلدٍ ما، ترتفع قيمة مدفوعات الديون بالعملات الأجنبية بشكلٍ كبير. وفي الحالتين يترك ذلك أموالاً أقل للإنفاق على التنمية.
3. ارتفاع كلفة التمويل من القطاع الخاص
في خلال العقد الماضي، ازدادت حصّة الدين العام الخارجي العالمي المملوك من دائني القطاع الخاص. وفي العام 2021، بات يشكل نحو 62% من مجمل الدين العام الخارجي للبلدان النامية بالمقارنة مع 47% في العام 2010، ممّا جعل كلفة الإقراض أعلى بالمقارنة مع التمويل الثنائي والمتعدّد الأطراف (أي التمويل من الحكومات الأخرى)، وقلّص إمكانية تمويل الاستثمارات المهمّة، وعقّد مسارات إعادة هيكلة الديون.
تدفع الدول في أفريقيا معدّلات فائدة أعلى بأربعة أضعاف بالمقارنة مع الولايات المتّحدة، وبثمانية أضعاف بالمقارنة مع ألمانيا
تنفق الدول النامية أموالاً أكثر على ديونها بالمقارنة مع الدول المتقدّمة، ويعود ذلك إلى اضطرارها لدفع معدّلات فائدة أعلى من أجل الحصول على التمويل، حتّى من دون أخذ تقلّبات سعر الصرف في الاعتبار. على سبيل المثال، تدفع الدول في أفريقيا معدّلات فائدة أعلى بأربعة أضعاف بالمقارنة مع الولايات المتّحدة، وبثمانية أضعاف بالمقارنة مع ألمانيا.
. خدمة الديون أو خدمة الشعوب؟
أدّى الارتفاع السريع للديون في البلدان النامية إلى زيادة الفوائد المُترتبة عليها، وحجم هذه الفوائد بالنسبة لاقتصاداتها وإيراداتها الحكومية. حالياً، يخصّص نصف عدد البلدان النامية أكثر من 1.5% من الناتج المحلّي الإجمالي، ونحو 6.9% من الإيرادات العامة لدفع فوائد الدين العام، بالمقارنة مع 0.9% و4.2% على التوالي في العام 2010.
هناك 48 دولة، يعيش فيها 3.3 مليار شخص أي نحو نصف البشرية، تعاني من نقص الاستثمار في التعليم والصحّة بسبب الأعباء الكبيرة لخدمة الدين العام
يعدّ ارتفاع خدمة الدين مشكلة واسعة النطاق، خصوصاً أن عدد البلدان، حيث تشكّل مدفوعات الفائدة 10% من الإيرادات العامّة أو اكثر، ارتفع من 29 إلى 55 بين عامي 2010 و2020. وهو ما يأتي على حساب الشعوب التي تضطر إلى دفع الثمن بتقليص الإنفاق على الخدمات الأساسية مثل الصحّة والتعليم والاستثمارات العامّة. يساهم ارتفاع خدمة الدين في زيادة عدد الدول التي تجد نفسها عاقلة بين عجزها عن تحمّل ديونها من جهة، وعجزها عن تمويل الخدمات الأساسية للمجتمع من جهة ثانية. وحالياً، هناك ما لا يقل عن 19 دولة نامية تنفق أموالاً عامّة أكثر على فوائد الدين العام بالمقارنة مع ما تنفقه على التعليم، و45 دولة تنفق على الفوائد أكثر مما تنفق على الصحة. وفي المجمل، هناك 48 دولة، يعيش فيها 3.3 مليار شخص أي نحو نصف البشرية، تعاني من نقص الاستثمار في التعليم والصحّة بسبب الأعباء الكبيرة لخدمة الدين العام.