الحرية ضد العدالة والمساواة نقاش لأفكار فون هايك النيوليبراليّة
صدرت هذه الدراسة العام ٢٠٠٠ في مجلة «النهج» بدمشق، العدد ٧٥، ونعيد نشرها لأنها من النصوص العربية القليلة التي تناقش أفكار فون هايك
ضيّع اليساريّون العرب مفهوم العدالة الاجتماعية في غَمرة إعجابهم بشعار دكتاتوريّة البروليتاريا وكثرة تكرارهم له دون أن يفقهوا فعلاً ما ينطوي عليه من مآسٍ. ومهما تكن الالتباسات التاريخيّة لهذا الشعار الأخير، فقد ظلّ مقرونًا فكرًا وممارسةً بالاستيلاء الانقلابي على السلطة وفرض السلطة الاستبداديّة لأقليّةٍ على أكثريّة.
وقد اقتضى الأمر عقودًا من الزمن إلى أن بادرت بعضُ الأحزاب الشيوعيّة الأوروبيّة إلى إسقاط دكتاتوريّة البروليتاريا من برامجها خلال المراجعات التي أفضت إلى ولادة «الشيوعيّة الأوروبيّة» وهي تيّار ما لبثت أن أدانته، بل خوّنتْه، أكثريّةُ الأحزاب الشيوعيّة المرتبطة بالاتّحاد السوفييتي ومَن لفّ لفّها من أحزابٍ وتنظيماتٍ ماركسيّة أو متمركِسة.
يجب استعادة المشروعيّة النظرية والعملية لمفهوم العدالة الاجتماعيّة وأيضًا لمفهوم تكافؤ الفرص بما هو صلةُ الوصل بين العدالة السياسيّة والقانونيّة من جهة والعدالةِ الاجتماعيّة من جهةٍ أخرى، أي التوزيع العادل للثروة والمدخول والخدمات العامة. وتزداد أهميةُ هذا الجهد، لأنّ الهجومَ على مفهوم العدالة الاجتماعيّة صار عملةً دارجةً في أدبيّات العولمة والليبراليّة الجديدة.
لا يحمل النظامُ العالمي الجديد المنّ والسلوى في أسواقه، على عكس ما توهّم ويتوهّمُ العديد من مروّجيه بين مثقّفي العالم الثالث- وكثيرٌ منهم من صنف اليساري السابق المرتدّ والنادم، الذي لا ينفكّ يقدّم أوراق اعتماده إلى أسياد العالم الجدد. إنّه يحمل ارتدادًا على كل ما اضطرت إليه الرأسماليّة من تنازلاتٍ وإصلاحاتٍ تحت وطأة نضالات الطبقات العاملة في بلدانها وإبّان فترة صعود المدّ الاشتراكي أو احتدام المزاحمة بين النظام السوفييتي والنظام الرأسمالي.
مع العولمة، تعود إلينا الرأسماليّة مصفّاةً مطهّرةً من كل ما خالطها من تطعيمٍ بسبب الصراع بين المعسكرَين وبين النظامَين:
الانتكاس من الإنتاج إلى الريعيّة والمضاربة والخدمات،
الرأسماليّة على حساب الديموقراطيّة
والحريّة في مواجهة المساواة.
وليس أدلَّ على ذلك الارتكاس من العودة إلى كتابات الليبراليين الكلاسيكيين المحافظين من أمثال الاقتصادي النمساوي فريدريش فون هايك (1899-1992)١ الذي أصرّ على الدوام على رفض أيّ تنازلٍ أو تعديلٍ في رأسماليّة السوق الحرّة. لا يأبه فون هايك للتصدّي إلى تفاصيل العولمة – إلغاء الحواجز الجمركيّة والخصخصة ورفع الدعم عن السلع الأساسيّة وتصفية الخدمات والضمانات الاجتماعيّة للدولة بل يذهب إلى الأساس الفكري، فكرة العدالة الاجتماعيّة ذاتها. وهذا ما يعبّر عنه بوضوح في محاضرةٍ له ألقاها عام 1976 وصدرت ترجمةٌ لها في نشرة «حرّيات» اللبنانيّة بعنوان «وهم العدالة الاجتماعيّة» (العدد 9، خريف 1997). النصّ جديرٌ بالاهتمام وبإثارة ما يستحقه من النقاش. فالكاتب، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 1973، هو بطريرك النيوليبراليّة بلا منازع، إن لم نقل إنّه نبيّها، الذي ألهم سياسات رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر. ولعلّه معروفٌ أقلّ مما يجوز في بلادنا، فيما تقوم وتنتشر النوادي المسمّاة على اسمه ناشرةً أفكارَه في العالم أجمع.
اللاعقلانية والعفوية في خدمة حرية التجارة
في دفاعه عن حريّة التجارة، يرى فون هايك أنّ السوق ليست مجرّد ضرورةٍ اقتصاديّة وإنما هي أيضًا وقبل أيّ شيء آخر ضرورة معرفيّة، ذلك أنّ الأسواق هي حلقات توصيلٍ للمعلومات الاقتصاديّة المتفرّقة وفي مقدّمتها المعلومات عن الأسعار. من هنا فإنّ محاولاتِ الاشتراكيّين استبدالَ الأسواق أو السيطرةَ عليها تثير مشكلةً معرفيّةً لا محالة إضافةً إلى ما تثيره من مشكلاتٍ اقتصاديّة وسياسيّة. وقد تنبّأ فون هايك بفشل التخطيط الاشتراكي لأنّ الدولة الاشتراكيّة، في جهدها التخطيطي، سوف تُخفق في الحصول على المعلومات الاقتصاديّة، بخاصة منها المعلومات عن الأسعار، وهي المعلومات التي لا غنًى عنها لكلّ عملية تخطيط. وتكهّن أنّ تلك الدول سوف تُخفق في مهمّة التخطيط تحديدًا بسبب تغييبها الأسواق أو تحجيمها. فلا يلبث أن ينعكسَ هذا التغييب وذاك التحجيم سلبًا على التخطيط ذاته. واعتبر فون هايك أنّ غياب نظامٍ للتسعير يشكّل الخطأ القاتل للاشتراكيّة. من هنا كان يرى أنّ القرارات غير الممركزة والسوقَ الحرّة هما ما يلائم الاقتصادَ الحديثَ المركّب وشديد التعقيد.
وهذا ما قاد فون هايك إلى القول باستحالة الملاءمة بين مبدأ السوق ومبدأ تدخّل الدولة في الاقتصاد، مهما كان هذا التدخل جزئيًّا أو محدودًا، فما من حلّ وسط بين الاقتصاد الحرّ والاشتراكيّة. إذ لا يعقلُ وجودُ بلد يحمل مقدارًا محدودًا من الاشتراكيّة، ذلك أنّ هذه الأخيرة لن تلبث أن تمدّ أذرعتها لتشمل المجتمعَ كلَّه. من هنا كانت معارضةُ فون هايك لمقترحات جون ماينارد كينز عن تدخّل الدولة في الدورة الاقتصاديّة لتصحيح اختلالات السوق ولَجْم دوريّة وشموليّة الأزمات الرأسماليّة. ومن هنا أيضًا معارضتُه نظريّةَ اشتراكيّة السوق التي طرحها الاقتصادي المجَري أوسكار لانجه في امتداد الموجة الإصلاحيّة التي اجتاحت أوروبا الشرقيّة في الستينيّات.
في الثلاثينيّات، نشب سجالٌ حادّ بين فون هايك وكينز اعتبر الكثيرون أنّ فون هايك خرج منه مهزومًا شرّ هزيمة أمام الرجل الذي وُصِف بأنّه «منقذ الرأسماليّة». فانكفأ فون هايك أمام صعود الاشتراكيّة واكتساح الكينزيّة ودولة الرعاية والرأسماليّة الاجتماعيّة، معتصمًا بفلسفته المحافِظة، متمسّكًا بليبراليّة كلاسيكيّة لا تساوِم ولا تهادِن.
فلسفيًّا، ينتمي فون هايك إلى المدرسة الناقدة للّعقلانيّة. ناهض عصرَ التنوير الذي رأى فيه لحظةً مدمّرة من لحظات العقل البشري، وشدّد على أنّ من يتهدّد البشرية ليسوا اللاعقلانيين المهووسين الذين يعملون على تدمير العالم وإنما هم العقلانيون الذين يحاولون، عن سابق تصوّر وتصميم، هندسةَ العالم الحديث وفق منظومات عقلانيّة، فيقيّدون البشريّة بقيود من صُنعها ويُودون بها إلى التهكلة. ويضع فون هايك في خانة هذه العقلانية الإيديولوجيّات والأنظمة الفاشيّة والشيوعيّة على حدٍّ سواء.
ويُقيم فون هايك صلة مباشرة بين التخطيط الاقتصادي، بما هو أحد تجلّيات النزعة العقلانيّة لهندسة العالم، وبين التوتاليتاريّة فلا يعتبر التوتاليتاريّة انحرافًا في الاشتراكيّة بل يرى فيها عنصرًا من عناصرها المكوّنة. وهو يذهب هنا بالفكر الليبرالي إلى نهاياته المنطقية في التأكيد على أنّ أيّ تدخّل للدولة في الاقتصاد والتخطيط سوف يستتبع حكمًا، المركزيّةَ والأوامريّةَ، وهما على الصعيد السياسي صنوان للديكتاتوريّة والتوتاليتاريّة، لأنّ هذه وتلك تضعان سلطات استثنائية في يد القلّة وتقذفان بالأقل كفاءةً والأكثر فسادًا إلى فوق، إلى مركز القرار.
في وجه العقلانيّة، يضع فون هايك نظريةً تقول إنّ النظام المجتمعي إنّما هو نظامٌ قائمٌ على العفويّة التي هي نتاج نوازعَ واتّجاهاتٍ لا مقاصدَ فيها ولا تدبير. بمعنى آخر، يضع فون هايك «عفويّة» السوق في مواجهة عقلانيّة التخطيط الاقتصادي. وقد أولى عناية خاصّة لدراسة القانون وخلُص منها إلى أنّ القواعد القانونيّة والسلوكيّة إنّما تنبثق انبثاقًا عفويًّا في المجتمعات. فأبَان كيف أنّ القانون العُرفي ينبثق من معارف وعادات اختُزنتْ واختَمرتْ بفعل تاريخٍ طويل من التجربة والخطأ. وخلص إلى أنّ السوق، مثلُها مثلُ القانون، إنما هي «نظامٌ» عفوي، أي حصيلة العمل والممارسة الإنسانيّين، وليست صادرة بأيّ حال عن أيّ تصميمٍ إنساني.
يرى فون هايك إلى الأخلاق من منظار مبدأ العفويّة ذاتِه، فالأخلاق هي أيضًا مجرّدة من أيّ تصميم وقصد، أو هكذا يجب أن تكون. وهو بذلك من القائلين بالحياد الأخلاقي للسوق. فيتميّز في ذلك عن تيّارَين في الليبراليّة ذاتها. يقول الواحد إنّ الأخلاق القويمة هي التي تَنتج من السوق، مثال عليه المفكّر البريطاني المحافظ إدموند بيرك في قوله «إنّ قوانين التجارة هي قوانين الطبيعة وهي بالتالي قوانينُ الله». ويقول التيّار الآخر إنّ آليّات السوق تنجم عنها فوارقُ تتنافى مع ما يعتبره الكثيرون قيمًا أخلاقيّة مُجْمعًا عليها إنسانيًّا. وهذا ما يستدعي ترشيدًا إنسانيًّا واعيًا لتلك الآليّات غالبًا ما يكون عن طريق تدخّل الدولة في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
يقف فون هايك في مواجهة كلا التيّارَين. لا ينفي أنّه يجب على الأفراد أن يسلكوا سلوكًا قويمًا وأخلاقيًّا، إلا أنّه يرى أنّ مثل هذا السلوك يقوم لذاته وليس لأيّ نفعٍ قد يؤدّيه للآخرين. فالنفع الذي قد يصيب الآخرين جرّاءَ السلوك الأخلاقي للأفراد لم يخطّط له هؤلاء الأفراد بل هم غافلون عن نتائجه معظمَ الأحيان. فتكون حصيلةُ أفعالهم حياديّةً من الناحية الأخلاقيّة لأنّها مجرّدة من المقاصد «فلا يمكن وصفُ النتيجة الإجماليّة بأنّها عادلة أو غير عادلة» على حدّ تعبيره. بعبارة أخرى، فإنّ الحياد الأخلاقي للسوق هو نظير الحياد الأخلاقي لسلوك الأفراد ونتائجِه في آن.
نقض العدالة الاجتماعيّة
يعيّن فون هايك الحرّيةَ الفرديّة بما هي القيمةُ الأساسُ في نظامه الفكري فيواجه بين الحرية من جهةٍ والعدالة والمساواة من جهةٍ أخرى، فالأولى هي مضمونُ الحضارة الغربيّة، التي يعرّفها حصرًا بأنّها تلك الحضارة التي نجمتْ عن ولادة ونمو الفرد ونمو الفرديّة، فيما تنتمي القيمتان الثانيتان العدالة والمساواة إلى صنف الغرائز البدائيّة الموروثة، بل هما ضربٌ من ضروب البربريّة. ولم يكن للحضارة أن تقوم أصلاً حسب رأيه إلا بعد أن تحرّرتْ من تلك الغرائز عبر الانتقال إلى السوق، حاضنةً الأفرادَ الأحرارَ.
وقد خَصّص فون هايك الجزء الثاني من ثلاثيّته «القانون والتشريع والحرّية» لنقض مفهوم العدالة الاجتماعيّة تحت عنوان «سراب العدالة الاجتماعيّة» (1976). وهو لم يكتفِ بنعته العدالةَ الاجتماعيّةَ على أنّها سرابٌ ووهْمٌ بل كال لها تهمًا من عيار أنّها «عبارة فارغة» و«مفهومٌ مشبوهٌ من الناحية الفكريّة». الاتّهام الاستخباراتي الأخير يثير الاستغراب. ذلك أنه يذكّر بالتّهم التي تَسوقها عادةً أجهزةُ الرقابة الأيديولوجيّة في الأنظمة التي يعتبر فون هايك نفسَه في طليعة مناهضيها.
ومهما يكن، فحين نتعمّق في قراءة نصّ فون هايك، نكتشف أنّ العدالة الاجتماعيّة، عبارةً ومفهومًا، ليست بلا معنى على الإطلاق طالما أنّ الكاتب ذاتَه يَنسب إليها عراقةً تاريخيّة تعود إلى طفولة البشريّة أي إلى المجتمعات «البدائيّة» لما قبل عشرة آلاف سنة من عمر البشرية. لماذا قبل عشرة آلاف سنة من عمر البشرية؟ لأنّه التاريخ الذي يعيّنه فون هايك لولادة مفاهيم وممارسات السوق والمنافسة الحرّة والمجتمع الحرّ والملكيّة الفرديّة وسواها من المفاهيم والممارسات التي مهّدت للرأسماليّة الحديثة. غنيٌّ عن القول إنّ مدى الدقّة التاريخيّة لهذا التعيين مشكوكٌ فيه إلى أبعد حدّ.
أين الوهمُ والسراب في مفهوم العدالة الاجتماعيّة؟
يقول فون هايك إنه قضى سحابة عقدٍ من الزمن يتبحّر في مفهوم العدالة الاجتماعيّة فتوصّل إلى أنّ العبارة التي ينعتها بأنّ «لا معنى لها»، لها معنًى واحدٌ على الأقل هو «العدالة التوزيعيّة»، على أنّ تلك العدالة التوزيعيّة هي أقرب في رأيه إلى الغريزة منها إلى المفهوم، تحدّرتْ إلينا من المجتمعات البدائيّة حيث كان البشرُ يعيشون في زمَرٍ صغيرةٍ تعتمد الصيدَ وتتقاسم الطعام، تتألّف كل زمرةٍ ممّا لا يزيد على خمسين فردًا يخضعون لنظام صارم ضمن الأراضي المشتركة المحميّة التي تسيطر عليها الزمرة.
«في تلك الزمرة الصائدة، والحديث هنا عن الذكور فحسب، كانت المطاردة الاجتماعيّةُ لطريدةٍ معيّنة، ماديّةً، مرئيّة بقيادة رئيس، تشكّل رمزًا لاستمراريّة الزمرة التي كانت توزّع حصصًا من الفريسة على أفرادها وفقًا لأهميّة كل واحدٍ منهم بالنسبة إلى بقاء الجماعة».
يؤكّد فون هايك إذًا على الأصل الغريزي الطبيعي للعدالة الاجتماعيّة، مختزلاً إيّاها إلى العدالة التوزيعيّة، وذلك تمييزًا لها من الأصل الثقافي الحضاري للسوق. ومع أنّ غرائز العدالة التوزيعيّة أسبقُ تاريخيًّا من السوق، إلّا أنّها لم تترك أيّ أثر في السوق أو الحضارة الإنسانيّة. ها هو يقول عن قيم ومشاعر ذلك المجتمع البدائي:
«والراجحُ جدًّا أنّ الكثير من المشاعر الأخلاقيّة التي اكتُسبت حينئذٍ [إبّان الحقبة البدائيّة] لم تنتقل من طريق الثقافة من خلال التعلّم والمحاكاة بل انقلبتْ إلى مشاعر فطريّة وانتقلت من خلال الوراثة».
ويخلُص فون هايك إلى أنّ الخروج من ذلك المجتمع البدائي المشاعي كان شرطُه مغادرة أعداد متزايدةٍ من البشر لتلك المبادئ في العدالة التوزيعيّة التي كانت سببًا في بقاء الجماعات القديمة موحّدةً ومتماسكة وبالتالي متخلّفة وبربريّة.
فليتصوّر القارئ هذه البهلوانيّة التاريخيّة: مشاعر بدائيّة تبقى على حالها، بما هي مشاعرُ فطريّة وتنتقل بالوراثة، فيما مشاعر أقلُّ بدائيّةً، وأحدثُ تاريخيًّا، تتحوّل فجأة إلى قيمٍ ثقافيّة! لماذا؟
الحريّة ضدّ العدالة والمساواة
لمزيدٍ من توضيح فكرة فون هايك، لا بدّ من هذه الملاحظات:
أولاً، إذ يشدّد فون هايك على الأصل الطبيعي للعدالة الاجتماعيّة، فهو يشذّ في ذلك عن العدد الأكبر من مبرّري اللاعدالة واللامساواة بين البشر، قديمهم والحديث. فهؤلاء يذهبون عادةً إلى أنّ التفاوت بين البشر أصلٌ طبيعي فيهم أو هو ناجمٌ عن مشيئة ربانيّة. في الفكر المحلي، يقول ميشال شيحا إن العدالةَ الاجتماعيّة مستحيلة بين البشر لأنهم ليسوا متساوين من حيث «طبيعتُهم» ذاتُها٢. وإذا كان شيحا يعزو اللامساواةَ إلى «الطبيعة» فإنّ هناك من يعزوها إلى الطبيعة والمشيئة الإلهية معًا. هذا هو مؤسس حزب الكتائب اللبناني الشيخ بيار الجميّل (توفي عام 1984)، يُنكر إمكانيّة تحقيق العدالة والمساواة على هذه الأرض الفانية، فيما يعلّلنا، على الأقلّ، بإمكانيّة تحقيقهما في الدنيا الآخرة.
ردًّا على سؤال عمّا إذا كانت الفروق الاجتماعيّة قد لعبتْ دورًا ما في تفجير الحرب الأهلية اللبنانية، عام 1975، يحسم رئيس حزب الكتائب البحث باقتضاب معبّر: «المساواة الاجتماعيّة ليست موجودة إلا في الجنّة»٣. كييبي دي ليانو جنرال انقلابي عيّنه الجنرال فرانكو حاكمًا على الأندلس إبّان الحرب الأهلية الإسبانيّة (١٩٣٦-١٩٣٩)، وفي ما عدا قسوته المشهورة ومجازره النموذجيّة الردعيّة، فللجنرال في مسألة المساواة بين البشر قولٌ مأثور:
«إنّ المساواة الاجتماعيّة كلمةٌ فارغة، انظروا إلى عمل الطبيعة وراقبوا ما خلقه الربّ، تجدوا أنّه لا يوجد شيئان متساويان. إنّ المساواة بين البشر أمرٌ محال»٤.
من جهةٍ أخرى، تشكّل الداروينيّةُ الاجتماعيّة أيْ محاولة تطبيق القوانين الطبيعيّة التي اكتشفها العالِم الطبيعي شارلز داروين على الاجتماع الإنساني الذروةَ التي بلغها الفكر اليميني الذي يعتبر آليّات السوق والمنافسةَ قيمًا اجتماعيّة وأخلاقيّة بذاتها. وفق هذا المذهب، تصير المنافسةُ الاقتصاديّة هي النظير البشري للصراع من أجل البقاء الذي هو القانون الأول في عالم الطبيعة، حسب داروين. فتتكرّس المنافسة بين البشر بما هي قانونٌ أسّ من قوانين الطبيعة لا مندوحةَ منه. ومثلما أنّ الطبيعة تؤمّن البقاء للأقوى من الأجناس الطبيعيّة، وتؤدّي إلى موت واندثار الأضعف، كذلك الأمر في الاجتماع الإنساني. «إنّ الطبيعة تمنح مكافآتِها للأقوى» يقول أحد أبرز دعاة هذا المذهب، الأميركي وليام غراهام صومر (١٨٤٠-١٩١٠) الذي يبني كلَّ مذهبه على إقامة التضادّ الكامل بين الحريّة والمساواة. ويعرّف صومر الحريّة على أنّها تَوافُر الأمان الذي يسمح للفرد بأن يتصرّف بمنتوج عمله بالطريقة التي يراها مناسبة، وإذا كان يُماهي بين الحريّة والعدالة، إلا أنّه يميّز تمييزًا قاطعًا بين العدالة والمساواة، فيرى أنّ العدالة إنّما تقوم على تنمية اللامساواة والفروقات بين البشر، لا العكس كما هو شائع، فيقول إنّ الملكيّة الفرديّة، وهي أبرز تجلٍّ من تجلّيات الحريّة الفرديّة عنده، تولّد الفوارقَ الاجتماعيّة على نحو مستمر. من هنا فإنّ السعيَ إلى تقليص تلك الفوارق الاجتماعيّة لا يؤدّي إلى تشجيع الأضعف والأسوأ بين أفراد المجتمع، أي إلى السعي لمعاكسة قوانين الطبيعة ذاتِها. وهكذا فإنّ صومر ودعاةَ الداروينيّة الاجتماعيّة لا يكتفون بالدفاع عن اللامساواة بين البشر وإنّما هم يدعون كذلك إلى تنمية اللامساواة بينهم، ويخلُص صومر في ذلك إلى المعادلة الآتية:
«الحريّة + اللامساواة = البقاء للأفضل»، لا «الحرية + المساواة = البقاء للأضعف والأسوأ» في الحالة الأولى، حالة تنمية اللامساواة، يندفع المجتمعُ إلى أمام ويجري تشجيع أفضل عناصره من الأفراد، أمّا في الحالة الثانية، حالة السعي إلى المساواة، فينحدر المجتمع وينحطّ ويجري تشجيع الأضعف، والأسوأ بين أعضائه.
ثانيًا، في نقده العدالةَ الاجتماعيّة بما هي عدالة توزيعيّة أي بما هي نظامٌ قيَمي من توزيع السلع والمنافع بين أفراد جماعة معيّنة يستبقي فون هايك من العدالة التوزيعيّة قاعدةً واحدة هي قاعدة «الأجر المماثل للعمل المماثل». إلا أنه يؤكّد أنّ «المنافسة الحرّة» قد تكفّلتْ بتطبيق تلك القاعدة وتحقيقها كما بين الذكور والإناث.
ثالثًا، يضع فون هايك في مواجهة العدالة الاجتماعيّة، الصادرة عن المجتمعات البدائيّة والمنتقلة إلينا بالفطرة والوراثة، مفهومَ السوق الذي يعتبره ركيزةَ الحضارة الحديثة. ويجري توطين المفهوم، كما العادة في التقليد الفكري الغربي، بالبحث عن أصولٍ له في الحضارة الإغريقيّة. واللعبة التي تفسّر عملَ السوق عند فون هايك هي لعبة «الكاتالاكتيّة» التي تَعني المقايضة والتبادل وتعني أيضًا «القبول ضمن الجماعة» و«تحويل العدوّ إلى صديق». غيرَ أنّ أكثر ما يثير اهتمام فون هايك في لعبة «الكاتالاكتيّة» هو مفردةُ «اللعبة» التي يتبنّى تعريفَها القاموسي بأنّها «مباراة تجري وفق قواعد يفترض أنْ تتوافرَ فيها المهارةُ والقوّة والحظّ». ولعبة السوق لعبةٌ لا تقيم كبيرَ وزنٍ للعدالة ولا لتلبية احتياجات أو استحقاقات الأفراد بل إلى العكس تمامًا مما تدفع إليه العدالة التوزيعيّة، أي أنها تدفع كلّ لاعب من اللاعبين إلى تقديم أكبر رهانٍ ممكن فيضاعف المبلغَ الذي قد يحظى منه بحصة غير أكيدة من دورات دولاب السوق. ومن خلال تلك الرهانات، ومضاعفة المبالغ التي يجنيها هؤلاء الأفراد، تندفع الموارد الاقتصاديّة إلى «تحقيق المساهمة الفضلى في هذا الرهان الذي يأخذ منه كلُّ واحد نصيبَه». فتزيد من الإنتاج الذي يسمح بتزايد عدد السكان ويسمح أخيرًا بتحقيق المجتمع المنفتح وحريّة الأفراد. هذا هو مجتمع الازدهار الجديدُ الذي «يرفض قبوله البرابرةُ غيرُ المتمدّنين في أوساطنا، هؤلاء الذين يسمّون أنفسهم «مُبعدين»، على رغم أنّهم لا يزالون يطالبون بمنافعه كلّها».
باختصار، يقسّم فون هايك البشرَ الحاليّين بين برابرةٍ جُدد، هم ورثة تقاليد بل قلْ غرائز العدالة التوزيعيّة، وبين متحضّرين، هم المنافحون عن مفهوم السوق، حاضنة الأفراد الأحرار، أي منتجة الفوارق والتمايزات الاجتماعيّة.
هل الرأسماليّة وليدةُ العفويّة؟
يقع فون هايك في تناقض بديهي منذ انطلاقة فكره، فإذا كانت العدالة التوزيعيّة هي أقدمُ غريزةٍ بشريّةٍ تنتقل بالوراثة والسّليقة إلينا، فحريّ به أن يؤيّدها بما هي أجلى تعبير عمّا يعتبره عفويّةَ النظام الاجتماعي. علمًا أنّ القول إنّ مشاعر وغرائز إنسانيّة تنتقل وراثيًّا بواسطة «الجينات» أمرٌ يحتاج إلى براهينَ علميّة عديدة ليصير مقنعًا أو حاسمًا. ولكن فلنفترضْ جدلاً أنّها تفعل ذلك، فكان الأحرى بفون هايك، وهو صاحب النظرية العفوية في سلوك البشر وقوانينهم، أن يكون بالتالي أكثر انحيازًا إلى تلك الغرائز منه إلى المركّبات الثقافيّة المولّدة والمصنوعة.
مهما يكن في تمرين فون هايك الباهت في الأنثروبولوجيا التاريخيّة، يبدو التاريخُ منقسمًا إلى حقبتين: حقبة الزمرة الصائدة زمن العدالة التوزيعيّة/ حقبة لعبة «الكاتالاكتيّة» أي حقبة السوق. سوف نضرب صفحًا عن خرافيّة المرجعيّة الإغريقيّة. فقد صار أمرًا مألوفًا في التقليد الغربي أن يُنسب إليها كلّ شيءٍ ولا شيء. ونضرب أيضًا صفحًا عن الاستهتار التاريخي: في مقابل شكلٍ من التنظيم الاجتماعي (الزمرة الصائدة أو القانصة) يضع مفكّرنا الاقتصادي لعبةً إغريقية! وبالطبع، لن نتوقّف أكثر من ذلك لنناقش هذا التحقيب بما هو تحقيب تاريخي اقتصادي جدي. نكتفي بالقول إنّه يغفل مسألةً مركزيّة. فإذا كانت فكرة العدالة الاجتماعيّة هي أقدم أفكار البشريّة، وإذا كانت تعود إلى فترةٍ تزيد على عشرة آلاف سنة، فكيف يفسّر لنا منظوماتٍ فكريّةً وحضاراتٍ بأكملها لاحقة عليها وأخصّ منها الديانات؟ والمعروف أنّ مرجعيّة الديانات قائمة كلّها على الوعد بالمساواة بين البشر. والديانات، إذا لم تكن دومًا قويّة من حيث فكرةُ الحريّة فإنّها تبشّر جميعًا بفكرة المساواة بشكلٍ أو بآخر، أكانت المساواة بين المؤمنين أم المساواة في الجنّة. والديانات هي بذلك أرقى تعبيرٍ عمّا يسمّيه ماركس «ترسّب المساواة عبر العصور». وهي تثير كلُّها السؤال الآتي: المساواة بين مَن ومَن؟ والمساواة أين؟ في جنة الشيخ بيار الجميّل السماوية أم على هذه الأرض الفانية؟
إذا عُدنا إلى التاريخ، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية في وجه لا تاريخيّة تحقيب فون هايك للسوق الرأسماليّة.
أولاً، يتغافل فون هايك على نحو مذهل عن واقع الرأسماليّة الصناعيّة القائمةِ على المنافسة الحرّة والملكيّة الفرديّة، فهذه لم تكن قطّ وليدةً عفويّةً لآليّات السوق الحرّة. ولا هي قامت على مبدأ تمرّد الأفراد أو استقلاليّتهم، إنّما قامت على مزج تلك الآليّات مع دوافعَ وحوافزَ لا علاقةَ لها البتّةَ بآليّات السوق إنما بالأخلاق البروتستانتيّة: الامتناع عن الإشباع المباشر للحاجات، إعلاء قيمة العمل الشاقّ، الثقة والواجب العائلي.
ثانيًا، إنّ كلّ ثورة برجوازيّة في محاولاتها دفعَ الرأسماليّة إلى نهاياتها المنطقيّة، أطلقتْ أفكارًا ومفاهيمَ تجاوزت الرأسماليّة في تصوّرها للتنظيم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمع. وقد كانت تأكيدًا لأفكار ومفاهيم مرتبطة بفكرة المساواة. وهذا يعني بوضوحٍ أكبر أنّ الأفكار الحديثة عن العدالة الاجتماعيّة والمساواة ليست تكرارًا لأفكار «غريزيّة» سابقة وإنّما هي نتاجٌ ثقافي لعصر الأنوار ونتاجٌ اقتصادي اجتماعي قيَمي للثورة الصناعيّة والرأسماليّة نفسِها.
بيانُ الأمر بوضوح في الثورتين الإنكليزيّة (1640) والفرنسيّة الكبرى (1789) وقد حاولتْ كلتاهما الجمع بين مبدأَي الحريّة والمساواة. ارتكزت الأولى على قاعدةٍ شعبيّةٍ عبّرت عنها الدعواتُ البيوريتانيّة [الطهرانيّة] الجذريّة، شبْه الشيوعيّة، التي حمَلها دعاةُ المساواة السياسيّة والاقتراعِ الشعبي العامّ من أمثال «التسوويّين» Levellers ودُعاة النزعة التوزيعيّة، وكان المقصود بها آنذاك التوزيعَ المتساوي للأرض للذين يَفلحونها، أمثال «الحفّارون» Diggers. ولم يكن دعاةُ كلتا الدعوتين ينتمون إلى الزُّمَر الصاعدة، وإنّما كانوا ينتمون إلى حقبة تاريخيّة أرقى هي الحقبةُ الزراعيّة والحرَفيّة. ولقد تولّت ديكتاتوريّةُ كرومويل اضطهادَ هذين المذهبَين وتطهيرَ الثورة منهما لكي يستتبَّ للبرجوازيّة الحكمُ. وإذا كانت الجمهوريّة البريطانيّة ما لبثت أن سقطت بسرعةٍ واستُعيدت الملكيّة المقيّدة ثم الملكيّة الدستوريّة، فإنّ المطالبَ الأساسيّة لتلك الثورة، وفي مقدّمتها مطالب الديموقراطيّة، ما لبثت أن حملتها الحركاتُ العمّالية والشعبيّة: حقّ الاقتراع العامّ (في مقابل تقييده بقيود الملكيّة، الماليّة منها والعقاريّة) والأرض لمن يفلحُها، وتكافؤ الفرص، إلخ.
والأمر ذاتُه يقال عن الثورة الفرنسيّة الكبرى التي رفعت شعارَي الحريّة والمساواة معًا. لكنّها رفضت الاعترافَ بحقوق الجمهور الذي صنع الثورة وخصوصًا العمّال والحرفيّين في التنظيم النقابي، فانحصرت في قيادتها النخبةُ اليعقوبيّة وما أورثَها ذلك من فترةٍ إرهابيّة أدّت إلى سقوط الثورة برمّتها بعدَ لا أكثرَ من خمس سنوات على قيامها. ووفق المنطق ذاته، اقتضى الأمرُ في فرنسا لا أقلَّ من ثلاث ثورات شعبيّة كبرى في 1830 و1848 و1871 حتى يقوم النظامُ الجمهوري ويتوطّدَ وتتحوّل شعاراتُ الجمهوريّة إلى «حريّة، مساواة، أخوّة». وكانت إضافةُ هذا الشعار الثالث والأخير بمثابة التسوية بين دعاة الحريّة البرجوازيّين وبين دعاة المساواة المعبّرين عن الفئات الأكثر راديكاليّةً من الشعب.
فلا عَجبَ على الإطلاق أن تكون الثورات المسمّاةُ برجوازيّةً قد شكّلت تراثًا مشتركًا لكلٍّ من الديموقراطيّة البرجوازيّة من جهةٍ والاشتراكيّة والشيوعيّة من جهةٍ أخرى، لأنّها، بما هي ثورات، لم تكتفِ بالإجابة عن أسئلة الحاضر، حاضرِها، بل عبّرت عن نزوعٍ ألفيٍّ إلى حياةٍ أخرى واستشرفت إمكانَ مجتمعٍ آخرَ في المستقبل.
وبمعنى ما، كان إدموند بيرك، كبيرُ المفكّرين المحافظين البريطانيّين، محقًّا إذْ رفض اعتبارَ الثورة الفرنسيّة ثورةً في خدمة البرجوازيّة محذّرًا من أنّها سوف تحمل الضرر للتجارة والصناعة معًا. ذلك أنّه استشرف أنّ الثورة، في تصفيتها للمُلكيّة الإقطاعيّة، سوف تشجّع جميع المحرومين من المُلكيّة على إطاحة كلّ أشكال المُلكيّة بما فيها المُلكيّة الفرديّة الرأسمالية.
الكازينو محلّ السوق
للوهلة الأولى يبدو وكأنّ فون هايك، في مفهومه للكاتالاكتيّة، يكرّر مفهومًا معروفًا في الليبراليّة الكلاسيكيّة هو مفهوم «اليد الذهبيّة» لآدم سميث، تلك «اليد» التي تعمل على تعميم الازدهار من خلال السوق والمنافسة الحرّة. على أنّ الاستعارة التي يستخدمها فون هايك أكثرُ ملاءمة للاقتصاد العالمي الحالي، والحال أنّ فون هايك، حتى وهو يعود إلى آدم سميث، يتغافل عن المآل الرئيسي لنظام هذا الأخير. رأى آدم سميث أنّه في ظروفٍ من الحريّة الكاملة (الشفافيّة الكاملة للسوق والمنافسة المتكافئة بين العاملين فيها) تُنتج السوقُ المساواةَ الكاملةَ بين أفرادها، أي تعيد التوزيعَ التلقائي بين الشرائح الاجتماعيّة المختلفة فيعمّ الازدهارُ والرفاهُ للجميع. والحال أنّه لم يتبيّن فقط في التجربة التاريخيّة أنّ هذه السوقَ المثاليّةَ لا وجودَ لها لأنّ العاملين فيها يدخلونها وهم يتمتّعون بمواقعَ وقدرات ماديّة متفاوتة، وإنّما تبيّن أيضًا أنّ المنافسة، وإن بدأت على مقدارٍ ما من التكافؤ، لا تلبَث أن تؤولَ إلى الاحتكار أي إلى تحكّم القلّة المتزايد بالكثرة واقتطاع الأولى حصصًا متناميةً من السوق وأكلِ القوي للضعيف وما ينجم عنه بالضرورة من الفوارق الاجتماعيّة الشاسعة والتبايُنات.
اللافت في محاججة فون هايك أنّه يستبعد ما قصَدَه سميث من أنّ المنافسة في السوق تؤدّي إلى تعميم الازدهار والتوزيع العادل للعائدات على الجميع، أي أنّه يستبعد حقيقة أنّ الليبراليّة الكلاسيكيّة ذاتَها تزعم أنّها توفّر في نهاية المطاف، العدالةَ التوزيعيّة! وهذه الإطاحة بمآلِ فكر آدم سميث باتت الجامعَ المشتركَ بين جميع النيوليبراليّين. فتجدُه يستبدل سوق سميث بكازينو ألعاب المَيسر. وبينهما فوارقُ أساسيّة ليس أقلّها أنّ السوق التي يتحدّث عنها سميث هي سوق المنتجين بالدرجة الأولى فيما السوقُ التي يتصوّرها فون هايك هي أكثر فأكثر سوق المضاربات الريعيّة. وبديلاً من «اليد الذهبيّة» وهي صورة آدم سميث لآليّة السوق العجائبيّة التلقائية، لكنها قائمة على افتراض أنّ جميع المشاركين في السوق إنّما يعرفون أدنى تقلّب في الأسعار كما في العرض والطلب بديلاً من هذه «اليد الذهبيّة»، يقترح فون هايك دولاب الحظ الأعمى في الـ«يانصيب» أو قل دولاب «الروليت» الذي لا يقلّ عنه عمًى، في ألعاب الميسر والقمار. تخسر إذًا أنت لا تلعبُ، ذلك هو الشعار. ولكنْ لكي تلعب، عليك أن تمتلكَ ما يمكن المراهنةُ به.
وهذا هو المعنى الوحيد لأخذ فون هايك اللعبَ نموذجًا لترسيمته النيوليبراليّة القائمة على ثلاثيّة المهارة والقوّة والحظ. وهو القائل إنّ «السوق اللعبة»، أو لعبة السوق، تدفع كلّ لاعبٍ من اللاعبين إلى تقديم أكبر رهانٍ ممكنٍ فيضاعف المبلغَ الذي قد يحظى منه بحصّةٍ غيرِ أكيدة من دوَران دولاب السوق. ومن خلال تلك الرهانات، ومضاعفة المبالغ التي يجنيها هؤلاء الأفراد، تندفع المواردُ الاقتصاديّة إلى «تحقيق المساهمة الفضلى في هذا الرهان الذي يأخذ منه كلُّ واحدٍ نصيبَه».
بإيجاز، ما يبرّره فون هايك هو المضاربةُ الماليّة، حيث الرهاناتُ الكبيرةُ والخسائرُ أكبر لمَن يملك أن يخسرَ ليربح. فلكي تخسر، عليك أن تملك ما يمكن خسرانُه. هكذا، ففي العام 1994، ربح السيّد سورس مليار دولار في اليوم الواحد، وبعد ذلك بثلاث سنوات أعلن سورس نفسه خسارته مليارًا ونيّفًا من الدولارات في يومٍ واحد أيضًا. والطريف أنه علّق على ذلك بالقول إنّ خسارته إنّما تؤكّد وجود عدالة إلهيّة!
الأجرُ المتساوي للعمل المتساوي
نظنّنا بيّنا كيف أنّ إنتاج الأفراد الأحرار، الذي يعزوه فون هايك إلى عفويّة السوق، إنما هو نتيجة القصد والإرادة البشريّين. نعني القصد والإرادة اللّتين عبّرت عنهما الثورات، وهي الأكثر تقصّدًا وإرادويّة بين النشاطات.
الأمر ذاتُه ينطبق على مسألة الأجر المتساوي للعمل المتساوي، فالواقع أنّ الكاتب يجافي التجربةَ التاريخيّة أيّما مجافاة في ادّعائه أنّ القوانين العفويّة للسوق حقّقت الأجر المتساوي للعمل المتساوي. فكلّ شيء في التجربة التاريخية يثبت أنّ النضالات النقابية والنسويّة والسياسيّة هي التي فَرضت، على مرّ عقودٍ من الزمن، حتى لا نقول على امتداد القرون، تماثُلَ الأجور بين الذكور الذين يؤدّون عملاً متماثلاً كما فرضتْ التحسين التدريجي والمطّردَ لأجور الإناث بحيث باتت تساوي أجور الذكور في ميادين عملٍ محدودة وفي عددٍ محدود من الدول الصناعيّة المتقدّمة.
وليس سرًّا أنّ تحقيق التماثُل الأخير لا يزال غايةً ترتجى في القسم الأكبر من المجتمعات عبر العالم، وليس سرًّا البتّة أنّ الرأسماليّة كانت ولا تزال تقاوم فرْضَ الأجر المتساوي للعمل المتساوي وتتحايل عليه بألف طريقةٍ وطريقة. وهذا عكس ما يدّعيه فون هايك تمامًا، فالإناث ما زلن يشكّلن، في الغالبية الساحقة من الحالات، أيديَ عاملةً رخيصةً يلجأ إليها أربابُ العمل بانتظامٍ في بحثهم الدائم عن خفْض الأجور وأكلاف الإنتاج سعيًا وراءَ تعظيم الأرباح، وهو القانون الحديدي للرأسماليّة. وللتأكد من ذلك، ما علينا إلّا النظرُ في الاتجاهات الجديدة للعولمة، أعني تفريعَ الإنتاج بنقل العمليّات الإنتاجيّة المتطلّبة استخدامًا مكثفًا لليد العاملة إلى البلدان حيث العمالةُ الرخيصة. وفي تلك البلدان، يشكّل عمل النساء المنزلي «على القطعة» حيّزًا هامًّا من عمليّة التفريع هذه. حيث لا أجور ثابتة ولا تعويضات عائليّة ولا ضمانات اجتماعيّة ولا نقابات عمّاليّة ولا مَن يطالبون أو يُضرِبون. ما معنى ذلك؟ إنّه يعني أنّ السوق في ظلّ رأسماليّة المنافسة الحرّة الحاليّة، تميل، عفويًّا، للتفلّت الدائم من تحقيق تماثُل الأجور بين الذكور أنفسهم وهي تميل تأكيدًا إلى التفلّت الدائم من تحقيق تماثُل الأجور بين الذكور والإناث.
بعبارة أخرى إنّ العامل الذي فرَضَ التماثل في الأجور للأعمال المتساوية ليس هو الآليّة العفويّة للسوق والمنافسة الحرّة بين الأفراد وإنما هو التدخّل الواعي والعملي للبشر أنفسهم. أي أنّ تلك المساواةَ قد فرضتْها، حيث هي تحقّقت، عواملُ وضغوطٌ جاءت من خارج حَومة السوق بل جاءت بالضدّ من منطق السوق و«المنافسة الحرّة» فأمْلت تعديلاتٍ أساسيّةً على منطق هذه وتلك.
عودة إلى المعرفة
في عودةٍ إلى مسألة المعرفة، يبدو لنا أنّ الوهمَ ليس كامنًا في مطلب العدالة الاجتماعيّة وإنّما كلّ الوهم، والتوهيم، هو في الادّعاء بأنّ السوقَ تؤمّن، بالسليقة، التكافؤَ في توزيع المعلومات والمعارف، حسبما يدّعي فون هايك. فمنذ أن انهار التصوّرُ المبسّط للسوق كما هو عند آدم سميث، والسوق شبكة من الآليّات بالغة التعقيد يكتنفُها المزيد والمزيد من الغموض. لن نخوض هنا في تحليل كارل ماركس اللامع لصنَميّة السلعة. ذلك أنّ تبريرَ فون هايك لرأسماليّة السوق يقع أصلاً ما دون مستوى التحليل الجادّ لآليّات السوق. ففي مطلع «نظريّته» يؤكّد أنّ نقطة الضعف القاتلة في الاشتراكيّة هي أنّ التخطيطَ يَحول دون التوصّل إلى معلومات اقتصاديّة دقيقة، وخصوصًا المعلومات عن الأسعار والعرض والطلب. نسارع إلى القول إنّ فون هايك قد أصاب هنا في تعيينه الاستباقي لإحدى مشكلات التخطيط المركزي الاشتراكي، وإحداها فقط، على أنّه فون هايك لا يلبث في دفاعه عن السوق، أن يغادر موقفه النقدي المعرفي هذا إذ يأخذ في تمجيد تلك السوق بما هي آليّة سحريّة عمياء، يوزّع «دولابها» حصصًا «غير أكيدة» و«غير متوقّعة» على اللاعبين الذين «يراهنون» فيها. وهو يغفل بالطبع أنّ تلك السوقَ تعود على أكثرية اللاعبين المراهنين بالخسائر الصافية!
ومهما يكن كيف يوفّق فون هايك بين نقده للاشتراكيّة، من الموقع المعرفي للاشتراكية وبين تبريره السحري للسوق الرأسماليّة. الحال أنّه لا يسعى إلى التوفيق.
هنا تنعقد اللاعقلانيّة مع توسّل العفويّة وأخيرًا وليس آخرًا مع تمجيد الحظّ والمصادفة إلى توليد تصويرٍ سحري صرْف لعمل السوق: إنه السّحر في وجه المعرفة.
فلماذا نكلّف أنفسنا مشقّة تذكير فون هايك، وخصوصًا أتباعه ومريديه المعاصرين، بأنّنا نعيش زمن التكنولوجية المتقدّمة وثورةَ المعلوماتيّة وما يرافقهما ويميّزهما من تعاظم احتكار المعارف في الوقت الذي يتمّ فيه تعاظم استهلاكها!
نكتفي بالقول إنّ للكازينو العالميّ الذي يضعه فون هايك محلَّ السوق الليبراليّة التقليديّة، لغتَه الخاصّة، وهي أكثر اللغات انغلاقًا وغربةً عن بني البشر لا يكاد يُجيدها إلّا بضعةُ آلافٍ في أصقاع الأرض الأربعة. أفكّر فقط بلغة حركات الأيدي الصمّاء التي بها يتخاطب العاملون في البورصات العالميّة. فإذا كان هذا البُكم والصممُ هما مستقبل المعرفة في العالم المتعولم فعلى المعرفة السلام!