السيادة الغذائية بين العدالة المناخية والعدالة الاجتماعية

السيادة الغذائية بين العدالة المناخية والعدالة الاجتماعية

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل

“يثير مبدأ السيادة الغذائية الكثير من النقاش، وخصوصًا في ما يتعلق بأولويته أو عدمها تجاه مبدأ الأمن الغذائي”.1 وقد يقع هناك خلط بين مفهوم السيادة الغذائية وبين المفهوم الأقدم الخاص بالأمن الغذائي، وهو إنتاج القمح والمحاصيل الاستراتيجية. وكان هناك مجهود نظري للفصل بينهما، ويحصر البعض “الأمن الغذائي بضرورة الحصول على الغذاء بشكل كافٍ بينما السيادة الغذائية هي حق الدول والأفراد في إنتاج الغذاء بأنفسهم، وذلك عبر النفاذ إلى التحكّم بموارد أساسية في هذا المجال، هي المياه والبذور والأرض. وقد قاد هذان التعريفان إلى اعتبار الأمن الغذائي مسألةً اجتماعية، فيما السيادة الغذائية ترتبط بالسياسة، وخصوصًا أنّها أصبحت مبدأً منصوصًا عليه في دساتير بعض الدول”.2 وتعرّف منظمة الأغذية والزراعة الدولية “الفاو” الأمن الغذائي بـ”توفير الغذاء لجميع أفراد المجتمع بالكمية والنوعية اللازمتين، بما يلبّي احتياجاتهم بصورة مستمرة من أجل حياة صحية ونشطة”،3 والأمن الغذائي “لا يعني التزام الدولة بإنتاج الغذاء ولكن توفيره بأي وسيلة كانت مثل الإنتاج أو الاستيراد أو المعونات الخارجي”،4 وبالتالي “يعالج مفهوم الأمن الغذائي مسألة توفير (أو وفرة) الاحتياجات الغذائية عالميًّا وإقليميًّا ووطنيًّا دون اشتراط ارتباطها بعمليّة الإنتاج الفلاحي المحلّي. أي أن تصبح مهمّة توفير الاحتياجات الغذائية عابرة للجغرافيا وللحدود دون أن يكون المزارع المحلي فاعلاً أساسيًّا في تحقيقها”.5

أما السيادة الغذائية فلها بُعد محلي مرتبط بمن يقوم بالزراعة، أي أنه ليس مرتبطًا فقط بتوفير الدولة للمحاصيل الأساسية لسكانها. وقد “ظهر مفهوم السيادة الغذائية سنة 1996 على يد حركة “نهج المزارعين” خلال قمّة الغذاء التي عقدتها منظمة الأغذية والزراعة (الفاو). ووقع تعريف مفهوم السيادة الغذائية بكونها “حقّ الشعوب في اتّباع نظام غذائي صحّي وثقافي وملائم ينتج بطرق مستدامة”.6 و”ينطلق مبدأ السيادة الغذائية من أن الغذاء حق وليس سلعة تخضع لقانون الأرباح. كما أنه يؤكد حقوق الفلاحين منتجي الغذاء في العيش والعمل بكرامة”.7

وهناك جوانب توزيعية خاصة بالسياسات الزراعية نفسها، مثلاً في الحالة المصرية هناك أدبيات عن سياسات كانت ظالمة للريف طيلة فترة الستينيات والسبعينيات خاصةً المتعلقة بالتسعير الإجباري والتكوين المحصولي وغيرها، على الرغم من أنها كانت تتحرى تحقيق الأمن الغذائي وإن كان المفهوم نفسه غير موجود في ذلك الوقت، ولكن كان الغرض مثلاً تحقيق الاكتفاء في المحاصيل الاستراتيجية أو ذات الأهمية. لذا من المهمّ إبراز هذا الجانب التوزيعي.

ويُعتبر “العالم العربي من أكثر مناطق العالم غير الآمنة غذائيًّا. هذه الخاصة ناتجة عن اعتماد غالبية دول المنطقة على استيراد الغذاء وتأثرها بالتغيرات العالمية في أسعارها.8 و”منذ أوائل السبعينيات، كان هناك نمو مطرد للاحتياجات الغذائية في المنطقة العربية مدفوعة بطفرة النفط والنمو السكاني وتغير أنماط استهلاك الأغذية تحت تأثير سيطرة نمط غذائي يرتكز على اللحوم. ونتيجة لكل هذه الأسباب اتسعت الفجوة الغذائية بالمنطقة”.9 وهناك العديد من التحديات التي تواجه المنطقة العربية على هذا الصعيد، فالمنطقة “عرضة لمخاطر التغير المناخي”،10 كما أنها “تعاني من نقص حاد في المياه وتدهور جودة الأراضي، وتراجع الثروة الحيوانية”،11 كما أن “القطاع الزراعي والمناطق الريفية هي الأكثر هشاشة في مواجهة التغيرات المناخية والتحولات في النظام البيئي، لذلك فإن الفلاحين يواجهون تحديات كبيرة للاستمرار في وظيفتهم”.12 وعلى الرغم من “تنوع بنية الاقتصاد الزراعي بين مختلف الدول العربية إلا أن السياسات الليبرالية والتسهيلات للمستثمرين في النفاذ للأراضي وتبني سياسة قائمة على الأمن الغذائي تعد السمات البارزة في غالبية الدول العربية”13 الأمر الذي يحمل تبعاتٍ سلبية على مسألة السيادة الغذائية.

1علاقة أنماط استهلاك الغذاء وتحولاتها بقضية السيادة الغذائية

ترتبط قضية السيادة الغذائية بأنماط الاستهلاك الزراعي، ففي السابق مثلاً كان محصول الأرز معدًّا للتصدير لأن الاستهلاك الغذائي المحلي كان يعتمد أكثر على الخبز والقمح، لكن اليوم حصل تغيّر في أنماط الاستهلاك الغذائي في الريف. ومن الممكن التفكير بهذه النقطة في الدراسة: كيف تعقّد هذه المسألة العمليّة، وهذا على العكس من الحالة المغربية مثلاً التي يوضع فيها الأرز للتصدير، لا أحد من المغاربة سيستخدمه، ولديه أثر بيئي واجتماعي سلبي. في مصر هناك تناقض: فالأرزّ تحوّل إلى عادة غذائية وأصبح يُستخدم كواحد من العناصر الاستهلاكية في الريف، يستهلكه من ينتجه، فإلى أي مدى يؤثّر هذا على تدخّل الدولة ومقاومة الفلاحين وغيرها من الأمور؟

وهذا الموضوع ملتبس، لأنّ في مصر على سبيل المثال هناك بُعد متعلق بالمياه، فمصر تحت خط الفقر المائي، كما أنّ موضوع سد النهضة مؤثر أيضًا. وفي ما يتعلق بالأرز يمكن تقديم تفاصيل أكثر متعلّقة بأنّ من حق الدولة ربما أن تضع الأرز في أولويات متأخرة قياسًا على الموارد المائية، ويمكن أن يكون هذا مبرَّرًا، ولكننا إذا رأينا الحلول البديلة فهل مثلاً استيراد الأرز بكميات هائلة تسد الاحتياجات المحلية سيوفّر فعلاً؟ ومن الضروري هنا تقديم صورة دقيقة من خلال الإحصائيات وآخر البيانات المتوفرة عبر المقارنة بين توفيره كسلعة مستوردة أو زراعته.

هذا بالإضافة إلى أهمية بلورة مفهوم السيادة الغذائية من خلال تجارب عملية مرتبطة بدور الشركات الاستثمارية، وكيف تدعّم الحكومة هذه المشاريع على حساب مقومات السيادة الغذائية، المباشرة وغير المباشرة.

2- التوجهات السياسية والاقتصادية وأثرها على عملية الزراعة والسيادة الغذائية

لا ينحصر شكل العلاقة بين التوجهات السياسية والاقتصادية لمطلق دولة وبين السيادة الغذائية والزراعة فيها في الأثر الذي تتركه عليها، بل إن تلك التوجهات تحدد وجود تلك السيادة من عدمه، وشكلَها، إن وُجدت، ومستواها، والأمر نفسه ينطبق على القطاع الزراعي. فالدول ذات السياسات النيوليبرالية التي تنتهج سياسات تحرّر أسواقها بشكل كامل أمام الشركات الأجنبية فتترك لها مواردها وخيراتها، ما تلبث أن تجد صدى تلك السياسات على سيادتها الغذائية وقطاعها الزراعي وتجد نفسها رهينة ما تمليه عليها تلك الشركات ما يعني ضياعًا لحقوقها وخيراتها وحقوق عمّالها وفلاحيها ومزارعيها وشعبها.

وهذا النمط الاقتصادي متكرّر في المنطقة العربية. ويُمكن اتّخاذ المغرب، وتحديدًا منطقة سوس جنوب مدينة أغادير، مثالاً على هذه الاستباحة الأجنبية لمجال البلاد الفلاحي والكوراث التي تتركها هذه الاستباحة على حقوق العمّال والمزارعين، وأيضًا على الوضع البيئي والاجتماعي، فالرأسمال الأجنبي يستغلّ اليد العاملة المغربية في القطاع الفلاحي بطريقة بشعة للغاية.

ويأتي هذا بالتزامن مع تواطؤ وقوة وشراسة الدولة مع الشركات الأجنبية. وتماشيًا مع هذه السياسات، عرفت الدولة كيف تحارب العمل النقابي وكيف تواجه العمّال الزراعيين. وأمام الوضع البيئي من جهة والاجتماعي من جهة ثانية هناك صراع اجتماعي كبير جدًّا معلن في سوس يبيّن أن المغرب يفتقر إلى الموارد والسيادة على الغذاء، ويبيّن أنّ الخيارات الاقتصادية والاستراتيجية للمغرب هي خيارات نيوليبرالية تسير مع ما يمليه صندوق النقد الدولي في ما يسمّى بالتحرير الشامل للسوق المغربية وفتح المغرب أمام الشركات الكبرى.

ما يحصل في سوس جزء مصغّر لما يحصل في باقي المناطق المغربية. لقد أصبح اقتصاد البلاد وخيراتها ومواردها رهنًا للشركات الأحنبية العاملة في المجال الفلاحي. وهذه الشركات الكبرى تنتج ما لا يستهلكه الشعب المغربي، فبضائعها موجهة نحو التصدير، في وقتٍ يستورد المغرب ما يأكله الشعب، وهذا يدلّل على فقدان كامل للسيادة الغذائية.

3- الأمن الغذائي والتحولات النيوليبرالية

لا شك أن التحوّلات النيوليبرالية، كتلك التي حصلت في شمال إفريقيا في التكوين المحصولي، وبالأخص المحاصيل الموجّهة نحو التصدير، أضرّت بالأمن الغذائي. وربما كان آدم هنية أحد الذين أجروا دراسة مقارنة إيجابية بالنسبة لشمال إفريقيا، وكانت الدراسة عن التعديل في علاقات ملكية الأراضي وفي السياسات الزراعية المتّبعة لصالح رأس المال الكبير سواءً محليًّا أو أجنبيًّا أو المزج بين الاثنين. ولكن ما ليس واضحًا هو هل كانت هناك سيادة غذائية متحققة قبل ذلك أم لا؟ ومن المهم التركيز على أنّ في مصر قطاع زراعي لا ينتج من أجل الاستهلاك المباشر، بل هو قطاع ينتج من أجل التجارة وذلك منذ منتصف القرن التاسع عشر، لأننا عندما نتكلم عن محصول القصب أو محصول الأرز، نتحدث عن محاصيل يتم إنتاجها بالكامل من أجل التبادل، ويحتاج هذا الجانب إلى بعض التوضيح المفاهيمي.

4- التغيرات في ملكية الأراضي والاستحواذات وتحويل استخداماتها

يرتبط الموضوع المطروح أيضًا بالاستحواذات على الأراضي، وتُعتبر مصر والسودان وإثيوبيا من أوضح الأمثلة على ذلك. والحديث هنا تحديدًا عن الاستحواذات الخليجية إذ تملك دول الخليج في مصر مثلاً شركات قليلة تستحوذ على مساحات كبيرة جدًّا، وتحديدًا شركتان إماريّتان وشركة سعودية (شركة جنان الإماراتية، شركة الظاهرة الإماراتية، شركة الراجحي السعودية) التي تسيطر على حوالي 182 ألف هكتار/ 450 ألف فدان من خلال 14 عملية استحواذ على الأراضي14 ضمن المشروعات القومية الجديدة والقديمة.

ويشكّل نمط الاستحواذات الكبيرة على الأراضي خطرًا بيئيًّا واجتماعيًّا وربما أمنيًّا، فقد حذرت منظمة الأغذية والزراعة من عمليات الاستحواذ على الأراضي فبالرغم من أن التدفق المتزايد من الأموال الدولية الموجهة نحو حيازة الأراضي على نطاق واسع من جانب الشركات الخاصة، وصناديق الاستثمار، وصناديق الثروة السيادية، فقد حظي باهتمام كبير. كما أن النطاق المحدود لهذه الوسائل الاستثمارية يعني أنه من المرجح أن تترتب عليها تأثيرات هامشية فقط من ناحية الإنتاج الزراعي العالمي.15 ويتعلّق الموضوع في جزءٍ منه بتصدير المياه، وفي جزءٍ آخر بالضرر الذي تُحدثه هذه الاستحواذات في شبكات الطرق، وهو يعتمد تكنولوجيا كثيرة رأس المال والمعدات الأمر الذي يؤثر على العمالة أيضًا، ويؤثّر الاستعمال الكثيف للآلات على البيئة والتربة والمنطقة المحيطة، لأن الموضوع ليس محصورًا بالزراعة من أجل التصدير أو تصدير المياه، بل له أبعاد بيئية أيضًا لأنه قد يؤدي إلى التهجير السكاني.

وفي ما يتعلق بملكية الأراضي لصالح مستثمرين من الخليج، يبدو أن هناك استراتيجية لإنتاج غذاء للسكان هناك على المديين المتوسط والبعيد من خلال استزراع مساحات في إثيوبيا والسودان ومصر، وطبعًا شرق إفريقيا حالة نموذجية في ما يتعلق بنزع ملكية الأراضي من خلال إعادة تحويل استخداماتها. وقد لا تواجه مصر نفس الإشكال على النطاق نفسه لكن الفكرة هنا أنّ البعد الخارجي مهم، فسواءً كانت مصر أو تونس أو المغرب، تصدّر هذه البلدان لأوروبا. ولا تقتصر المسألة على القطاع الزراعي، لكنها مرتبطة بنمط تجاري معيّن، أي تقسيم عمل معيّن في العلاقة مع الاتحاد الارووبي خصوصًا في ما يتعلق بالقطاع الزراعي، والإشارة إلى هذه المسألة مهمّة لأنّ التوصل إلى حلول سيتجاوز القطاع الزراعي نحو السياسات التجارية نفسها وإلى إعادة تعريف علاقة دول شمال إفريقيا بالشريك التجاري الأكبر، بالأخص تونس والمغرب.

1 محمد محسن، “السيادة الغذائية أم الأمن الغذائي”؟، “جريدة الأخبار”، 112/ 12/ 2008، https://bit.ly/2OnBOuu

2 المرجع السابق

3 في خدعة المفاهيم: الفرق بين السيادة الغذائية والأمن الغذائي، “تونس الخضراء”، 2/ 1/ 2020، https://bit.ly/3ecMd76

4 صقر النور، “تحديات السيادة الغذائية في العالم العربي مصر نموذجًا”، “منتدى البدائل العربي للدراسات، Rosa Luxemburg Stiftung مكتب شمال إفريقيا”، https://bit.ly/3qlIYMO

5 المرجع السابق

6 المرجع السابق

7 المرجع السابق

8 أبو كريشة، عبد الرحيم تمام (1998) ملامح التغير في الريف المصري: دراسة سوسيوأنثروبولوجي للآثار المترتبة على السياسات الاقتصادية المعاصرة في صعيد مصر، مركز المحروسة، القاهرة.

9 صقر النور، مرجع سابق

10 صقر النور، مرجع سابق

11 عصام خفاجي (2013) ولادات متعسرة، العبور إلى الحداثة في أوروبا والمشرق، المشروع القومي للترجمة، القاهرة.

12 صقر النور، مرجع سابق

13 Batatu, Hanna (1984) The Egyptian, Syrian, and Iraqi revolutions: some observations on their underlying causes and social character. Center for Contemporary Arab.

14 عمر سمير خلف، “الشركات الخليجية والاستحواذ على أراضي المشروعات القومية المصرية”، “المعهد المصري للدراسات”، 20، 3، 2020، https://bit.ly/3c5tO9q

15 المرجع السابق

Share this post

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart