تحولات الدولة: ملاحظات على الاقتصاد السياسي لمصر
الفصل الأول
الجمهورية الأولي: المصري في سدة الحكم: عبد الناصر والجماهير
مقدمة السلسلة
لا تهدف هذه السلسلة إلى تقديم رؤية شاملة لمصر بعد الحقبة الملكية، إذ يعد هذا خارج نطاق اهتمامنا في هذه المساحة المحدودة، وهدفنا عوضًا عن ذلك هو إلقاء نظرة على الاقتصاد السياسي للجمهوريات المتتابعة التي تأسست عقب انتهاء هذه الحقبة، مسترشدين بإطار نظري مستمد من أعمال أنطونيو جرامشي من أجل تحليل هياكل السلطة في المجتمع المصري في السبعة عقود الأخيرة. تشغلنا خصوصًا القضية التالية: لم تسهم حركة السلطة وتقلبات السياسة في هذه الفترة في تغيير التوجه الاقتصادي للدولة المصرية فحسب، بل كذلك في تحويل النسيج الاجتماعي والسياسي، إلى حد أن قراءة المرحلة تتطلب النظر إليها كجمهوريات مختلفه، لا كجمهورية واحدة تتطور.
ربما تكون هذه التحولات الجذرية نتيجة لتعاظم تأثيرات بعض السياسات الأقدم، ولمزيد من تعزيز ديناميات السلطة التي أنتجت هذه السياسات، وهو الحال مثلًا في النقلة بين الجمهوريتين الثانية والثالثة، وربما تكون التحولات انقلابًا تامًّا لترتيبات السلطة القائمة وخرقًا للعهود الاقتصادية والسياسية القائمة بطريقة تؤدي إلى تحول كامل لمجمل العقد الاجتماعي، وهو أمر نشهده في الانتقال بين الجمهوريتين الأولى والثانية.
يطمح هذا البحث إلى نقض الشعارات الرنانة التي رُدِّدت طويًلا في الخطاب السياسي المصري عن ”الحكم العسكري“ منذ نشأة الجمهورية، والتي تعده مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا مترابطًا ومتسقًا في تطبيقه. ليست هذه الشعارات أكثر من أنماط للخطابة غير مؤهلة للعمل كأداة لتحليل الأوضاع المصرية، وهذا ما تهدف هذه السلسلة إلى البرهنة عليه، بالإضافة إلى التخلص من السرد الذي يرد مساوئ واقعنا المعاصر إلى خطايا آبائنا منذ سبعة عقود. لهذا نقسم الفترة التالية لإعلان الجمهورية إلى ثلاث جمهوريات متميزة، لكل منها رؤيتها الخاصة وشعاراتها ومشاريعها القومية ورواياتها التي تتجاوز الحضور الثابت والظاهري للزي العسكري، لتكشف عن تحولات جوهرية في علاقات السلطة والظروف السياسية والاقتصادية المؤسسة على هذه العلاقات.