مع نهاية «قرض الصندوق».. هل تحققت الوعود؟

مع نهاية «قرض الصندوق».. هل تحققت الوعود؟

مرّ ما يقرب من ثلاث سنوات هي عمر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، الذي سينتهي بتلقي مصر آخر دفعات القرض المتفق عليه خلال أيام على الأرجح، بعد أن وافق الصندوق، أمس، على المراجعة الخامسة للبرنامج الاقتصادي، الذي حصلت مصر بموجبه على القرض. وفي حين حمل هذا الاتفاق آثارًا واضحة على مستويات معيشة المصريين بسبب آثاره على الأسعار ومعدلات التضخم، تبدو آثاره التنموية غير واضحة تمامًا حتى الآن.

وتضمنت أهداف البرنامج الاقتصادي المتفق عليه بين الحكومة وصندوق النقد الدولي عددًا كبيرًا من البنود، على رأسها زيادة معدل النمو وزيادة الصادرات وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر وتحسين مناخ الأعمال من ناحية، ورفع الإنفاق على الصحة والتعليم وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي لحماية الفقراء من ناحية أخرى، باستخدام الموارد المتحققة من تخفيض دعم الطاقة والأجور وتطبيق قانون القيمة المضافة في الأساس، وهي الإجراءات التقشفية التي التزمت مصر بتطبيقها على مدار السنوات الثلاث الماضية.

لكن تتبع بيانات الاقتصاد الكلي خلال فترة الاتفاق كشفت عن ثغرات واضحة في التنفيذ فيما يتعلق بالذات بأداء الصادرات والاستثمار الأجنبي المباشر، وكذلك فيما يتعلق بنتائج تحسين مناخ الأعمال التي لم تسفر عن تحسن ملموس في ظروف عمل القطاع الخاص، فضلًا عن أن ضغط الإنفاق لم يصب -كما قيل في بداية البرنامج- في صالح توزيع أفضل لثمار النمو، ومن خلال توجيه الفوائض المتحققة من التقشف لزيادات في الإنفاق على الصحة والتعليم وعدد من البنود «الاجتماعية» التي وعدت الحكومة برفع الإنفاق عليها ضمن الاتفاق.

ويصدر صندوق النقد الدولي تقارير مراجعة للاتفاقات بينه وبين أي دولة يوضح فيها تقييمه لسير البرامج الاقتصادية المصاحبة للقروض الممنوحة من قِبله. وأصدر الصندوق أربعة تقارير مراجعة للاتفاق مع مصر: الأول في سبتمبر 2017، والثاني في يناير 2018، والثالث في يوليو من العام نفسه، والرابع في إبريل الماضي، فضلًا عن وثائق القرض المعلنة في يناير 2017. وينتظر أن يصدر الصندوق تقريرًا عن المراجعة الخامسة في وقت لاحق لم يُعلن بعد، بعد أن وافق على تلك المراجعة أمس.

ويمكن مراجعة أداء البرنامج الاقتصادي خلال السنوات الثلاث من خلال تتبع التقارير الأربعة التي أصدرها الصندوق لمراجعة البرنامج، ومقارنة توقعات في البداية بما تُحقق عمليًا على أرض الواقع.

وبصورة عامة، فقد نجحت الحكومة المصرية في رفع معدلات النمو على نحو تخطى حتى توقعات صندوق النقد الدولي، بما يُشير للوهلة الأولى إلى نجاح الاتفاق مع الصندوق في تحقيق أهدافه.

وتبعًا للموازنة العامة للدولة فقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي من 4.2% في 2016/2017، العام الأول للتطبيق، إلى 5.6% في 2018/2019، ومن المستهدف أن يصل إلى 6% في العام المالي الحالي. وبذلك، تخطى النمو في العام الذي بدأ فيه تطبيق الاتفاق المعدل الذي توقعه الصندوق لذلك العام في تقرير المراجعة الأول، إذ توقع الصندوق وقتها أن يحقق الناتج المحلي نموًا يبلغ 3.5%، وأن يصل إلى 6% «في المدى المتوسط».

لكن الصندوق أخفق على نحو ملحوظ في توقع معدل نمو الدين الخارجي وخدمة هذا الدين بصورة خاصة على نحو اضطره لتعديل توقعاته عدة مرات، فضلًا عن خروج عدد من بنود الاتفاق عن مسارها المنتظر، كما يتضح في الفقرات التالية.

هل تبخرت وعود الحماية الاجتماعية؟

لم يعد الصندوق بالنمو فقط، وإنما كان قد وعد بأن «تنفيذ برنامج الإصلاح الحكومي سيساعد على تحقيق نمو احتوائي».

والنمو الاحتوائي، تبعًا لتعريف مبسط صادر عن البنك الدولي هو نمو محابي للفقراء، وهو بدوره يعرفه البنك الدولي إما بوصفه النمو الذي يستفيد من وراءه الفقراء، أو النمو الذي تنمو فيه دخول الفقراء على نحو أسرع من المجتمع كله على نحو يسمح بتراجع اللامساواة.

وبالرغم من تعذر الوصول لنتائج مؤكدة بشأن نتائج تنفيذ الاتفاق على معدلات اللا مساواة بسبب تأخر صدور تقرير الدخل والانفاق عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلا أن ثمة عددًا من المؤشرات قد تشكك في تحقق هذا النمو الاحتوائي.

ففي حين كان صندوق النقد الدولي قد وعد بأن تخفيض الإنفاق على دعم الطاقة سيسمح للسلطات المصرية برفع الإنفاق الاجتماعي وبصورة خاصة التعليم والصحة، انتهى الأمر عمليًا إلى تراجع الإنفاق على التعليم (الأساسي والعالي والبحث العلمي)، والصحة مجتمعين كنسبة إلى الناتج المحلي، كما يتضح من الشكل التالي. ويظهر الشكل نفسه اتساع الفجوة خلال عدة سنوات مالية بين الإنفاق على الصحة والتعليم والبحث العلمي مجتمعين كنسبة للناتج المحلي من ناحية، مقابل ما نصّ عليه الدستور الحالي من ضرورة رفع الإنفاق على تلك البنود إلى مستوى 10% من الناتج المحلي الإجمالي من ناحية أخرى.

فيما يوضح الشكل التالي مستوى الإنفاق على إجمالي مخصصات عدد من أوجه «الحماية الاجتماعية» هي الضمان الاجتماعي (معاش الضمان الاجتماعي ومعاشي تكافل وكرامة)، ودعم التأمين الصحي والأدوية ودعم السلع التموينية كنسبة للناتج المحلي الإجمالي.

ويظهر من الشكل نفسه ارتفاع الإنفاق على دعم السلع التموينية ومعاش الضمان الاجتماعي كنسبة للناتج المحلي على نحو محدود في عام 2017/2018 قبل أن يتراجع هذا الإنفاق مجددًا، بينما جاء التغيّر في الإنفاق على دعم التأمين الصحي والأدوية كنسبة للناتج المحلي هامشيًا للغاية.

وكانت الحكومة المصرية قد التزمت ضمن البرنامج برفع الإنفاق على عدد من بنود الإنفاق الاجتماعي على رأسها دعم السلع التموينية والضمان الاجتماعي ودعم التأمين الصحي والأدوية في عام 2017/2018، الذي يمثّل أول سنة مالية بعد توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في نوفمبر 2016.

وكان «مدى مصر» قد تتبع، في تقرير سابق، حجم الإنفاق المستهدف، مقابل الإنفاق الفعلي على دعم التأمين الصحي والأدوية. ويتضح من تتبع هذا الإنفاق أن الحكومة لم تنفق فعليًا مما كانت قد خصصته لدعم التأمين الصحي والأدوية إلا ثلث ما كانت قد أدرجته في موازنة 2017/2018.

كما التزمت الحكومة أيضًا برفع الإنفاق على الوجبات المدرسية، لكن لم يتسن الوصول لأي بيانات عن حجم الدعم المستهدف أو الفعلي الموجه للوجبات المدرسية من الموازنات العامة في تلك الفترة، بالرغم من أن البيان المالي التمهيدي، والذي يمثّل وثيقة مختصرة تصدر قبل صدور مشروع الموازنة الكامل، للعام المالي الحالي أدرج برنامج التغذية المدرسية ضمن عدد من الأمثلة على برامج الدعم في الموازنة.

هل تعافى القطاع الخاص فعلًا؟

قالت وثائق القرض المعلنة في يناير عام 2017 إن «الإصلاحات الهيكيلة» التي يتضمنها برنامج الحكومة ضرورية لتهيئة المناخ لتطور القطاع الخاص، وأن السلطات المصرية ترى أن تطبيق برنامج القرض ضروري لتشجيع «النمو الذي يقوده القطاع الخاص».

لكن توقيع الاتفاق مع صندوق النقد لم ينعكس إيجابيًا على الاستثمارات، بل على العكس، ﻷن «انكماش القطاع الخاص غير المنتج للنفط في مصر أصبح أمرًا اعتياديًا خلال العامين الماضيين»، كما يقول دانيال ريتشاردز، الخبير الاقتصادي في بنك الإمارات دبي الوطني لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في بيان صحفي عن نتائج مؤشر «مديري المشتريات» في مايو الماضي الذي يصدره البنك.

«مديري المشتريات» هو مؤشر معد لقياس نشاط القطاع الخاص، ويستند إلى الاستبيانات المرسلة إلى مسؤولي المشتريات في أكثر من 450 شركة من شركات القطاع الخاص غير المنتج للنفط في مصر.

ولم يحقق المؤشر أي نتائج إيجابية في شهرين متتاليين خلال سنتين، بل واصل القطاع الخاص «تحمل عبء الإصلاحات الاقتصادية المستمرة في مصر، وسيظل على الأرجح تحت ضغط»، تبعًا للبيان.

وفي هذا السياق، يشير تقرير «مراقب الاقتصاد المصري» الصادر عن  البنك الدولي، في عدده الأحدث، إلى تأثير سياسة رفع أسعار الفائدة البنكية على القطاع الخاص، وهي السياسة التي اتبعها البنك المركزي المصري ضمن الاتفاق المبرم مع صندوق النقد الدولي، في محاولة لمواجهة الآثار التضخمية لقرار تحرير سعر الجنيه.

ورفع البنك المركزي سعر الفائدة عدة مرات بنسبة 7% إجمالًا، قبل أن يشرع في دورة تخفيض في فبراير عام 2018، تقلص فيها سعر الفائدة عدة مرات بنسبة 3% إجمالًا، لكن التيسير النقدي يبدو بطيئًا مع توقف البنك المركزي عن خفض سعر الفائدة، وهو ما قد يعود إلى المخاوف بشأن ارتفاع التضخم مجددًا مع ظهور تأثير رفع أسعار الطاقة الأخير.

لكن سياسة التشديد النقدي حملت ضغوطًا على القطاع الخاص بما تمثله من رفع لتكلفة الاقتراض. ويقول البنك الدولي في هذا السياق إن القطاع الخاص لم يحصل إلا على 23% من إجمالي الائتمان المحلي في إبريل 2019. واللافت للنظر أن تلك النسبة تمثل تراجعًا عن نصيب القطاع الخاص من إجمالي الائتمان المحلي في سبتمبر 2016، قبل توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، والتي بلغت وقتها 31% تقريبًا، وفقًا لبيانات البنك المركزي.

وبالرغم من تحسن قدرة الاقتصاد المصري على اجتذاب الاستثمار الأجنبي المباشر، مع ارتفاع تدفقاته من 2.1% من الناتج المحلي في 2015/2016 إلى 3.4% في العام التالي (قبل أن تنخفض بعض الشيء إلى 3.1% في العام التالي) تبعًا لبيانات البنك المركزي، إلا أن قطاع البترول والغاز استأثر وحده بثلثي هذه الاستثمارات في 2017/2018، وفقًا لتقرير «مراقب الاقتصاد المصري».

ويرى البنك الدولي أن تركز الاستثمارات في قطاع الغاز والبترول ينذر بصعوبة تمدد الاستثمارات الأجنبية إلى قطاعات كثيفة التشغيل، بعكس قطاع الغاز والبترول، تتيح فرص العمل التي يحتاجها السوق المصري.

ماذا حدث في القطاع الخارجي؟ 

قال صندوق النقد الدولي في تقرير المراجعة الأول للاتفاق مع مصر إن تراجع سعر صرف الجنيه المصري، بعد تحريره، يحسن من تنافسية الصادرات ويكبح الواردات.

وتضمنت وثيقة المراجعة الأولى اعترافًا على لسان الحكومة المصرية بأزمة الصادرات المصرية (غير البترولية)، إذ قالت الحكومة -وفقًا للتقرير- إن الصادرات السلعية غير البترولية تمثل نسبة صغيرة من الناتج المحلي (لا تتجاوز 6%) على نحو يبدو استثنائيًا قياسًا للمعدلات العالمية، وأنها تسعى في هذا السياق للاستفادة من الإمكانيات التي يتيحها تراجع سعر الجنيه عبر «إصلاح برنامج تشجيع الصادرات وإتاحة الدعم الملائم للمصدرين الصغار والمتوسطين».

وارتفع إجمالي الصادرات في 2016/2017 والعام المالي التالي له، بنسبة 16.2% و18.9% على التوالي، لكن معدل نمو الصادرات غير البترولية كان أقل في العامين، وهو ما يعني أن مصدر النمو الأساسي هو الصادرات البترولية، وبالتالي فإن التعويم لم يحقق الأثر المتوقع في زيادة الصادرات من السلع.

ويتضح من متابعة بيانات البنك المركزي المتوفرة عن أربعة أعوام مالية ارتفاع المكون البترولي في الصادرات المصرية كنسبة إلى إجمالي الصادرات في الفترة التي تزامنت مع تطبيق البرنامج الاقتصادي، من بداية عام 2015/2016 وحتى منتصف 2018/2019 (أحدث البيانات المتاحة)، من نحو 30% إلى نحو 43% كما يظهر في الشكل التالي:

 

وقال البنك الدولي قبل أيام إن نمو الصادرات غير البترولية ظل ضعيفًا بالرغم من قرار تحرير سعر الجنيه. وأوضح البنك، في العدد الأخير من تقرير «مراقب الاقتصاد المصري»، أنها لم تستجب على نحو كافٍ للتراجع الكبير في سعر الجنيه.

وقال البنك في تقريره إن التحسن الذي طرأ على عجز الميزان التجاري، الذي يمثل الفارق بين الصادرات والواردات، يعود إلى زيادة إنتاج الغاز مع بدء العمل في حقل «ظهر»، وهو ما سمح بانخفاض الواردات البترولية على نحو ملحوظ، واقتراب مصر من تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز، بل وتحقيق فائض للمرة الأولى منذ أربعة سنوات في الميزان التجاري البترولي، الذي يمثّل الفارق بين الصادرات والواردات البترولية.

أما فيما يخص الديون الخارجية، فقد شهدت فترة تطبيق برنامج «الإصلاح الاقتصادي» المتفق عليه ارتفاعًا لافتًا للنظر في حجمها، بينما كانت توقعات صندوق النقد في وثيقة المراجعة الأولى للبرنامج (الصادرة في يناير 2017) أقل كثيرًا من الارتفاع الذي حدث فعليًا في حجم الدين الخارجي وخدمته، المتمثلة في الأقساط والفوائد.

واتسع الفارق بين توقعات صندوق النقد الدولي وحجم الدين الخارجي بشكل كبير بمقارنة العام الأول لتطبيق البرنامج الاقتصادي بالعام الثاني، فالفارق بين التوقعات وبين ما تحقق فعلًا خلال العام الأول بلغ ثلاثة مليارات دولار من الديون، بينما قفز هذا الفارق في التقدير إلى 18 مليار دولار في العام الثاني (بمقارنة التوقعات الواردة في المراجعة الأولى للصندوق وبين المتحقق فعليًا)، كما يوضح الشكل التالي:

Share this post

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart