تلخيص دراسة: فلاحتنا، غذاؤنا، سيادتنا تحليل للسياسات الفلاحية التونسية على ضوء مفهوم السيادة الغذائية

تلخيص دراسة: فلاحتنا، غذاؤنا، سيادتنا تحليل للسياسات الفلاحية التونسية على ضوء مفهوم السيادة الغذائية

فلاحتنا، غذاؤنا، سيادتنا

تحليل للسياسات الفلاحية التونسية على ضوء مفهوم السيادة الغذائية

تلخيص الدراسة:

رغم أن مقولة “الغذاء حق إنساني غير مشروط”، تلوح للكثيرين بَداهَة غير قابلة للنقض والمراجعة، إلا  أن الوضع الاقتصادي العالمي يُفصح بقوة عن تشكل منظومة هيمنة عالمية تتحكم في مسارات إنتاج الغذاء وتوزيعه، وتُخضِع الشعوب لمصالحها وإراداتها. وتُشرف على إدارة هذه المنظومة المؤسسات المالية الدولية والشركات متعددة الجنسيات وشبكات الاستثمار المحلية المرتبطة بها والمسنودة أساسا من الدول التابعة.

ضمن خط السّير الدولي المرسوم سلفًا، تنتظم التوجهات العامة للاقتصاد التونسي، وخاصة القطاع الفلاحي، المنتج الرئيسي للغذاء. يشهد هذا القطاع الحيوي تحولات جذرية تتصل أساسا بتدمير وظائفه الإنسانية والمجتمعية والبيئية، عبر تحويله قسرا من مصدر يوفر الحاجيات الاستهلاكية للإنسان التونسي ضمن شروط تحترم تفاعلاته الاجتماعية مع ثقافته ومناخه، إلى مصدر لمراكمة الأرباح عبر الارتباط بالأسواق العالمية، وحديقة مفتوحة للمضاربة والاحتكار والتخريب البيئي.

من داخل هذه الشروط الدولية والمحلية المتشابكة، تنهل دراستنا الموسومة بـ“فلاحتنا، غذاؤنا، سيادتنا: تحليل للسياسات الفلاحية التونسية على ضوء مفهوم السيادة الغذائية”، قيمتها السياقية وراهنيتها الفكرية والواقعية معًا. تم إنجاز هذه الدراسة من قبل “مجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية” في الفترة الممتدة   بين أكتوبر 2017 إلى أفريل 2019 وتجدر الإشارة إلى أن مجموعة العمل هي إطار يضم باحثين/ مناضلين يعملون على تحليل مجمل السياسات العمومية والخاصّة في القطاع الفلاحي في تونس، وعلى تبيان تأثيرها على بُنية الإنتاج الفلاحي، إضافة إلى انعكاساتها على صغار ومتوسطي الفلاحين على وجه الخصوص. تكوّنت المجموعة أواخر سنة 2017 بعد خوض تجارب عديدة، تراوحت بين العمل الجمعيّاتي في مجال تحليل السياسات الاقتصادية العامة وانعكاساتها على المجتمع، ومرافقة الحركات الاجتماعية في الداخل التونسي ومحاولة دعمها في مسارات نضالها وافتكاك حقوقها.

من خلال ما يشير إليه عنوانها، وعبر ثالوث “الفلاحة” و“الغذاء” و“السيادة”، تسعى هذه الدراسة إلى الإمساك بملامح السياسات الفلاحية العامة في تونس تحليلاً ونقدًا، وذلك بالاعتماد على مفهوم السيادة الغذائية بوصفه أداة استقراء وصيغة مُساعدة على تفكيك وضع اقتصادي طَرفي وخاضع على غرار الاقتصاد التونسي، دون التعاطي معه كقالب فكري فاقد لدلالات التفاعل مع السياقات الاقتصادية والسياسية المحلية، على اعتبار أن المفهوم انبثق من خصوصية اقتصادية وثقافية مغايرة، متعلقة بأوضاع الفلاحين في أمريكا اللاتينية، وقد شهد صياغته الأولى سنة 1996 على يد “حركة نهج المزارعين” خلال قمة الغذاء التي عقدتها منظمة الأغذية والزراعة (الفاو).

سعت الدراسة إلى بناء علاقة جدل موضوعية وإيجابية بين معطيات الواقع الفلاحي التونسي ومفهوم السيادة الغذائية، عبر دراسة نماذج ميدانية مُوزعة على قطاعات إنتاج فلاحي مختلفة وحاسمة في هَندسة الخارطة الفلاحية المحلية (القوراص، التمور، زيت الزيتون)، وموزعة كذلك على مجالات جغرافية متغايرة في بُنَاها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهي جهات قبلي وسيدي بوزيد وباجة والوطن القبلي.

محاور الدراسة: الفلاحة التونسية وتفكيك منظومات؛ الهيمنة/التهميش/ الاستتباع

تنطلق الدراسة من سؤال محوري تنتظم على ضوئه مختلف فصولها: لماذا السيادة الغذائية عوضا عن الأمن الغذائي؟ وأمام ما تحظى به أطروحة الأمن الغذائي من هيمنة مُشتقة من نفوذ مروجيها (المؤسسات المالية الدولية، والشركات متعددة الجنسيات والدول المهيمنة والتابعة…) تسعى الدراسة إلى تحليل الآثار التي تركتها هذه الأطروحة على الفلاحة التونسية ودورها في تحديد مصير الآلاف من صغار ومتوسطي الفلاحين، من خلال ما تفرضه من هيكَلة اقتصادية واجتماعية وسياسية متناسبة مع منطق سَلعَنة الغذاء وتحويله إلى بضاعة معروضة للمضاربة في السوق العالمية.

في هذا السياق عكَفت الدراسة في بابها الأول على إبراز الآثار التدميرية لأطروحة الأمن الغذائي على الموارد المائية والمخاطر المتعلقة بتجاهل التغيرات المناخية، من خلال تقييم سياسة التشجيع على تصدير المنتوجات الفلاحية المرتبطة بتلبية حاجيات السوق العالمية -خاصة الحريف الأوروبي الذي يتمتع بالحصرية- دون الأخذ بعين الاعتبار حاجات السوق المحلية واستدامة الموارد المائية. وعبر تشخيص واقع الفقر المائي الذي تعانيه تونس، أبرزت الدراسة خيوط التشابك بين سوء التصرف في الموارد المائية والتشجيع الرسمي على خلق فلاحة أحادية متخصصة(القوارص، التمور، زيت الزيتون)، ذات أفق إنتاجي مربوط بالتصدير، الذي يجري الترويج له بوصفه الحل السحري لضخ موارد مالية جديدة، في حين انتهى تقييم هذه السياسة إلى تهافت أسطورة التصدير من خلال إبراز ضعف مردوديتها المالية واستمرار اختلال الميزان التجاري على نحو يكرس واقع التبعية الغذائية، علاوة على الانعكاسات السلبية التي لحقت القُوى المنتجة المتمثلة أساسا في صغار ومتوسطي الفلاحين.

في الباب نفسه، اتجه البحث نحو تشخيص السياسات العامة المتعلقة بتغير المناخ التي تعطي الأولوية لتخفيف انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون في تونس على حساب دعم جهود التكيف مع آثار تغير المناخ والانتقال إلى أساليب الإنتاج المستدامة. هذا الخيار السياسي كان موضع انتقاد شديد في هذه الدراسة، بالنظر إلى المخاطر المناخية التي يتكبدها صغار ومتوسطو الفلاحين والقطاع الفلاحي والوسط الريفي، إضافة إلى المخاطر التي ستهدد الحق في النفاذ إلى الغذاء وتحقيق شرط السيادة.

ترتبط أيضا سياسة مراكمة الأرباح وزيادة الإنتاجية باستراتيجيا التصرف في المخزون العقاري، خاصة ما يعرف بالأراضي الدولية. في هذا السياق تطرقت الدراسة في بابها الثاني إلى واقع الاستثمار الخاص للأراضي الفلاحية الدولية، الأجنبي والمحلي، لتٌبرز آثار سياسة التفويت في العقارات الدولية التي انتهجتها الدولة منذ بداية السبعينات تزامنا مع التخلي عن تجربة التعاضد والشروع في تصفية الوحدات التعاضدية للإنتاج الفلاحي، وقد كانت ضيعتا الاعتزاز 2 والاعتزاز 3 بسيدي بوزيد مدخلين نموذجيين لتتبع سياسة الخوصصة الفلاحية وتقييم آثارها التنموية والاجتماعية والاقتصادية، إضافة إلى ارتباط سياسة التفويت المذكورة بالانخراط في الطرح الفلاحي الموجه للتصدير الذي مثلته شركات الإحياء والتنمية الفلاحية الخاصة، وهو ما انتهى بالضرورة إلى تشجيع الفلاحة الأحادية والمتخصصة التي تعتبر ظاهرة محددة في هيكلة نمط الإنتاج الفلاحي التونسي، ونظرا لأهمية هذه الظاهرة وخطورتها سعى الباب الثالث من الدراسة إلى تفكيكها وإبراز انعكاساتها المختلفة، التي تتمظهرفي القضاء على تنوع النشاط الفلاحي وتدمير المنظومة البيئية واستنزافها، وتهميش الفاعلين الأساسيين في منظومة إنتاج الغذاء من صغار ومتوسطي الفلاحين.في هذا السياق تم تسليط الضوء على الرهانات المتعلقة باستغلال المناطق السقوية ذات مساحة المحدودة، وذات ربحية عالية وبمعدات وصيانة مُكلفة. وقد أبرزت الدراسة ظاهرة الاستيلاء على وسائل الإنتاج المذكورة عبر خلق زراعة ريعية منتجة للسوق الدولية، على حساب الزراعة التي تنتج الأغذية الموجهة للسوق المحلية. وهكذا تم تكريس التبعية الغذائية والاستعمار الزراعي من خلال إعدام الربط بين القطاع الفلاحي والحاجات الغذائية المحلية، وفرض الارتهان لمقولة التصدير للأسواق الخارجية، وهو ما خلق حالة غُبن اجتماعي إزاء العديد من المنتوجات الفلاحية التونسية المعروفة مثل زيت الزيتون والتمور،التي يتم ترويجها بأسعار مُشطة في الأسواق المحلية.

أما الباب الرابع من الدراسة فقد تطرق إلى مسألة الهياكل الفلاحية وقضية تنظم الفلاحين، ليطرح بذلك نموذج الشركات التعاونية للخدمات الفلاحية والعوائق الهيكلية والمادية التي تعيشها بوصفها أطر ممثلة لصغار ومتوسطي الفلاحيين، وتقييم مساراتها ضمن سياق سياسي واقتصادي يهيمن عليه خيار لَبرلَة الفلاحة وتحطيم التجارب التعاونية المتحركة على أرضية الاقتصاد التضامني والاجتماعي وليس وفقا لمنطق مراكمة الأرباح. وفي نفس السياق أعادت الدراسة تقييم تجربة التعاضد التي تعود إلى أوائل ستينات القرن الماضي، محاولة بذلك تفكيك أبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية بالتحرر من المنظور السّلطوي الذي أنتج سردية للفشل ظلت تهيمن على الذهنية العامة طيلة العقود الماضية. وقد اندرج التطرق إلى الهياكل الفلاحية ضمن أفق التفكير في قضية تنظم صغار ومتوسطي الفلاحين، الذين ظلوا يعيشون على هامش الاستفادة من دورة الإنتاج رغم أنهم المنتجون الحقيقيون للغذاء.

المنهجية: جدل الفكر والواقع ضمن مقاربة منهجية متعددة ومنفتحة

تشير القاعدة الإبستيمولوجية المعهودة إلى أن الموضوع هو الذي يحدد المنهج، وهو تقريبا ما التزمت به الدراسة من خلال إخضاع المنهج لمتطلبات الموضوع. ولئن كان واقع الفلاحة التونسية في ارتباطه بمفهوم السيادة الغذائية موضوعا مركزيا تحوم حوله كل الإشكالات والمحاور، فإن دراسة هذا الواقع بتعقيداته المختلفة وقضاياه المتشعبة اقتضى توسيعا لزوايا النظر وانفتاحا على مختلف سجلات البحث والمراجع والمصادر التي استفاد منها الموضوع، علاوة على الاستفادة من المقاربات التي تنتمي إلى اختصاصات أخرى ولكنها شكلت مداخل لإضاءة الدراسة، على غرار التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع وعلوم الإحياء والبيئة والقانون والاقتصاد.

يحتل الميدان/ الواقع أيضا قيمة مركزية في منهجية الدراسة، لأنه ساهم في تحرير البحث من المُسبقات والمسلّمات، وأكسب الفكر واقعيته وعمقه التحليلي والاستشرافي في نفس الوقت. ولعل التعويل على الواقع سواء على مستوى الأسلوب (المقابلات المباشرة مع الفاعلين، الاستقصاء الميداني، الاستبيانات) أو على مستوى المضمون من خلال بناء المعرفة على وقع آثار المنتجين الحقيقيين أو على مستوى الفعل النضالي بإسناد معارك ونضالات الفلاحين، قد ساهم في تبيئة مفهوم السيادة الغذائية و”تونسته” إن صح التعبير، وبالتالي تجنيبه السقوط في سيناريو الإسقاطية والتعالي على الوقائع الحية والملموسة.

تَشكَّل هذا الخيار المنهجي وفقا لقناعة معرفية وواقعية، لا تؤمن بالفهم المجرد والمغترب عن فعاليات الإنتاج الواقعية، وإنما تدفع نحو التأسيس لجدل مُخصب بين الواقع والفكر، في أفق الاشتغال على الفهم والتغيير معا.

الأهداف: السيادة الغذائية مشروع فلاحي -مجتمعي بديل

بقدر ما تهدف الدراسة إلى تفكيك منظومات الهيمنة والتهميش والاستتباع في الواقع الفلاحي التونسي، فهي تسعى أيضا إلى خلق حالة جماعية مدركة لآليات الاستعمار الزراعي وأبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، ومتبنية لمفهوم السيادة الغذائية بوصفه مشروع فلاحي-مجتمعي بديل.

تهدف الدراسة أيضا إلى التأسيس لدينميات فعل ذات أفق تغييري، عبر الاحتكاك بصغار ومتوسطي الفلاحين، ومرافقتهم في معاركهم النضالية الهادفة إلى فرض سياسات فلاحية مغايرة. وتضع مجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية في الحسبان أهمية التنظم والهيكلة في تغيير واقع فئة الفلاحين والمجال الريفي بشكل عام، وهو ما يجعلها تُحَفّز وتُقَيّم المبادرات المواطنية التي تمثل المصالح الحقيقية لصغار ومتوسطي الفلاحين والمعطلين عن العمل، والتي تؤسس لحالة سوسيو-اقتصادية قائمة على مبدأي التضامن والتعاون، بعيدا عن منطق تحويل القطاع الفلاحي إلى مصدر للإثراء والمضاربة والاستنزاف الفوضوي للإنسان والبيئة.

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart