ثلاثي أضواء خصخصة التعليم
دروس من الهند ودول أفريقيا إلى مصر. في العام الماضي، ناشدت ١٧٤ منظمة مجتمع مدني من خمسين دولة جهات مانحة دولية أن تتوقف عن دعم شركة مدارس خاصة تعمل في أفريقيا. رفع ذلك الخبر قرون استشعار المخاطر لأكثر من سبب.
تملك شركة “أكاديميات بريدج الدولية” أكثر من ٥٠٠ مدرسة للابتدائي والحضانة في عدد من الدول، هي كينيا ونيجيريا وأوغندا وليبيريا والهند. هي شركة أمريكية تتلقى دعما سخيا من مؤسسات خيرية على رأسها مؤسسة بيل وميليندا جيتس، والحكومة البريطانية. وتعتمد على مناهج التعليم التي تصممها كي تصلح لتدريسها عبر الأجهزة اللوحية الإلكترونية “التابلت”.
يوضح فيديو دعائي كيف تستهدف الشركة الهادفة للربح الشرائح الأفقر والمناطق العشوائية في الدول النامية. وتستثمر في الدول التي تعاني من نقص الإنفاق الحكومي على التعليم، كي تسد هذه الفجوة ولتقدم تعليما أفضل من الحكومي في المناطق الفقيرة المحرومة من المدارس الحكومية، أو تلك التي تعاني من اكتظاظ الفصول الحكومية. وذلك بأسعار بخسة، والدفع بأقساط شهرية.
تنتقد منظمات المجتمع المدني في تلك الدول أكاديميات بريدج بسبب ارتفاع مصروفاتها عن قدرة الأهالي على الإنفاق. مما يجعل الآباء يقتطعون من الإنفاق على الطعام والعلاج حتى يستطيعوا توفير مصاريف الدراسة لأبنائهم، بحسب الشهادات التي جمعوها.
صداقات سرية
في كينيا، تخصص الأسر التي تعيش على دولار وربع في اليوم ثلث دخلها للإنفاق على أبنائهم المسجلين في تلك المدارس الخاصة، بحسب دراسة قام بها اتحاد نقابات المعلمين بالتعاون (يضم ٣٢ مليون معلم وإداري) مع منظمة التعليم الدولية.
لم تفتح ليبيريا الباب بعد لمثل ذلك النموذج. ولكن الحكومة اشتركت مع بريدج في تجربته من خلال مدارس حكومية يمولها القطاع الخاص. حيث يشكل نموذج مدارس بريدج، والذي يحصل من خلاله المعلمون على أجهزة تابلت تحتوي على المناهج الدراسية، حلا لمعضلة تحسين التعليم تواجه الدول ذات الدخول المنخفضة. ولكن، على الرغم من نواياها الحسنة المعلنة، لا يخفى أنها تعمل في بلاد تتمتع بها بأصدقاء نافذين في الحكومات، متسترة بنقص الشفافية في تلك البلاد. يعقب رئيس لجنة التعاون في البرلمان البريطاني على تحقيق بشأن فعالية المساعدات الخارجية التي تقدمها بريطانيا للتعليم، متسائلا إذا ما كان على الحكومة البريطانية أن تمول مثل تلك المدارس. “تراكم من الأدلة في التحقيق المقدم لدينا حول علاقات مدارس بريدج بالحكومات، والشفافية والاستدامة”، بحسب مقال نشر في الجارديان البريطانية.
تفعل الأسر المستحيل كي تلحق أبناءها بالتعليم، ولا تتردد حين يلوح ما يبدو أنه تعليم جيد، فهل هو كذلك فعلا في تلك المدارس التي تندرج تحت بند الشراكة بين القطاع العام والخاص؟
إذا كان المعلم هو عماد العملية التعليمية، فإن المعلمين في تلك المدارس يعانون مثل زملائهم في الحكومة. فهم يعملون بين ٥٩ و٦٥ ساعة في الأسبوع، ليحصلوا على دخل يدور حول ١٠٠ دولار في الشهر، وذلك وفقا لأكثر من دراسة قامت بها منظمات مجتمع مدني. يقول القائمون على تلك المدارس أن المعلمين يتلقون تدريبا، ويقدمون نوعية أفضل من التعليم مقارنة بالتعليم الحكومي. في حين ترفض التقارير المستقلة في كينيا وأوغندا والهند الاعتماد على نتائج التقييم التي تقوم بها بريدج، وتطالب بتقييم مستقل لنتائج التعليم. كما يتشكك عدد من الدراسات في جدوى التعليم الذي يعتمد بالأساس على الأجهزة الإلكترونية في المراحل الأولى للتعليم.
وفي أوغندا، حكمت المحكمة بإغلاق أكثر من ٦٠ مدرسة تتبع بريدج، بسبب عدم ملاءمتها للعملية التعليمية، ولجوئها إلى مدرسين ومدرسين مشرفين غير مؤهلين. ونادت السيدة الأولى ووزيرة التعليم بإغلاق مدارس بريدج. ولكن، ظلت المدارس مفتوحة بعد الحكم.
لوبي التعليم الخاص
يلاحظ پول الناشط الكيني في المجتمع المدني أن أكاديميات بريدج الدولية لا تدخل البلاد بمفردها، بل أن هناك نمطا متشابها تكرر في كل الدول الأفريقية التي يتابعها، يعتبر پول “بريدج” ضلعا واحدا من ثلاثي خصخصة التعليم. ففي حين تستهدف “بريدچ، أي الجسر” الربح من الشرائح محدودة الدخل، تستهدف مجموعة أخرى تسمى “چيمز، أي المجوهرات” الشرائح العليا من الدخل. كما تصاحبهما غالبا منظمة “وورلد ريدر، أي القارئ العالمي” المعنية برقمنة المحتوى المكتوب، أو تحويل الكتب إلى مادة متاحة إلكترونيا. وتلك الشركات والمنظمات المذكورة وغيرها، تلقى دعما كبيرا من كبرى الشركات العالمية، ومن بعض الحكومات الغنية حول العالم. لتنتشر فرص التعليم الخاص للجميع، وليتعلق الفقراء بالتعليم كوسيلة لتحقيق حلم الترقي الاجتماعي للأبناء بعد أن حرم منه الآباء. ما الخطأ في ذلك؟
التعليم حق أم سلعة؟
التعليم حق وليس سلعة. ولأنه حق، فعلى الدولة أن تتأكد أن يصل ذلك الحق إلى كل المواطنين على حد السواء. كل الأطفال متساوون كأسنان المشط، لا فضل لطفل على طفل. ولا يتأتى ذلك إلا من خلال مدرسة حكومية مرتفعة الجودة ومتاحة للجميع، الغني قبل الفقير. بالنظر إلى الدول التي جربت منذ عقود إدخال التعليم الخاص لحل مشكلة نقص التمويل العام للتعليم، لم تتحسن مخرجات التعليم ولم تقل نسبة الأمية، ولم يستطع القطاع الخاص سد الفجوة في نقص المدارس. في بلد مثل مصر، كان إجمالي الإنفاق الحكومي على التعليم يغطي فقط ربع ما يلزم لبناء عدد الفصول التي تقول وزارة التعليم أنها تحتاجها كي تستوعب أعداد الأطفال المصريين في سن التعليم، كان ذلك منذ عامين. وفي العام التالي مباشرة، فقد الجنيه أكثر من نصف قيمته جراء التعويم، ومعه تراجع الإنفاق العام الحقيقي على التعليم (باستبعاد أثر التضخم). فبدلا من أن تضاعف الحكومة إنفاقها على التعليم، اقتطعت الحكومة خُمس الميزانية التي خصصتها للتعليم، مديرة ظهرها لأحكام الدستور، ولالتزامها الدولي بتحقيق أهداف ٢٠٣٠ التنموية، والتي تنص في مادتها الرابعة على تحقيق تعليم عال الجودة بالتساوي للجميع ودعم فرص التعلم طول مراحل العمر للجميع.
هل يستطيع القطاع الخاص سد هذه الفجوة؟ الإجابة هي لا.
أولا: لأنها أكبر من إمكانياته. لأن عدد الفقراء ومحدودي الدخل (زبائنه) أكبر من إمكانياته. رغم التوسع الكبير والسريع في مدارس بريدج منذ ٢٠٠٩ وحتى الآن، ليبلغ ٥٠٠ مدرسة في أقل من عشرة دول. أين هذا من ملايين الفصول التي لا يجدها أكثر من ٣٠٠ مليون طفل حول العالم؟ القطاع الخاص – كما نموذج بريدج- لديه سوق كبيرة بما يكفي ليحقق ربحا كبيرا، ولكنه لا يستطيع -ولا يرغب في- أن يلبي إتاحة التعليم الجيد لكل المواطنين.
ثانيا: وعلى الرغم من كثرة عدد محدودي الدخل إلا أن عدد من يستطيعون تحمل تكلفة التعليم في تلك المدارس أقل كثيرا من عدد من يحتاجون إلى تعليم جيد. وتلك هي المعضلة. انخفاض مستوى الدخول في بلادنا يعني أن عددا كبيرا من الأطفال سيبقون محرومين من التعليم اللائق (بافتراض أنهم يقدمونه). وهو ما يتناقض مع تعهد مصر و١٥٥ دولة أخرى ب”أن لا نترك أحدا خلفنا”، في إشارة إلى الحكومات لن تجعل الفقر عائقا أمام المواطنين في التقدم والرفاه. ثالثا: وبعيدا عن المثاليات، الالتزامات، هناك تناقض كامن في فكرة السماح للقطاع الخاص بالتعليم. فجوهر ازدهاره ومشروعية وجوده هو في تراجع التعليم الحكومي. أي أنه من مصلحته أن يحول دون تطور التعليم الحكومي، وإلا فقد زبائنه أو معظمهم.
تخيلوا في مصر مدرسة حكومية مثل تلك الموجودة في بريطانيا أو هولندا أو ألمانيا، نفس المدرسة يذهب إليها ابن أغنى الأغنياء مع ابن أفقر الفقراء. لماذا يدفع الآباء عشرات الآلاف من الجنيهات في حين يمكن أن يتلقى ابنهم التعليم المجاني بنفس الجودة؟ هذه هي المعضلة التي تفسر لماذا لا تستثمر تلك الشركات في الدول التي ذكرناها في مثالنا. فأرباحها هي عصارة ضعف التعليم الحكومي.
وإذا كنت وصلت إلى هذه الفقرة من المقال، لعلك تتساءل، هل هذا الثلاثي -بريدج وجيمز وورلد ريدر- موجود في مصر أم لا؟ الإجابة الدقيقة هي أنه عرف طريقه إلى مصر. وهذه هي التفاصيل القليلة المتاحة عبر بحث قصير على الانترنت.
الثلاثي في مصر؟
وورلد ريدر هي الشريكة المسؤولة عن المحتوى الرقمي في بوابة بنك المعرفة المصري، وهي المبادرة التي أطلقها وزير التعليم طارق شوقي بعيد تولي منصبه.
كما وقعت مجموعة چيمز مع بنك الاستثمار الأكبر في مصر، إي إف جي هيرمس اتفاقا لإنشاء صندوق استثمار خاص (الأقل شفافية بين أنواع صناديق الاستثمار)، مناصفة بين المؤسستين، بغرض الاستثمار في بناء مدارس للتعليم الدولي في مصر بقيمة ٣٠٠ مليون دولار خلال السنوات الخمس القادمة.
أما بريدج فلا يوجد على موقعها أي إشارة إلى نشاط في مصر، كما أن موقع الشراكة بين القطاع العام والخاص المصري معطل. ولكن تتابع الصحف أنباء العطاءات المقدمة من تحالفات القطاع الخاص إلى وزارة التعليم لبناء وإدارة مدارس خاصة. وفي المرحلة الأولى تم قبول ٤٣ شركة وتحالف، تحصل على الأرض مجانا من الحكومة، وعقد امتياز لإدارة تلك المدارس الهادفة للربح لمدة تصل إلى ٤٠ عاما. ومن غير المعروف إذا ما كانت بريدج شريكة في إحدى تلك التحالفات، بسبب غياب الشفافية والمعلومات. حيث كان من المتبع سابقا أن ينشر موقع الشراكة بين القطاع العام والخاص تفاصيل وجنسيات التحالفات المتقدمة، شركة بشركة.
والحقيقة، أن الثلاثي المذكور هو ربما ما ظهر من قمة جبل، بسبب التجارب الأفريقية الأليمة. ولكنه جزء من ظاهرة متنامية رصدها تقرير عن دور وزارة الخارجية البريطانية في دعم المدارس الخاصة خارج بريطانيا، فيما يشكل لوبي -أو جماعة ضغط نافذة- من أجل دعم خصخصة التعليم. يسهل هذا اللوبي لتلك الشركات والمنظمات الربحية وغير الربحية دخول الدول النامية، ويقدم لها تمويلا سخيا بمساعدة شركات عالمية عملاقة. ومن ضمن الشركات التي شملها هذا التقرير شركة ديسكفري كوميونيكشن، وهي نفس الشركة التي تعاقدت معها وزارة التعليم، بالاشتراك مع بنك المعرفة المصري لتقدم محتوى تعليميا إلكترونيا إلى المدارس الحكومية.
أخيرا، العبرة ليست بالأسماء. نعم من المهم التعلم من الدروس الحية. ولكن الغرض من المقال أولا: تحفيز الحكومة على اتخاذ كل التدابير التي من شأنها أن تحقق أعلى درجات الشفافية والكشف المبكر عن أي تعارض محتمل في المصالح. والأهم، التحفيز على فتح نقاش واسع لإعادة تقييم خصخصة التعليم بأشكاله، سواء الحديثة أو الموجودة بالفعل في مصر، واستبداله بالتعليم الحكومي في ضوء التعهدات الدولية والدستور وحق الأطفال المصريين.