التعلم من التجربة البرازيلية في التنمية

التعلم من التجربة البرازيلية في التنمية

تحتاج مصر أن تستفيد من تجارب الدول التي واجهت ظروفا تنموية صعبة ثم استطاعت أن تتغلب عليها وتحقق نجاحا فائقا، مثل البرازيل. وقد عانت البرازيل لعقود طويلة من تعثر وتذبذب في معدل النمو الاقتصادي، ومن اتساع قاعدة الفقر، ومن تضخم مجنون في الأسعار وصل في عام 1993 إلى 2500%، ومن ارتفاع في الدين العام وعجز بالغ في الموازنة وضعها على مشارف الإفلاس؛ ثم أصبح اقتصادها الآن سادس أكبر اقتصاد في العالم. حققت البرازيل خلال سنوات قليلة هذه المعجزة الاقتصادية، وتمكنت أن تتجاوز أهداف الألفية الثالثة فيما يتعلق بتقليص نسبة الفقر وتحسين مستوى دخل ومعيشة الفقراء، وأن تسيطر على التضخم لتهبط به إلى مستويات مقبولة (22% في 1995 ثم إلى معدلات أدنى في السنوات اللاحقة)، وأن تنتقل من معدل نمو سالب في الناتج القومي المحلي إلى معدل منتظم وصل إلى حوالي 4.5% خلال 2004- 2009، ثم إلى 7.5% في 2010. وتمكنت أيضا من أن تحول عجز الموازنة إلى فائض بلغ 4% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2008 ليستمر ويتزايد الفائض خلال السنوات اللاحقة، وأن تخفض من قيمة وأعباء الدين العام.

حققت البرازيل هذا النجاح الفائق من خلال مجموعة من السياسات المتكاملة، لعل أهمها ما يلي:

أولا: السياسات الموجهة للسيطرة على الاختلالات المزمنة في الاقتصاد وتنشيطه وتحفيز النمو والاستثمار. ضمنت هذه السياسات في خطة سميت «الخطة الحقيقية Real Plan» في 1994 واشتملت على تحرير التجارة، وبرنامج لخصخصة المشروعات العامة، وسياسات للسيطرة على التضخم، وجذب رؤوس الأموال الأجنبية، وتخفيض العجز في ميزان المدفوعات. وفي مرحلة لاحقة تم اتخاذ إجراءات أشد صرامة للسيطرة على التضخم وعجز الموازنة من خلال ترشيد الإنفاق الحكومي وإدخال إصلاحات جذرية في السياسات المالية للحكومة. واقترن بهذا مجموعة من الإصلاحات المؤسسية في التشريعات الاقتصادية، وفي النظم التي تعمل بها أجهزة الدولة، لتوفير المقومات المؤسسية التي تساعد على توسيع قاعدة الاستثمار وتحقيق النمو المنتظم. وقد استهدفت السياسات تحفيز النمو وتوفير بيئة جاذبة للاستثمارات والقطاع الخاص. واستطاعت الدولة أن توازن هنا بين تشجيع الاستثمار في المشروعات الكبيرة وبين توفير الدعم والمساندة للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر لإتاحة فرص توظف متزايدة ومضطرة تمتص بها البطالة والوافدين الجدد إلى سوق العمل ولدمجها في الاقتصاد الرسمي وزيادة روابطها وتمكينها من الإسهام الفاعل في التنمية.

ثانيا: سياسات مكافحة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية. تعتبر هذه السياسات حجر الزاوية في النجاح الذي حققته البرازيل في تنشيط الاقتصاد وتحفيز الطلب الاستهلاكي للفقراء، واشتملت على ثلاثة عناصر: (1) سياسة الحد الأدنى للأجور التي تم تطبيقها على المستوى القومي، وإن كانت فاعليتها مقصورة على الاقتصاد الرسمي. لكن أبرز سماتها أنها حافظت على القيمة الحقيقية للأجور من خلال ربط الحد الأدنى بمعدل التضخم، وتعديله دوريا (سنويا أو خلال مدد أقصر) في ضوء التغير في هذا المعدل. وقد ساهمت هذه السياسة في تحسين مستوى معيشة قطاع واسع من العاملين في القطاع الخاص وفي قطاع الدولة. وقد تحقق هذا من خلال مفاوضات وتوافق بين الحكومة وأصحاب الأعمال والعاملين. وأسهمت هذه السياسة في زيادة القيمة الحقيقية للحد الأدنى خلال الفترة من 1995 إلى 2011 بأكثر من ثلاثة أضعاف (من 85 دولارا شهريا في 1995 إلى 295 دولارا في 2011)؛ (2) سياسة الضمان الاجتماعي، التي طبقت على العاملين في القطاعين الخاص والحكومي، واشتملت مظلتها صغار المزارعين في الريف، والعاملين الفقراء في الحضر، ومثلت وسيلة فعالة لتقليص الفقر بين المسنين، حيث نجحت في تغطية 90% من السكان فوق 65 سنة في 2009. واقترن هذا بزيادة معاش الضمان الاجتماعي من 305 دولارات شهريا في 1995 إلى 575 دولارا شهريا في 2009 (88% زيادة) خلال الفترة؛ (3) المساعدات الاجتماعية، وتشمل مبالغ الدعم النقدي الذي يدفع لشرائح معينة من الفقراء، فضلا عن الخدمات المقدمة للفقراء. وتدفع مبالغ الدعم النقدي لشرائح معينة من الفقراء الذين تقل دخولهم بمقدار 25% عن الحد الأدنى للأجور، ولكل الأعمار من ذوي العاهات والاحتياجات الخاصة (الشديدة)؛ وللأسر الفقيرة وفق شروط يتعلق أهمها بالدخل وحجم الأسرة وعدد الأطفال مع اشتراط التحاقهم وانتظامهم في المدارس وحصولهم على التطعيم الصحي. وقد ساهمت السياسات السابقة في زيادة الدخول الحقيقية للفقراء، وبالتالي في زيادة قدراتهم الشرائية والإسهام في تنشيط الطلب في الاقتصاد وتوسيع قاعدته. وبالتالي أسهمت سياسات مكافحة الفقر والعدالة الاجتماعية في تنشيط الاقتصاد من خلال تحفيز وزيادة استهلاك الطبقات الفقيرة. وقد ضمنت السياسات السابقة في دستور 1988، لتصبح حقا دستوريا مقررا لا تملك الحكومة التراجع عنه.

ثالثا: الإصلاح الحكومي. يعتبر الإصلاح الحكومي أحد الركائز الأساسية التي اعتمدت عليها البرازيل في سياستها لتحقيق التنمية. ويقوم هيكل الدولة في البرازيل على النظام الفيدرالي الذي يحتوي على 26 ولاية، ويشبه النظام الأمريكي في الكثير من سماته وهيكله. وقد اشتملت حزمة الإصلاحات الحكومية التي أدخلت خلال العقدين الأخيرين على مجموعة من العناصر أهمها: (1) إدخال تغييرات جوهرية وجذرية في أدوار الدولة، وهيكل ونظم عمل الحكومة لتطوير أدائها وتحسين اقتصادياتها وجعلها داعمة ومحفزة للنمو مع تحقيق العدالة الاجتماعية، وقد لاقى هذا المخطط تأييدا وترحيبا من المؤسسات الدولية، وشكلت السياسات التي احتواها نموذجا مرجعيا للكثير من دول أمريكا اللاتينية؛ (2) استحداث مجموعة من المجالس والهيئات الرقابية Control أو المنظِمة Regulatory للأسواق، والخدمات والمرافق العامة التي يقدمها أو يديرها القطاع الخاص، وللخدمات التي تقدمها الحكومة، وللقواعد المتعلقة بضمانات الاستثمار، إضافة لتطوير الهيئات الخاصة بالإحصاء والتقاعد وحقوق الملكية والبحوث وغيرها؛ (3) إدخال تعديل دستوري في 1998 يدخل مرونة في نظم الإدارة والموارد البشرية في قطاع الدولة تسمح بتعددها، ويغير من نظام التثبيت الوظيفي Tenure ويسمح للحكومة بترشيد قرارات التوظيف والإحالة للتقاعد، بناء على الحاجة الفعلية واستنادا إلى الكفاءة. ورغم أن هذا التغيير واجه صعوبات ومقاومة كبيرة قبل هذا التاريخ، إلا أن إدخاله ضمن التعديلات الدستورية لم يواجه بالمقاومة المتوقعة، وسمح للحكومة أن تدير شئون التوظيف بمرونة، وأن ترشد التوظيف من خلال التقاعد المبكر وغير ذلك من الإجراءات، وخلق قوة دفع لدى العاملين في الحكومة بضرورة إظهار الجدية في العمل والكفاءة في الأداء. وقد اقترنت هذه الإصلاحات بزيادة الاهتمام بتنمية قدرات العاملين من خلال التدريب، وبزيادة حوافز الأداء؛ (4) إدخال نظم الإدارة القائمة على النتائج Results-based Management في قطاع الدولة، يشمل التخطيط للأهداف المحددة للأداء، والقيام بقياس الإنجاز المتحقق بشأنها والمحاسبة والمسئولية عن النتائج في كل مستويات المؤسسات التابعة للدولة؛ (5) تطوير نظام التخطيط المالي والموازنة العامة والنظام المالي للحكومة عامة، بما في ذلك تحقيق المساءلة عن النتائج، وزيادة الشفافية والرقابة في المعاملات المالية للحكومة. وتوجهت السياسات المالية للحكومة لجعل الإنفاق الحكومي محفزا للنمو ومحققا للعدالة الاجتماعية ومستهدفا تحسين جودة الخدمات العامة. واقترن هذا الإصلاح بجعل التخطيط المالي للحكومة يغطي أربع سنوات. وقد ساهمت هذه الإجراءات في تحسين الأداء الحكومي عامة، وترشيد الإنفاق وتحسين مردوده وتخفيض عجز الموازنة وتحويله إلى فائض.

Share this post

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart