“الإصلاح الاقتصادي” يفترس الاقتصاد

“الإصلاح الاقتصادي” يفترس الاقتصاد

خلال شهري أكتوبر ونوفمبر الماضيين طبقت الحكومة حزمة إجراءات تحت مسمى “الإصلاح الاقتصادي” أحدثت صدمة تضخمية غير مسبوقة، ولاحتواء آثار تلك الإجراءات زادت الحكومة أسعار الفائدة 5% مما زاد من فرص الركود، وبينما تنتعش أنشطة السمسرة والاستثمار في الأوراق المالية في تلك الأجواء، فإن شبح “الركود التضخمي” يهيمن على الاقتصاد.

منذ اندلاع ثورة يناير 2011 تتردد في تصريحات الحكومة إشارات لضرورة تطبيق ما يسمى بـ “الإصلاحات الهيكلية”، وهو اصطلاح مقصود به إصلاح المشكلات الأساسية في الاقتصاد بدلا من اللجوء للمسكنات المؤقتة، على أن تطبق تلك الإصلاحات تحت رعاية مؤسسات التمويل الدولية، وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، للحصول على “شهادة ثقة” في نظامنا الاقتصادي المصري.

ومع تفاقم الأزمة المالية خلال سنوات الاضطراب التي تلت الثورة كان الإلحاح مستمرا على أهمية “شهادة الثقة” التي ستجعل النظام المالي العالمي يثق في تماسك الاقتصاد المصري ويعود لإقراضه مجددا بعد أن تخارج الأجانب تقريبا من سوق أذون الخزانة الحكومية.

لكن الدولة لم تقدر على تمرير اتفاق مع المؤسسة المالية الأبرز، صندوق النقد الدولي، في ظل عدم استقرار السلطة في البلاد، وإن كانت بدأت فعليا في تنفيذ أبرز توصيات تلك المؤسسة منذ استقرار الحكم نسبيا في 2014، بالتحرير التدريجي لدعم الوقود.

وفي ديسمبر 2015 بدأت الخيوط الأولى لاتفاق نظام عبد الفتاح السيسي مع مؤسسات التمويل الدولية تتكشف بإعلان البنك الدولي عن اتفاق قرض مشروط بتطبيق إصلاحات اقتصادية.

وكان من تلك الإصلاحات التحول من ضريبة المبيعات إلى ضريبة القيمة المضافة، وهو إجراء يهدف في ظاهره لتبسيط نظام التعامل على الضريبة لكنه واقعيا إجراء لسد عجز الموازنة العامة من جيوب المواطنين، عبر زيادة السعر العام لضريبة الاستهلاك من 10% إلى 13% في العام الأول لتطبيق الضريبة الجديدة ثم إلى 14% بدءا من العام الثاني.

وطبقت الحكومة “القيمة المضافة” بعد نحو 10 أشهر من الإعلان عن تفاصيل اتفاقها مع البنك الدولي، وبينما كان الخبراء يتداولون النقاش حول الآثار التضخمية لهذا الإجراء وإمكانية أن يرفع معدل التضخم السنوي بين 2.5% إلى 3% لم يكن أحد منهم يدري أنهم على مقربة من أكبر موجة تضخمية لم تشهدها البلاد منذ الثمانينات.

وفي الثالث من نوفمبر أعلن البنك المركزي عن أنه رفع يده تماما عن حماية العملة المحلية في مواجهة الدولار، أو ما يعرف إعلاميا بـ “التعويم”، وجاء القرار استجابة لتوصية صندوق النقد بتبني سعر صرف “مرن “، وبعد سنوات من شح الموارد الدولارية في البنوك وتزايد الاعتماد على السوق الموازية للحصول على العملة الأمريكية تسببت تلك المرونة في دفع الجنيه للانهيار ( ليرتفع سعر الدولار من 8.88 إلى نحو 14 جنيها).

لكن مديرة صندوق النقد أثنت على خطوة المركزي وقالت في بيان رسمي إن المجلس التنفيذي للمؤسسة الدولية سيجتمع لبحث طلب مصر اقتراض 12 مليار دولار، بدا واضحا في تلك الفترة أن مصر قدمت كل الضمانات على جديتها في تبني الأجندة الدولية لـ “الإصلاح “.

وتم كشف الصفقة كاملة خلال ذات الشهر بالإعلان عن استهداف مصر الحصول على تمويلات دولية بقيمة 21 مليار دولار مع تطبيقها لبرنامج من الإصلاحات.

واشتمل البرنامج الإصلاحي أيضا على خطة لاستكمال التحرير التدريجي لدعم الطاقة، الذي بادرت الدولة بتطبيق واحدة من خطواته في نوفمبر أيضا لتزيد من الضغوط التضخمية.

ومنذ إطلاق تلك “الإصلاحات” ومعدل التضخم السنوي آخذ في التصاعد، خاصة وأن المشهد كان يزداد تعقيدا. صحيح أن التعويم قلص من تعاملات السوق السوداء، ولكن أسعار السوق غير الرسمية انتقلت لقاعات البنوك، وقفز الدولار قفزات متتالية ليقترب من الـ20 جنيها، ثم يستقر نسبيا عند الـ 18 جنيها.

 وتحت وطأة الارتفاع الصادم في الأسعار اتجهت العديد من الأسر المصرية لتقليص استهلاكها لسلع ضرورية، وهو ما يهدد القطاعات الإنتاجية بالتباطؤ وقد ينعكس بالطبع خلال الفترة المقبلة على معدلات التشغيل والتوظيف.

وظهر انكماش الاستهلاك في نتائج أعمال شركات بقطاع الدواء بالرغم من يمثله من أهمية قصوى في أولويات الاستهلاك، وهو ما يعكس التغيرات المجتمعية العميقة التي جرت خلال الأشهر الماضية.

في اجتماع الجمعية العمومية الأخير لشركة ممفيس للأدوية دار نقاش محتدم حول ميزانية الشركة لعام 2017-2018، حيث استهدفت زيادة إيراداتها في هذا العام بنحو 53 عن الرقم المستهدف لإيرادات العام السابق، لكن تلك الزيادة تعتمد بشكل رئيسي على زيادة أسعار منتجات الشركة، بمعنى آخر فإن الميزانية تفترض أن المستهلكين سيقلصون من شراءهم للأدوية بسبب الغلاء لذا تميل الشركة هي الأخرى لتقليص الإنتاج.

وبينما انتقد مراقب الحسابات معدلات الإنتاج المستهدفة في السنة الجديدة معتبرا أنها أقل بكثير من قدرات الشركة الفعلية، علق رئيس مجلس إدارة الشركة “طبعا الموازنة اللي عملناها جديدة عن الفترة 2017-2018 راعينا فيها تعويم الجنيه والأنماط الاستهلاكية للناس حتتغير وبالتالي الكميات البيعية حتتغير”.

ويعرض رئيس الشركة كيف تغيرت أنماط الاستهلاك بشكل ملفت للنظر خلال الأشهر الماضية “وده لاحظناه فعلا من بعد زيادة السعر في شهر 5-2016 لقينا units بتقل رغم أن رقم البيع بيزيد، فطبعا بعد تعويم الجنيه التوقع أيضا أن عدد units حيقل في البيع”.

ويشير رئيس ممفيس هنا إلى زيادتين سمحت الحكومة بهما في أسعار الدواء؛ الأولى كانت في صيف 2016 وسببها ارتفاع تكاليف مدخلات الإنتاج المستوردة مع ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء، والثانية في يناير بسبب زيادة الدولار أيضا ولكن في السوق الرسمي.

وبالنظر إلى “الجبن الأبيض” كنموذج ثان على واحدة من أكثر السلع الاستهلاكية شيوعا في حياة المصريين، تحدثنا شركة دومتى عن أنها “مازلت تعالج التأثيرات السلبية لتحرير سعر الصرف” وأن تحسن هوامش ربحيتها في الربع الأول من 2017 كان نتيجة “لزيادة أسعار البيع”، حيث زادت أسعار منتجات الشركة حتى مارس الماضي بما يتراوح بين 60-80% مقابل نفس الفترة من العام السابق.

وباقتباس وصف الوضع الحالي لسوق الغذاء على لسان أحد منتجيه، تتحدث شركة الوطنية للذرة عن “حالة ركود في الأسواق نشأت بعد زيادة الأسعار وارتفاع معدلات التضخم”، وهي ترد على ملاحظات الجهاز المركزي للمحاسبات لتبرير انخفاض مبيعاتها خلال الربع الأول من 2017.

ولم تزد أسعار الوطنية للذرة بسبب التعويم فقط ولكن أيضا لـ “زيادة أسعار الطاقة والغاز والمياه”، وهو ما يعكس حجم الأعباء التي ألقتها سياسات الحكومة على قطاعات الإنتاج خلال الفترة الماضية.

وتحفل تقارير مجالس إدارات الشركات المنشورة في البورصة على مدار نصف عام مضى من التعويم بتعليقات مشابهة عن زيادة تكاليف الإنتاج وركود الأسواق، لكن دعاية الحكومة للترويج لخطة الإصلاح الاقتصادي كانت تبرز وجها آخرا للاقتصاد .. ألا وهو الاقتصاد الورقي.

بحسب آخر تصريحات لوزير المالية فقد استطاع سوق الديون السيادية (الحكومية) في مصر أن يجتذب أموالا أجنبية لشراء أوراق الدين المصري قصير الأجل (أذون الخزانة) منذ التعويم بنحو 7.5 مليار دولار، وهو ما يمثل بالطبع دعما قوية لسوق النقد في مصر.

كما طرحت الحكومة ديونا دولية طويلة الأجل (سندات دولارية) في يناير الماضي ونفذت أكبر طرح في تاريخ تلك الديون، وتوسعت مجددا في هذا السوق بتطبيق طرح آخر خلال الشهر الماضي.

ويعود الأجانب بقوة لسوق الديون المصرية خاصة، سوق أذون الخزانة، ليجنوا أرباحا هائلة، فصورة الاقتصاد في صالات تداول الأوراق المالية تبدو مبهجة وليست على كآبة منظرها في نتائج أعمال المصانع.

لكن إقبال الأجانب على الديون المصرية كان مدفوعا بشكل رئيسي بزيادة أسعار العائد على بيع أذون الخزانة، وبحسب تقديرات منشورة في نشرة مصاحبة لآخر طرح للسندات الدولارية فقد زادت عوائد أذون 91 يوما من 11.4% في يناير 2016 إلى 19.4% في مارس الماضي.

وتضع تلك الزيادة المضطردة في تكاليف الديون الوضع المالي أمام مخاطر كبيرة، وسأكتفي هنا بالاقتباس من النشرة التي أشرت لها في الفقرة السابقة، والتي تحدثت عن أن “المستويات المرتفعة للاستدانة، والتي قد تزيد كنتيجة للاستمرار في الاقتراض، قد تؤثر سلبا على التصنيف الائتماني لمصر وقد يكون لها تأثير سلبي جوهري على الاقتصاد المصري والمالية الحكومية والقدرة على خدمة الدين”.

وتقوم فلسفة خطة “الإصلاح الاقتصادي” على انهاء آخر مرحلة من خصخصة الاقتصاد المصري ليصبح قائما بشكل رئيسي على معايير السوق، مع سد العجز المالي عبر سياسات لا تمثل ضغطا قويا على الاستثمار، وهي الإجراءات التي تأمل الحكومة من ورائها أن تشجع الاستثمارات المباشرة على دخول السوق،  ليخرج الاقتصاد من دائرة التباطؤ التي وقع فيها منذ عام الأزمة المالية العالمية، 2008.

لكن واقع تطبيق تلك الخطة كشف في أشهره الأولى عن مخاطر كبيرة كانت تفوق توقعات واضعيها. وبدأت تلك الاضطرابات مع التحرير الكامل لسعر الصرف في نوفمبر الماضي، والذي رفع سعر الدولار فوق تقديرات مسؤولي صندوق النقد الدولي وهو ما دعى أحدهم لتوصيف سعر العملة بأنه overshooting (إفراط).

وأدى خروج الدولار عن السيناريو المقدر له إلى قفزة في تكاليف دعم الوقود، إذ أن كل تراجع في الجنيه بقيمة 10 قروش يرفع الدعم 800 مليون جنيه، وهو ما شكل ضغطا هائلا على الحكومة للتسريع بوتيرة تحرير الطاقة.

ومع صدمة تحرير الطاقة والصدمات التضخمية الأخرى التي أشرنا لها كان البنك المركزي مضطرا لتطبيق زيادات سريعة في أسعار العائد على الإقراض، 2% في نوفمبر و3% في مايو الماضي.

ومثلت زيادة فائدة الإقراض لطمة ثانية للقطاعات الإنتاجية التي تعتمد بكثافة على التمويل المصرفي، ومنها مجموعات كبرى مثل السويدي والعز وغيرها، بينما كانت أخبارا سعيدة للمستثمرين في الورق من مشتري ديون الحكومة.

الحصيلة أن القطاعات الإنتاجية أمام تحديات كبرى في ظل كل الضغوط التي تواجه قدرتها على التوسع، من ارتفاع تكاليف مدخلات الإنتاج المستوردة بسبب العملة الصعبة وانكماش الاستهلاك بسبب الغلاء وزيادة تكاليف القروض، في الوقت الذي تراهن فيه الحكومة على أن تكون تلك الاختناقات مؤقتة وينمو الاقتصاد بوتيرة متسارعة بعد أن يحل مشكلاته المالية الكبرى خاصة مشكلة نقص العملة الصعبة.

ويظل أمام الحكومة تحدى كبير لتحقيق هذا السيناريو المتفائل، صحيح أن احتياطي النقد الأجنبي زاد بعد التعويم إلى أكثر من 30 مليار دولار، وهي مستويات آمنة للغاية في توفير احتياجات البلاد من الواردات، لكنه يعتمد بشكل كبير على الديون والاستثمارات الساخنة في تدبير العملة الصعبة، ولا تزال المخاطر السياسية المحلية وحالة السخط المجتمعي من الضغوط التضخمية المتفاقمة تمثل هاجسا مقلقا للاستثمارات الأجنبية الجادة طويلة الأجل.

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart