صندوق النقد يهنئكم بنجاح خطة الإصلاح الاقتصادي
نقل صندوق النقد الدولي هذا الشهر عن مديرته كرستين لاجارد تهانيها للشعب المصري بمناسبة نجاحه في تنفيذ خطة الإصلاح الاقتصادي، أو هكذا بدا الأمر لفريق الصندوق بعد دراسته لأحوال البلاد في أول مراجعة لالتزام مصر بالبرنامج الاقتصادي الذي اتفقت عليه مع الصندوق مقابل قرض بـ 12 مليار دولار.
وتتناقض اللغة الإيجابية التي يتحدث بها الصندوق عن الأوضاع الاقتصادية مع ما يستشعره المواطن العادي من أن البلاد تمر بواحدة من اسوأ أزماتها الاقتصادية في التاريخ الحديث .. فمن يصدق حدسه بشأن الأوضاع في مصر السيدة لاجاراد أم رجل الشارع ؟
بداية علينا أن نُعرف ما الذي يعنيه صندوق النقد بنجاح الإصلاح الاقتصادي، الصندوق مشغول بالأساس بمدى قدرة الدولة في مصر على سداد التزاماتها وتجنيبها الوقوع في مخاطر الإفلاس، لذا فهو يركز في حديثه على ما يسمى بإجراءات الضبط المالي ” fiscalconsolidation”.
وترتكز إجراءات الضبط المالي في البرنامج الإصلاحي، الذي يُفترض أنه نابع في الأساس من رؤية الحكومة المصرية والصندوق يدعم هذه الرؤية بالتمويل ولكن في الواقع فإنه يتشابه لحد كبير مع أجندة الصندوق في كل البلدان التي يقدم لها القروض، ترتكز تلك الإجراءات على سياسات تخفض من الإنفاق العام وأخرى تزيد من إيرادات الدولة.
ويعتمد كل من المجالين بشكل كبير على سياسات تكبد الطبقات الوسطى والفقيرة أعباء الأزمة المالية الجارية، حيث تقوم سياسات تخفيض الإنفاق على تقليص دعم المواد البترولية وتقليص نمو ميزانية أجور العاملين في الجهاز الحكومي، وتعتمد سياسات زيادة الإيرادات على تعظيم إيرادات الدولة من ضرائب الاستهلاك، ضريبة القيمة المضافة.
وفي عقيدة الصندوق فإن الضبط المالي مع تبني سياسات تحررية يمهدان لتحسين تدفق الاستثمارات على البلاد في المدى المتوسط، لذا يراهن الصندوق على أن يساعد تحرير سعر الصرف في نوفمبر وتحسين بيئة الأعمال، بعد إصدار قانون الاستثمار الجديد وقانون التراخيص الصناعية والاتجاه لإصلاح منظومة التخارج من السوق، في تحفيز الاستثمارات الأجنبية على القدوم للبلاد.
ويمتد رهان الصندوق إلى الصادرات حيث يتوقع أن يساعد الانخفاض الدرامي للجنيه أمام الدولار بعد تعويم نوفمبر في مساعدة المصدرين على تخفيض أسعار منتجاتهم في الأسواق الدولية والبيع بشكل أكبر.
ويمتد رهانه إلى مسائل قدرية لا دخل للإصلاح فيها تتعلق باكتشافات الغاز الجديدة، حيث يتوقع أن تساهم الحقول المكتشفة حديثا في مياه المتوسط في تحسين الإيرادات الدولارية للبلاد.
وفي هذا السياق يقدر الصندوق أن معدلات النمو الاقتصادي ستتراوح بين 5-6% سنويا في الأجل المتوسط، بعد أن كان متوسط النمو السنوي عند 2.7% في الفترة من 2011-2016.
كانت تلك التوقعات الوردية وقت أن وضعت السلطات في مصر مع الصندوق تصورات برنامج الإصلاح وفاجئت به الرأي العام، ونواب البرلمان، خلال الربع الأخير من العام الماضي.
فلنحاول أن نقرأ وثيقة الصندوق عن الإصلاح في نوفمبر الماضي بأعين من شاهد نتائج الإصلاح خلال الأشهر الماضية حتى نستطيع أن ندرك مدى الخلل في هذه الرؤية، يقول الصندوق في 2016 : ” من الموتقع أن يكون تأثير سعر الصرف على التضخم هذا العام محدودا بالنظر إلى أن نسبة مهمة من الواردات تم تسعيرها بالفعل على أساس أسعار السوق الموازية”. الأمر لا يحتاج لاقتصاديين للحكم على تقديرات الصندوق، إذ يدرك رجل الشارع العادي كيف ارتفعت معدلات الزيادة في الأسعار بعد التعويم بشكل صارخ.
وبالطبع اتجه خطاب الدولة – الصندوق يتغير بعض الشيء بعد أن تجاوز التضخم السنوي مستوى 30% خلال الربع الأول من العام الجاري، لنقرأ مانشيتات الصحف المحلية تنقل عن الحكومة حديثها عن تطبيق إجراءات لتخفيف آثار الإصلاح.
لا يعني ذلك أن الدولة – الصندوق لم يكونا يتوقعان في 2016 آثارا اجتماعية سلبية لإجراءاتهما الإصلاحية، لكن لم يكن متوقعا أن تكون بهذا الحجم، فالصندوق يقول في تقريره الصادر في نوفمبر الماضي أنه ناقش مع السلطة في مصر زيادة مستهدفات إجراءات التماسك المالي لكنهما توصلا إلى أنه من غير الحكمة زيادة سقف طموحات البرنامج لما سيكون له من آثار سلبية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
ثم جاءت دراما التعويم بما لم يتوقعه الطرفين، حيث فقدت العملة المحلية أكثر من نصف قيمتها أمام الدولار، وهو ما اضطر الحكومة لمخالفة برنامج الصندوق وهي تضع مشروع موازنة 2017-2018 .
إذ وضع الصندوق تقديرا لميزانية دعم السلع الغذائية ( التموين والخبز ) عند 51 مليار جنيه لكن الحكومة اضطرت لرفعها إلى 85 مليار جنيه كإجراء تعويضي عن معدلات التضخم في الغذاء والتي تجاوزت الـ 40% في الفترة منذ فبراير الماضي.
وبالرغم من أن الحكومة اتسمت بالصرامة الشديدة وهي ترفع أسعار الوقود في مستهل العام المالي الجاري، متجاهلة التحذيرات من تلك الخطوة في ظل التضخمية التي تقع على عاتق المواطن، لكن دعم الوقود المقدر في ميزانية الحكومة يزيد عن الدعم الذي كان يطمح له الصندوق بفارق 26.5 مليار جنيه، السبب في هذا الفارق أيضا هو التعويم الذي أفقد العملة المحلية أكثر من نصف قيمتها وزاد من تكاليف استيراد المنتجات البترولية من الخارج.
المخالفة الثالثة الكبيرة لمستهدفات الصندوق غالبا ما ستكون في مجال تكاليف العائد على الديون الحكومية، الرقم الذي خصصته الحكومة في مشروع موازنة 2017-2018 للفائدة ليس بعيدا عن الموجود في البرنامج الإصلاحي، وضع البرنامج 384.5 مليار جنيه وتوقعت الحكومة في الموازنة 380.9 مليار جنيه، لكن عمليا ستزيد الفائدة بسبب ضغوط الصندوق على مصر.
كان البنك المركزي عازما منذ بدء تطبيق برنامج الإصلاح على سعر الفائدة على الإيداع والإقراض، لكن من الواضح أن تطلعات المركزي بزيادة الفائدة في 2017 كانت تفوق بكثير ما توقعه في نوفمبر 2016، أو على أقل تقدير فقد جاءت سياسات المركزي مفاجئة لأغلب التوقعات خلال أشهر ” الإصلاح” .
ولكي نشرح كواليس التطورات الأخيرة في سعر الفائدة علينا أن نتمهل قليلا أمام خلفية معرفية بسيطة عن الدور التقليدي لسياسة الفائدة، فعادة ما تلجيء البنوك المركزية لزيادة السعر الاسترشادي الذي تطرحه للعائد على الإيداع والإقراض بهدف تشجيع البنوك بالتبعية على زيادة العائد على الودائع، مما يؤدي لجذب المواطنين بشكل أكبر لوضع مدخراتهم في البنوك، وهو ما يقلل من الطلب في السوق ويحد من زيادة الأسعار.
ورفع البنك المركزيالعائد على الإيداع والإقراض بنسبة 3% في نوفمبر لزيادة العائد على الودائع،وهو ما حدث بالفعل، لكن كان هناك هدف آخر وهو دعم الجنيه.
صحيح أن الحكومة والصندوق لم يتوقعا أن تفقد العملة المحلية أكثر من نصف قيمتها، لكنهما كانا يدركان أن التحرير الكامل لسعر الصرف في نوفمبر الماضي سيحدث زلزالا كبير في سعر الصرف وسيكون هو المحرك الرئيسي للأسعار في السوق وللتضخم بالتبعية، لذا فإن أول زيادة للفائدة كانت تستهدف بشكل كبير كبح التضخم عن طريق جذب التدفقات الدولارية للحد من انخفاض الجنيه.
والطريقة المقصودة هنا لجذب الدولارات من الخارج ليست الاستثمار المباشر ( بمعنى بناء مصنع مثلا بأموال أجنبية ) فهذا أمر يستغرق وقتا طويلا، ولكن جذب المستثمرين الأجانب لشراء الديون الحكومية التي سيرتفع العائد عليها نتيجة لرفع البنك المركزي السعر الاسترشادي للعائد على الإقراض.
ثم جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن وفاق التضخم توقعات من وضعوا برنامج الإصلاح مما اضطر البنك المركزي لتطبيق زيادتين جديدتين في أسعار الفائدة خلال الأشهر الماضية، لتصبح إجمالي الزيادة في أقل من عام بنسبة 7% وهي قفزة كبيرة سيكون لها انعكاسات هامة على تكاليف الديون في الموازنة العامة.
تجاهل الصندوق إذن العوار الكبير في توقعاته بأن يكون للتعويم تأثير ” محدود ” على الأسعار، وما ترتب على ذلك من إجراءات مالية استثنائية، فعلام كانت السيدة لاجارد تهنيء المصريين ؟ ربما يقول البعض إن الآثار السلبية ” للإصلاح ” هي الدواء المر الذي يجب أن نتجرعه في الأجل القصير، ويدفع بأن الصندوق يهنئنا على ما سيعود علينا من الإصلاحات على المدى المتوسط أول الطويل، وهي المقولة التي سنختبرها في الفقرات التالية.
يطمح الصندوق إلى أن تزيد الصادرات المصرية بعد التعويم، بسبب ما شرحناه في الفقرات السابقة عن التأثير الإيجابي لتخفيض العملة المحلية على التنافسية السعرية للصادرات المصرية في الخارج، ولكن هذا التأثير كان من المفترض أن يظهر على نتائج الصادرات منذ التعويم، لكن إجمالي الصادرات منذ نوفمبر إلى فبراير 2017 ، وهي آخر البيانات التي يتيحها جهاز التعبئة والإحصاء، يزيد بنحو مليار و200 مليون دولار فقط عن إجمالي صادرات الفترة المناظرة، 7.6 مليار دولار و 6.4 مليار دولار على التوالي.
وإذا أخذنا يناير 2013 كنقطة بدء للأزمة المالية المصرية، باعتبار أن البنك المركزي بدأ سياسة المزادات الدورية لبيع الدولار منذ تلك الفترة، سنجد أن الصادرات كانت تتراجع بالرغم من الانخفاض المتتالي للعملة.