أثر التفاوت الاجتماعي على الطبقة الوسطى في الأردن

أثر التفاوت الاجتماعي على الطبقة الوسطى في الأردن

دراسة ضمن كتاب: الفجوات الاجتماعية والفوارق الطبقية في المنطقة العربية

مقدمة

يتطلب الحديث عن الطبقة الوسطى في الأردن الملاحظات التالية:

  • يتميز الأردن -كغيره من الدول النامية- بسيولة طبقية يصعب فيها فرز الطبقات، كما هو الحال في المجتمع العربي ككل، فكثيرا ما تتداخل الطبقات والشرائح وتتناقض شرائح الطبقة الواحدة أكثر مما تتناقض مع شرائح الطبقات الأخرى.
  • يتميز الأردن بحراك طبقي سريع وعميق يتمثل بسهولة هبوط الأفراد من والى هذه الطبقة أو تلك، ولا يعني الإفقار واتساع دائرة الفقر القائمة الان إلا حراكا اجتماعيا احادي الاتجاه أي هبوط أعداد غفيرة من الطبقات الوسطى إلى الطبقات الدنيا.
  • انعكس تداخل الطبقات على تداخل أنشطتها الاقتصادية فيمكن أن يكون المالكون العقاريون رأسماليين، ويمكن لبعض الفئات الوسطى ممارسة العمل اليدوي والمعرفي والإضافي لتحسين أوضاعهم المالية.
  • تعود أسباب التشوه والضعف البنيوي للطبقات بشكل عام والمجتمع المدني الأردني بشكل خاص، إلى طبيعة التحولات السياسية والتاريخية التي صاحبت تطور مشروع الدولة في الأردن من إمارة (امارة شرق الأردن) إلى دولة؛ وأهم مظاهر هذا التشوه، كون السلطة -أحد اركان الدولة-كانت سابقة على الدولة نفسها، والدولة سابقة وخالقة للمجتمع المدني والوطني بطبقاته المختلفة، فظل المجتمع الأردني وطبقاته الاجتماعية وأدواتها التعبيرية، عالة على الدولة والسلطة بدلا من أن تكون قاعدة اجتماعية وسياسية لها، تعكس السلطة في قراراتها وتوجهاتها طبيعة هذه الطبقات ومصالحها الأساسية، هذا، ولم يعد للسلطة والدولة في سياق تطورها المحكوم بحتميات سياسية وجغرافية معينة في ذلك الوقت إلا التمظهر في التبعية والطبيعة الوظيفية.
  • انتقل المجتمع الأردني في عهد الإمارة من اقتصاد الكفاف إلى الاقتصاد الرأسمالي الليبرالي في عصر العولمة بمؤثرات خارجية بالأساس، فقد تمثل المجتمع الأردني الأول بطبيعته الفلاحية البدوية، ولم يشهد لفترة طويلة لا تقسيم عمل ولا ملكية خاصة (فلم تظهر دائرة الأراضي والمساحة في شرق الأردن إلا في فترة متأخرة من تاريخ الإمارة) إلى أن تدخلت السلطة والدولة وأعادت تكوينه وتكييفه لوجودها. وبالتالي فقد كان الأجدر عمليا ونظريا لفهم التركيب الاجتماعي لشرق الأردن اتباع منهج تاريخي يتناول البنى القائمة ما دون الطبقة كوحدة تحليل اجتماعية واقتصادية، فقد مثلت المكانة والوجاهة والمشيخة والعشيرة والقبيلة والبداوة وعلاقات ملكية الأرض (بغض النظر عن قيمتها الإنتاجية أو الاستعمالية) مصدر فهم الانقسام الاجتماعي والتفاوت الاجتماعي بين الفئات والطبقات المالكة للثروة والطبقة والراس المال الرمزي كالانقسام بين المُلاك والمعدمين.

ومع مرور الوقت استقرت السلطة والدولة الأردنية، وتحولت المعارضة إلى اتباع الوسائل السلمية والسياسية في التعبير عن رفضها، ووجدت فئات واسعة من الطبقات الوسطى أن من مصلحتها الانخراط في الدولة والسلطة التي قبلت هذا الانخراط لتوسيع قاعدتها الاجتماعية من جميع فئات المجتمع وخاصة من المتنفذين والمُلاك وأصحاب رأس المال الرمزي من المُلاك العقاريين وشيوخ القبائل وأولادهم المتعلمين الذين التحقوا بالوظائف وشكلوا نواة البرجوازية البيروقراطية الأردنية بعد الاستغناء عن خدمات الفئات والمنتدبين العرب الذين خدموا الإمارة في بداية نشوئها وتحولت فئات واسعة من المثقفين والموظفين إلى طبقات وسطى أردنية أو برجوازية صغيرة، واستقام التركيب الطبقي في الأردن بين الطبقات المالكة والطبقات الكادحة ضمن الإطار الوطني.

أصبحت الطبقات الوسطى أهم مقومات الاستقرار في الأردن، ومع تعقيد بنى الدولة والسلطة واستكمال بناها على مستوى الاختصاص والسلطة ارتفعت فئات لا يستهان بها من صغار الموظفين إلى مصاف الطبقة الأعلى (البرجوازية البيروقراطية) اعتمادا على علاقات القربى والعشائرية

وتوسعت فئة الانتلجنسيا التي ضمت أصحاب الشهادات خريجي الجامعات والمعاهد، وأصبحت تلك الفئات أهم فئات الطبقة الوسطى، وأوسع طبقات المجتمع الأردني وأهم موارد الاقتصاد الأردني.

وشيئا فشيء تحول الأردن إلى الاقتصاد الرأسمالي وانفتح على الأسواق العالمية ونهضت عمليات التصدير والاستيراد، وتمثلت بتصدير المواد الخام واستيراد المواد المصنعة، وتطلب الامر قيام الوكالات التجارية والسمسرة وتجارة الوسطاء والكومسيون، بمعنى آخر قيام برجوازية كمبرادورية كانت سببا ونتيجة لتوجه الدولة العام وموقعها التابع في العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية غير المتكافئة ممثلا بتدني مستوى الإنتاج الصناعي في الصناعات الخفيفة والمتوسطة، أما الصناعات الكبرى كالصناعات الاستخراجية ومشروعات البنية التحتية الكبرى فقد تكفلت بها الدولة، بمعنى آخر كان نمو البرجوازية الكمبرادورية والبيروقراطية قد تم على حساب البرجوازية الوطنية.

تحولات الطبقة الوسطى في الأردن:

مثلت الطفرة النفطية وارتفاع أسعار النفط المفاجئ والمطرد بعد حرب أكتوبر 1973 أهم المتغيرات في حياة الطبقة الوسطى الأردنية، فقد تغلبت الطبقة الوسطى على سوقها الصغير ومشكلة البطالة البنيوية والهيكلية والمقنعة بالهجرة إلى أسواق الخليج، التي امتصت الأيدي العاملة الأردنية وأصحاب الكفاءات والشهادات والخبرات، وأصبحت الهجرة الخارجية أهم مصادر الحراك الاجتماعي والصعود الطبقي وخففت من الاحتقان الداخلي والسياسي والشعور بالحرمان والتفاوت، فقد تحولت فئات واسعة من الطبقات الوسطى إلى فئات عليا ومنها فئات ثبتت وضعها الطبقي برفع مستوى دخولها وتسديد التزاماتها المالية، وبالتالي استقرارها الوظيفي والنفسي بشراء أرض أو التوسع بالمشروعات التجارية الصغيرة.

لقد امتصت أسواق الخليج عشرات الآلاف من أبناء الطبقة الوسطى التي استفادت اقتصاديا لكنها خسرت تأثيرها السياسي الداخلي بحكم بعدها المكاني (فقد المغتربون وعددهم يربو عن مليون حقهم بالانتخابات الأخيرة)، فقد ارتبطت مصالحها بالخارج ولم يعد من أولوياتها المشاركة السياسية أو التعددية ولم تعكس قوتها الاقتصادية قوة سياسية رغم مساهمتها بعد عودتها في استثمار رؤوس أموالها في مشروعات محلية كانت عاملا مساعدا على الاستقرار والرفاه الاجتماعي وارتفاع مستوى المعيشة وبالتالي تقليص الفجوة والتباين الاجتماعي إلى حين.

أما على المستوى المجتمعي فقد نقلت الطبقة الوسطى العاملة في الخليج -السعودية- قيما دينية محافظة عمت المجتمع الأردني وجنحت به من مظاهر التحديث والليبرالية إلى التقليد والمحافظة الاجتماعية وحتى التعصب وصنعت منه مجتمعا تقليديا مستحدث بلغة “هشام شرابي”.

تتمثل خطورة تراجع الطبقة الوسطى السياسي والاقتصادي في المرحلة الراهنة كونها الطبقة المعنية بالتسويات التاريخية وسياسات الاعتدال وتقليص الفوارق الطبقية والتفاوت الاجتماعي بين مكونات المجتمع الأردني. ويسمح لها تكوينها المتنافر والمتباين القيام بمهام التسوية بنجاح إذا علمنا أنها تبلورت من بين الذين هبطوا من الطبقات العليا والذين صعدوا من الطبقات الدنيا.

مثلت الهجرة الداخلية الكثيفة والسريعة في العقود القليلة الماضية في الأردن عاملا أساسيا في خلق الطبقة الوسطى وتعميق التفاوت الاجتماعي، والفجوة التنموية بين العاصمة والأطراف، فقد رفعت مستويات التحضر في الأردن مستويات التحديث على حساب الحداثة، مما افقد المدينة والطبقات الوسطى المدينية فيها صورتها وخصوصيتها بالرقي والتمدن والاختلاف عن أنماط المعيشة في البادية والريف، فقد ريفت الهجرة المدن وبدونت (جعلته بدويا) القيم وعززت الازدواجية والتلفيق سياسيا وفكريا في نشاط واتجاهات الطبقات وخاصة الطبقة الوسطى، وتمفصل الاقتصاد والمجتمع بين قطاعين اقتصادي حديث، يتمثل بقيم العمل والإنتاج والعقلانية والتنافسية والانفتاح على العالم الخارجي، بالتجارة والسياسة والتعليم، وقطاع تقليدي محافظ سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، إضافة إلى مستويات أخرى من التفاوت الاجتماعي أهمها:

  • التفاوت بين العاصمة والأطراف.
  • تفاوت بين المدينة والريف ومناطق البادية التي لم تعد موجودة اجتماعيا.
  • التفاوت الاجتماعي الداخلي بين أحياء راقية تنعم بالرفاه والخدمات والتنظيم والتشغيل، وأحياء مكتظة وعشوائية تعاني الفقر والبطالة وسوء الخدمات.
  • تفاوت بين أصحاب الدخول العالية والامتيازات، وبين أصحاب الدخول المتدنية.
  • تفاوت في المكانة والوجاهة وحيازة رأسمال رمزي.

وتكمن المفارقة في أزمة الطبقات الوسطى الأردنية في احتكار البرجوازية الكمبرادورية والبيروقراطية لموارد البلد السياسية والاقتصادية، وهي الطبقة التي استفادت من وجودها في السلطة وحولتها إلى وسيلة إنتاج بكل الأساليب المشروعة وغير المشروعة، واستثمرت تلك البرجوازية فوائضها المالية في السوق بمشروعات خدمية استهلاكية بالأساس، وزاحمت وأضعفت الطبقات الوسطى في السوق والإنتاج بالاستيراد الواسع والرخيص حتى انكمشت على ذاتها وازدادت فقرا، وتمثل انكماشها على ذاتها وفقرها بإغلاق عشرات ومئات المنشآت الصغيرة وارتفاع مديونيتها وتآكل مدخراتها وانهيار قيمها الإيجابية، وبيع الكثير من أصولها لتغطية التزاماتها وعجزها المالي المتواصل، وتحول عمل الزوجة من كونه مصدر استقلالها وكرامتها إلى ضرورة معيشية للأسرة، وتعمقت بهذه المظاهر مستويات التفاوت الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء وارتفعت نسب البطالة والفقر والإعالة، المرتفعة أصلا بسبب قلة عدد النساء في سوق العمل والتزايد السريع للسكان، وارتفاع نسبة صغار السن في الهرم السكاني. أن ارتفاع عدد سكان الأردن إلى ما يقارب 8 مليون نسمة منهم 2 مليون وافد ولاجئ يعني عدم الالتفات في الخطط التنموية لجودة الحياة والرفاهية، بل سيادة المعايير الكمية في الاقتصاد والتنمية البشرية، فلا يهم من التعليم إلا إنشاء مدارس جديدة لاستيعاب القادمين لا حداثته ولا جودته، وما ينطبق على التعليم ينطبق على الجامعات والمرافق الصحية والثقافية.

الطبقة الوسطى في عصر العولمة والخصخصة

ما زال المجتمع الأردني في أزمة مزمنة سببها طبيعة النهج السياسي الليبرالي المتبع في الاقتصاد الأردني غير الإنتاجي وهو مصدر الخلل والمشاكل الاقتصادية والتفاوت الاجتماعي، فهو المولد لمشكلاته لعدم قدرته على امتصاص فائض العمالة، والتغلب على البطالة والفقر، أو التغلب على تضخم قطاع الخدمات والبيروقراطية والروتين، وهجرة العاملين إلى الدول النفطية والغنية، بعشرات الآلاف، وازدادت مشاكل الاقتصاد الأردني حدة ببرامج التصحيح الاقتصادي المتوالية برعاية صندوق النقد الدولي، وأهمها توصيات رفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية وسد العجز بالميزانية وتقليص نسبة المديونية إلى حجم الإنتاج الاقتصادي التي وصلت إلى الخطوط الحمراء، وتتحمل الطبقات الوسطى والفئات الشعبية عبء التصحيح بارتفاع الأسعار والضرائب المباشرة وغير المباشرة وتقليص المساعدات الاجتماعية والتقشف وتثبيت الدخول والرواتب المتدنية اصلا والتي تتآكل بارتفاع أسعار السلع والخدمات، مما زاد من دائرة الاستغلال والحرمان ووسع دائرة الفقر والتفاوت الاجتماعي، وزادت مستويات التوترات الاجتماعية والاقتصادية وعبرت عن نفسها بطرق مختلفة منظمة وعشوائية، محلية وعامة، قطاعية وشاملة.

ولم تحل مشكلات الفقر والبطالة، ولم تحقق السياسات الضريبية برفع معدلات الضريبة عدالة في التوزيع أو عدالة في توزيع الأعباء، فما زال أصحاب الدخول الثابتة هم من يتحمل أعباء الدين العام، أما سياسات خفض الضريبة لتحفيز الاقتصاد والتصدير لتقليل كلف الإنتاج فما زالت تراوح مكانها من الفساد المالي والإداري وما يلوح بالأفق مزيدا من التفاوت الاجتماعي والتوتر والصعوبات المعيشية.

لقد تطلبت العولمة والليبرالية الجديدة الاندماج بالأسواق العالمية وفتح أسواق الأردن للمنتجات الأجنبية، والإلحاح على كف يد الدولة عن الاقتصاد بحجة تسهيل حركة نقل السلع ورؤوس الأموال والهدف الحقيقي الإعفاءات الضريبية وضرب ما تبقى من مشروعات التكافل الاجتماعي وحماية الفقراء وتسهيل هروب رؤوس الأموال بأرباحها وفوائدها، وعدم خضوعها لأية التزامات تفيد المجتمع والاقتصاد الأردني.

إن الافقار المتزايد للطبقة الوسطى يعني تعميق التفاوت الاجتماعي أولا، وتقليص حجم التحالف الطبقي للسلطة التي اعتمدت سابقا على الطبقات الوسطى لتقتصر على شريحة عليا من البرجوازية المختلطة من الكمبرادور والبيروقراطية والملاك العقاريين لتتحول الطبقة الوسطى مع الطبقات الشعبية أو الأغلبية الساحقة من الشعب إلى صفوف المعارضة التي لا تجد أدوات سياسية ملائمة فتتحول إلى ما يسمى الأغلبية الصامتة التي تكتفي بالمواطنة السلبية ومراقبة المشهد العام دون الانخراط فيه.

إن المعنى الاجتماعي للتفاوت هو الانقسام المجتمعي والطبقية والصراع الذي يتخذ اشكالا منحرفة عن الصراع الاجتماعي والسياسي المنضبط بمعايير الديمقراطية والشرعية نظرا لانخفاض مستوى الوعي السياسي العام وإغراءات التطرف الديني، وانخفاض مستوى الكفاحية والموارد البشرية عند الأحزاب الوطنية المعنية بالتقدم والتغيير والتوجيه لتجميع الآراء، وتعبئة الجهود ورفع التذمر من مستوى العفوية إلى مستوى الوعي، وأما المعنى السياسي للتفاوت فهو تفكك عرى الوحدة الوطنية ومشاعر الانتماء إلى الكل الاجتماعي الوطني، وعدم التمكين والحرمان من المشاركة السياسية وصناعة القرار. والمفارقة إلحاح السلطة الدائم على الوحدة الوطنية والعقد الاجتماعي الشامل لتبريد الصراع والتوتر الاجتماعي، وهي دعوة لا تستقيم الا بتعميم العدالة الاجتماعية وتوزيع مكاسب النمو والتنمية على الجميع، وإعادة الثقة بين المواطن والسلطة، لتعود الطبقات والفئات التي خرجت بسبب التفاوت والحرمان الاجتماعي إلى سابق عهدها قاعدة للنظام، وهذا مرهون بتوجهات السلطة لتحقيق العدالة والحرية والمساواة الاجتماعية والقانونية والتنمية الوطنية المستقلة للجميع. إما وشيوع مشاعر الغضب والاستياء، في ظل النهج السابق ومع تهافت الأحزاب السياسية اليسارية والمعتدلة والوسطية في البلد على كثرتها (خاض الانتخابات النيابية الاخيرة 20 سبتمبر 2016 حسب وزير التنمية السياسية 39 حزبا) فلن يجد الشباب الأردني المتطلع لحياة أفضل من وسيلة لتصريف فائض الغضب واليأس والحلم بالتغيير إلا طرق غير مشروعة سياسيا واجتماعيا تتمثل بالتطرف الديني والحركات الجهادية.

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart