الفوارق الاجتماعية والعدالة الاجتماعية في الجزائر

الفوارق الاجتماعية والعدالة الاجتماعية في الجزائر

دراسة ضمن كتاب: الفجوات الاجتماعية والفوارق الطبقية في المنطقة العربية

تعتبر الجزائر من الدول العربية التي جعلت العدالة الاجتماعية من أولويات استراتيجيتها التنموية منذ الاستقلال، حيث كانت تلبية الحاجات الاجتماعية مبدأ أساسيا في مختلف المواثيق الرسمية. ورغم الأزمات الاقتصادية والتحرير الاقتصادي النسبي تم الحفاظ على عدد هام من المكاسب الاجتماعية لمرحلة الاقتصاد الموجه سمحت بضمان حد معين من الحقوق الاجتماعية من أجل فئات المجتمع. فوفقا لمؤشر جيني، تصنف الجزائر ضمن الدول المتوسطة من حيث حدة الفوارق الاجتماعية، كما بينت تحقيقات الديوان الوطني للإحصاء الجزائري أن نسبة إنفاق 20% الأكثر غنى تقدر بـ40% من الإنفاق الاستهلاكي الإجمالي، في حين تصل هذه النسبة إلى 86% على المستوى العالمي.

غير أن تحقيق العدالة الاجتماعية مرتبط بخلق الثروات، في حين تعتمد السياسات الاجتماعية في الجزائر على الريع مما يجعل مستوى التنمية الاجتماعية في تبعية لحجم الإيرادات النفطية ولسبل تسيير وتوزيع الريع وليس للاقتصاد المنتج للثروة، كما سنحاول تبيانه فيما يلي:

  • الخيارات السياسية والسوسيو- اقتصادية للبلاد غداة الاستقلال:

لقد ساهم الاستعمار الاستيطاني في تعميق الفوارق الاجتماعية بين الفرنسيين والجزائريين من خلال تبني سياسات اجتماعية تمييزية تقوم على تفضيل الأوروبيين في مجال الأجور والتشغيل والحماية الاجتماعية على حساب الأهالي.

غداة الاستقلال، سعت الدولة إلى تقليص الفوارق الاجتماعية من خلال تبني عدد من السياسات الاجتماعية هدفت لتحقيق الانسجام الاجتماعي بالاعتماد على إيراداتها الريعية. فتم إقرار تعميم التعليم والطب المجاني والتشغيل الكامل، وتم توحيد قانوني عمل وضمان اجتماعي لكل العمال الأجراء مهما كان قطاع عملهم. وقد وضع نظام للأجور قائم على مبدأ لكل عمل متساوٍ أجر متساوٍ، ووحد نظام الضمان الاجتماعي مختلف الأنظمة الفرعية الموروثة عن المرحلة الاستعمارية في نظام واحد تسيره نفس الهيئة ويفرض نفس الواجبات ويقدم نفس المزايا لكل المؤمْنين.

غير أن معظم هذه القرارات تميزت بالطابع الشعبوي واللاعقلانية التوزيعية كون البلاد لم تكن تمتلك الإمكانيات البشرية ولا المادية الكافية لتحقيق مغزاها. مما جعل تعميم الخدمات ومجانيتها شكليا وساهم في تدهور نوعيتها.

  • الأزمة الاقتصادية، التحرير الاقتصادي والتراجع عن عدد من المكاسب الاجتماعية:

لقد فقد النظام السياسي بفعل انخفاض أسعار النفط منتصف الثمانينيات، أحد أهم ركائز مشروعيته واستقراره والعامل الرئيسي الذي جعل من الدولة الفاعل الاقتصادي والاجتماعي المركزي الذي يحتكر تسيير وتوزيع الريع، مقابل تهميش البرجوازية الخاصة من المسار التنموي، وعرقلة نموها حتى لا تتحول إلى مصدر نفوذ اقتصادي ومن ثم سياسي. أن اعتماد السياسات التوزيعية على الريع جعلها تواجه محدوديته في ظل الأزمة التي فرضت تقليص الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة وانفتاحها على القطاع الخاص والتوجه نحو مرونة أكبر في عملية الضبط الاقتصادي والاجتماعي. نظرا لذلك، فقد تم إقرار قوانين جديدة تكرس الانسحاب النسبي للدولة من بعض المجالات مع السعي للاستنجاد بمصادر تمويلية جديدة. الأمر الذي استدعى انفتاحها على القطاع الخاص خاصة فيما يتعلق بعلاقات العمل والاستثمار، حيث تم التحول من المنطق المركزي لتحديد علاقات العمل والأجور إلى المنطق التفاوضي، ومن تركيز الاستثمار في القطاع العام إلى تحفيز الاستثمارات الخاصة ورفع كل القيود السابقة عليها. وقد نتج عن ذلك، التحول من سياسات التشغيل الكامل إلى سياسات التسريح الجماعي الموسعة، ومن العمل الدائم نحو إقرار العمل الهش والمؤقت. الأمر الذي ساهم في تفاقم الفقر والفوارق الاجتماعية.

بالمقابل، لم تتمكن السلطات العمومية من أن تتراجع عن عدد هام من المكاسب الاجتماعية التي بقيت سارية المفعول نظرا للظروف السياسية التي كانت تمر بها البلاد حتى لا يساهم تدهور الأوضاع الاجتماعية في تغذية الأزمة الأمنية بالبلاد. فقد تم الحفاظ على نظام الضمان الاجتماعي الذي تم تبنيه خلال المرحلة الاشتراكية وتم اثرائه بمنظومة لحماية المسرحين لأسباب اقتصادية وبآليات جديدة للتقاعد المسبق. كما ظلت الخدمات العمومية مدعمة ومحمية من طرف الدولة مما ساهم في تحقيق قدر معين من تكافؤ الفرص داخل المجتمع، فالتعليم في الجزائر مجاني في مختلف أطواره بما فيه التعليم العالي الذي منح لـ80% من الطلبة الذين تجاوز عددهم 1.5مليون طالب. على غرار ذلك، ورغم رمزية أسعار الخدمات الصحية العمومية غير أن تدهور مستوى الخدمات في القطاع العام، مقابل فتح المجال للقطاع الخاص خلق تفاوتا عميقا في الاستفادة من الخدمات الصحية بين الفقراء والأغنياء.

  • الفوارق الاجتماعية في ظل انتعاش الإيرادات النفطية تواكبا مع التحرير الاقتصادي

منذ سنة 2000، عرفت الجزائر انتعاش الإيرادات الريعية من جديد، وقد تميزت هذه المرحلة عن سابقاتها بعودة الدولة كفاعل أساسي في الحياة الاقتصادية وفي التوزيع الاجتماعي الموسع في ظل إقرار التحرير الاقتصادي وانسحابها من دورها في عملية الضبط الاجتماعي.

وللفوارق الاجتماعية في الجزائر حاليا خصوصيتها، حيث أصبحت ترتبط بدرجة استفادة مختلف الفئات الاجتماعية من الريع. ونظرا لمركزية تسيير الريع، فإن سبل توزيعه ترتبط بمدى وجود إرادة سياسية لدعم فئات على حساب أخرى. وما يلاحظ حاليا، هو وجود فوارق في الاستفادة من الريع داخل الطبقات الاجتماعية التقليدية نفسها.

فالطبقة العاملة الجزائرية أصبحت تعرف تمايزا كبيرا في الدخول وظروف العمل بين العاملين في القطاع العمومي أو الخاص. لقد خلق تحرير الأجور تفاوتا كبيرا بين عمال القطاع العام الذين يفوق متوسط أجورهم 70% متوسط أجور عمال القطاع الخاص[1]. كما يستفيد كل عمال القطاع العام من الضمان الاجتماعي، وهو يضم غالبية العمال الدائمين المقدر عددهم بأكثر من 3.5 مليون عامل (حوالي 2.5 مليون يعملون في الوظيف العمومي أو المؤسسات العمومية الاقتصادية والخدماتية). بالمقابل، يتميز القطاع الخاص بطغيان العمل غير الرسمي والهش حيث تطور عدد العمال المؤقتين من 300 ألف عامل مؤقت سنة 1991، ليتجاوز 3.7 مليون عامل مؤقت سنة 2014، معظمهم في القطاع الخاص.

كما تتميز الطبقة البرجوازية باختلاف درجة استفادة فئاتها من الريع. فالبرجوازية الوطنية المنتجة هي الفئة الأقل استفادة من المزايا، مقابل استفادة البرجوازية الصغيرة من عدة برامج تمويلية واستثمارية (بين 80 و90% من القروض الموجهة للاقتصاد) واستفادة البرجوازية الكمبرادورية من عدة تسهيلات تمويلية وجبائية في ظل اتفاقيات الشراكة الموقعة من طرف الجزائر.

وتستفيد الفئات الاجتماعية المحرومة وعديمة الدخل من أشكال مختلفة من الحماية الاجتماعية نتيجة لتدخل الدولة لحمايتها. فبالإضافة لعمليات دعم الأسعار، يتم توزيع إعانات مباشرة لفئة المعوقين وكبار السن عديمي الدخل، وتم إدماجهم في منظومة الضمان الاجتماعي في مجال التأمين على المرض. كما يستفيد العمال المسرحون لأسباب اقتصادية من تعويضات تأمينية وتغطية اجتماعية قد تصل ثلاث سنوات وفقا لمدة عملهم قبل التسريح. بالمقابل، يعتبر الشباب العاطل الذي لم يسبق له العمل من الفئات التي لا تستفيد من أي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية عدا عمليات دعم الأسعار، مما جعله الفئة الاجتماعية الأكثر مشاركة في الاحتجاجات الاجتماعية خاصة في المناطق الداخلية والنائية. تجدر الإشارة إلى أن التحويلات الاجتماعية في الجزائر هامة جدا وقدرت بأكثر من 17 مليار دولار في 2015 ما يمثل حوالي 10% من الناتج الخام.

لقد ساهمت الطبيعة الريعية للدولة والسياسات الاجتماعية المصاحبة لها في ترييع المجتمع الجزائري، وخلقت بنية طبقية متميزة تختلف درجة استفادة مكوناتها من توزيع الريع. كما أسست لأشكال مختلفة من الصراع الطبقي القائم على اختلاف مصالح البرجوازية المنتجة والبرجوازية البيروقراطية التي تسعى لتهميشها وإضعافها مما يعرقل تكوين اقتصاد منتج للثروة، ويجعل العدالة الاجتماعية هشة وفي تبعية للإيرادات الخارجية.

ـــــــــــــــــــــ

[1] أرقام الديوان الوطني للإحصاء، 2016، على موقعه الالكتروني: www.ons.dz

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart