عدالة أم معادلة؟ قراءة في إشكاليات الفوارق وعوائق العدالة الاجتماعية في عمان

عدالة أم معادلة؟ قراءة في إشكاليات الفوارق وعوائق العدالة الاجتماعية في عمان

دراسة ضمن كتاب: الفجوات الاجتماعية والفوارق الطبقية في المنطقة العربية

“نريد دولة العدالة والمساواة فهل هذا كثير علينا؟!”، “الغلاء يلتهم أحلام البسطاء: راقبوا التجار”،”التاجر الوزير، الوزير التاجر: صنع في سلطنة عمان”، “يسقط الفساد”، “حاكموا الفاسدين من الوزراء والمسؤولين، اعتقلوا قراصنة الحرية لتتحسن أوضاع الشعب العماني”.

لم تكن تلك بعض من شعارات رفعتها الحشود العمانية المحتجة في مطلع العام 2011 وحتى منتصف مايو من العام نفسه، فحسب، بل كانت، ولا زالت تعبيرا دالا على واقع حال الإنسان والدولة في عمان؛ الإنسان الذي يتزايد قلقه من المستقبل المجهول، والدولة الواقعة تحت سيطرة ذات الدائرة الاقتصادية، بكل شبكاتها ومصالحها الممتدة، والتي تسببت في انفجار الأزمات وتعميق الإشكال، فكيف لها أن تكون جزء من حلٍ مستدام يذلل الفوارق الاجتماعية التي أوجدتها منذ ميلاد الدولة العمانية المعاصرة قبل خمسة عقود.

إن النمو الذي أحرزته عمان على مستويات عدة يبدو أنه مهدد أمام العواقب المعروفة لسياسات السيطرة والاحتكار، التي أخرت تحقيق عدالة اجتماعية راسخة، تجنب البلاد أزمات كان بالإمكان تقليل أخطارها بتبني بدائل تعمل على تأصيل مفهوم مواطنة قائم على تكافؤ الفرص والمساواة، والتمتع المنصف بالثروات والخيرات الوطنية، والمشاركة الفاعلة في ممارسة الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية، وحماية الحريات الفردية والعامة.

بعد خمس سنوات من أحداث الربيع العماني هل حصل العمانيون على إجابات مقنعة للتساؤلات التي رفعوها في الميادين والشوارع، وفي داخل المؤسسات؟ هل مطالباتهم الاجتماعية والاقتصادية بتحسين مستوى حياتهم وتنمية تطلعاتهم تحققت؟ أين يكمن الخلل: هل في مظهر الأزمات الآنية التي تطل برأسها بين الحين والآخر أم في جوهر النظام وهيكله الذي يدير تفاصيل الحياة اليومية؟

إن دراسة الفوارق الاجتماعية وتعقب آثارها العميقة على طبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة عموما، وفي عالمنا العربي خصوصا، مسألة بالغة التعقيد والوعورة. منبع هذا التعقيد ليس في تشابك مسائل الطبقات، والأعراق، والثقافات، والأعمار، والقدرات، والنوع الاجتماعي- والتي هي بعضٌ من مكونات هذه الفوارق فقط؛ بل فيما تنطوي عليه هذه الفوارق من كوامن التمييز والإقصاء والإلغاء والتهميش والتدمير وغيرها من الممارسات النافية لآدمية الإنسان، والتي ارتبطت بتشكيل وتأطير “الدولة الوطنية” خاصة في المرحلة التي أعقبت حقبة الاستقلال والتحرر الوطني من براثن الاستعمار. وإن كانت حواضن هذه الفوارق في المجتمع العربي وتقاليده لها جذورها غير المفككة بما يكفي بعد؛ إلا أنها، أي الفوارق الاجتماعية أعني، قد وجدت في الدولة الوليدة سانحة مناسبة للبقاء، بل والتمأسس بشكلانيات حداثوية براقة؛ حيث جايلت نموها وتعقدت بعقدها حتى غدت جزءا من تكوينها، تتحكم براهنها، وتهدد مستقبلها. وهو بالتحديد ما أظهرته ثورات الربيع العربي وما تلاها من ارتدادات كرد فصيح على غياب العدالة الاجتماعية كوعي وكممارسة.

ستحاول هذه الورقة مقاربة ثلاث فوارق رئيسة، يفترض الباحث أنها أكثر تأثيرا على سمة العدالة الاجتماعية في عمان، في مرحلة ما بعد الربيع العربي وقبيل حدوثه بقليل. لأنها أكثر مباشرة وأعمق ملامسة لحياة الناس، ولأن المجتمع يقارنها دائما بالوعود التي قطعت له لأجل علاجها علاجا جذريا، وهي، مع تفرعاتها الجزئية، وانعكاساتها المتوالية وآثارها المتشابكة ستحدد مستقبل العلاقة بين المجتمع والدولة على المستوى المنظور. هذه الفوارق هي:

  • الفارق المعيشي: وفيه ستعمل الورقة على تتبع التساؤلات التالية: إلى أي مدى شكل الفرق في الأجور ومستوى دخل الفرد تباينا اجتماعيا أثر على الحياة السياسة والاقتصادية؟ هل الفقر في تزايد؟ وكيف عالجت السلطة المركزية هذا الملف المهم؟ كيف يمكن فهم تزايد نسب العطالة عن العمل بين أوساط المواطنين في الوقت الذي تتضاعف فيه أعداد القوى العاملة الأجنبية؟
  • الفارق الثقافي: وفيه ستحاول الورقة عرض الأسئلة التالية: هل حقق التعليم بأنواعه؛ الأساسي والعالي والمهني فرقا مضافا في جهود التنمية؟ هل شكلت الفوارق المناطقية والعمرية عوامل ذات وزن؟ هل المركزية الحادة التي مارستها السلطة لإدارة الملف الثقافي-التعليمي كان لها دور في هشاشة الوعي بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية أم عمقت الوعي بها؟
  • الفارق العمراني: ومنه ستسعى الورقة لمعرفة: كيف توزعت حصص التنمية على مناطق ومحافظات الدولة؟ هل هناك قدر من المساواة في هذا التوزيع؟ ما أثر ذلك على العمران المادي والمعنوي للبلاد؟

عن العدالة والفوارق:

إذا كان العدل من أهم المبادئ الإنسانية التي يسعى إليها الوعي البشري؛ فإن العدالة هي رحلة تطبيقات ذلك المبدأ، وهي خبرة الإنسان في تسيير وتيسير ذلك المبدأ إلى ممارسة وسلوك. والعدالة حق يتحصل للإنسان بمجرد كونه إنسانا، لا بسبب انتمائه أو لونه أو عرقه أو طائفته أو جنسه أو جنسيته. والعدالة الاجتماعية هي إحدى تمظهرات ذلك الفهم الطامح إلى رخاء الإنسان واستدامة طمأنينته داخل أطره الاجتماعية والسياسية التي ارتضاها أو وجد نفسه محاطا بها. لذا، تتعدد التعريفات المقاربة لمفهوم العدالة الاجتماعية، بتعدد التجارب وتراكم الخبرات[1]. سواء كانت هذه الخبرات فردية أو جماعية، قام بها الأفراد لتزكية أخلاقهم، أو مارستها الدول للارتقاء باجتماعها السياسي وعمرانها المدني. وهو مفهوم سيظل في تطور دائم، طالما الخبرة الإنسانية غير منقطعة وغير متوقفة.

إن ارتباط الفوارق الاجتماعية بالعدالة ارتباط جوهري كاشف لحقيقة تطبيق مبدأ العدل والحرص عليه؛ فالفوارق الاجتماعية لا تتقلص تفاوتاتها في مجتمع من المجتمعات، ما لم تستثمر الثروة والسلطة لتأمين رخاء إنساني مستدام. استثمارٌ يناهض أغلب أشكال التفاوت القائمة على الامتيازات، والمتكئة على شبكات التمييز المتناسلة رأسيا وأفقيا. ويشيع بديلا عنها: سلوكيات تكافؤ الفرص، النابعة من الجهد والإنتاج، والمدعومة بقيم المساواة والإنصاف والتضامن والتكافل.

كما أن الفوارق الاجتماعية ليست بالثابت العصي على التغيير والتحول، كما توضح ذلك تجارب التاريخ، على العكس تماما؛ فإن هذه الفوارق تكون أكثر تفاعلا مع انتفاء أو بقاء العلة: الفساد في إدارة الثروة والاستبداد بتسيير شؤون السلطة. ولكي تتقلص الفوارق الاجتماعية بين الطبقات والمجموعات البشرية ينجم أن تكون مؤسسات الدولة والمجتمع متحرية بأقصى جهدها لسبل تطبيق الإنصاف، وضامنة لكفاءة هذه الوسائل والاجراءات وتجددها لبلوغ العدالة الاجتماعية، والتي يتطلب اتساقا واستقرارا للعديد من المفاهيم من قبيل:

  • اتساق الحريات والمسؤوليات: إذ أن من حق كل إنسان في هذا الوجود حريات أساسية متساوية وكافية، يؤطرها ويصونها نظام ضامن للحريات[2]. إن المجتمع العادل تعد فيه حريات المواطنين المتساوين راسخة ومستقرة في وجدانهم الفردي والجماعي، في مقابل قيام هؤلاء المواطنين بكافة مسؤولياتهم وواجباتهم الكافلة لحرياتهم، والتي من خلالها يطورون مجتمعهم ويرتقون به.
  • اتساق الحقوق والواجبات: فالحقوق المصانة بوساطة العدالة ليست خاضعة للمقايضات السياسية أو للحسابات التفاضلية وفق المصالح الاجتماعية”[3]. في مقابل يكون فيه “توزيع الخيرات المادية بموجب الحاجات، ووفق الاستحقاق الذي يقاس بالكفاءة وبالمؤهلات ومساهمة الإنسان في الخير العام.”[4]
  • اتساق الجدارة والانصاف: وهي أن تتاح الفرص للجميع في مسعاهم للحصول على المواقع الوظيفية التي يرغبون بها، مع توفر القدرة في أنفسهم لفعل ذلك، وبشرط تساوي فرص الوصول لهذه المواقع أمامهم، مع العمل على تأمين أكبر فائدة للفئات الأضعف لتمكينها من المساهمة في قدرات المجتمع على التطور والنمو بحسب معايير الجدارة.
  • اتساق المساواة والاختلاف: “المساواة في الفرص شرط ضروري للعدالة الاجتماعية، لكنه شرط غير كافٍ لتحقيقها، إذ تحتاج لشرط السعي المستمر لتضييق الفوارق في توزيع الدخول والثروات ومن ثم الفوارق في النفوذ السياسي”.[5] فالمساواة بحد ذاتها لا تحقق العدالة إلا بمقدار تساوي الفرص أمام الجميع وبشكل متكافئ يمكن البشر من انطلاقة متساوية للعمل على عمران مجتمعاتهم والانتفاع بثرواتها. ويتمظهر ذلك بشكل أولي في المساواة للحصول على فرص التعليم والرعاية الصحية وملكية موارد الإنتاج والعمل.
  • اتساق السيادة والاستقلال: وهنا يتطلب الحال بألا تسمح الإدارة السياسية، تحت أي ظرف أو مبرر، بأن تتعرض الدولة لأي نوع من أنواع الاستغلال الاقتصادي، لفئة دون غيرها داخل المجتمع، وألا تتورط في تبعية نظام، أو دولة، أو مجتمع آخر يتحكم بمصائرها، ويعجزها عن التوظيف الراشد لثرواتها الطبيعية والبشرية بشكل آمن وخاضع للمراجعة والتقويم. كما أن هذا الاتساق يتطلب تمكينا سياسيا عبر مؤسسات سياسية واجتماعية واقتصادية فاعلة تكفل مشاركة شعبية في صنع القرار تصون الحريات وتحفظ الحقوق.
  • اتساق الحاضر والمستقبل: وهو ما يتطلب وعي الأجيال الحاضرة بواجبها تجاه الأجيال القادمة، فلا تهدر مخزونها من الثروات والخيرات العامة في استهلاك آني لا يراعي المستقبل، ولا يستثمر في البشر، ولا تثقل على القادم بأعباء مؤجلة من الديون والرهونات المالية والسياسية.
  • اتساق التكافل والتكافؤ: وهو الاتساق المتحصل من توفر الفرص للجميع لتطوير وتحفيز قدراتهم ومهاراتهم واستثمار طاقاتهم الكامنة في تنمية ذواتهم وبلادهم. مع رعاية القيم التي تحض على الإبداع والاجتهاد وحفظ الحقوق الفكرية الضامنة للتجدد والابتكار.

عدالة اجتماعية أم معادلة اجتماعية؟

يحفل النظام الأساسي للدولة الذي يعد بمثابة الدستور في عمان، والصادر في العام 1996: بتكرار لفظة “العدل” و”العدالة” و”المساواة” سواء في ديباجته أو عبر مبادئه أو بنوده. فعند عرض المبادئ السياسية للدولة تطالعك الصياغة التالية: “إقامة نظام إداري سليم يكفل العدل والطمـأنينـة والمسـاواة للمـواطنين، ويضمن الاحـترام للنظـام العـام ورعاية المصالح العليا للوطن”. وتأتي في طليعة المبادئ الاقتصادية عبارة “الاقتصاد الوطني أساسه العدالة ومبادئ الاقتصاد الحر، وقوامه التعاون البناء المثمر بين النشاط العام والنشاط الخاص، وهدفه تحقيق التـنمية الاقتصاديـة والاجتماعية بما يؤدي إلى زيادة الإنتاج ورفع مستـوى المعيشـة للمواطنين.”، كما ترى هذه المبادئ أن “الضرائب والتكاليف العـامة أساسها العـدل وتـنمية الاقتصاد الوطني.” أما المبادئ الاجتماعية الواردة في هذه الوثيقة فيتصدرها “العدل والمساواة وتكافـؤ الفرص بين العمانيين دعامات للمجتمع تكـفلها الدولة”. ثم تأتي المادة 17من هذا النظام لتنص على أن: “المواطنون جميعهم سواسية أمام القانون، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامــة، ولا تميـيــز بينهـم في ذلك بسبـب الجنس أو الأصل أو اللون أو اللغة أو الـدين أو المذهب أو الموطن أو المركز الاجتماعي”[6].

هذا على مستوى النص الأعلى في هرم التشريعات العمانية. أما فيما يتعلق بشأن واقع الحال فإن الأمر يكشف عن اختلافات واختلالات جديرة بالتحليل وطرح التساؤلات. ولعل أبرز هذه التساؤلات: هل ما حدث، ويحدث في عمان أقرب للعدالة الاجتماعية أم هو لا يتعدى اجتهادات من قِبل السلطة المركزية الحاكمة لإدارة البشر ومواردهم الطبيعية وثرواتهم العامة وفق معادلة اجتماعية تكفل حدا معقولا من الوئام الاجتماعي والتنمية النسبية؟

ميدانيا، لا يمكن لأحد نكران التقدم اللافت الذي أحرزته عمان على مستوى دليل التنمية البشرية[7]، والصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. كما لا يمكن تجاهل تحقيق هذا الاقتصاد لمعدل نمو حقيقي في الفترة من 2006 إلى 2011 بما نسبته 6.5% وهذه ثاني أعلى نسبة نمو بين دول مجلس التعاون الخليجي بعد دولة قطر، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي. هذا إذا أخذنا في الحسبان بأن معدل النمو الحقيقي يعتمد على تغيير حجم الإنتاج وليس تغيير الأسعار، وبالتالي فإن خبراء الاقتصاد والمالية يعتبرونه المؤشر الأقرب إلى الدقة في قياس النمو الاقتصادي بالمقارنة مع تغيير الناتج المحلي بسعر السوق. وحسب تقرير لجنة النمو والتنمية -هي لجنة منبثقة عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي- لعام 2008، فعمان هي الدولة العربية الوحيدة من 12 دولة في العالم التي حققت معدل نمو اقتصادي أعلى من 7% لمدة 25 سنة أو أكثر[8].

بيد أن كل ذلك لم يحصن البلاد من حصول انفجارات اجتماعية، هددت السلم الأهلي، ولا زالت، خاصة بعد انقضاء العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين. تأتي هذه الانفجارات كنتائج متوقعة لبلد يعتمد كليا على اقتصاد ريعي، قائم على مصدر وحيد وهو النفط. أما سياسيا فالدولة مرتكزة على الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة والثروة في المجتمع، يظهر هذا الاحتكار في اختراق المجال العام والتحكم فيه وتوظيف مؤسساته ومجموعاته لتنظيمات ممتدة لأجهزة الدولة الإدارية والأمنية. لذا، فإن هذا النموذج مكن الدولة من قيادة تنافس غير متكافئ في ميادين، مثل المجتمع، وكأنها ضمن مكوناته، ومثل الاقتصاد، وكأنها ضمن حرية السوق، بينما هي تمتلك مصادر الحماية والانحياز، لأنها تملك الأسرار والمعلومات الاقتصادية وتتحكم بمكونات المجتمع، ولا تتعامل مع المجهول[9].

ثم جاءت السياسات النيوليبرالية التي سادت المنطقة منذ تسعينيات القرن الماضي، وعشية انهيار نظام ثنائي القطبية لتكشف الكثير من الفجوات التي باعدت من تحقيق عدالة اجتماعية ناجزة وفاعلة في البلاد. وذلك أن النيوليبرالية قائمة في أساسها على المنافسة والتسليع. فالمنافسة، وفق النيوليبرالية هي السمة الوحيدة التي تحدد العلاقات الإنسانية. كما تعيد تعريف المواطنين كمستهلكين، حيث يمارسون خياراتهم الديمقراطية عن طريق الشراء والبيع، وهي عملية تكافئ الجدارة وتعاقب عدم الكفاءة. كما تؤكد على أن “السوق” يوفر الفوائد السحرية والحلول الشاملة لأبرز مشاكلنا المعيشية.

المحاولات لوضع حد للتنافس تعامل، حسب النيوليبرالية، على أنها معادية للحرية. كما يجب خفض الضرائب والقواعد، وينبغي خصخصة الخدمات العامة. كما تم تصوير العمال والمفاوضات الجماعية للنقابات المهنية على أنها تشوهات في السوق تعرقل تشكيل التسلسل الهرمي الطبيعي من الفائزين والخاسرين. كما اشتغلت النيوليبرالية عبر أذرعها الدولية النافذة (منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين) على إعادة صياغة اللا مساواة على أنها فاضلة: مكافأة للمفيد ومولدة للثروة، والذي يتغلغل رويدا رويدا إلى إثراء الجميع. والجهود المبذولة لخلق مجتمع أكثر مساواة تأتي بنتائج عكسية وتآكل أخلاقي. آليات السوق ستتكفل بأن يحصل الجميع على ما يستحقون. ومع مرور الزمن اعتاد الناس على غلبة هذه المفاهيم وأعادوا إنتاجها، وأصبحت معايير تتحكم بتفاصيل حياتهم. يقنع الأغنياء أنفسهم بأنهم اكتسبوا ثرواتهم من خلال الجدارة، ويتجاهلون المزايا -مثل التعليم والميراث والطبقة- التي ربما قد تكون ساعدتهم. ويبدأ الفقراء في لوم أنفسهم لفشلهم، حتى عندما لا يكون لديهم إلا القليل الذي يمكن أن يفعلوه لتغيير ظروفهم[10].

لقد أوضحت الحقبة التي سبقت الربيع العربي وما تلاه من عواقب أنه لا توجد علاقة تلقائية بين تحقق عدالة اجتماعية وتحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية. فلا توجد عدالة اجتماعية بدون نمو اقتصادي، لكن بإمكاننا أن نشهد نموا اقتصاديا لا تواكبه عدالة اجتماعية. وأمثلة ذلك ما حدث لمصر وتونس كمثالين واضحين على تحقيق النمو وعدم تحقق العدالة. لإن النمو الاقتصادي؛ ليس أكثر من وسيلة لتمكين الإنسان من التمتع بحياة طويلة وصحية وخلاقة تساهم في تحقيق استقراره ورخاءه. هذه الوسيلة تحتاج بالضرورة إلى إرادة سياسية منحازة للعدالة الاجتماعية، تظهر انحيازها هذا في مؤسسات مستقلة ومتعاونة، تمارس أقصى درجات الشفافية ومكافحة الفساد، في داخلها، وعبر علاقاتها مع بقية مؤسسات الدولة، كل ذلك لتأمين الخيرات والمنافع العامة إلى الفئات الأكثر فقرا وتهميشا في المجتمع.

هذا الفساد الذي ينتج عن “الافتقار إلى الحياد في الحكم”، ويتضح عبر استخدام الأموال العامة والسلطة الحكومية بطرق تؤثر سلبا على الرخاء الإنساني.”

بل حتى منظرو وتنفيذيو المنظومة الدولية للنيوليبرالية، المتمثلة في صندوق النقد والبنك الدوليين، أصبحوا يعترفون، علنا، بِقصر نظر النظريات السابقة التي رعوا تنفيذها في دولنا العربية طوال السنوات الخمس والعشرين الماضية؛ حتى هؤلاء أصبحوا يدفعون بأن “النمو الاقتصادي السريع لا يمكن أن يستمر ما لم يعم بنفعه الجميع، وما لم يكن مؤديا لفرص عمل جديدة للأعداد المتزايدة الباحثة عن عمل، ومصحوبا بسياسات اجتماعية تقدم الدعم اللازم لأفقر فئات المجتمع. وحتى تكون الإصلاحات الاقتصادية قابلة للاستمرار، ينبغي أن يقتسم الجميع الثمار المتحققة منها دون أن تستأثر بها قلة محظوظة. وليس استشراء الفساد إهانة غير مقبولة لكرامة المواطنين وحسب، لكنه يحرمهم أيضا من المنافع الاقتصادية التي يستحقونها. ولا بد أن يؤدي غياب القواعد الشفافة والعادلة التي يجب أن تقوم عليها المعاملات إلى إعاقة تحقيق النمو الشامل لكافة المواطنين[11].” لذلك فإن أيما دولة تسعى إلى استقرار مستدام ورفاهة حقيقية لسكانها ينبغي أن تضع نصب أعينها الأهداف التي يتفق عليها الجميع والتي تتمثل في نمو اقتصادي أعلى، يحقق المزيد من فرص العمل، ومزيد من الدمج الاجتماعي والاقتصادي، ومؤسسات قوية تضمن المساءلة والحكم الرشيد والحماية الاجتماعية لأضعف فئات المجتمع.

الفارق المعيشي:

يعاني الاقتصاد العماني من أزمة هيكلية مزمنة لاعتماده الرئيس على إيرادات النفط والتي تشكل86% من إجمالي الدخل. كما أنه مثقل بزيادة أعداد العاملين في القطاع العام، ومبتلى باحتكار أسر تعد على أصابع اليد الواحدة لعناصر الإنتاج ولموارده الطبيعية، إضافة إلى زيادة القوى العاملة الخارجية، وتكدس أعداد المواطنين العاطلين عن العمل، مع الضغط المتواصل باتجاه خفض الإنفاق العام، ورفع مظلة الدعم أو تقليصه عن الأساسيات كالتعليم والصحة والمحروقات والتسريع بخصخصة مؤسسات الدولة وقطاعاتها المربحة، الأمر الذي وضعه أمام مأزق استعصاء العدالة الاجتماعية القديم: الانشغال بإعادة توزيع ما هو موجود ومتوفر من موارد وثروات طبيعية دون الاكتراث، بما يكفي، لإمكانيات زيادة الإنتاج وتنويعه إثراء للدخل القومي وإجمالي الناتج المحلي، واستثمارا في الإنسان أساس التنمية وغايتها الأسمى.

وفي ظل الاهتزازات الكبيرة التي يشهدها سوق الطاقة فقد تراجعت مساهمة إيرادات النفط في الموازنة العامة للدولة بما نسبته (-46%) في سبتمبر 2015 أي تقريبا النصف عما ساهم به في العام الذي سبقه 2014.[12] كما أن الحكومة بأجهزتها التنفيذية لم تستطع خلال أكثر من أربعة عقود تحقيق تنويع راسخ لمصادر دخل أخرى تكفل الاستدامة والأمان.

ويقع المواطن العماني تحت ضغوط اقتصادية متزايدة؛ فمستوى دخله لا يتناسب مع مستويات التضخم المتصاعدة، ويواجه عدم عدالة في توزيع الدخل. إذ أن هناك تباينا كبيرا بين نصيب الفرد العماني من إجمالي الدخل القومي وبين مستوى دخله الحقيقي، يصل إلى ثلاثة أضعاف، مما أدى إلى تزايد نسبة الفقر. الأمر الذي يضع مسألة السلم الوطني على المحك[13]. وما كانت احتجاجات 2011 إلا مقدمة “سلمية” و”ناعمة” لموجات قادمة من الاحتجاج والرفض قد تتطور بالتراكم والتجاهل إلى عواقب وخيمة.

وبينت الاحصاءات الرسمية الراهنة انخفاضا في الإيرادات العامة إلى نحو6.8 مليار ريال عماني مقابل 10.5 مليار ريال نهاية 2014 (الريال العماني يساوي 2.6 دولار). كما أظهرت الإحصاءات تجاوز عجز موازنة البلاد 2.9 مليار ريال عماني. وشهدت الضرائب الجمركية كذلك انخفاضا نسبته%19، بالإضافة إلى انخفاض ضريبة الدخل على الشركات بنسبة 6.2% والإيرادات الرأسمالية 8.8%.أما الفوائد على القروض فقد تراجعت بنسبة.33%. وسجل بند المساهمات والدعم تراجعا وصل إلى%35.9 وسجل إجمالي الإنفاق العام تراجعا بلغ 7.5% والمصروفات الاستثمارية ارتفاعا ضئيلا بلغ.[14]

أما قطاع التشغيل فيشهد هو كذلك “تشوهات هيكلية”، وتراكمات مؤجلة نتيجة سياسات فاشلة في حسن استثمار “الهِبة السكانية” التي تتمتع بها البلاد، خاصة وأن أكثر من نصف عدد السكان من الشباب في مرحلة العمل والعطاء[15]. فالبطالة من إجمالي عدد السكان تجاوزت%8، وبين أوساط الشباب تعدت%20.[16]

ولم تنجح جهود الحكومة في إحلال القوى العاملة الوطنية المسماة بسياسة “التعمين” بأكثر من نسبة 13% في القطاع الخاص. لأن%95 من الشباب يفضلون الوظيفة الحكومية على سواها، رغم أنهم يعتقدون أن الحصول على هذه الوظيفة تخضع للواسطة والمحسوبية، وفق دراسة رسمية أعدها المركز الوطني للإحصاء والمعلومات[17]. مع تعطيل 5-4 سنوات كوسيط فتري من أعمارهم ومن قوة الإنتاج الوطني في البحث عن عمل. في المقابل؛ قفز أعداد العمالة الأجنبية في البلاد إلى (7.526.821) عاملا أغلبهم في مستويات تعليمية منخفضة (بين أمي ويقرأ ويكتب فقط)، مما يؤثر على المهارة وجودة الإنتاج المحدود أصلا.

كما أن القرارات اللحظية باستيعاب القوى العاملة الوطنية والتي استخدمتها السلطة لامتصاص تمدد الاحتجاجات الغاضبة في مطلع العام 2011؛ عمقت تأزم سوق العمل على المستوى الجذري؛ فقد انسحبت أعداد كبيرة من المواطنين من القطاع الخاص (الصناعي والحِرفي على وجه الخصوص)، بل ومن مقاعد التعليم النظامي (المتوسط والثانوي والعالي) للظفر بالفرص المعروضة وبالرواتب الآمنة. غير أن جل فرص التوظيف، التي عرضت، وما زالت، كانت في القطاع العسكري والشرطي، وهو ما يعني حلا سياسيا مؤقتا وعبئا معقدا على الموازنة العامة أكثر مما هو حل اقتصادي يساهم في إضافة حقيقية في اقتصاد وطني منتج. إضافة إلى الكلفة الباهظة لعسكرة المجتمع وتجميده في الثكنات، بدلا من تعليمه وتشجيعه على الحياة المدنية بفضاءاتها الحرة والمفتوحة على الوعي والثقافة.

كما شهد موقع عمان تراجعا كبيرا في مؤشر التنافسية العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي 2015 -2016 وهو مؤشر يقيس قوة أي اقتصاد من خلال: تنوعه، وقدرته على المنافسة، والثقة في جذب الاستثمار، والتأسيس الميسر للمشروعات، وزيادة الإنتاج، وتعزيز مستويات المعيشة للأفراد والمجتمع. فقد جاءت عمان في المركز الـ 62 عالميا متراجعة 16 مركزا عن تقرير عام 2014 – 2015 و29 مركزا عن العام الذي سبقه.[18]

فيما يتعلق بموضوع الفقر ومستوى دخل الفرد في عمان يمكن الاستعانة بنتائج مسح نفقات ودخل الأسرة 1999 -2000 (الصادر عن وزارة الاقتصاد الوطني) والذي يوضح بأن متوسط نصيب الفرد العماني من الدخل يعادل تقريبا 900 ريال عماني سنويا، مقابل 2.979 ريالا عمانيا في عام 2000 كنصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي، وهذا يمثل تباينا مرتفعا مع الدخل الحقيقي للمواطن. وتشير نتائج هذا المسح كذلك إلى تباين كبير بين دخل الفرد من سكان المدن والقرى وكذلك بين مستويات الدخل حسب المناطق والمستويات التعليمية. ونلاحظ بأن هناك فارقا يزيد على ثلاث أضعاف بين متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي ومتوسط دخل الفرد العماني من واقع نتائج مسح نفقات ودخل الأسرة في عام 2000. أما بالنسبة لأهم نتائج مسح نفقات ودخل الأسرة الثاني (2007 -2008) الذي تم تنفيذه خلال الفترة من 20 مايو 2007 إلى 19 مايو 2008 والصادر عن وزارة الاقتصاد الوطني في أبريل 2010 فان هذا المسح يوضح بأن متوسط نصيب الفرد العماني من الدخل يعادل تقريبا 1327 ريالا عمانيا مقارنة مع متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي البالغ 7.775 ريالا عمانيا في عام في عام 2008، وهذا يمثل أكثر من خمسة أضعاف الدخل الحقيقي للمواطن. وبمقارنة معدل النمو السنوي لدخل الفرد الحقيقي الذي بلغ 5% في الفترة من 2000 إلى 2008 بمعدل نمو نصيب الفرد من الدخل القومي الذي بلغ 18% في نفس الفترة، يتضح مدى الفارق الكبير بين نمو هذين المؤشرين. وفي حالة الأخذ بالاعتبار مستوى التضخم في أسعار المواد الغذائية التي تشكل ما نسبته 30% من متوسط إجمالي صرف الأسر العمانية، نلاحظ أن نسبة ارتفاع هذه المواد بلغت أكثر من 5.6% مقارنة بارتفاع دخل الفرد بمعدل 5.3% في الفترة من 2000 إلى 2008، أي أن القوة الشرائية للمواطن قد تراجعت في هذه الفترة. وعليه فإن مؤشر متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي غير دقيق لقياس واقع متوسط دخل الفرد العماني وبأن دخل المواطن الحقيقي لم يشهد نموا يذكر. أي أن الطفرة الاقتصادية لم يصحبها تحسن في دخل المواطن الحقيقي وأن عدالة الدخل لم تتحقق للمواطنين في هذه الفترة الزمنية.

المفارقة تكمن في التدني الحاد في نسبة العاملين الذين يزيد متوسط دخلهم الشهري الأساسي عن 1000 ريال عماني والتي بلغت 2% فقط، وهي تمثل شريحة الدخل المرتفع بالمقارنة بالفئة العظمى لشريحة الدخل المنخفض. ولكون هذه البيانات الوحيدة المنشورة عن فئات الدخل للعمانيين، فإن هذه العينة يمكن استخدامها لقياس التباين الكبير بين فئات الدخل للعاملين العمانيين والتي تشكل الغالبية من فئة الدخل المنخفض ونسبة قليلة لفئة الدخل المرتفع. ويمكن عليه استنتاج أن الطفرة الاقتصادية في الفترة من 2000 إلى 2010 لم تساهم بشكل فعال في تقليل الفارق في مستوى دخل المواطن بل على العكس من ذلك ساهمت في تكريس هذا الخلل في الدخل. هذا الوضع من شأنه أن يزعزع أمن المواطن الاقتصادي كما عرفه تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009 الذي وضح أن مفهوم أمن الإنسان الاقتصادي يرتكز على دخل الفرد الحقيقي وأنماط نموه، وخيارات العمل والاستخدام، والفقر، والحماية الاجتماعية”[19].

إن ضعف دخل المواطن العماني وارتفاع نسبة الفقر خلال العقد الماضي على الرغم من معدلات النمو الاقتصادي العالية، يدل على أن النمو لم يكن رحيما أو منصفا لغالبية المواطنين ولم يؤد بالنتيجة إلى استقرار اجتماعي. ولعل من المسببات الرئيسة لضعف الدخل وارتفاع نسبة مؤشر الفقر: هو التعليم وما يرتبط به من تبعات أو ما نسميه هنا بالفارق الثقافي.

الفارق الثقافي:

لا يتجاوز الإنفاق الحكومي على التعليم في عمان أكثر من7.8% كما تبينه أرقام العام 2014 الرسمية[20]. الأمر الذي ألقى بظلاله علي المشهد الاقتصادي والاجتماعي العماني؛ إذ أن نتائج البلاد “متدنية في قضايا سوق العمل ليس على مستوى العالم فحسب، بل حتى على مستوى دول الخليج حيث كان مركز عمان الأخير من بين دول الخليج في مؤشر توفر خدمات التعليم والبحث العلمي، وفي مؤشر مرونة تحديد الأجور، بينما كان ترتيبها الخامس من بين دول الخليج في مؤشر جودة مادتي العلوم والرياضيات، وإجراءات التعيين والاستغناء عن الموظف، واحتلت المركز الرابع في مؤشري اجراءات التعيين والاستغناء عن الموظف، ومؤشر جمود التوظيف من بين دول الخليج[21].ورغم النقلات الكمية المشهودة في هذا القطاع خلال أربعة عقود ماضية كأعداد المدارس والطلبة والمعاهد، وتوزع مؤسسات التعليم المختلفة. إلا أن المأزق الكبير الذي يواجه البلاد هو في نوع وجودة هذا التعليم لا في كمه وعدده. فعلاوة على ضعف المناهج وعدم مواكبتها لأسئلة العصر المتجددة، والتقتير على تكوين وتدريب المعلم بوصفه محور العملية التعليمية، تبرز وسائل التحكم والسيطرة التي تمارسها السلطة على هذا القطاع منذ السنوات الأولى للدراسة إلى المراحل الجامعية والدراسات العليا. فلا وجود يذكر في المناهج لتعليم ثقافة سياسية. ولا يتم تعليم مواد الفلسفة والمسرح والفنون الحرة بشكل نظامي. كما يندر تناول أفكار المواطنة والحرية وثقافة حقوق الإنسان بشكل منهجي في النظام التعليمي العماني. هذا إضافة لغياب أي دور نقابي منظم للمعلمين على كافة المستويات، أو أي نشاط لاتحادات طلابية في الجامعات والكليات المختلفة[22].

على المستوى الكمي يستوعب قطاع التعليم في البلاد حوالي (61.8%) من مجموع السكان العمانيين في سن 5-24 سنة، وتتفاوت هذه النسبة حسب المراحل العمرية ففي المرحلة الثانوية أو مرحلة ما بعد الأساسي الصفين الحادي عشر والثاني عشر يبلغ معدل الالتحاق الإجمالي (89%) بينما في مرحلة التعليم الجامعي فيصل هذا المعدل إلى (21.2%) [23].

 

أما بالنسبة للوضع التعليمي للشباب وخصائص الملتحقين منهم بالتعليم الثانوي أو المعاهد والجامعات وحسب الاختصاص والمراحل التعليمية وأسباب الانقطاع عن التعليم فتشير بيانات وزارة التربية والتعليم إلى أن معدل الالتحاق الصافي في الصفوف (10-12) الذين يمثلون الشباب في سن (15-17) سنة خلال عام 2007 بلغ (68.9%) أي أن هناك ما نسبته 32% لم يلتحقوا بمقاعد الدراسة، وبغض النظر عن الصفوف والمراحل الدراسية فإن (78%) من الشباب في سن (15-17) سنة ملتحقون بالنظام التعليمي بنوعيه الحكومي والخاص خلال العام الدراسي 2007 -2008.

في حين ظلت معدلات الانقطاع عن الدراسة (التسرب) متذبذبة بين الطلاب في الصفوف (10-12) خلال الفترة من العام الدراسي 2000 -2001 وحتى العام الدراسي 2006 -2007، الأمر الذي أثر بشكل متراكم على موضوعات اقتصادية واجتماعية مهمة كزيادة الهدر في الموارد المالية المخصصة للعائد البشري الوطني وانخفاض العائد المتوقع منها، كما انعكس بشكل أساسي في زيادة معدلات البحث عن العمل بين الشباب غير المؤهل تأهيلا علميا، وأثر على معدلات دوران العمل والذي يشكل عنصرا في غاية الأهمية على الدورة الاقتصادية.

 

هذا فيما يتعلق بالتعليم العام، أما التعليم العالي وفق الشكل رقم (3) فلم يكن أحسن حالا؛ إذ تشير الأرقام الرسمية إلى أن نصف مخرجات التعليم العام لا تجد فرصا لمواصلة تعليمها العالي؛ فمن إجمالي خريجي شهادة الدبلوم العام العمانيين البالغ عددهم (44.075) طالبا وطالبة، يتم استيعاب (21.555) طالبا وطالبة (49%) فقط في مؤسسات التعليم العالي (داخل السلطنة) والتي تشمل: جامعة السلطان قابوس، الجامعات والكليات الخاصة، كليات العلوم التطبيقية، كليات التقنية، كلية الدراسات المصرفية والمالية، المعاهد الصحية ومعهد العلوم الشرعية).

أما الابتعاث فيشكل نسبة ضئيلة من جملة الخريجين؛ (1.366) طالبا وطالبة، أي (3%) فقط. البقية والبالغ عددهم 21.154 طالبا وطالبة، أي ما نسبته (48%) فمصيرهم مجهول، القلة منهم ينضمون إلى مهن بسيطة أو وظائف عسكرية. أما الغالبية فتتكدس مع أعداد السنوات السابقة بانتظار الفرج.

 

 

الفارق العمراني:

كبقية بلدان دول الخليج العربية الأخرى تنامت في عمان ظاهرة “رأسمالية الدولة” التي تتميز بسيطرة فئة مقربة من السلطة على أغلب عناصر الإنتاج تتمركز جغرافيا في منطقة العاصمة، مسقط، وتتمدد، حسب مصالحها ومحاصصاتها الاجتماعية والاقتصادية في بقية المناطق والمدن كصحار وصلالة وصور ونزوى. سيطرت هذه الفئة على الاقتصاد بطرق قانونية بحكم تغولها في مفاصل صنع القرار وتشكيلها لأغلب التشريعات الناظمة للاقتصاد الوطني. كما أن هذه الفئة حسمت باكرا الاستحواذ على “التوكيلات الكبرى” في قطاعات النفط والغاز والخدمات والاستيراد والتصدير والسلع المعيشية الأساسية. الأمر الذي شكل إقصاء اجتماعيا واضحا تمثل في “احتكار القلة” الذي يعد أبرز سمة يوصف بها القطاع الخاص في عمان، فحينما تقلد السلطان العرش عام 1970، ظهرت عدد من العائلات لا يتجاوز عددها أصابع اليد فبسطت سيطرتها الاقتصادية على مجمل الموارد الطبيعية متخذة من سلطات الدولة المتنفذة غطاء آمنا للحفاظ على احتكارها وتمدد سيطرتها. ويجمع كافة أفراد هذه الأسر أن بداياتها كانت متواضعة، ولم يكن لمعظمها علاقات بآل سعيد (الأسرة الحاكمة) أبدا، إلا أنه يمكن القول بأن كافة ثرواتها جاءت بفضل علاقاتها مع السلطان أو مع أحد كبار رجالات الدولة. وبينما تطورت مقدرات الاقتصاد العماني واتضحت معالمه بدأت هذه العائلات في توسيع نطاقها التجاري لتلبية المتطلبات المتنامية للدولة وللمستهلك العماني،… وعليه فقد بسطت نفوذها وتمكنت من التحكم بتكتلات لها قدرة على تشغيل مجموعة واسعة من القطاعات..”[24]. كما يتضح أثر هذه القلة المحتكرة في السيطرة على أغلب مناقصات الدولة ومشروعاتها التنموية، وتملكها للأنصبة الأكبر في الشركات الحكومية وإدارته، كما تقوم بتدوير لوبياتها البيروقراطية في مختلف أجهزة الدولة التنفيذية.

من زاوية أخرى تبرز أهم مؤشرات التفاوت العمراني في توزيع ثمار التنمية على مختلف فئات السكان ومحافظات ومناطق الدولة في تباين مستويات التخطيط المديني، حيث “أصبح شكل المدينة العمانية مبعثر يمتد لعشرات الكيلومترات دون ملامح، بعد أن كان بؤرة تحمل هوية المجتمع وترتكز على مجموعة من مقومات الاستقرار البشري، مما كان له أغلب الأثر في تحول المجتمع سريعا من مرحلة التجانس إلى مرحلة اللا تجانس. ناهيك عن “عدم الاهتمام بالمظاهر الثقافية كالساحات والميادين والمعارض وذلك على عكس المدن العالمية، حيث يختفي المتحف في أغلب المدن الرئيسية في بلد التراث، وتختفي المكتبة في بلد ذات أرث علمي متجذر، وتختفي الشوارع والمراكز الثقافية حتى في العاصمة مسقط، إضافة إلى أن توزيع المخططات الحديثة لا يراعي أهمية وجود أماكن للترفيه في المدن، مما يجعل غالبية السكان تلجأ إلى الدول المجاورة أو السفر وتنفق المئات من الريالات على مثل هذا النوع من الرحلات”[25].

أما بشأن توزيع الاستثمارات المعتمدة للوزارات المدنية في الموازنات العامة والخطط التنموية، فقد استحوذت محافظة مسقط، العاصمة، على النصيب الأوفر من هذا الإنفاق. وبأنصبة أقل على بقية المحافظات والمناطق، أما الأقل الأبرز فنال المناطق الحدودية كمحافظة مسندم ومحافظة البريمي المتاخمتين لدولة الإمارات. مما يثير وبشكل متواصل تذمرات السكان وازدياد شكواهم. كما شكل هذا التفاوت اختلالا ملموسا على مستوى الخدمات، ظهر في ازدياد النزوح السكاني إلى مسقط، والضغط على الخدمات المتوفرة فيها وكفاءة تشغيلها وصيانتها. وقد أظهرت نتائج دراسات رسمية “أن سكان القرى أقل قدرة بشكل واضح من سكان الحضر في الوصول إلى الخدمات العامة. كما أن متوسط استهلاك الأسرة أعلى في الحضر عن نظيره في القرى العمانية”[26]. زاد على ذلك؛ مركزية صنع القرار الذي تتحكم به الوزارات والأجهزة الرئيسية، والتي تتخذ من العاصمة مقرا لها، ومحدودية التفويض الممنوح للمكاتب والمديريات المتوزعة في كل محافظة ومنطقة، على مستوى المباني. إضافة إلى صورية المجالس البلدية وعدم قدرتها، بفعل نصوص تشكيلها وتكوينها، على اتخاذ أي قرار وتطبيقه وتوفير المخصصات المالية اللازمة لتنفيذه إلا بعد الرجوع والاعتماد من الأجهزة المركزية في العاصمة. هذا الواقع أثر بشكل جذري على انحسار الصناعات التقليدية، ومصادر الرزق الأولية، والتي كانت القرى والأرياف حواضنها الآمنة ومنابعها المستقرة منذ القدم كالزراعة وصيد الأسماك وحرف الدباغة والنسيج والفخاريات وصياغة المعادن المختلفة وغيرها. فعلى سبيل المثال لا الحصر: تراجعت معدلات نمو أنشطة الزراعة والأسماك في الناتج المحلي الإجمالي إلى%9.7 في العام 2015 مقارنة بما كانت عليه%15.7 في العام 2013، وكذا الحال في شأن الصناعات التحويلية التي تراجعت إلى -%13.4 بعدما كانت معدلات نموها%4.3[27]. من نفس الفترة. إذ أن غالبية السكان هجروا هذه الصناعات الأساسية في اقتصادهم لصالح الوظائف الحكومية التي عطلت القدرات الإنتاجية والمهارات الأساسية، ليس بين أوساط الجيل الشاب فحسب بل وبين أهل المهن والحرف المهرة أنفسهم. لأن هذه القطاعات ليس باستطاعتها مجاراة قطاعات النفط والمقاولات والمضاربات المالية. مما شجع نشوء أزمات اقتصادية متواصلة، حفز نمو وتوسع نشاطات طفيلية: كالبطالة المقنعة في المؤسسات الحكومية، والاتجار بتأشيرات القوى العاملة الأجنبية، وشيوع المحسوبيات، والإثراء من الأراضي والعقارات التي تقوم السلطة بتمليكها لخاصتها والمقربين منها، وقبل ذلك؛ ربط حياة الناس وأرزاقهم بمركزية السلطة. هي من تقرر زيادة مستوى معيشتهم، وهي من تتحكم بقدراتهم وحراكهم الاجتماعي والسياسي والفكري والاقتصادي. ومن نافلة القول في هذا المقام تكرار أن الإنفاق الحكومي في اقتصاديات الدول الريعية يعطي انطباعا مضللا عن حقيقة الواقع؛ فهو يظهر الرخاء والازدهار في العموميات بينما تزداد على الميدان حدة الفوارق الاجتماعية والتفاوتات الطبقية، خاصة في الدخل ومستويات الغنى والفقر. فالهوة تتسع بين الغنى المفرط والفقر النسبي، ولا يمكن تحسس ذلك في ظل الإنفاق الحكومي الذي يوفر السلع الاستهلاكية المستوردة، ويرفع مناسيب الرواتب المتأتية من احتكار وإدارة المورد الوحيد للدخل. إن مسألة الفوارق في الدخل قد لا تكون بالضرورة ناجمة عن استغلال البشر، وبالتالي لن تؤدي بالضرورة إلى تنشيط حركات التغيير الاجتماعي لإحداث تغيير جذري يحسن من مستوى حياتها؛ لأنها، أي هذه الفوارق، قد تكون ناتجة من طرائق استغلال الموارد الطبيعية لا استغلال الموارد البشرية. وبإمكان الدولة الريعية أن تستخدم هذه الوسيلة بكل نجاح وكفاءة؛ إذ بمقدورها اعطاء الانطباع للجميع بحصولهم على حصص أكبر، لكن، بقرار حكومي، وهذا ما حدث بالتحديد أثناء احتجاجات الربيع العماني. الأمر الذي يمنح السلطة قدرة على البقاء واحتواء كل محاولات التغيير القادمة من القواعد الشعبية، والتي عادة، في مثل هذه الأوضاع، مسيطر عليها تماما، وقد تم تحييد قدراتها التنظيمية المستقلة منذ فترة طويلة. لذا، لن يكون هناك نقاش جاد ومتكافئ حول المستقبل طالما السلطة المركزية مستحوذة على الموارد الطبيعية، وتديرها لصالح بقائها أكثر من استثمارها في استدامة تنمية المجتمع والدولة.

 

في البدائل:

يبدو أن راهن العدالة الاجتماعية في عمان يعاني من ثقل تراكم سياسات قديمة، متشبثة بالسيطرة والتحكم، لا تريد أن تعترف بخطأها، كما أنها لا يبدو عليها قبول مغادرة المشهد بسهولة، والسماح لجيل جديد يقوم بعض الاعوجاجات الهيكيلة والبنيوية من أجل عدالة اجتماعية تمهد لتنمية حقيقية وإصلاح ناجز. إن الأمر يتطلب فهما أوسع لقيمة العدالة الاجتماعية، وعلى جميع الصعد، يدرِك فيه الجميع أهمية أن يعيش الإنسان بكرامة وعدالة مستدامة. كما ينجم على الدولة أن تتجاوز استخدام العدالة الاجتماعية كشعار سياسي تلوكه وسائل إعلامها ومنصات دعاياتها الآنية، إلى برنامج عمل تتبناه مؤسساتها، وترعاه قياداتها، ويحرسه الشعب بأجهزته الرقابية والمحاسبية اليقظة. إن البديل الاقتصادي المجرب لعلاج هذه الحالات يستوجب بالضرورة الرهان على الإنسان، الاستثمار الفعال في تعليمه وتنمية معارفه وصقل مهاراته، تمكينه من إدارة عناصر إنتاجه. تأصيل حقه في أن يكون هو مصدر جميع السلطات وهي في خدمته ورعايته. لأن سياسات الإقصاء لم تنتج يوما إلا مؤسسات سياسية واقتصادية نهابة، تحمي شبكات الثراء المتحالفة مع السلطة السياسية دون الاكتراث للإنسان ولا للمصلحة العامة للمجتمع. إن المؤسسات التي تستمد سلطتها من الشعب عليها، بعد ذلك، أن تعمل جاهدة لضمان توسيع الفرص وتكافؤها أمام الجميع. وتعمل على مكافحة الاستغلال وتنمية الاستقلال، وعلى مكافحة الإقصاء وتعزيز التمكين. كما تحرص على صياغة نظام ضريبي مرن يذلل الفجوة بين الثروة والدخل، ويؤطر هذه الجهود بأنظمة حماية اجتماعية آمنة للتعليم، والرعاية الصحية، وتأمينات ما بعد الخدمة، والالتزام بكل هذه الأنظمة وتنمية أصولها لكفالة الحياة الكريمة ولاستدامة الرخاء الإنساني.

ــــــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر لمزيد من التوسع المفاهيمي، العدالة الاجتماعية: المفهوم والسياسات بعد الثورات العربية، منتدى البدائل العربي للدراسات ومؤسسة روزا لوكسمبورغ، 2012.

[2] انظر: جون رولز، العدالة كإنصاف: إعادة صياغة، ترجمة: د.حاج اسماعيل حيدر، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009.

[3] جون رولز، نظرية في العدالة، ترجمة د.ليلى الطويل، دمشق، الهيئة العامة السورية للكتاب، 2011، ص 29-30.

[4] عزمي بشارة، مداخلة بشأن العدالة: سؤال في السياق العربي المعاصر (مجلة تبين) المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، العدد 5: صيف 2013، ص 7-26. https://goo.gl/mfUwzu

[5] إبراهيم العيسوي، العدالة الاجتماعية: من شعار مبهم إلى مفهوم مدقق، الشروق، أول أكتوبر 2012،

https://goo.gl/wLGJDM

[6] النظام الأساسي للدولة، وزارة الشؤون القانونية، عمان، https://is.gd/nh8etL

[7] التقرير، https://is.gd/LuKlyG

[8] د. حاتم الشنفري، الأوضاع الاقتصادية والمالية وأثرها في الحراك، في كتاب: الربيع العماني: قراءة في الدلالات والسياقات، بيروت، دار الفارابي، 2013، ص 29-41.

[9] حنة أرندت، أسس التوتاليتارية، ترجمة أنطوان أبو زيد، بيروت، دار الساقي، 1993، ص 17.

[10] George Monbiot، Neoliberalism- the ideology at the root of all our problems، the guardian، 15 April 2016: https://is.gd/2M4jK1

[11] مسعود أحمد، ما تعلمناه من الربيع العربي، منتدى صندوق النقد الدولي (النافذة الاقتصادية)، 19 أكتوبر 2011، https://is.gd/w5werP

[12] النشرة الإحصائية الشهرية، سبتمبر 2015، المركز الوطني للإحصاء،https://goo.gl/s9LWMK

[13] في هذا المقام حاولت بعض مؤسسات المجتمع المدني في خلق حالة من النقاش العام والتفكير العمومي المسموع لتدارك الكثير من الأخطاء التخطيطية والتنفيذية في الماضي، مثال الجمعية الاقتصادية العمانية ووثيقتها الموسومة بـ”عمان التي نريد” لكنها لم تجد آذانا مصغية من السلطة. للمزيد راجع الوثيقة: https://is.gd/nHTJaO

[14] ملامح الاقتصاد العماني 2015، المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، عمان، مارس 2016، https://goo.gl/ysYvWQ

[15] الكتاب الإحصائي السنوي أكتوبر2015، الإصدار رقم 43 المركز الوطني للإحصاء: https://is.gd/lPKxKm

[16] تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي، أكتوبر 2014، https://www.weforum.org/reports/

[17] دراسة توجهات الشباب العماني نحو العمل، المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، يناير 2016، https://is.gd/x51gfm

[18] انظر تفاصيل التراجع، https://is.gd/wxuG1q

[19] د.حاتم الشنفري، المصدر السابق.

[20] الكتاب الإحصائي السنوي، أكتوبر 2015، الإصدار رقم 43، https://is.gd/lPKxKm

[21] محمد الحارثي، لا أسس اقتصادية لاعتماد تعديل درجات القطاع العام، مجلة الخزينة، 8 يوليو 2014، https://is.gd/kl27Gs

[22]هل ستكون ” المجالس الاستشارية ” الصوت المسموع لطلبة التعليم العالي؟، صحيفة البلد الالكترونية،

http://albaladoman.com/22641

[23] كتاب الإحصاء السنوي، وزارة التعليم العالي، مارس 2009

[24] لمزيد من التفاصيل انظر: ويكليكس: هيكل الاقتصاد العماني بين قبضة الأوليجارية وبين الحكومة، مجلة الفلق الإلكترونية، العدد25، تاريخ 27مايو2012، http://www.alfalq.com/?p=3739

[25] للمزيد بشأن إشكاليات التخطيط الحضري في عمان: خليفة سليمان، الطفرة السكانية وسمات النمو الحضري في عمان، مجلة الفلق الالكترونية، 3 نوفمبر 2013. http://www.alfalq.com/?p=5972

[26] عمان: تقرير التنمية البشرية 2003، وزارة الاقتصاد الوطني، ص 75-79.

[27] انظر: الكتاب الإحصائي السنوي 2016، يوليو 2016، المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، https://is.gd/i91OqS

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart