الفوارق الطبقية والاجتماعية في اليمن
دراسة ضمن كتاب: الفجوات الاجتماعية والفوارق الطبقية في المنطقة العربية
أول ما يتبادر للذهن عند الحديث عن الفوارق الطبقية والاجتماعية في اليمن هو جدوى الحديث حول الفوارق الطبقية والاجتماعية في بلد يكاد الاجماع ينعقد فيه حول هيمنة التكوينات التقليدية وغلبة أشكال الوعي قبل الوطني وبروز الانتماءات قبل الوطنية، جهوية، قبيلة وطائفية، خصوصا مع تحول الثورة الشعبية التي تفجرت في فبراير 2011 إلى حرب (أهلية) تداخلت معها وفيها حرب إقليميه، مع أخذ التدخل السعودي شكلا حربيا عبر التحالف العشري العربي، وزيادة ظهور مشكلة الهوية في الصراع والحرب لجهة القضية الجنوبية والمطالبين بالانفصال وفك الارتباط، أو لجهة بروز الطابع الجهوي والقبلي والطائفي لتحالف صالح الحوثي.
غير أننا اذا استثنينا هذا التحليل سوف نبقى في حالة عمى عن الأسباب الحقيقة والعميقة التي كانت وراء انفجار الثورة الشعبية في 2011 والتي تجد جذورها في الحالة اليمنية سابقة بكثير على مثيلاتها من الثورات العربية، ونستطيع أن نجد مؤشراتها مع تأزم الدولة اليمنية وسقوط شرعيتها والتي تجلت أساسا في حرب صعدة منذ العام 2004 وظهور ما يعرف بالحراك الجنوبي منذ العام 2007، واذا كانت حروب صعدة بين نظام علي عبد الله صالح وحلفائه القبليين والإسلاميين من جهة وبين الحركة الحوثية –التي عرفت حينها بالشباب المؤمن ثم المكبرين وصولا للتسمية الأخيرة أنصار الله– من جهة ثانية، تعبيرا عن فشل ثورة سبتمبر 62 في بناء الدولة الوطنية، فقد كان الحراك الجنوبي تعبيرا عن فشل وحدة 22 مايو 1990 التي تحولت إلى حرب في عام 1994 انتهت بسيطرة قوات علي صالح وحلفائه على الجنوب.
مسألة أخرى تتعلق بدور الحرب التي تشهدها اليمن منذ عامين تقريبا وبعد ثلاث سنوات من اندلاع الثورة وتأثيرها الحاد على البلاد، فالحرب وما رافقها من أشكال الحصار تكاد تحطم اقتصاد اليمن بشكل شبه كلي، إضافة إلى أنها شكلت اقتصاد حرب تشكل فيه السوق السوداء والاقتصاد الموازي، القسم المهيمن عليه منتجا لطبقة جديدة من قادة المليشيات وعصابات التهريب، وإذا ما علمنا أن الحرب ترافقت مع التوقف التام عن تصدير النفط والغاز في اقتصاد ريعي يشكل فيه قطاع المحروقات النصيب الأكبر، وتشكل عائدات تصديره أكثر من 70% من الميزانية الحكومية، نستطيع أن نكون تصورا وفكرة عن الحالة التي وصل اليها اقتصاد البلاد والاحوال الاجتماعية للمواطنين الذي بات أغلبهم يعيش على شفى المجاعة كما تذهب تقارير المنظمات الدولية، فطبقا لتقرير المرصد الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا- ربيع 2016[1] التابع للبنك الدولي، أصيب النسيج الاقتصادي والاجتماعي في البلاد بالشلل بعد عام من الصراع. فقد انكمش الاقتصاد انكماشا حادا. وتشير التقارير الرسمية إلى انكماش إجمالي الناتج المحلي في عام 2015 بنسبة 28 في المائة تقريبا، وأدى الصراع المتصاعد منذ مارس 2015 إلى تعطل الأنشطة الاقتصادية وتدمير البنية التحتية على نطاق واسع. ومنذ الربع الثاني من عام 2015، توقفت صادرات النفط والغاز. كما انكمشت الواردات، باستثناء المنتجات الغذائية ومنتجات الطاقة الحيوية، وبلغ معدل التضخم السنوي حوالي 30 في المائة عام 2015 ويتوقع زيادته بصورة أكبر مع استمرار ضعف أداء المالية العامة. لقد باتت البلد على شفى مجاعة حقيقية، إذ أعلن برنامج الأغذية التابع للأمم المتحدة، أن نحو نصف الشعب اليمني يعاني من الجوع، مشيرا إلى أنه سيزيد المعونات الغذائية لهذا البلد الفقير، وأشار البرنامج إلى أن أكثر من عشرة ملايين من سكان اليمن، البالغ عددهم نحو 25 مليونا، يعانون إما من نقص شديد في الأمن الغذائي، أو أنهم يقتربون من الاحتياج إلى تلك المساعدات.
والحقيقة أننا عند الحديث عن البنية الاجتماعية والفوارق الطبقية والاقتصادية في هذا البلد الذي توحد العام 1990 نكاد نتحدث في بعض المستويات عن بنيتين على الأقل حتى بداية تسعينيات القرن الماضي، إذ أن الوحدة كانت قد قامت بين شطرين يكادا يكونا على طرفي نقيض من حيث الخيارات الاقتصادية والاجتماعية، وإن كان يجمع بينهما الفقر والتخلف الاقتصادي والاجتماعي، فبينما كان اقتصاد الشمال يعتمد السوق الحرة ويحظى برعاية ودعم المملكة السعودية وبلدان الخليج كما يعتمد على تحويلات المغتربين، كان النظام في الجنوب نظام تخطيط مركزي وكانت الملكية العامة للدولة تشمل كل قطاعات الإنتاج وكما كانت المشغل الرئيسي للسكان، ولعل أحد الأسباب المسكوت عنها لما عرف بالقضية الجنوبية تعود إلى تصفية القطاع العام في الجنوب بعد حرب 94 مما عمق من البطالة والفقر والتهميش حتى وصلت نسبة البطالة بين الشباب في عدن إلى أكثر من خمسين بالمائة قبيل الحراك الثوري الأخير.
اليمن التي طبقت سياسية التعديل الهيكلي منذ منتصف التسعينيات وقامت بتعويم العملة في نفس الوقت مع ازدياد اعتمادها على الريع الناتج من البترول ومؤخرا الغاز –قبل أن يتوقف تصديرهما بفعل الحرب– كانت قد شهدت رسوخ هيمنة برجوازية تجارية مرتبطة برأس السلطة، حيث تركزت كل المشروعات في أيدي أسر تجارية محدودة جميعها مرتبطة بهذا القدر أو ذاك بالنظام –أشارت لجنة العقوبات التابعة للأمم المتحدة إلى أن ثروة صالح تبلغ ستين مليار دولار تديرها خمس أسر تجارية يمنية!– ولعل إحدى المسائل التي تفسر حجم الانشقاق الذي أصاب الطبقة الحاكمة في اليمن تعود إلى زيادة الصراع على المشروعات العمومية والريع في بلد فقير لا يبدو أنه قادر على تلبية حاجات الاطراف المختلفة لهذه الطبقة.
ويمكن دراسة الفروق الاجتماعية والطبقية في اليمن على عدة مستويات تعكس الطابع الانقسامي للبلد.
- الفوارق بين الريف والحضر: في بلد لا يزال ثلاثة أرباع سكانه يعيشون في الريف الذي تكاد تنعدم فيه الخدمات الأساسية.
- القضية الجنوبية: حيث تتسم الحالة الاقتصادية والاجتماعية في الجنوب بوضعية خاصة تعود إلى طبيعة الاقتصاد الاشتراكي الذي كان سائدا هناك قبل الوحدة.
- تأثير التعديلات الهيكلية وبرامج الإصلاح الاقتصادي على زيادة الفوارق الاجتماعية والطبقية.
الريف، الحضر والقبيلة
لا تزال الأغلبية العظمى من السكان في الجمهورية اليمنية تعيش في الريف، ورغم التحولات الهامة في نسبة سكان المناطق الحضرية مقارنة بسكان المناطق الريفية، بين تعداد السكان الذي تم إجرائه في العام 1994 والتعداد العام للسكان والمساكن الأخير والذي تم إجرائه في العام 2004، وتمثلت هذه التحولات في نمو سكان الحضر، حيث تشير نتائج تعداد 1994 أن نسبة سكان الحضر كانت (23.5%) بينما ارتفعت هذه النسبة لتصل عام 2004 إلى حوالي (28.64%)[2]، ومع الأخذ في الاعتبار الزيادة المحققة في سكان المدن منذ هذا الإحصاء، يظل سكان المدن هم الأقل وبما لا يزيد عن ثلث السكان، وإذا كان الدارج إعطاء أهمية كبيرة لتحليل واقع الانتشار القبلي في اليمن، في الوقت الذي لا يزيد انتشار القبائل عن 20% في المائة من السكان، ولا يوجد من يمكن عدهم ضمن البدو الرحل إلا بنسبة تصل إلى 3% بالمائة، إلا أن الأهمية الكبيرة التي تأخذها القبلية في اليمن لا تعود إلى حجم القبيلة وانتشارها السكاني بقدر ما تعود إلى طبيعة النظام السياسي الذي تشكل في اليمن الشمالي منذ ثورة 26 سبتمبر العام 1962 واليمن بشكل عام منذ قيام دولة الوحدة في مايو 1990 وخصوصا منذ انتصار علي عبد الله صالح وحلفائه القبليين والعسكريين في حرب صيف العام 1994.
وعلى عكس الانطباعات السائدة فإن الطابع الغالب على المناطق القبلية هو الطابع الفلاحي حيث يعمل أغلب السكان القبليين في الزراعة إضافة إلى اشتغال نسبة معتبرة منهم في قطاعات الدولة خصوصا العسكرية والأمنية. ويفسر هذا جانبا من قدرة تحالف نظام علي عبد الله صالح والحركة الحوثية في تعبئة قطاعات من الأوساط القبلية في المناطق الشمالية والتي كانت قد انخرطت بنسبة كبيرة في ثورة فبراير 2011، فالاقتراحات الرئيسية التي خرج بها مؤتمر الحوار الوطني إضافة إلى تركيزها على مشكلة الجنوب واتجاهها إلى إقرار الفيدرالية وتأمين نصف الوظائف الرئيسية للجنوبيين اللذين يشكلون 20% من السكان وإقرار إصلاح الجيش وجهاز الأمن، تلك الاقتراحات والإصلاحات قدمها نظام علي عبدالله صالح والحركة الحوثية باعتبارها استهداف لمصدر الدخل الرئيسي للمنطقة القبلية التي يعمل أبناؤها في قطاعات الجيش والأمن لضعف التعليم وأسباب تاريخية مختلفة، ولقد ساعد وجود توجهات مناطقية وشعارات جهوية وطائفية في بعض القطاعات المحسوبة على ثورة فبراير في تنفير سكان المنطقة القبلية الشمالية وتسهيل مهمة صالح والحوثي في الحشد والتعبئة على أساس جهوي وقبلي وطائفي. لقد كان النظام السياسي الذي تشكل منذ الثورة اليمنية في الستينيات وخصوصا منذ انقلاب حركة 5 نوفمبر 1967 نظاما قائما على ثلاثة أضلاع هي القبيلة والجيش والرئاسة فيما لعب الإسلاميون خصوصا الإخوان المسلمون دور الجهاز الأيديولوجي للنظام. لم يظهر التباين بينهم وبين الإسلام السياسي الزيدي والذي تعتبر الحركة الحوثية اليوم أحد تعبيراته إلا بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وخصوصا منذ العام 1986 والذي شهد أولى محاولاته لتنظيم العلاقة مع الجمهورية الإسلامية والتمايز عن بقية الحركة الإسلامية التي كانت حتى ذلك الوقت ترى في نظام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب والحزب الاشتراكي اليمني وتكوينات اليسار المختلفة في الشمال خصوصا الجبهة الوطنية الديمقراطية العدو الرئيسي.
يتركز الاستثمار وتتركز التنمية حتى بمستوياتها الضعيفة في خمس مدن كبرى وخصوصا العاصمة صنعاء، وفيها تتركز أغلب الخدمات بما فيها الخدمات الصحية والتعليمية، بل وحتى أغلب الصناعات التحويلية الناشئة وأغلب الصناعات غير البترولية رغم بعدها عن السواحل وارتفاعها في جبال الهضبة الوسطى وندرة الموارد المائية فيها، ولقد أثار ذلك استغراب أكثر من خبير دولي وعربي، وعن حق استدبار التنمية للبحار وتولية وجهها الجبال!، يعكس ذلك الطابع المركزي للتنمية ونشوء طبقة برجوازية تتكون أساسا من كبار موظفي الدولة عسكريين ومدنيين ومشايخ القبائل الذين أصبحوا من سكان المدن خصوصا العاصمة واللذين تحولوا منذ الثمانينيات إلى تجار ومتمولين ومستثمرين إضافة إلى طبقة البرجوازية التجارية التي تعززت مكانتها من خلال إقامة علاقة عضوية بالسلطة ورأسها علي عبد الله صالح وعائلته، فبالإضافة إلى أشكال الشراكة المختلفة التي كونتها مع رجال السلطة والنظام والعسكر ومشايخ القبائل، كانت السنوات الأخيرة قد شهدت العديد من الزيجات المختلطة بين البرجوازية التجارية وبين طبقة السلطة خصوصا عائلة الرئيس علي عبد الله صالح وعائلة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر رئيس البرلمان ورئيس حزب التجمع اليمني للإصلاح –تجمع للإخوان المسلمين ومشايخ القبائل والتجار– وإذا كان ذلك يعكس طبيعة الثقافة الاجتماعية السائدة والتي تميل لتعزيز علاقات المصلحة وحمايتها بعلاقات النسب والمصاهرة والدم، فإنها أيضا تعكس المستوى المتقدم الذي بلغته طبيعة زواج المصلحة بين الطبقة السياسية وبين الطبقة التجارية، ولعل هذا يفسر جانبا من أسباب انحياز طبقة البرجوازية التجارية شبه المطلق لنظام علي عبد الله صالح والحركة الحوثية في الصراع الذي تشهده اليمن حاليا، إضافة طبعا إلى أنها ترى في جزء من المعسكر الأخر، وخصوصا الجنرال علي محسن الأحمر نائب الرئيس اليمني وأولاد الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر ومجموعة تجار تجمع الإصلاح، منافسين أكيدين وفي انتصارهم قضاء على كل فرصها في ظل نظام اقتصادي مافيوي تحدد فيه مكانة كل عائلة تجارية أساسا بمدى قربها ووثاقة صلتها برئيس النظام وبالنظام بشكل عام.
تتركز الخدمات والوظائف في خمس مدن (صنعاء، عدن، تعز، الحديدة والمكلا) وحتى مع ضعف الخدمات والبنية التحتية، لا يمكن مقارنتها بالأرياف حيث تعيش الأغلبية الساحقة من المواطنين اليمنيين، وحيث تكاد تنعدم الخدمات الطبية، وتنخفض مستويات الخدمات التعليمية. فرغم توسع المدارس وانتشارها فإنها تعاني من ضعف الإمكانيات ونقص الكادر التعليمي، ولعل طبيعة التشتت السكاني الذي تعاني منه اليمن يجعل إمكانية تقديم هذه الخدمات أكثر صعوبة، فاليمنيون يتوزعون على أكثر من 130 ألف تجمع سكاني، وإلى ذلك فإن خدمات الكهرباء العمومية وتوصيلات المياه الصحية ضعيفة جدا في الأرياف، وتكاد كثير من المناطق تعتمد على مشروعات أهلية في ظل غياب الخدمات العامة، فقد شهدت الخدمات العامة -خصوصا الكهرباء- انهيار شبه كامل في ظل وبسبب الحرب التي تفجرت في البلاد منذ مارس العام الماضي، وكانت قد شهدت تدهورا منذ انطلاق أحداث الثورة في 11 نوفمبر 2011.
وعلى الرغم من أن النظام السياسي الذي تشكل منذ 5 فبراير 1967 والذي يعد بمعنى ما استمرارا لنظام الإمامة الذي قامت عليه ثورة 26 سبتمبر 1962، لجهة تركز السلطة في نفس المنطقة الجغرافية –المنطقة الشمالية القبلية– والذي بدى وكأنه نظام الإمامة نفسه لكن من دون إمام، مع استبدال الزعامة الروحية التي كانت محصورة في بضع أسر هاشمية تداولت على السلطة لفترات مختلفة ومتقطعة بالسلطة الاجتماعية للمشايخ، ورغم انتماء أغلب رجال السلطة والجيش والمشايخ إلى هذه المنطقة بالذات، ظلت المنطقة الشمالية القبلية هي الأفقر في الجمهورية اليمنية، حيث البطالة والتهميش والفقر، وحتى بالنسبة لأولئك الذين وظفوا في الأجهزة العسكرية والأمنية وأجهزة الدولة، ويمكن اعتبار أبناء هذه المناطق إضافة إلى سكان تهامة هم الأفقر والأكثر تهميشا حتى على مستوى الأرياف اليمنية.
وطبعا من الممكن تسجيل ملاحظات عن الفوارق الاجتماعية التي يعرفها الريف اليمني من حيث الطبيعة المناخية وطبيعة المنتجات الزراعية، فوضع المناطق التي تزرع القات عموما أفضل على الرغم من استهلاكه الجائر للماء، فالقات سلعة نقدية ويمكن اعتبار زراعته وحراسته وتسويقه المشغل الأول للسكان في البلد ويساهم في إعادة توزيع الدخل داخل البلد وإعادة ضخها في الأرياف. وبالنظر لوضعية المرأة، فالريف الذي يتميز بظاهرة وجود نسبة مرتفعة من الهجرة الداخلية والخارجية والتي هي بطبيعتها ذات طبيعة ذكورية، فإلى كون النساء يشكلن مع الأطفال العدد الأكبر من سكان المناطق الريفية، فإن أغلب الأعمال المنزلية والزراعية والمهام العائلية تقع على عاتقها، وفي أغلب الأحيان يتم ذلك في غياب الرجل والذي يكون إما مهاجرا في السعودية والخليج مثل مئات الآلاف من اليمنيين أو مهاجرا لإحدى المدن عاملا أو موظفا صغيرا أو جنديا في الجيش يزور عائلته على فترات متباعدة.
شمال، جنوب: القضية الجنوبية
كان واضحا منذ البداية أن الثورة في اليمن وإن كانت تتقاسم نفس المهام مع باقي الثورات العربية والتي انطلقت من تونس لإسقاط الأنظمة الاستبدادية وخيارتها الاقتصادية الاجتماعية وتأسيس نظام جديد قائم على المواطنة والحرية وببرنامج اقتصادي واجتماعي يعبر عن مصالح الفئات الشعبية الغارقة في الفقر والبطالة والتهميش، فإنها بالإضافة إلى ذلك كان عليها حل مسألة الهوية الوطنية والتي كانت حروب صعدة منذ 2004 وخصوصا الحراك الجنوبي منذ 2007 تعبيرها الأبرز، والتي كانت تبرز أساسا فشل الدولة في تحقيق الاندماج الوطني وصعود الهويات قبل الوطنية، وكانت المشكلة الجنوبية هي الأكثر عمقا نتيجة وحدة حديثة أقيمت على عجل وارتجال وسوء تخطيط وتنفيذ، ولم يمر عليها سوى 25 عاما، والدولة الحديثة التي نشأت بين نظامين مختلفين عام 90 من القرن الماضي سرعان ما دخلت في أزمة عميقة تدهورت حتى وصلت إلى حرب شاملة بعد أقل من أربع سنوات على قيامها، انتهت بانتصار نظام علي صالح المتحدر من الشمال والإسلاميين وقوى تقليدية تمثل المشايخ وقبائل مختلفة، في بلد لا تشكل الوحدة فيه سوى استثناء، فالدولة بحدود عام 90 لم تتحقق منذ 270 سنة تقريبا.
ولعل من أبرز الأسباب التي يتم إغفال الحديث عنها عند السعي لفهم القضية الجنوبية هي الأسباب المتعلقة بالاقتصاد والسياسات الاقتصادية، فعلى الرغم من تشابه وتقارب المستوى الاقتصادي لكل من الجمهورية العربية اليمنية (الشمال) وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (الجنوب)، فإنهما يكادا يكونا نظامين مختلفين تماما على المستوى الاقتصادي، فبينما كان الشمال حتى لو توفر على قطاع عام كبير وكانت الدولة –حتى في سياق التنافس مع نظام الجنوب الاشتراكي الذي دخلت معه في صراع منذ أول أيام نشوءه– توفر الخدمات التعليمية والصحية بمستوى معين بشكل مجاني، كان الشمال قد اعتمد نظام السوق وكانت خيارته الاجتماعية والاقتصادية تتم في وفق هذا الخيار أولا وأخيرا، وشهدت البلاد بروز طبقة تجارية قوية حتى وإن كانت متداخلة مع الدولة وحتى لو بقت في موقع التابع للقوى القبلية والعسكرية، وكان بعضا من هذه البرجوازية التجارية ينحدر من العائلات التجارية التي هربت أو اضطرت لمغادرة مدينة عدن في الجنوب مع بروز السياسات الاشتراكية وموجات التأميم المتلاحقة ما يفسر بمستوى معين طبيعتها المحافظة والمعادية لنظام الحزب في عدن، وإذا كان النظام الاقتصادي في الشمال قد حافظ على الكثير من سمات نظام الإمامة الاقتصادي خصوصا لسيادة طابع إقطاعي في تملك الأراضي فلم تعرف اليمن الشمالية أي شكل من أشكال الإصلاح الزراعي إلا إنه سمح بتوسع القطاعات التجارية، لقد اتسم اقتصاد الشمال بالارتباط بالشركات الاحتكارية وبالاقتصاد السعودي ما كان يسميه محمد عبد السلام بالتبعية المزدوجة[3]، وكان لدخول اليمن الشمالي عصر النفط –الاكتشاف عام 1984 والتصدير العام 1986 وفي فترة متقاربة مع اكتشاف وتصدير النفط في الجنوب- وإن كمنتج صغير، مناسبة لزيادة رسوخ الطابع الريعي للدولة التي كانت حتى عام 1990، عام تحقيق الوحدة، تعتمد بشكل كبير على المساعدات الخليجية.
بينما كان النظام الذي تشكل في جنوب اليمن –جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية التي تحولت إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية– منذ الاستقلال عن الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر 1967 قد أخذ بنظام التخطيط الاقتصادي، وداخل الصراعات المختلفة بين التيارات المتعددة للجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل التي قادت الاستقلال ومن ثم أسست دولة الاستقلال إلى وريثها وامتدادها الحزب الاشتراكي اليمني، أخذ الطابع (الاشتراكي) واليساري للنظام يزداد رسوخا وتحولت علاقته بالكتلة الشرقية والدول الاشتراكية إلى علاقة استراتيجية في كل المستويات السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية.
صحيح أن نظام الجبهة القومية كان قد ورث عن المستعمر البريطاني نظاما إداريا أفضل مما كان متوفرا في الشمال، وصحيح أن عدن كانت تعد إذا قورنت ببقية مدن الجزيرة العربية في ذلك الوقت، مدينة عصرية، تحولت عدن في الأربعينيات والخمسينيات إلى ميناء تجاري مهم وواحد من أنشط الموانئ على مستوى العالم، لكن الحال بقى خارج مدينة عدن فيما عرف بالمحميات الشرقية والمحميات الغربية لاحقا، والتي شكلت ما عرف حينها بالجنوب العربي على حاله ولم يكن يختلف كثيرا عن الوضع في اليمن الشمالي، والأسوأ أن نظام الجبهة القومية استلم الحكم من المستعمر البريطاني على إثر هزيمة 5 حزيران 1967، والتي كانت من ضمن نتائجها إغلاق قناة السويس، ما أصاب اقتصاد المستعمرة حينها بضربة قاصمة فالاقتصاد كله تقريبا كان يدور حول الميناء، وإغلاق قناة السويس يلغي كل ميزة للميناء الذي كانت تمر به السفن من آسيا إلى أوروبا والعكس مرورا بقناة السويس.
تأسس النظام الجديد إذن بشعارات وبرامج اشتراكية لحزب هو في الأساس وريث لحركة تحرر وطني، لا وجود لنقابات عمالية في بلد فقير يغلب عليه الإنتاج الزراعي ولا تشكل فيه الطبقة العمالية سوى جزء صغير من العاملين وقوة العمل، وفي بلد يعاني من شمول الفقر والتهميش وانعدام البنية التحتية إذا استثنينا مدينة عدن، وبدأ النظام الجديد بتأميم القطاعات الرئيسة وتوسع في برنامج التأميم الذي شمل كافة القطاعات، وتمكن النظام الثوري حينها من دمج 25 سلطنة ومشيخة في دولة مركزية واحدة عاصمتها عدن، وعلى عكس النظام الذي تكون في الشمال، سعى نظام عدن إلى إزالة كل أشكال الانتماءات والحدود القبلية في الجنوب حتى أنه استبدل أسماء المحافظات ووضع بدلها أرقاما، وقام بإلغاء الألقاب وحذفها من الوثائق الشخصية، واستبعد الزعامات القبلية تماما، وكان زعماء المشيخات والسلطنات، وكذا زعماء جبهة التحرير اللذين خسروا الحرب الأهلية، قد غادروا الجنوب إلى الجمهورية العربية اليمنية وأغلبهم توجه إلى المملكة العربية السعودية وبقية إمارات الخليج.
لقد سعى نظام دولة الاستقلال في الجنوب إلى إقامة نظام اقتصادي وطني مركزي يعتمد على التخطيط والملكية العامة عبر قطاع الدولة والقطاع العام، وباتت الدولة هي المشغل الرئيسي للسكان، فشملت التأميمات كل القطاعات الصناعية والخدمية، كما تم المضي في برنامج إصلاح زراعي متشدد وباتت الكثير من الأراضي الزراعية مملوكة للدولة تديرها إما عبر جمعيات زراعية للفلاحين أو مزارع حكومية، وشملت التأميمات في أحيان كثيرة حتى محلات البيع الصغيرة وقوارب الصيد وأنشأت للصيادين جمعيات للصيد البحري وتعاونيات، ولعل قطاع الصيد البحري كان من أنجح القطاعات الحكومية إذا كان واحدا من أكبر مصادر العملة الصعبة وأكبر قطاع في الصادرات قبل ظهور النفط. أممت الدولة كل شيء تقريبا، واعتمدت إلى حد كبير على مساعدات الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشرقية، خصوصا مع الحرب الاقتصادية التي حاولت من خلالها السعودية ودول الخليج والشمال محاصرة النظام الجديد والتي كان على رأسها محاولة استقطاب الخريجين من اليمن الجنوبي وتقديم الاغراءات المتعلقة بالشغل وسهولة الحصول على الإقامة والجنسية، وهو الأمر الطبيعي فقد كان النظام في الجنوب متورطا بدعم كل حركات التحرر والمعارضة الناشئة وقتها في كل الجزيرة العربية، وفي نفس الوقت جعلت كل الخدمات الأساسية مجانية ومتاحة لجميع المواطنين وعلى رأسها التعليم والصحة، كما ضمنت الدولة الوظيفة لجميع الموطنين بلا استثناء وكان جميع الخريجين يحصلون على وظائفهم بعد انتظار لوقت محدود وبسيط، وبالمقابل كان النظام يضع عقبات وتعقيدات في سفر المواطنين للخارج وهو البلد المحدود ديمغرافيا وفي محاولة للتصدي لإغراءات البلدان الخليجية الساعية لإفراغ البلد من كفاءاته المحدودة.
ورغم كل الصعوبات الذي عاني منها الاقتصاد في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وحتى بعد أحداث 13 يناير 1986 الدموية والتي رغم خلفياتها السياسية أخذت بعد الاصطفاف الجهوي والقبلي الذي حاول النظام تجاوزه، ورغم تراجع الدعم من الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الاشتراكية قبل سقوط المعسكر الاشتراكي ظلت الدولة في الجنوب محافظة على طبيعة الاقتصاد وملتزمة بكافة الخدمات الاجتماعية، وحتى مشروع برنامج الإصلاح الشامل الذي أقره الحزب بعد أحداث 13 يناير 1986 لم يغير من طبيعة الخيارات الاقتصادية والاجتماعية، وطبعا ساهمت أحداث 13 يناير بتوجيه ضربة كبيرة لمشروع الحزب الاشتراكي اليمني وشرعيته في الجنوب، رغم عدم وجود معارضة جدية للنظام وعدم تمتع معارضيه بأي حيثية شعبية إذا استثنيا قسم الحزب المهزوم في الأحداث والذي فر كوادره والالاف من عناصره مع رئيس الدولة وأمين عام الحزب علي ناصر محمد إلى الشمال.
تلك كانت الظروف التي دخل فيها الشطر الجنوبي من اليمن إلى دولة الوحدة في 22 مايو 1990، في وحدة تم التخطيط والإعداد لها بشكل سيئ، وتم اختزال المرحلة الانتقالية، والقول بأن كلا النظامين كان يهرب إلى الأمام بالدخول في مشروع للوحدة لا تنقصه الوجاهة أبدا، ونظرا لطبيعة النظام السائد في الجنوب والذي كانت فيه الدولة هي المشغل الرئيسي للسكان فلقد كان عدد الموظفين الذين يتشكل منهم جهاز الخدمة المدنية في جمهورية اليمن الديمقراطية يساوي ضعف عدد الموظفين في الشمال، رغم أن عدد سكان الجنوب كان يقل قليلا عن 20% من سكان الجمهورية اليمنية التي ستتشكل من اندماج الدولتين الشطرتين السابقتين، وإضافة إلى ذلك كان النظام في الجنوب قد قام بتأميم كل وسائل الإنتاج وحولها إلى ملكية عامة وفي المقابل كانت الدولة مسؤولة عن الرعاية الاجتماعية لعموم الموطنين وتوفير فرص الشغل.
وبعد شهر عسل قصير تدهورت الأمور بين شركاء الدولة الجديدة، وبدأت سلسلة من الاغتيالات وأعمال العنف الموجهة نحو قيادات الحزب خصوصا الوسطى في المناطق الشمالية وأدت إلى تصفية 156 قياديا حزبيا، وعشرات المحاولات الفاشلة التي استهدف بعضها كبار مسؤولي الحزب من أمثال د. ياسين سعيد نعمان رئيس مجلس النواب والذي قصفت غرفة نومة بصاروخ، وحيدر العطاس رئيس الوزراء، غير أنهما نجيا من تلك المحاولات، ورغم فوز الحزب الاشتراكي اليمني بالأغلبية الساحقة من دوائر الانتخابات في الجنوب إذا فاز بـ54 دائرة انتخابية من أصل عدد الدوائر الـ56 في أول انتخابات أجريت بعد الوحدة في أبريل 1993 إلا أنه حل بالمركز الثالث على المستوى الوطني العام رغم الأصوات الكثيرة التي تحصل عليها في الشمال بسبب تشتتها في الدوائر الكثيرة، تاركا المركز الثاني للحزب الإسلامي التجمع اليمني للإصلاح حليف الرئيس علي عبد الله صالح وحزبه المؤتمر الشعبي العام.
سرع الوضع الجديد وتحول الحزب الاشتراكي إلى الشريك الصغير في التحالف الحاكم، الذي أصبح ثلاثيا بعد دخول التجمع اليمني للإصلاح واستمرار عمليات الاغتيال لقيادته وكوادره، سرع بالتدهور الشامل نحو الحرب التي اندلعت بعد عام من الانتخابات بعد أزمة سياسية طويلة بدأت باعتكاف نائب الرئيس وأمين عام الحزب الاشتراكي اليمني علي سالم البيض الذي حمل الرئيس علي عبد الله صالح وحزبه وأجهزته والتجمع اليمني للإصلاح مسؤولية الاغتيالات وبدأ بالمطالبة بضمانات دستورية وقانونية تؤمن للجنوب وضع الشريك الكامل في دولة الوحدة، هكذا انفجرت الأزمة التي نتج عنها حوارا ووثيقة للحل عرفت بوثيقة العهد والاتفاق وقع عليها في العاصمة الأردنية عمان وكانت تتضمن مستوى معين من الفيدرالية الإدارية والسياسية وصلاحيات أكثر لمنصب نائب الرئيس، وما لبثت الحرب أن اندلعت أياما قلائل بعد توقيع الوثيقة، وكان من الواضح الاستعداد الطويل للحرب من جانب علي عبد الله صالح وحلفائه الإسلاميين والقبائل، بينما كان الحزب الاشتراكي والجنوب أبعد ما يكون عن الجهازية للحرب خصوصا أن آثار حرب أحداث 13 يناير 1986 التي انقسم فيها الجيش والحزب كانت لا تزال مؤثرة إذا استخدم علي عبد الله صالح جناح علي ناصر محمد لتسهيل اجتياح الجنوب الذي تم خلال شهرين وانتهى بسقوط مدينة عدن ومغادرة علي سالم البيض إلى سلطنة عمان.
وكما ذكرنا أن الحزب الاشتراكي اليمني كان قد قام بتأميم كل أدوات الإنتاج في الجنوب لمصلحة قطاع عام وملكية عامة، وخلال ثلاثة أعوام وانتهاء الحرب بهزيمة الحزب ومغادرته للسلطة، وجد ملايين الناس، الذين كانوا تقريبا يفتقدون الملكية الخاصة ويعتمدون في حياتهم بدرجة كبيرة على الدولة وعلى القطاع العام، أنفسهم أمام وضع جديد عليهم، وإضافة إلى غياب من يمثلهم سياسيا سيباشر النظام الجديد سلسلة من التسريحات العامة لعشرات الالاف من الجنود والضابط المحسوبين على جيش اليمن الديمقراطية سابقا، وكذا إحالة عشرات الآلاف من موظفي جهاز الخدمة المدنية إما للتقاعد المبكر أو لما سمي بالفائض، كما واصل برنامج خصخصة المؤسسات العامة والمصانع والشركات ومزارع الدولة، وإذا كانت الكثير من المباني العامة والأراضي الزراعية قد وجدت طريقها لتصبح ضمن ملكيات رجال نظام علي عبد الله صالح وحلفائه الإسلاميين في التجمع اليمني للإصلاح بمبالغ رمزية أو حتى بدون مقابل، وإذا كان المنتفعون من خصخصة المؤسسات والمصانع والشركات العامة من البرجوازية التجارية أو رجال السلطة والجيش ومشايخ القبائل ينتمون في الواقع للشمال والجنوب، فإنهم في أعين مجتمع كامل رأى ملكيته العامة التي بناها في عشرات السنين تصبح في ملكية أفراد وعائلات معدودة، كانوا ينتمون لعلي عبد الله صالح والشمال في نفس الوقت.
لم يكن غريبا إذن أن تكون أولى الخطوات التي ستنتج ما سيعرف لاحقا بالحراك الجنوبي والذي بدأ بمطالب حقوقية وانتهت أغلب أطرافه للمطالبة بفك الارتباط والانفصال واستعادة الدولة –مرة تحت اسم الجنوب العربي أو تحت اسم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية– فيما عرف باسم جمعيات العسكريين المتقاعدين قسريا والذين نفذوا عدد من الاحتجاجات والاعتصامات في عدن والضالع، فلقد كانوا من أكثر الشرائح تضررا من إجراءات نظام علي صالح وشركائه.
تأثير التعديلات الهيكلية وبرامج الإصلاح الاقتصادي على زيادة الفوارق الاجتماعية والطبقية
كان الاقتصاد اليمني قد تلقى الصدمة الأولى في عام تحقيق الوحدة 1990 بسبب قيام حرب الخليج الثانية إثر اجتياح القوات العراقية للكويت في 3 أغسطس 1990 بعد أقل من ثلاثة أشهر من إعلان قيام الوحدة في 22 مايو من نفس العام، كان نظام الجمهورية العربية اليمنية يعتمد على مساعدات بلدان الخليج خصوصا السعودية والتي تلقت بشيء من عدم الارتياح خبر إعلان الوحدة مع الجنوب ونظامه الذي كان على رأس قائمة أعدائها لثلاثين سنة خلت، كما كان دعم المعسكر الاشتراكي لنظام الجنوب بصدد التلاشي، وكانت بلدان المعسكر الشرقي قد بدأت في التساقط فعلا في ذلك الوقت، ومثلما كان من المنتظر أن تتقلص المساعدات الخليجية إثر قيام الوحدة كان من المنتظر أيضا أن يؤدي دمج إمكانيات الدولتين/الشطرتين السابقتين والزيادة في إنتاج النفط الذي بدأ إنتاجه في كلتا الشطرتين في الفترة السابقة على قيام الوحدة، كان من المنتظر أن يؤدي ذلك لزيادة قدرة الحكومة الجديدة -والتي تقاسمها النظامان السابقان بالتساوي- على التعامل مع أزمة الاقتصاد في البلد الفقير بطابع اقتصاده الريعي والمعتمد على المساعدات، لكن موقف اليمن الذي ظهر داعما للنظام العراقي في غزو الكويت خصوصا مع رفض اليمن في جامعة الدول العربية وخصوصا في مجلس الأمن الحرب على العراق، أدى إلى شبه قطيعة بين الحكومة اليمنية الجديدة في الدولة الناشئة وبين حكومات بلدان الخليج، ولم يتوقف الأمر عند إيقاف المساعدات والقروض بشكل كامل، فالضرر الأكبر تمثل في طرد المملكة السعودية بشكل خاص لمئات الالاف من العمال والمغتربين كانت تحويلاتهم تشكل المصدر الأول للعملة الصعبة في البلاد وكانوا يعيلون مئات الآلاف من الأسر.
وبعد أزمة سياسية طويلة شهدت البلاد خلالها أول موجة احتجاج شعبيي ضد الفساد وغلاء الأسعار وتدهور الحياة المعيشة في التاسع والعاشر من ديسمبر 1992 وعلى إثر رفع الحكومة للدعم عن المشتقات النفطية، وكانت أشد تلك الاحتجاجات قد شهدتها إلى جانب العاصمة صنعاء مدينة تعز التي سقط فيها العشرات من القتلى والجراحي، وتميز قمع السلطات لتلك الاحتجاجات بالعنف الشديد وتم إنزال الجيش إضافة إلى قوات شبه عسكرية –الأمن المركزي- يديرها شقيق الرئيس اليمني محمد عبد الله صالح، اعتبرت السلطات أن الحزب الاشتراكي اليمني مسؤولا عن تلك الأحداث، والأرجح أن قيادات وسطى في الحزب خصوصا في تعز والحديدة كانت مساهمة فعلا في تنظيم تلك الاحتجاجات.
كلفت حرب صيف 1994 الاقتصاد اليمني خسائر تجاوزت 11 مليار دولار، وتدهور الاقتصاد اليمني والمالية العامة للدولة حتى وصل عجز الموازنة العامة إلى مستويات قياسية (16 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) مع تزايد معدلات التضخم لتصل إلى 70 في المائة، وفي تلك الظروف بالذات بدأت الحكومة -التي أصبحت ثنائية ومكونة من حزبي المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح بعد إخراج الشريك الجنوبي الحزب الاشتراكي اليمني بالحرب- بتطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري بالتعاون مع صندوق النقد والبنك الدوليين، وخلال وقت قصير كانت الحكومة قد قامت بالتحرير الكلي للعملة الوطنية (الريال) بحيث أصبح خاضعا لآليات السوق في تحديد قيمته، فأصبح الدولار الأمريكي الواحد يساوي مائة ريال يمني بعد أن كان يساوي خمسين ريال تقريبا، رفعت الحكومة الدعم بشكل كلي عن الأرز والحليب والسكر، وزادت أسعار المشتقات النفطية بنسب تتراوح بين 60% للغاز و100% للبنزين في المرحلة الأولى عام 1996[4]، والحقت ذلك بزيادة أخرى في أسعار المشتقات النفطة بلغت 200% عام 1998، ولقد شهدت البلاد على إثر تلك الزيادات احتجاجات شعبية واسعة خصوصا في العاصمة وتميزت بمشاركة واسعة في المناطق القبلية الزراعية بسبب الزيادة الكبيرة في أسعار الكيروسين الذي يستخدمه المزارعون في استخراج المياه، حيث خفضت الحكومة الزيادة السعرية بنسبة 50% بالنسبة للكيروسين إثر قطع القبائل للعديد من الطرقات الرئيسية، وبالمقابل استعملت عنف شديد للسيطرة على الاحتجاجات في العاصمة والمدن الأخرى ما نتج عنه عشرات من القتلى والجرحى.
واستمرت كل الحكومات المتتالية في تطبيق نفس السياسات –برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري- بالتعاون مع المؤسسات المالية الدولية، لتشهد اليمن وعلى أثر جرعة سعرية -كما جرت العادة في اليمن في تسمية زيادة الأسعار- رفعت بموجبها أسعار المشتقات النفطية بنسب وصلت حتى 120%، لتشهد اليمن انتفاضة شعبية واسعة شملت أغلب أرجاء البلاد وتركزت خصوصا في العاصمة صنعاء يومي 20 و21 يوليو 2005، اضطر معها النظام لإنزال الجيش الذي استخدم الدروع والدبابات وطائرات الهليكوبتر لاستعادة السيطرة على وسط العاصمة التي احتلتها الجماهير الغاضبة.
وكانت الحكومة قد باشرت بزيادات مختلفة في أسعار السلع الضرورية والمشتقات النفطية وبنسب أقل خلال كل تلك المراحل، ولطالما شهدت البلاد تحركات احتجاجية بأحجام مختلفة في مواجهة تلك الزيادات السعرية وعلى تدهور المعيشة والغلاء والبطالة والتهميش، ولعل من سخريات القدر أن الزيادات الكبيرة في أسعار مشتقات البترول والتي قامت بها حكومة باسندوة -التي تشكلت بموجب المبادرة الخليجية إثر قيام الثورة الشعبية في 11 فبراير 2011 بالمناصفة بين نظام علي عبد الله صالح وبين المعارضة الممثلة في اللقاء المشترك- بلغت الزيادات بموجب قرارتها حوالي 80% من أسعار المشتقات النفطية في 30 يوليو 2014، أقول من سخريات القدر أن هذه الزيادات في الأسعار التي لم ترافقها أية احتجاجات شعبية كبيرة -باستثناء مظاهرات للحوثيين وأنصار صالح- كانت هي الحجة التي على أساسها قام الحوثيون وأنصار الرئيس السابق علي عبد الله صالح بالتجمع وحصار العاصمة صنعاء منذ أغسطس وحتى إسقاطها عسكريا بعد مقاومة محدودة -لانحياز قوات الجيش التي بقت تحت سيطرة علي عبد الله صالح للحوثيين- في 21 سبتمبر 2014.
كان التبرير الحكومي المعتاد لتلك السياسات الاقتصادية والسير في برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري بالتعاون مع صندوق النقد والبنك الدوليين، هو زيادة معدلات النمو والتخفيض من مستويات الدين العام وتقليص نسبة العجز في الموازنة العامة، وجرد حساب لنتائج تلك السياسات يدل بوضوح على حجم الإخفاق التي وصلت إليه، ومدى الضرر الفادح الذي لحق بالأحوال المعيشية لغالبية الموطنين، ونقص نسب النمو وتدهور المالية العامة للدولة من خلال زيادة الدين العام وزيادة نسبة عجز الموازنة العامة، وزيادة الفقر والبطالة والتهميش، فإذا نظرنا مثلا إلى نسبة من هم تحت خط الفقر إلى إجمالي السكان، ففي حين بلغت في 2012 بعد الثورة وفقا لصندوق النقد العربي 38%، فقد كانت وفقا للمصدر ذاته 34.8% في عام 2005-2006 قبل الثورة بأعوام، مع ملاحظة أن تلك النسبة كانت 19.1% فقط في عام 1992 أي قبل الشروع في تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري، ووصلت في عام 1998 إلى 40.1%. وبالإضافة لذلك فقد شهد اليمن تدهورا في توزيع الدخل في العقد الأخير قبل الثورة، حيث ارتفعت قيمة معامل جيني من 33.4% في عام 1998، إلى 37.7% في عام 2005- 2006 (صندوق النقد العربي)؛ وفي العام 2005، كان نصيب الـ10% الأكثر ثراء في اليمن 30% من إجمالي الدخل في البلاد، بينما كان نصيب الـ10% الأكثر فقرا 3.3% فقط من إجمالي الدخل، وذلك وفقا لبيانات البنك الدولي، وهو ما يعني المزيد من التشوهات وعدم المساواة في توزيع الدخل ما بين مواطني البلد، وعندما اندلعت الثورة في فبراير 2011، كانت البطالة قد بلغت في العام نفسه 18%، ونسبة الأمية 34.7% (صندوق النقد العربي)، في حين كان متوسط نسبتها في الشرق الأوسط 20% في عام 2010.[5]
لا شك أن ظروف الحرب التي تشهدها اليمن منذ ما يقرب العامين وبعد خمس سنوات من انطلاق الثورة الشعبية في فبراير 2011 قد جعلت الأوضاع الاجتماعية والمعيشية أكثر صعوبة بكثير، فبالإضافة إلى سقوط عشرات الآلاف من القتلى والجرحى واضطرار ما يقرب من ثلاثة مليون مواطن مغادرة منازلهم في مناطق القتال، وإلى انهيار وتدمير البنية التحتية التي كانت ضعيفة حتى قبل الحرب، نشأ مع الحرب وبسببها اقتصاد حرب تلعب فيه مافيات السوق السوداء وزعماء الحرب والميليشيات المسلحة الدور الرئيسي، وبينما تجمع هذه العصابات الثروات الخيالية نتيجة الاتجار بالنفط والمواد الضرورية في السوق السوداء -يذهب جزء من عائدات هذه السوق بالتأكيد لتمويل حرب المليشيات التي تديره- أصبح أغلب المواطنين والسكان يعيشون تحت خط الفقر وعلى وشك المجاعة، وإذا كانت الحرب هي آخر وسائل الطبقة المسيطرة للإبقاء على هيمنتها على البلاد ومقدراتها الاقتصادية، فإن نتائج هذه الحرب بالذات سترسم ولعقود طويلة قادمة لا شكل النظام السياسي للبلاد بل وطبيعة سياساته الاقتصادية والاجتماعية.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] المرصد الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، اليمن: الآفاق الاقتصادية، ربيع 2016، البنك الدولي، https://is.gd/O3zvY1
[2] الجهاز المركزي للإحصاء، كتاب الاحصاء السنوي للعام 2004، قسم السكان، https://is.gd/c2hXfH
[3] الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي، شركة الأمل، القاهرة، ص 149.
[4] محمد علي المقبلي، سياسات برامج الإصلاحات الاقتصادية وآثارها على القطاع الزراعي في الدول النامية، جامعة الجزائر، ط1، 2012م، ص 240 وما بعدها
[5] حسن سليمان، اقتصاد اليمن.. واقع مأزوم وأفق سياسي، آراء حول الخليج، العدد 97، https://is.gd/gvhIwa