الفوارق الاجتماعية في المنطقة العربية: المفهوم والإشكاليات

الفوارق الاجتماعية في المنطقة العربية: المفهوم والإشكاليات

دراسة ضمن كتاب: الفجوات الاجتماعية والفوارق الطبقية في المنطقة العربية

مقدمة

في البلدان العربية، كانت للفوارق الاقتصادية والاجتماعية في مختلف تجلياتها دور رئيسي في اندلاع الثورات العربية إلى جانب القهر والاستبداد والفساد. فخرجت الجماهير الشعبية في مختلف البلدان العربية للمطالبة بالعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة. كما غذت هذه الفوارق الاقتصادية والاجتماعية الحروب الأهلية والطائفية التي لا زالت تنخر جسد عدد من الدول العربية. لذلك لا مخرج من المأزق الذي توجد فيه المجتمعات العربية منذ اندلاع ثورات شعوبها دون معالجة جذرية للجذور الاقتصادية والاجتماعية لهذه الأزمة المركبة.

إن الهدف من هذه الورقة يكمن أساسا في الوقوف على حجم الفوارق الاجتماعية بالمنطقة العربية وتحديد أسبابها الهيكلية وتداعيتها على الاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمن في البلاد العربية.

سنستعرض مناقشة موجزة لمفهوم الفوارق الاقتصادية والاجتماعية قبل التطرق للخصائص الأساسية لهذه الفوارق مع إضاءة على الجوانب المرتبطة بالنوع الاجتماعي والفوارق المجالية والجهوية. أما الفقرة الثالثة، فنخصصها لتحليل الأسباب الرئيسية للفجوة في الاجتماعية وكذلك لتداعياتها على الدول العربية.

1 مفهوم الفوارق الاقتصادية والاجتماعية.

1.1 تعريف الفوارق الاجتماعية

إذا كانت الفوارق الاجتماعية تعرف بشكل مبسط على إنها الاختلاف بين الناس في أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، فإن معالجة هذا الموضوع تقتضي أولا وقبل كل شيء الإجابة عن سؤالين تمهيديين اثنين: الفوارق بين من ومن، والتفاوت في ماذا؟ بالنسبة للسؤال الأول، تقاس الفوارق الاجتماعية على أساس الفرد أو الأسرة داجل مجتمع ما أو منطقة أو قارة أو حتى على الصعيد العالمي. وتركز أغلب الدراسات حول توزيع الدخل أو الاستهلاك أو الموارد على المستوى الفردي أو الأسري (لاحتساب “معامل جيني” على سبيل المثال). من جهة أخرى، هناك مقاربة تركز على دراسة الفوارق المتعلقة بمجموعة أفراد يتقاسمون نفس الخصائص كالسن (الأطفال، الشيوخ) أو النوع الاجتماعي (العلاقات الاجتماعية بين الجنسين) أو العرق والدين والطائفة، الخ.

أما بالنسبة لسؤال في ماذا، فعادة ما يتم التمييز بين الفوارق في الدخل النقدي (أو التفاوت في القيمة النقدية للاستهلاك) والفوارق في القدرات (أي أبعاد التنمية البشرية من تعليم وصحة وسكن، الخ). وبارتباط مع هذه النقطة تطرح مسألة التفاوت في الفرص مقابل التفاوت في العوائد والنتائج، إذ تعتبر بعض الأدبيات أن ضمان فرص متساوية لكل فرد من أفراد المجتمع في كل مجالات الحياة مثل التعليم والرعاية الصحية وتأمينات العمالة كفيل بإرساء العدالة الاجتماعية في المجتمع. غير أنه كما ينبه إلى ذلك مثلا إبراهيم العيسوي “تكافؤ الفرص شرط ضروري للعدالة الاجتماعية، لكنه ليس شرطا كافيا. إذ إنه مع ما قد يقع من تباين شديد في العوائد أو النتائج، يلزم إضافة شرط أخر، ألا وهو السعي المستمر إلى تصحيح الفروق الشاسعة في توزيع الدخل والثروة والنفوذ.[1]

هناك عدة نظريات ومقاربات لفهم وتفسير طبيعة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية التي تطبع النظام الرأسمالي نستعرض باقتضاب بعضا منها فيما يلي.[2]

1.2 المقاربة الماركسية

يعتبر كارل ماركس أن السبب الجوهري للفوارق الاقتصادية في النظام الرأسمالي يكمن في الاستغلال والقهر وعلاقات القوة التي تطبع العلاقات الاجتماعية للإنتاج، حيث تستحوذ الطبقة الرأسمالية المالكة لوسائل الإنتاج على فائض القيمة الذي ينتجه العمال. وهذه الخاصية تضفي على العلاقات بين طبقتي البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج وطبقة البروليتاريا التي لا تملك إلا قوة عملها طابعا تناحريا. وقد ميزت ظاهرة الصراع الطبقي هذه مختلف أنماط الإنتاج التاريخية (النمط الأسيوي، النمط العبودي والنمط الإقطاعي). أما الطبقات الوسيطة، فمحكوم عليها بالاضمحلال والبلترة بالنظر إلى عدم قدرتها على منافسة كبار الرأسماليين. مما جعل كارل ماركس يستنتج ما سماه بقانون الالتقاط أو الاستقطاب الاجتماعي الذي يتمثل في وجود مواجهة مباشرة بين ممثلي رأس المال من جهة، وجماهير البروليتاريا التي تتعرض للتفقير المستمر.

من جهة أخرى، تشير النظرية الماركسية إلى أن وجود وديمومة الطبقات الاجتماعية مرتبط كذلك بقدرة البرجوازية على الهيمنة وضمان استمرار الوضع الاجتماعي القائم. ولتحقيق هذا الهدف، تقوم هذه الأخيرة بإحكام سيطرتها الاقتصادية عبر تركيز راس المال والتراكم بين أيدي فئة قليلة من الرأسماليين. بالإضافة إلى هذا، تسعى البورجوازية إلى بسط نفوذها على المؤسسات (الدولة، الجيش، الاعلام) وعلى المجال الأيديولوجي في المجتمع (الدين، الاخلاق، الفلسفة، المذاهب الاقتصادية) وتعبئته لتبرير الاستغلال وضمان خضوع البروليتاريا.

1.3 نظرية ماكس فيبر

يعتبر ماكس فيبر أن الفوارق الاجتماعية والتراتب الهرمي الذي ينجم عنها هما نتيجة ليس فقط لعوامل اقتصادية كما في النظرية الماركسية، بل كذلك لاعتبارات وأسباب غير اقتصادية. هكذا يتم التراتب الاجتماعي حسب ثلاثة معايير: الطبقة وهي عامل يعكس درجة النفوذ الاقتصادي، المركز الاجتماعي أو الشرف الاجتماعي (المكانة الاجتماعية) والقوة السياسية (النفوذ والسلطة). وينبني الشرف الاجتماعي الذي يحظى به الفرد داخل المجتمع على مجموعة من الامتيازات الموضوعية كالنسب والمستوى التعليمي ونمط العيش. يضيف ماكس فيبر أن التوزيع غير المتكافئ للشرف يؤدي إلى تراتبية اجتماعية خاصة ومختلفة عن تلك التي تميز الحقل الاقتصادي، فتتكون بالتالي جماعات واعية بمصالحها المشتركة وقادرة على الدفاع عنها. وكمثال على هذه الجماعات يبرز ماكس فيبر دور الأحزاب بمفهومها الواسع (الأحزاب السياسية، المجموعات المهنية وكذلك مجموعات الضغط المختلفة) كتنظيمات يتكتل داخلها الأفراد من أجل التأثير أو السيطرة على الدولة ومراكز القرار.

1.4 نظرية بيير بورديو

ينطلق بورديو في تحليله للتراتب الاجتماعي من نظريتي كارل ماركس وماكس فيبر على حد سواء. كما يعتبر أن السبب الرئيسي للعلاقات الاجتماعية المختلة وغير المتكافئة داخل المجتمع انما يعود إلى الرساميل التي يتوفر عليها الفاعلون الاجتماعيون. ذلك أنه، إضافة إلى الرأسمال المادي الذي ترتكز عليه النظرية الماركسية، يضيف بورديو مفهومي الرأسمال الثقافي والرأسمال الاجتماعي. ويعرف الأول على أنه مجموع المعارف والكفايات والمهارات من مختلف الأصناف النظرية والعلمية في إطار ثقافة معينة، واستثماره في حقل اجتماعي معين، يجلب لمالكه قيمة مضافة مادية أو رمزية أو هما معا. أما الثاني، فإنه مجموع الثروات الفعلية أو المفترضة التي يتوفر عليها فرد ما أو جماعة معينة بسبب امتلاكه لشبكة مستمرة من العلاقات، ومن المعارف والاعترافات المتبادلة الممأسسة تقريبا، أي مجموعة الرساميل والسلطات التي تخول لشبكة ما إمكانية تداولها. يؤدي هذا التحليل للفضاء الاجتماعي ببورديو إلى فرز ثلاث طبقات اجتماعية: الطبقة المسيطرة وتضم الصناعيين وكبار التجار وأصحاب المهن الحرة إضافة إلى المهندسين والأساتذة الجامعيين وكبار الموظفين. ثم طبقة صغار البرجوازيين: صغار التجار، المستخدمين في التجارة، الموظفين الوسطيين، التقنيين، المعلمين والحرفيين. وأخيرا، الطبقة الشعبية المكونة من المزارعين والعمال المأجورين والعمال المتخصصين والعمال المهرة وغير المهرة. والملاحظ أن بورديو يعتبر بأن التوفر على الرأسمال الرمزي والثقافي أكثر أهمية من تراكم الرأسمال المادي أو الاقتصادي، ذلك أنه يوجد في قلب الصراعات بين الفئات الاجتماعية من أجل فرض رؤيتها وتصوراتها للعالم داخل المجتمع.

الخصائص الأساسية للفوارق الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية.[3]

تتعدد مجالات الفوارق الاقتصادية والاجتماعية وتتنوع مظاهر اللا مساواة لتطال مختلف جوانب الحياة مما يجعل من الصعب الإلمام بكل تجلياتها في هذه الورقة محدودة الحجم. لذا سنركز مناقشتنا على المجالات التالية: الدخل والثروة، الفقر والفقر والمدقع، التنمية البشرية (التعليم والصحة)، اللا مساواة الجندرية علما بأن ظاهرتي البطالة وهشاشة العمل تحتاجان إلى ورقة أخرى. سنعتمد في عرضنا على مجموعة من المؤشرات الدالة حسب ما هو معروض في الملحق الإحصائي.

2.1 الفوارق في الدخل والثروة

هناك عدة مؤشرات لقياس الفوارق في الدخل من بينها مؤشر جيني والشرائح الخمسية والتحليل الذي يستند على بيانات الحسابات الوطنية. يدل مؤشر جيني على وجود مستويات معتدلة نسبيا في المنطقة العربية ولم يتغير كثيرا خلال العقدين الأخيرين. وحسب بعض التقديرات.[4]

بلغ هذا المؤشر حوالي 34.3، مما يضع المنطقة العربية في موقع مناسب مقارنة مع مناطق أخرى كأمريكا اللاتينية (51.8) وأفريقيا جنوب الصحراء (44.7) وجنوب آسيا (32.4) وشرق آسيا والمحيط الهادئ (34.2). أما على صعيد البلدان العربية، فتبلغ الفوارق في الدخل أقصاها في جزر القمر (64.3) والمغرب (40.88) وموريتانيا (40.46). غير أن هذه المعطيات لا تعكس الحجم الحقيقي للتفاوتات الصارخة في الدخل والثروة التي يلاحظها المواطن العادي وبالتالي لا تساعد على فهم أسباب الثورات التي اندلعت في المنطقة العربية للمناداة بالعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية. وهذا راجع إلى الثغرات التي تطبع مؤشر جيني، ذلك أنه يعتمد على مسوح الدخل والإنفاق والاستهلاك المعروف عنها عدم القدرة على تغطية كل الشرائح شديدة الفقر والشرائح شديدة الغنى في البلدان العربية، مما يجعل الفوارق في توزيع الدخل المستنتجة من بيانات هذه المسوح أقل مما هي عليه في الواقع. غير أن تقديرات أخرى استطاعت أن تبرز تفاقم التفاوتات في الدخل بالمنطقة العربية. هكذا لاحظت الاسكوا أن متوسط نصيب الفرد الثري من الإنفاق في عام 2011 بلغ في مصر 16 مرة نصيب الفرد الفقير وسبع مرات نصيب الفرد من الطبقة المتوسطة.[5] من جهة أخرى، يتوقع أن تشهد مسارات النمو الاقتصادي حتى عام 2030 مزيدا من اللا مساواة في الدخل وتقلصا في حجم الطبقة الوسطى.

ويتأكد هذا المنحى عند مقارنة نمو الدخل الفردي مع نمو الاستهلاك الأسري، ذلك أن الأول سجل زيادة سنوية بمعدل 2 في المائة خلال سنوات التسعينيات من القرن الماضي والعشرية الأولى من هذا القرن مقابل 1.3 بالمائة فقط بالنسبة للثاني، مما يعني أن النمو الاقتصادي لم ينعكس إيجابا على دخل واستهلاك أغلبية الاسرة في المنطقة العربية.[6]

وقد قام توماس بكيتي وفكوندو الفريدو بمحاولة تجاوز عيوب مؤشر جيني عبر التركيز على تقدير نصيب أغنى 10 في المئة في الدخل على مستوى المنطقة العربية كلها حيث استنتجا أن هذا النصيب بلغ 55 في المئة، متجاوزا ما هو الحال عليه في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وجنوب أفريقيا حيث قدر هذا النصيب على التوالي بـ48 بالمئة و36 بالمائة و55 بالمائة. كما أن هذه النسبة بقيت مستقرة خلال الفترة 1990-2012 مما يدل على أن المنطقة العربية اتسمت دائما بفوارق شاسعة في الدخل.

2.2 الفقر والفقر متعدد الأبعاد

بناء على الأرقام الواردة في الجدول 4 يتبين أن الفقر الشديد وفق معيار الخط الدولي للفقر 1.25 دولار أمريكي ظاهرة محدودة في المنطقة العربية باستثناء الدول العربية “الأقل نموا” حيث بلغت النسب مستويات مقلقة في جزر القمر (46.11%) وموريتانيا (23.43%) والسودان (19.8%) وجيبوتي (18.83%) واليمن (9.78%). غير أن التقرير العربي للتنمية المستدامة المشار إليه سابقا نبه إلى ارتفاع معدلات الفقر خلال السنوات الأخيرة حيث سجلت نسب الفقر الشديد زيادة بأكثر من الثلث خلال العقديين الماضيين لتصل إلى 7.4 في المائة سنة 2012[7]. وقد تركزت هذه الزيادة أساسا في الدول الأقل نموا مع ارتفاع طفيف في بلدان المشرق العربي.

من جهة أخرى، ارتفعت نسب الفقر الشديد عند قياسه بمستويات العيش المقبولة محليا اذ انتقلت هذه النسب من 22.7% سنة 1990 إلى 23.4% سنة 2012 بالنسبة للمنطقة العربية كلها مع ارتفاعها من 40% إلى 42.6% في الدول الأقل نموا ومن 20.3% إلى 23.4% بالنسبة لبلدان المشرق. بالمقابل، تراجعت هذه النسب من 18.4% إلى 10.5% بالمغرب العربي. وجدير بالإشارة إلى أن الصراعات وانعدام الامن والاستقرار السياسي ساهموا في تفاقم مظاهر الفقر الشديد في بلدان عربية كسوريا ومصر واليمن.

غير أن هذه المعدلات والنسب تخفي فوارق كبيرة بين الريف والحضر[8].على سبيل المثال لا الحصر، بلغ معدل الفقر في المناطق الريفية 59.4% في موريتانيا (20.8% بالمناطق الحضرية) و57.6% بالسودان (26.5% بالمناطق الحضرية) و15.3% في مصر (32.3% بالمناطق الحضرية).

غير أن الفقر لا يرتبط فقط بالدخل كما يروج لذلك البنك الدولي بل هو ظاهرة متعددة الأبعاد. فمؤشر البنك الدولي لا يأخذ بعين الاعتبار مدى توفر السلع العامة والخاصة للاستفادة من الدخل، “فتوافر المال لا يعني بالضرورة أن الناس لديهم إمكانية الحصول على السلع العامة والخاصة التي يحتاجون اليها. ويمكن أن يكون الشخص فوق خط الفقر لكنه يعيش في منطقة ريفية أو في حي فقير من العشوائيات في الحضر بحيث يصبح من الصعب عليه جدا إرسال الأطفال إلى المدرسة أو يعاني هؤلاء من اشكال الحرمان المهمة لنمو الطفل مثل الحصول على المياه الصالحة للشرب والوصول إلى مرافق صحية آمنة”.[9]

إن مصطلح “الفقر المتعدد الأبعاد” هو عبارة عن منهجية جديدة لقياس دليل الفقر. وهو مستخدم حديثا لمقارنة الحرمان في دول العالم. ويقوم درجة حرمان أفراد المجتمع من حيث ثلاثة أبعاد أساسية: التعليم (سنوات الدراسة، التحاق الأطفال بالمدارس) والصحة (معدل وفيات الأطفال، التغذية) وظروف العيش (الكهرباء، مياه الشرب، الصرف الصحي، أرضية السكن، وقود الطبخ، الأصول). يقدر عدد الذين يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد في المنطقة العربية بـ41.225 مليون شخص (المصدر السابق). يتضح من الشكل 4 أن الفقر متعدد الأبعاد يعرف انتشارا واسعا في الصومال وجزر القمر وموريتانيا واليمن كما يطال 13.9 بالمائة من سكان المغرب وهي نفس النسبة بجيبوتي، مع العلم أن عدد سكان هذا الأخير صغير جدا (0.8 مليون نسمة) مقارنة بعدد سكان المغرب (31.2 مليون نسمة). جدير بالذكر أن المنطقة العربية تعرف أعلى نسبة للفقر الريفي مقارنة مع اليف الحضري (3.5) من بين جميع المناطق التنمية الأخرى، باستثناء ملحوظ في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. ما على المستوى الوطني، يعاني المغرب من أعلى مستوى من التفاوتات المجالية حيث نسبة الفقر متعدد الأبعاد بالريف مقارنة مع الحضر تبلغ 7.86 تليها تونس (4.17) ومصر (3.5) وجيبوتي (3.46).[10]

2.3 الفوارق في مجال التنمية البشرية

يشير الجدول 1 حول دليل التنمية البشرية وعناصره إلى وجود فوارق كبيرة بين الدول العربية حيث تحتل دول الخليج المراتب الأولى فيما تتذيل البلدان الأقل نموا (جيبوتي، السودان، اليمن، جزر القمر، موريتانيا) القائمة. وتعود ريادة بلدان الخليج أساسا إلى الفارق الشاسع في مستوى معدل دخل الفرد المرتبط بوفرة الموارد الطبيعية وعدد السكان. غير أن المقلق على هذا المستوى هو التراجع المحسوس في دليل التنمية البشرية جراء الصراعات والحروب الدائرة في منطقة المشرق العربي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقدت سوريا 25.2 في المائة من قيمة دليل التنمية البشرية بين سنتي 2011 و2014، وهذا يعني أن ما يعادل 35 سنة من التنمية البشرية قد ذهبت سدى جراء سنتين من الحرب الأهلية والدمار.[11]

وفيما يخص التعليم، هناك تفاوت كبير على مستوى متوسط سنوات الدراسة حيث يبلغ هذا المكون 9.07 بقطر مقابل 3.84 فقط بجيبوتي و2.6 باليمن. كما أن المغرب يعرف تأخرا محسوسا في هذا المجال حيث لا يتعدى متوسط سنوات الدراسة 4.36 وهو أقل من مستواه بجزر القمر (4.60) رغم الفارق في المستوى الاقتصادي بين البلدين. كما يسجل فارقا كبيرا في العدد المتوقع لسنوات الدراسة إذ لا يتعدى 6.39 سنة بجيبوتي و7 سنوات تقريبا بالسودان مقابل 16.27 سنة بالعربية السعودية و14.74 سنة بالكويت.

وفي المجال الصحي، تسجل نفس التفاوتات داخل المنطقة العربية حيث لا يتجاوز العمر المتوقع عند الولادة 62 سنة بجيبوتي و63.5 سنة بالسودان و63.1 سنة بموريتانيا مقابل 79.3 سنة بلبنان، 78.2 سنة بقطر، و77 سنة بالإمارات العربية المتحدة، غير أن الأدلة التي تم عرضها حتى الآن تعتمد على متوسط كل عنصر من دليل التنمية البشرية وبالتالي لا تأخذ بعين الاعتبار حدة الفوارق داخل كل بلد على حدة. والحال أنه من المفيد معرفة البلدان التي تعاني أكثر من غيرها فيما يخص تمتع مواطنيها بالحقوق الاجتماعية الأساسية. ولسد هذه الثغرة يتم اعتماد الدليل المعدل بعامل اللا مساواة بين السكان في الأبعاد الثلاث للتنمية البشرية (التعليم والصحة والدخل). ويعتبر الفرق بين قيمة دليل التنمية البشرية المعتاد الأصلي والدليل المعدل بعامل عدم المساواة بين السكان مقياسا للخسارة في التنمية البشرية المترتبة عن

اللا مساواة. وقد بلغت هذه الخسارة أكثر من الربع بالمنطقة العربية (11 دولة فقط) وهي ضعف الخسارة المسجلة في منطقة أوروبا ووسط آسيا ومن أعلى النسب داخل البلدان النامية باستثناء منطقتي جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء. وداخل المنطقة العربية تفاوتت الخسارة بين أعلى نسبة في جزر القمر (46.68) وأدناها في فلسطين (14.86).

2.4 اللا مساواة حسب النوع الاجتماعي

تصنف المنطقة العربية في مراتب متدنية فيما يخص المساواة بين الجنسين، وذلك لاعتبارات ثقافية واجتماعية عديدة. كما هو مبين في الجدول 2، يسجل دليل الفوارق بين الجنسين مستوى قياسيا مقارنة مع مناطق نامية أخرى باستثناء أفريقيا جنوب الصحراء. وتطال الفوارق بين الذكور والإناث مختلف مناحي الحياة كما هو مبين في الجدول 3، غير أننا سنركز على التفاوتات في المجال الاجتماعي، خاصة الصحة والتعليم والتشغيل.

  • اللا مساواة الجندرية في المجال الصحي:

يلاحظ وجود فوارق كبيرة بين الدول العربية فيما يخص نسبة وفيات الأمهات (عدد وفيات الأمهات لكل 100.000 ولادة حية) بين أعلى نسبة في جيبوتي (360) وجزر القمر (350) وموريتانيا (320) وأدناها في قطر (6) والإمارات العربية المتحدة (8) وعمان (11) والكويت (14). ويأخذ معدل الولادات في سن المراهقة (عدد الولادات لكل 1.000 امرأة من الفئة العمرية (19-15 سنة) نفس المنحى حيث يبلغ هذا المعدل مستويات قياسية في الدول الأقل نموا كالسودان (83.96) وموريتانيا (73.30) وجزر القمر (51.21) مقابل مستويات منخفضة جدا في ليبيا (2.52) وتونس (4.60) وقطر (9.52). والملاحظ أن المعدل مرتفع كذلك بالنسبة لبلدان تصنف في خانة “التنمية البشرية المتوسطة” كالعراق (68.66) ومصر (42.96) وسوريا (41.60) والمغرب (35.81).

  • اللا مساواة الجندرية في التعليم:

يتم قياس الفوارق بين الجنسين من خلال السكان الحاصلين على جزء من التعليم على الأقل (بالنسبة المئوية من الفئة العمرية 25 سنة فما فوق). والملاحظ أن هناك تفاوتات كبيرة بين الدول العربية على هذا المستوى كذلك حيث تعاني بلدان كموريتانيا وجزر القمر والسودان من نقص كبير في حصول الإناث على التعليم الثانوي مقارنة مع الرجال (النسبة المئوية بلغت على التوالي 20.88 -8.27 و8.56 -26.67 و12.1 -18.24). بالمقابل تبلغ هذه النسبة مستويات متقدمة في الإمارات العربية المتحدة (73.11 -61.24) وقطر (66.67 -59.03) والبحرين (56.7 -51.41). كما أن هناك فوارق كبيرة على هذا المستوى في بلدان ذات “تنمية بشرية متوسطة” كالعراق ((27.5-0.22 ومصر (43.86 -60.61) وتونس (32.78 -46.06) وسوريا (29.48 -40.46) والمغرب (20.68 -30.22).

  • اللا مساواة الجندرية في العمل:

تعتبر مشاركة المرأة في العمل بالمنطقة العربية أدني بكثير من المتوسط العالمي والأضعف على الإطلاق مقارنة مع باقي المناطق النامية (جدول 3). وقد بلغت نسبة تشغيل النساء أدنى مستوياتها بسوريا (13.5 بالمائة مقابل 72.69 بالمائة بالنسبة للرجال) والعراق (14.89 -69.80) والجزائر (15.19 -72.19) والأردن (15.60 -66.59). ويشير التقرير العربي حول التنمية المستدامة إلى أن أعدادا كبيرة من النساء العاملات يشتغلن في أنماط عمل غير مستقر. وتنحو نسبة النساء إلى الرجال في أنماط العمل غير المستقر إلى التصاعد حيث بلغت سنة 2010 تقريبا 177 امرأة لكل 100 رجل متجاوزة بذلك جميع المناطق النامية.[12]

3 أسباب وتداعيات الفوارق الاجتماعية بالمنطقة العربية.

لا شك أن هناك عدة عوامل تساهم في تفسير حجم وحدة الفوارق الاجتماعية التي قمنا بتشخيصها في الفقرة السابقة من بينها ما هو ثقافي واجتماعي أو طائفي وعرقي وديني، إضافة إلى الموارد الطبيعية وتعداد السكان وكذلك النزاعات الإقليمية والصراعات التي تنهك بلدان المشرق العربي على الخصوص. غير أن جانبا مهما من العوامل التي فاقمت التفاوتات الاجتماعية والطبقية بالمنطقة العربية على الخصوص، وفي مختلف بقاع المعمور بشكل عام، وأدت إلى تنامي الاحتجاجات الشعبية واندلاع الثورات العربية يرتبط أساسا بالسياسات النيوليبرالية التي تم اعتمادها خلال الحقبة الأخيرة من طرف العديد من الحكومات العربية. كما تستمد هذه الفوارق جذورها من زواج المال والسلطة وتفشي الفساد والمحسوبية. من جهة أخرى، تعتبر التكلفة الاقتصادية والاجتماعية لانتشار الفوارق الاجتماعية مرتفعة بالنظر إلى أثارها على افاق التنمية وكذلك على الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

3.1 تأثير السياسات النيوليبرالية على الفوارق الاجتماعية

أدى انخراط الدول العربية في العولمة النيوليبرالية إلى اعتماد سياسات اقتصادية واجتماعية ذات عواقب وخيمة على الظروف المعيشية لأغلب فئات المجتمع. كما ساهمت هذه السياسات في تركيز الثروة بين ايدي فئة قليلة وهيمنة رأسمالية المحاسيب على الاقتصاد، مستفيدة من تداخل المال والسلطة.

  • تأثير سلبي للسياسات النيوليبرالية على ظروف عيش أغلب فئات المجتمع

لقد باشرت العديد من الدول العربية تنفيذ سياسات نيو ليبرالية مرتكزة على ثلاثية “لبرلة الاقتصاد –الخصخصة -التقشف على صعيد الموازنة العامة” بإيعاز من المؤسسات المالية الدولية منذ ثمانينيات القرن الماضي. ورغم اندلاع الثورات العربية سنة 2011، لجأت دول عربية مختلفة لنهج سياسات تقشفية صارمة على غرار ما كان معمولا به خلال مرحلة التكييف الهيكلي.[13] هكذا يلاحظ أن الإجراءات الأكثر شيوعا في هذه الدول تتمثل في التقليص من الدعم المقدم للمواد الأساسية (طبق في تسع دول من أصل عشر التي شملها المسح) وتخفيض أو تجميد كتلة الأجور في القطاع العام (طبق في سبع دول من أصل عشر) وكذلك الزيادة في الضرائب على الاستهلاك (طبق في سبع دول من أصل عشر). كما شمل “اصلاح” أنظمة التقاعد وإحداث شبكات الأمان الاجتماعي خمس دول من أصل عشر.

إن اثار هذه الحزمة من الإجراءات التقشفية تبدو وخيمة على الفوارق الاجتماعية بين الدول العربية وداخل كل واحدة منها. هكذا يؤثر تجميد أو تقليص كتلة الأجور في الوظيفة العمومية على مستوى التنمية البشرية في العديد من البلدان العربية التي تشكو من نقص كبير في الطاقات البشرية المتوفرة من مدرسين وأطباء وممرضين وعاملين في الحقل الاجتماعي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يحتاج بلد كالمغرب إلى توظيف سبعة آلاف طبيب وتسعة آلاف ممرض لسد المخصصات في القطاع الصحي. وستزداد الفوارق الاجتماعية حدة في ظل قرار الحكومة المغربية بخصخصة قطاعي الصحة والتعليم.

من جهة أخرى، يؤدي تجميد الأجور وعدم تعديلها لتتماشى ومعدل التضخم إلى الإضرار بالقدرة الشرائية للعاملين في القطاع العام، خاصة في القطاعات الاجتماعية الحيوية، مما يزيد من ظاهرة الغياب عن العمل وتنامي العمل في القطاع غير الرسمي وتضرر جودة الخدمات العمومية، خاصة في الأحياء الشعبية في المدن والقرى، كما أن تراجع القدرة الشرائية للموظفين يوسع الفوارق في مستوى العيش بين الفئات والطبقات الاجتماعية.

أما فيما يخص تطبيق مرونة الشغل عبر إجراءات مثل تسهيل عمليات التسريح الفردي والجماعي للعمال وتخفيض تعويضات المغادرة وتشجيع العمل بعقود محددة الأمد، فمن غير المؤكد أنها ستحسن من تنافسية الوحدات الإنتاجية التي ترتبط بعوامل أخرى أكثر تأثيرا كمستوى الإنتاجية وكفاءة التدبير والقدرة على الابتكار. بالمقابل، تؤدي هذه المرونة إلى مزيد من الهشاشة بالنسبة للعمال وتدني الأجور في ظروف تتسم بانكماش الدورة الاقتصادية.

على صعيد آخر، ينجم عن تقليص الإنفاق العمومي بغية التحكم في عجز الموازنة العامة تجميد أو تقليص المخصصات المالية للقطاعات الاجتماعية الحيوية كالتعليم والصحة والسكن وكذلك الاستثمار في البنية التحتية. وهذا يضر بمستوى التنمية البشرية وظروف العيش، خاصة بالأرياف، كما أنه يؤثر سلبا على الدورة الاقتصادية والتشغيل، مما يؤدي إلى مزيد من الهشاشة وسط العاطلين عن العمل.

إن تأثير السياسات النيوليبرالية على الفقر المتعدد الأبعاد يبدو جليا مثلا في حالة سوريا حيث ازداد الفقر المادي بين 2006 و2010 كما تفاقم التفاوت بين المناطق. ومن بين أسباب هذا الإخفاق التطبيق التدريجي لمبدأ استرداد الكلفة في الخدمات الصحية والتعليمية العامة، وتخفيض دعم الأغذية الرئيسية، والتحرير الجزئي لأسعار الطاقة، مما تسبب في زيادة العبء المالي على الأسر. هذا بالإضافة إلى السياسة المالية غير المحابية للفقراء من خلال تركيزها على الضرائب غير المباشرة وتخفيض الاستثمار العمومي وتأجيل البرامج التي تركز على زيادة كفاءة برامج الإنفاق العمومي. كما أن الاهداف الاجتماعية مثل تخفيض الأمية ووفيات وسوء تغذية الأطفال لم تتحقق.[14]

إن مساهمة السياسات التقشفية التي تطبقها العديد من الدول العربية حاليا (مصر، المغرب، تونس، سوريا على وجه الخصوص) في تفاقم اللا مساواة الاجتماعية يرجع بالأساس إلى تبني نظرة اقتصادية ضيقة تعطي الأولوية للتوازنات الاقتصادية الكلية على حساب التوازنات الاجتماعية. فالأسبقية حسب منظري النيوليبرالية يجب أن تعطى لاسترجاع ثقة المستثمر وتسديد الدين ولو على حساب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين. فقيم العدالة والتضامن والتآزر تبقى عصية على التفكير الاقتصادي الضيق الذي ترتكز عليه السياسات النيوليبرالية المروج لها من قبل المؤسسات المالية الدولية. فهذا الفكر لا يؤمن إلا بالفرد كفاعل اقتصادي يبحث على تعظيم الملذات والربح في إطار أسواق تنافسية.

3.2 رأسمالية المحاسيب وتركيز الثروة والسلطة

ترتكز السياسات النيوليبرالية على محاباة الرأسمال على حساب العمل بدعوى ضرورة تشجيع القطاع الخاص والمبادرة الحرة على الاستثمار لخلق الثروة ومناصب الشغل للعاطلين عن العمل. ولهذا الغرض، تقدم حزمة من التسهيلات والمساعدات لرأس المال المحلي والأجنبي في شكل منح للاستثمار وتمويلات تفضيلية وتخفيضات أو إعفاءات ضريبية وتقليص من التكاليف الاجتماعية، هذا إضافة إلى حرية نقل الرساميل إلى الخارج ومرونة الشغل. وقد أدت هذه التحفيزات إلى ارتفاع حصة الرأسمال من القيمة المضافة على حساب العمل على الصعيد العالمي. غير أن الاستفادة من هذه الامتيازات ومن مثيلاتها كانت مرتبطة بممارسة السلطة السياسية أو القرب منها بالمنطقة العربية على الخصوص. وهذا النوع من الرأسمالية التي تطلق عليها عبارات “رأسمالية المحاسيب” منتشرة في العديد من البلدان الرأسمالية، خاصة في بلدان الجنوب. يتسم النمط من الرأسمالية باحتكار الأسواق من طرف فئة قليلة من المحظوظين والمتنفذين. كما يغلب عليه الاعتماد المفرط على الاقتراض من القطاع المصرفي والميل للتوسع السريع في فروع النشاط الاقتصادي المجاورة سواء رأسيا أو أفقيا، بالإضافة إلى غلبة الطابع العائلي على هياكله القانونية والتنظيمية.[15] إن هذه الخصائص تساعد الاوليجاركية المحلية على الاستحواذ على جزء هام من الاقتصادات العربية وتركيز الثروة لصالحها، مما يفسر نصيبها الكبير من الدخل القومي الذي أشرنا اليه سابقا.

ومن بين الآليات التي تساعد على عمليات الاستحواذ والتركيز هاته الاستفادة التفضيلية من الصفقات العمومية والتمويل من طرف البنوك العمومية ودعم المواد الأساسية كالمحروقات وتحويل أراضي في ملك الدولة لصالحها وخصخصة شركات القطاع العام بأثمان زهيدة وفي غياب قواعد الشفافية والمنافسة. هذا بالإضافة إلى الحماية الجمركية وغير الجمركية والتسهيلات الإدارية والرخص وصياغة قانونين على المقاس لصالح شركاتها. وبديهي أن هذا الانحياز السافر من طرف الدولة لصالح الاوليجاركية يضرب قواعد التنافس ودولة القانون والمؤسسات في الصميم كما أنه يؤدي إلى تهميش المقاولات الصغرى والمتوسطة ويلحق أضرارا كبيرة بالدينامية الاقتصادية والابتكار وإحداث العمل اللائق.

3.3 الفساد كألية مساعدة على تركيز الثروة

إضافة إلى كونه سمة مرتبطة برأسمالية المحاسيب، يأخذ الفساد أشكالا متنوعة تساهم في تعميق الفوارق الاجتماعية والتفاوتات الطبقية. ويؤشر ترتيب عدد من الدول العربية في مراتب متأخرة على مستوى مؤشر الشفافية العالمي دليلا قاطعا على استشراء الفساد في المنطقة العربية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يستغل بعض الإداريين مناصبهم ونفوذهم داخل جهاز الدولة للحصول على رشاوي ومغانم مالية، مما يمكنهم من تكوين ثروات كبيرة في ظرف وجيز من الزمن. ويساهم “ريع المنصب”[16] في تركيز الثروة ويشجع اخرين على نهج نفس السلوكيات المشينة في ظل غياب ثقافة المساءلة والمحاسبة وتفشي ظاهرة الإفلات من العقاب. كما أن استشراء الفساد وسوء التدبير داخل المرفق العمومي يلحق الضرر بالفقراء ويؤثر سلبا على التنمية البشرية من حيث جودة الخدمات العمومية وكلفة المشروعات والصفقات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يشير التقرير السوري حول الفقر المتعدد الأبعاد إلى انه “بالرغم من أن الحكومة قد زادت عدد المدارس والمستشفيات وتحول هذه القطاعات على نطاق واسع للقطاع الخاص، فقد ازدادت المساهمة النسبية لهذه الأبعاد في الفقر وفق دليل الفقر التعدد الأبعاد، ولا سيما التعليم. ويمكن تفسير ذلك بأوجه الضعف المؤسساتي الذي انعكس في الإنتاجية المنخفضة، والفساد المرتفع، وغياب نظم الرصد والتقييم، وتدني جودة الخدمات العامة”.[17]

3.4 بعض تداعيات اللا مساواة الاجتماعية.

يساهم تركيز الثروة بين يدي متنفذي رأسمالية المحاسيب إلى الحاق اضرار جسيمة بالمنافسة بين الفاعلين الاقتصاديين، مما يؤدي إلى تهميش الشركات الصغيرة والمتوسطة، علما أن بعض الدراسات أثبتت أن هذه الأخيرة لها قدرة أكبر على تسريع وتيرة النمو وإحداث فرص الشغل في القطاعات التي تنشط فيها. كما أن غياب المنافسة واحتكار شركات “المحاسيب” للعديد من الأسواق والأنشطة الاقتصادية يعطل عملية الابتكار وتبني حلول تكنولوجية جديدة ترفع من إنتاجية العمل وتعزز تنافسية الشركات.[18]

من جهة أخرى، يساهم نمط عيش هؤلاء الأثرياء الجدد في تأجيج مظاهر الحرمان والاقصاء الاجتماعي من خلال الإفراط في الاستثمار الترفي (العقارات والمنتجعات والمصايف على سبيل المثال) وانتشار الثقافة الاستهلاكية (“المولات” أو مراكز التسوق والترفيه) والسكن في مجمعات مسيجة ومعزولة بواسطة أسوار وبوابات عن بقية سكان المجتمعات المحيطة بها.[19]

كما تهدد الفوارق الاجتماعية تماسك المجتمع (أي قدرة المجتمع على ضمان العيش الكريم لكل أفراده وتقليل التفاوتات والاستقطاب الاجتماعي داخله)، خاصة في غياب أنظمة للحماية الاجتماعية فعالة، مما يزرع الشعور بانعدام الأمن والاقصاء عند الفقراء وتتنامى مظاهر الانحراف والجريمة في المجتمع، مهددة الاستقرار الاجتماعي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، حسب تصريح للمندوب العام المغربي لإدارة السجون،” أكثر من 80 في المئة من السجناء يقل مستواهم الدراسي عن الصف الاعدادي، بالإضافة إلى أن أكثر من 70 في المئة إما عاطلون أو يمتهنون حرفا ومهنا بسيطة لا تكفل الاستقرار المادي والاجتماعي”.[20] بالمقابل، بينت دراسات أنجزت حول البلدان المتقدمة أن المجتمعات ذات مستوى معتبر من المساواة الاقتصادية والاجتماعية لا تعاني من مشاكل اجتماعية تستحق الذكر.[21] بالإضافة إلى هذا، ينجم عن اتساع الهوة بين الطبقات الاجتماعية تهديد مباشر للنمو الاقتصادي، وهذا راجع إلى عدم قدرة الطبقات الفقيرة والمهمشة، وكذلك الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، على الاستثمار الكافي في التربية والتعليم باعتبارهما عاملين مهمين في تحفيز العملية التنموية.[22]

كما يولد الفقر واللا مساواة في الولوج إلى الخدمات العامة الأساسية كالرعاية الصحية والتعليم مشاكل صحية ونفسية تعيش مع الفرد مدى الحياة، فيؤثر على النمو العقلي للأطفال وتفقدهم سبل عيشهم وتقوض قدراتهم على المدى الطويل.[23]

من جهة أخرى، لا يؤدي التفاوت الاجتماعي بين الجنسين إلى عرقلة النمو وتقليص أعداد الفقراء فحسب، بل إنه يؤثر سلبا على النتائج المتحصل عليها من طرف الأطفال في قطاعي التعليم والصحة.[24]

الخلاصة

تعكس الفوارق الاجتماعية حجم الاختلاف في الظروف الاقتصادية والاجتماعية بين الأفراد والأسر والجماعات في مجتمع معين. وتعاني المنطقة العربية من فوارق اجتماعية مقلقة مقارنة مع باقي مناطق العالم وفيما بين الدول العربية. وتتجلى هذه التفاوتات على مستوى تركيز الثروة الذي تجاوز ما هو مسجل في الدول الرأسمالية الغنية. كما سجل ارتفاعا في مستوى الفقر الشديد منذ سنة 1990، خاصة في البلدان أقل نموا، علما بأن الصراعات وانعدام الأمن والاستقرار السياسي ساهمت في تفاقم مظاهر الفقر الشديد في عدد من الدول العربية. كما لا تزال دول أقل نموا ودولا ذات مستوى تنمية بشرية متوسطة تعاني من الفقر المتعدد الأبعاد، علما بأن المنطقة العربية سجلت أعلى نسبة للفقر المتعدد الأبعاد بالأرياف مقارنة مع الحضر من بين جميع المناطق النائية الأخرى. أما على مستوى التنمية البشرية، فقد سجلنا وجود فوارق كبيرة بين الدول العربية في مجالي التعليم والصحة حيث البون شاسع بين الدول الأقل نموا وبعض الدول ذات مستوى متوسط من التنمية البشرية من جهة، وبلدان الخليج ولبنان من جهة أخرى. على مستوى آخر، يترتب عن الأخذ بعين الاعتبار دليل التنمية البشرية المعدل بعامل اللا مساواة بين السكان خسارة في التنمية البشرية تتجاوز ما هو مسجل في مناطق مختلف المعمور باستثناء منطقتي جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء.

أما على مستوى اللا مساواة الجندرية، فتسجل المنطقة العربية مستويات قياسية مقارنة مع مناطق نامية أخرى باستثناء أفريقيا جنوب الصحراء.

يرتبط تفاقم الفوارق الاجتماعية الذي يعد من بين العوامل الرئيسية لاندلاع الثورات العربية بالآثار السلبية للسياسات النيوليبرالية التي اعتمدتها العديد من الدول العربية، خاصة تقليص الإنفاق العام ورفع الدعم عن المواد الأساسية وخصخصة القطاعات الاجتماعية. كما ساهمت رأسمالية المحاسيب التي تميز نمط الإنتاج الرأسمالي بالمنطقة العربية في تركيز الثروة وإذكاء الشعور بالحرمان والاقصاء الاجتماعي، وذلك من خلال تركيزها على الإفراط في الاستثمار الترفي وسلوكياتها الاقتصادية الريعية. وقد ساعد انتشار الفساد والافلات من العقاب على استفحال مظاهر التفاوت الاجتماعي في العديد من البلدان العربية.

ومن تداعيات تفاقم اللا مساواة الاجتماعية احتدام الاستقطابات الاجتماعية وتهديد تماسك المجتمعات العربية، إضافة إلى تعطيل عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

 

ــــــــــــــــــــ

قائمة المراجع

  1. إبراهيم العيسوي، العدالة الاجتماعية والنماذج التنموية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2014، ص110
  2. Bonnewitz P، Classes sociales et inegalites، Breal
  3. التقرير العربي للتنمية المستدامة، العدد الأول، الاسكوا 2015.
  4. UNDP، Arab Millennium Goals Report، p 7
  5. عبد الحميد نوار، دليل الفقر المتعدد الأبعاد والسياسات، برنامج الأمم المتحدة للتنمية، 2014، ص 22.
  6. UNRWA، The Syrian crisis: socioeconomic monitoring report
  7. محمد سعيد السعدي، سياسات صندوق النقد الدولي وأثرها على الحماية الاجتماعية، شبكة المنظمات غير الحكومية العربية للتنمية، بيروت، 2014.
  8. الفقر المتعدد الأبعاد في سورية، يونيسف، يونية 2014.
  9. محمود عبد الفضيل، رأسمالية المحاسيب، دار العين للنشر، 2011.
  10. Saadi Mohammed Said.2015.’Innovation، Political Connectedness، and Competition’. Background paper for the World Development Report 2016، World Bank، Washington، DC
  11. جريدة أخبار اليوم، 8 سبتمبر 2016.
  12. Wilkinson، Pickett، K. The Spirit Level: Why More Equal societies Almost Always Do Better، Allen Lane، 2009.
  13. OECD، Trends in income inequality and is impact on economic growth، France،
  14. تقرير التنمية البشرية 2014، برنامج الأمم المتحدة للتنمية.
  15. المساواة بين الجنسين بوصفهما اقتصادا يتسم بالحنكة والبراعة، البنك الدولي، سبتمبر 2006.

ـــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] إبراهيم العيسوي، العدالة الاجتماعية والنماذج التنموية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2014، ص110.

[2] Bonnewitz P، 2015. Classes sociales et inegalites، Breal.

[3] المرجع السابق.

[4]  UNDP، 2013. Arab Millennium Goals Report، p 7

[5] التقرير العربي للتنمية المستدامة، العدد الأول، الاسكوا 2015، ص 67.

[6]  UNDP، 2013. Arab Millennium Goals Report، p 7

[7] المرجع السابق، ص 65

[8] المرجع السابق، ص 66

[9] عبد الحميد نوار، دليل الفقر المتعدد الأبعاد والسياسات، برنامج الأمم المتحدة للتنمية، 2014، ص 22.

[10] المرجع السابق، ص 16.

[11] UNRWA، 2013. The Syrian crisis: socioeconomic monitoring report.

[12] ا التقرير العربي للتنمية المستدامة، العدد الأول، الاسكوا 2015، ص 69

[13] محمد سعيد السعدي، سياسات صندوق النقد الدولي وأثرها على الحماية الاجتماعية، شبكة المنظمات غير الحكومية العربية للتنمية، بيروت، 2014.

[14] الفقر المتعدد الأبعاد في سورية، يونيسف، يونية 2014، ص 16.

[15] محمود عبد الفضيل، رأسمالية المحاسيب، دار العين للنشر، 2011.

[16] محمود عبد الفضيل، رأسمالية المحاسيب، دار العين للنشر، 2011، ص 94

[17] الفقر المتعدد الأبعاد في سورية، يونيسف، يونية 2014، ص 16

[18] Saadi Mohammed Said.2015.’Innovation، Political Connectedness، and Competition’. Background paper for the World Development Report 2016، World Bank، Washington، DC.

[19] محمود عبد الفضيل، رأسمالية المحاسيب، دار العين للنشر، 2011، ص 69

[20] جريدة أخبار اليوم، 8 سبتمبر 2016.

[21] Wilkinson، R. Pickett، K. The Spirit Level: Why More Equal societies Almost Always Do Better، Allen Lane، 2009.

[22] OECD، Trends in income inequality and is impact on economic growth، France، 2014.

[23]  تقرير التنمية البشرية 2014، برنامج الأمم المتحدة للتنمية.

[24] المساواة بين الجنسين بوصفهما اقتصادا يتسم بالحنكة والبراعة، البنك الدولي، سبتمبر 2006.

Share this post

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart