أية ديمقراطية؟ لأي مجتمع مدني؟ دور العدالة الاجتماعية في تناول النشطاء للديمقراطية في مصر
دراسة ضمن كتاب: الاقتصاد البديل في المنطقة العربية “المفهوم والقضايا”
مقدمة:
يعرض هذا المقال تناول العديد من مجموعات النشطاء والفاعلين في المجتمع المدني للتحول الديمقراطي في مصر خاصة بعد ثورة يناير 2011 من خلال مجموعة من اللقاءات التي تم عقدها والوثائق التي تم جمعها بين عامي 2009 و2015 والتي توضح وجود علاقة وثيقة بين الحقوق المدنية والسياسية من جهة والحقوق الاجتماعية والاقتصادية من جهة أخرى من وجهة نظر النشطاء. في الواقع، يرى النشطاء أنه لا يمكن الفصل بين هاتين الفئتين من الحقوق ولا يمكن تحقيق الديمقراطية بدونهما. كما يرى النشطاء أهمية تعريف الديمقراطية بشكل يحدد نوع المواجهات المستقبلية بين النظام والمعارضة ويدرس احتمالات نجاح النموذج الديمقراطي كما يقدمه أو يروج له الغرب.
المجتمع المدني والتحول الديمقراطي:
تتحدد العلاقة بين المجتمع المدني والديمقراطية بشكل عام وبين المجتمع المدني والثورات العربية على وجه الخصوص من خلال منظورين عامين: الأول أن المجتمع المدني لعب دورا أساسيا في الثورات العربية وسيكون له دور أساسي في التحول الديمقراطي والثاني أن نمو المجتمع المدني في العقد الأخير لا علاقة له بقيام الثورات العربية. وفقا لوجهة النظر الليبرالية، ينطوي المجتمع المدني بطبيعته على صفات تجعله يساهم في أو يؤيد التحول الديمقراطي بينما تقول وجهة النظر المعاكسة التي يتبناها السياسيون التقدميون إن المجتمع المدني كما يصوره الليبراليون ما هو إلا نتاج الترويج النيوليبرالي للديمقراطية هذا إن وُجد.
توضح تجربة المنظمات الداعمة للديمقراطية في مصر أن كلا المنظورين يعتمدان على تعريفات مسطحة وشديدة التبسيط للمجتمع المدني حيث يقدم المجتمع المدني في مصر تصورا للديمقراطية أكثر تعقيدا. تنطوي النظرة التقليدية للمجتمع المدني على اعتقاد سائد أنه مجال محايد يختص بالحقوق المدنية ويميز نفسه عن القطاع الخاص الهادف للربح والأحزاب السياسية والدولة كما يعمل على مناهضة ممارسات السلطات غير الديمقراطية. لكن لا ينطبق هذا التعريف على المجتمع المدني في مصر سواء من الناحية النظرية أو العملية.
من الناحية العملية، العديد من المنظمات غير الحكومية التي ينطبق عليها الصفات النظرية للمجتمع المدني ذات علاقة وثيقة بالنظام الحاكم سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. لا تشارك هذه المنظمات بالضرورة في أنشطة سياسية لكنها بالطبع تقوم بدور سياسي فهي تساعد النظام من خلال الاستحواذ على التمويلات بحيث لا تصل للمنظمات المستقلة كما تضفي شرعية على ادعاءات النظام بدعم التحول الديمقراطي. لا تقوم هذه المنظمات بالتالي بمناهضة ممارسات النظام كما يفترض أن تفعل وفقا للتعريف التقليدي. على الجانب الآخر، تقوم العديد من منظمات المجتمع المدني المستقلة بدور الأحزاب السياسية مثل تمثيل مجموعة معينة من المواطنين وبالتالي لا يتركز نشاطها على الحقوق المدنية فقط. كما أن الضغط الذي يمارسه النظام على منظمات حقوق الإنسان المستقلة والكيانات المعارضة بشكل عام بالإضافة إلى قانون الجمعيات الأهلية كلها عوامل دفعت النشطاء للتخلي عن وضع المنظمات غير الحكومية غير الهادفة للربح لصالح شكل قانوني آخر مثل شركات الخدمات القانونية مع الإبقاء على نفس الأنشطة الحقوقية التي كانت تقوم بها من قبل فأصبح التغيير شكليا فقط. يتضح هذا في حالة دار الخدمات النقابية والعمالية والمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية حيث أن كلاهما مسجلين كشركات وليس كمنظمات أهلية بينما يقومان بدور المنظمات الأهلية.
من الناحية النظرية، يتم ربط منظمات المجتمع المدني بالديمقراطية حيث تعتبر من المسببات غير المباشرة للتحول الديمقراطي لكن يعكس هذا النموذج الديمقراطي الذي يتم الترويج له في الشرق الأوسط من قبل الديمقراطيات الغربية. لكن تعريف منظمات المجتمع المدني أكثر تعقيدا من ربطها بأيديولوجية محددة تنحاز إليها بشكل مباشر. يرى أنطونيو جرامشي على سبيل المثال أن المجتمع المدني جزء لا يتجزأ من المشهد السياسي حيث أن تواجده ونشاطه مرتبط بتنازلات معينة قدمتها الدولة وبالتالي هو جزء من هيمنة الدولة. وفقا لمايكل كاماو، يؤثر مصطلح “المجتمع المدني” في حد ذاته على ديناميكيات العملية السياسية وترصد أعمال ماكاو العلاقة بين الفاعليين الخارجين ونظرائهم المحليين بحيث يتم تطبيق معايير المجتمع المدني بالخارج الى الوضع السياسي بالداخل. ولقد حدث هذا تحديدا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث تبنت منظمات المجتمع المدني معايير غربية كي تكتسب شرعية من المانحين الغربيين تستطيع من خلالها مقاومة النظام والاحتماء منه فقام النظام بتحييد فكرة “المجتمع المدني” من أجل السيطرة على و”احتلال” هذا الفضاء.
دور الحقوق الاجتماعية والاقتصادية (العدالة الاجتماعية):
العدالة الاجتماعية ليست فقط شعارا ردده المتظاهرون في مصر والوطن العربي عند قيام الثورات بل هو أيضا جزء أساسي من مفهوم المجتمع المدني للديمقراطية قبل الثورات. لقد قامت الثورات ضد نظام اقتصادي قام بتهميش فئات واسعة من المجتمع. بالإضافة إلى نسبة السكان المصريين المصنفين تحت خط الفقر (أي يقل دخلهم عن دولارين في اليوم) والتي تم تقديرها بـ40%، ازداد الأمر سوءا بسبب الإصلاحات الاقتصادية المنحازة لاقتصاد السوق والتي تم تطبيقها في الخمسة عشر عاما الماضية وتحديدا في حكومة أحمد نظيف التي استمرت من 2004 وحتى 2011 عند قيام الثورة. لهذا ليس غريبا أن يكون الفقر أحد أهم اهتمامات النشطاء لكن بالنسبة لمعظم هؤلاء النشطاء لا تقتصر المشكلات الاقتصادية والاجتماعية على الفقر بل هي سياسية في الأساس حيث تظل الحقوق السياسية مسلوبة طالما لا يتم توفير حد أدنى من الظروف المعيشية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. كما أن المطالب الاقتصادية والاجتماعية من شأنها التأثير على النظام الاقتصادي الذي يتبناه كل من النظام والحكومات الغربية مما يوضح الطبيعة السياسية لهذه المطالب حيث يتم التركيز على التزام الدولة بتوفير حد أدنى من الحياة الكريمة للمواطنين وإخلالها بواجباتها السياسية إذا لم تفعل ذلك. لقد اتفق أعضاء مؤسسات غير حكومية مختلفة على دور سياسات تحرير السوق وعلاقتها بالتجارة العالمية في إضعاف شبكات الأمان الاجتماعي والقضاء على الأنشطة النقابية. كما اتفقوا على استحالة فصل ما هو اقتصادي عما هو سياسي وبالتالي يرتبط الأول بتطور الثاني من خلال التحول الديمقراطي كما يشير أحد القادة العماليين: “حين خففت الولايات المتحدة من الضغوط التي مارستها على الدولة لتحقيق الديمقراطية حذا الاتحاد الأوروبي حذوها بدأ كلاهما الضغط في اتجاه الخصخصة دون الأخذ في الاعتبار أن بينما يندرج الغاز والماء والكهرباء تحت فئة الخدمات في الغرب هم حقوق إنسان هنا”.
عند قيام ثورات الربيع العربي وخاصة في مصر، صورت وسائل الإعلام المحلية والغربية المطالب الاقتصادية للمتظاهرين على أنها أكثر أهمية من المطالب السياسية. لكن يتضح من تصريحات النشطاء والبيانات التي أصدرتها منظمات المجتمع المدني على اختلاف انحيازها السياسي أن الاثنان لا يمكن فصلهما. من هذا المنطلق يصبح دعم الحكومات الغربية للديمقراطية في العالم العربي هو في الواقع ضار بالديمقراطية. على سبيل المثال يصاحب دعم القطاع الخاص إجراءات من شأنها الإضرار بالضمان الاجتماعي وبالحركات النقابية ويتضح هذا في انتشار العمالة الأجنبية في الزراعة وتعدد نوبات العمل في المصانع والتشريعات المقيدة للأنشطة النقابية. يرى النشطاء أن التحول الديمقراطي في العالم العربي ليس الهدف الأساسي للحكومات الغربية حيث أنها تولي الاهتمام الأكبر لمصالحها التجارية والاقتصادية حتى أن التقرير الذي أصدرته المفوضية المصرية للحقوق والحريات والذي هاجم بشدة هذه الإجراءات قد تم سحبه تحت ضغط من الحكومة المصرية.
لقد أدى هذا المزيج من سياسات الحكومة المصرية وسياسات الحكومات الغربية لتعبئة العمال وتأكيد النشطاء على أهمية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لكن لم يؤدي أي من هذا لضغط فعال للتحول الديمقراطي. يعود هذا بدرجة كبيرة لاستغلال فئات معينة لتصاعد الاحتجاجات العمالية لتغيير موازين القوى داخل الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم مما أدى تعطيل التحول الديمقراطي. كما ساهم في عدم حدوث تحول جذري تركيز الاحتجاجات العمالية على مطالب غير سياسية تدور في أساسها حول ظروف العمل وشروط التعيين وتظل الحركات العمالية غير مسيسة بشكل كبير حتى الآن.
بعد قيام الثورة وإسقاط نظام مبارك تم تهميش المطالب الاجتماعية والاقتصادية من خلال الضغط على النشطاء المعارضين سواء من قبل القوات المسلحة أو الإخوان المسلمون بل تم استهداف منظمات المجتمع المدني وإثارة الغضب الشعب ضدها عدة مرات. على سبيل المثال في ديسمبر 2011 شنت حملة شرسة ضد هذه المنظمات وتم اتهامها بالحصول على تمويل أجنبي على الرغم من أن الجيش المصري ذاته يحصل على تمويل أجنبي أكبر بكثير سواء من الولايات المتحدة أو دول الخليج وينطبق هذا على الإخوان المسلمين أيضا. في يوليو 2013 تم تعيين القائد النقابي والعمالي المعروف كمال أبو عيطة وزيرا للقوى العاملة ودعمت الحكومة، التي تم تشكيلها تحت حماية عسكرية، في ذلك الوقت تشريعا للحد الأدنى للأجور. لكن لم تكن بنود هذا التشريع قوية بما يكفي ولم تبذل أي من الحكومات -سواء مدنية أو عسكرية، إسلامية أو علمانية- الجهد المطلوب لإلغاء القوانين المقيدة للأنشطة النقابية ومنظمات المجتمع المدني أو لرفع القيود عن حق التنظيم والتظاهر.
يتضح مما سبق ومن التصريحات الصادرة من مختلف النشطاء أن لا سبيل لفصل الحقوق الاجتماعية والسياسية عن الحقوق السياسية والديمقراطية وأن الحكومات الغربية تدعم الخصخصة مما يؤثر سلبا بطبيعة الحال على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. كما أن الحكومات المصرية المتعاقبة بعد الثورة تدعم نفس الاتجاه وبالتالي تشترك مع الحكومات الغربية في إعاقة التحول الديمقراطي.