إطلالة على نموذجين اقتصاديين بديلين: التخطيط التشاركي للميزانية العامة، وخطة رودولف مايندر للتأميم التدريجي

إطلالة على نموذجين اقتصاديين بديلين: التخطيط التشاركي للميزانية العامة، وخطة رودولف مايندر للتأميم التدريجي

دراسة ضمن كتاب: الاقتصاد البديل في المنطقة العربية “المفهوم والقضايا”

المقدمة

إن الحديث عن البدائل الاقتصادية للرأسمالية لا يقتصر بالضرورة على الجانب النظري، بمعنى محاولة الإتيان بمبادئ عامة يمكن أن تُبنى على أساسها مؤسسات اقتصادية غير رأسمالية، بل يمكن البحث في واقع عدد من الممارسات الاقتصادية التاريخية والمعاصرة للوقوف على مدى تمثيلها لبديل اقتصادي للرأسمالية، بل لعل هذه المقاربة الثانية – من الممارسات العملية إلى النظرية لا العكس – هي الأقرب للتفكير المادي التاريخي، وذلك ما يسعى هذا المقال لتحقيقه عبر استعراض نموذجين اقتصاديين بديلين، وللنموذجين جوانب عدة مثيرة أهمها تقديم مثال للتخطيط الاقتصادي عبر إعداد الميزانية العامة بطريقة ديمقراطية تشاركية، وكيفية تحقيق انتقال السيطرة على وسائل الإنتاج من الملكية الخاصة إلى العامة تدريجيا وفق مسار واضح عبر نظام مبتكر للضريبة، ورغم أن النموذجين المستعرضين غير عربيين إلا أنهما يمكن أن يقدما دروسا وإلهاما للمهتمين بأطروحات الاقتصاد البديل في المنطقة.

وتجب الإشارة هنا إلى أن هذا المقال يستند في جزء كبير منه إلى ما نُشر ضمن مشروع “الطوباويات الحقيقية Real Utopias” البحثي الذي يهدف لاستكشاف بدائل عملية عن الرأسمالية، والقائم عليه أستاذ علم الاجتماع الماركسي إيريك أولين رايت من جامعة ويسكونسن ماديسون الأمريكية، والذي يعتبر من أهم أستاذة علم الاجتماع المعاصرين في الولايات المتحدة.

النموذج الأول: التخطيط التشاركي للميزانية العامة في البرازيل

في العام 1988 انتُخب ممثل حزب العمال أُليفيو دوترا محافظا لمدينة بورتو أليجري البرازيلية، إلا أن الحزب لم يحصل على أغلبية في مجلس المدينة، مما يعني أن يد المحافظ ستكون مكبلة في تطبيق برنامجه إن استند إلى آلية التصويت التقليدية بين النواب ممثلي الأحزاب في مجلس المدينة، وهو ما أعطى المحافظ حافزا إضافيا لتطبيق أحد الأهداف الطموحة لحزبه، ألا وهو تعميق الديمقراطية في الإدارة العامة عبر توسيع المشاركة الشعبية المباشرة في تحديد أولويات الإنفاق العام في المدينة، وهنا وُلد التخطيط التشاركي للميزانية.

على الأرض يتخذ التخطيط التشاركي للميزانية العامة الشكل الآتي: تبدأ العملية بتقييم ميزانية السنة السابقة والتباحث في أولوليات الإنفاق للسنة القادمة، لكن ذلك لا يتم بين نواب الأحزاب وخبرائهم الفنيين في الاجتماعات المغلقة، بل يتم عبر الدعوة لاجتماعات عامة مفتوحة يتم فيها اختيار ممثلين شعبيين لبلورة الأوليات، وتُعقد اجتماعات مباشرة مع سكان المناطق في المدينة ومؤسسات المجتمع المدني مثل نوادي الشباب وروابط الأحياء، وتتم مناقشة أولولية مشروعات مثل إنشاء وصيانة المرافق العامة وتوزيعها وأوضاع الخدمات العامة كالتعليم والصحة، ويتم نقل نتائج هذه اللقاءات المصغرة إلى اجتماع عام على مستوى المدينة لتنسيق الأولوليات وتحديد بنود الميزانية، وهنا يمكن أن تتم دعوة الخبراء لإبداء الرأي في الجوانب الفنية، ثم تُعرض الميزانية على المحافظ للتصديق عليها أو ردها لإعادة النظر، وعندما تتم الموافقة عليها تحال لمجلس المدينة حيث ممثلو الأحزاب للموافقة الرسمية.

من مميزات هذا النموذج في إعداد الميزانية العامة المشاركة المباشرة للسكان في التخطيط الاقتصادي لشؤون مدينتهم مما يعزز الديمقراطية، كما يمثل هذا النموذج مكسبا شعبيا وتغييرا ديمقراطيا يمس هيكل الاقتصاد وطريقة إدارته وليس مجرد إجراء أو سياسة يمكن النكوص عنها بسهولة بمجرد وصول حزب يميني للسلطة، إضافة إلى تعامل النموذج مع الميزانية العامة كشأن ديمقراطي بالدرجة الأولى الأولولية فيه للرأي الشعبي، بينما يكون الرأي الفني مساندا لا محتكِرا للنقاش، كما يعمل النموذج على تحجيم الفساد الذي عادة ما يستفحل في المؤسسات الكبيرة والمتشعبة مثل البلديات، وذلك عبر تعريضها لجرعة كبيرة من الشفافية والديمقراطية، مما يساهم في إعادة ثقة الطبقة العاملة والفئات المهمشة في جدوى العمل العام والمؤسسات الديمقراطية.

وقد يبدو التخطيط التشاركي للميزانية العامة معقدا وصعبا، لكنه حقق في الواقع نجاحا جيدا ولا يزال في مدينة يزيد عدد سكانها عن 1. 5 مليون، وتصل ميزانيتها البدية لنحو 200 مليون دولار أمريكي، حيث يشارك نحو 50 ألفا من السكان في التخطيط بدرجات مختلفة، كما أنه ساهم في دعم حكم حزب العمال في البرازيل، والذي حكم منذ العام 2003 حتى نهاية الشهر الماضي، وقد تبنت مئات المناطق والمدن من مختلف الأحجام والدول تنويعات من هذا النموذج.

النموذج الثاني: مشروع رودولف مايندر للتأميم التدريجي في السويد

تبلورت فكرة هذا المشروع في سبعينات القرن العشرين في ذهن الاقتصادي الاشتراكي الديمقراطي رودلف مايندر، وهو أحد أهم من ساهموا في تشكيل دولة الرعاية الاجتماعية في السويد، وتقوم فكرة المشروع على ألا تدفع الشركات الرأسمالية الكبرى في السويد ضرائبها السنوية نقدا، بل على عبر إصدار أسهم جديدة في الشركة دافعة الضرائب نفسها، على ألا تُطرح هذه الأسهم الجديدة للاكتتاب أو الاستثمار، بل تذهب لصندوق عمالي يُدار بطريقة ديمقراطية، وتساهم في إدارته النقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني.

على مدى السنوات وعبر هذا النظام المبتكر للضرائب ستتحول ملكية هذه الشركات الرأسمالية الكبرى تدريجيا إلى ملكية عامة للعمال، مع الانتباه إلى أن نظام الضرائب هذا يتميز أيضا بعدم تعرضه لربح الشركة، فالضريبة وإن حُددت على أساس الربحية فإنها لا تُستقطع من الربح، بل عبر إعادة توزيع حصة الملكية الخاصة من الشركة لصالح ملكية العمال، مما يعني أن الأموال التي كانت في الوضع العادي ستدفع كضريبة ستتوفر الآن لمزيد من الاستثمار في تنمية الشركة أو حتى مجرد توزيعها نقدا للملاك، والذين يشملون طبعا العمال بشكل متزايد.

للتوضيح يمكن أن نفترض بشكل تبسيطي شركة رأسمالية كبيرة برأسمال ثابت يساوي 100 مليون دولار أمريكي، وكل رأس المال مملوك ملكية خاصة، وافترضنا معدل صافي ربح سنوي جيد وثابت يساوي 10%، وافترضنا معدل ضريبة وفق المشروع المبتكر أعلاه يساوي 40% من صافي الربح، في هذا المثال ستنتقل لصالح ملكية العمال 4% من ملكية الشركة سنويا مجتزأة من الملكية الخاصة الأصلية، وسيتمكن العمال من السيطرة على الشركة عندما ترتفع ملكيتهم تدريجيا إلى أكثر من 50% بعد 13 سنة.[1]

بقي القول أن اتحاد العمال السويدي تبنى رسميا هذا المشروع الطموح والمبتكر في العام 1976، لكن الحزب الديمقراطي الاجتماعي السويدي لم يتحمس له، وشُرع بتطبيق المشروع بشكل خجول في أواخر الثمانينات، لكن وصول الحزب المحافظ السويدي للسلطة أدى لإنهاء المشروع في العام 1992، ورغم التطبيق المخفف والقصير لمشروع رودلف مايندر فإنه عند إنهائه كان قد تمكن من رفع ملكية العمال إلى نحو 7% من سوق الأسهم السويدية.

الخاتمة

غير خفي أن نموذجي التخطيط التشاركي للميزانية العامة في البرازيل وخطة رودلف مايندر للتأميم التدريجي في السويد لا يمثلان انتقالا جذريا نحو نظام كامل بديل عن الرأسمالية، فلا تزال الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج قائمة، ولا يزال السوق محددا لتوزيع الموارد، كما أن العمل المأجور مستمر. إلا أن النموذجين يمثلان محاولات ثانوية وتدريجية لكن جدية للتأثير في هيكل الاقتصاد، وفي منطقتنا التي تشهد تحولات كبيرة نسبية فإن الأفق قد يتسع للاستفادة من هذين النموذجين، على الأقل من جانب تعميق الممارسة الديمقراطية وتجذيرها في جانب السياسة الاقتصادية العامة، وكذلك استرداد بعض القطاعات الاقتصادية الحيوية التي سقطت في قبضة رموز الأنظمة الحاكمة وحلفائها في العقود السابقة، وذلك عبر آليات لا تستعدي قوى اليمين والثورة المضادة بشكل سريع ولا مباشر.

إن الإبداع في تصميم السياسات ليس حكرا على الطبقة الرأسمالية ومؤامرتها، بل يمكن أن تُكرس ملَكة الابتكار لأغراض تقدمية، وقد أثبتت فعلا بعض هذه النماذج جدواها، وهذه ليست دعوة لاستنساخ التجارب بشكل إلى فج، بل هي محاولة لإعادة الثقة بالنفس وبالقدرة على التفكير المستقل والمتجدد لتحقيق العدالة الاجتماعية.

[1] وفق تصور رودلف مايندر الأصلي فإن نظام الضريبة هذا سيطبق على كل شركة يزيد عدد عمالها عن 50، وستكون نسبة الضريبة 20% من صافي الربح.

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart