بوادر ثقافة اقتصادية وتنظيمية بديلة في تونس

بوادر ثقافة اقتصادية وتنظيمية بديلة في تونس

دراسة ضمن كتاب: الاقتصاد البديل في المنطقة العربية “المفهوم والقضايا”

وقفت العديد من الدراسات على أسباب اندلاع الثورات العربية وخاصة منها المصرية والتونسية وأرجعتها للحيف الاجتماعي وتفاقم البطالة واستفحال الفساد، أي عموما إخفاق مناويل التنمية وإخلالها بالعدالة الاجتماعية، هذا بالإضافة إلى عدم احترام حقوق المواطنين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وكذلك البيئية. عموما، ينم اندلاع هذه الانتفاضات عن حالة عدم الرضى الواسعة عن السياسات الليبرالية التي تتبعها هذه البلدان في ظل التبعية لمنظومة اقتصاد السوق وظلم الأنظمة الدكتاتورية وتآكلها.

رغم إجماع المجموعة الدولية على كون تونس قد تخطت بنجاح وثبات أهم العقبات التي كانت قد تحول دون إرساء الديمقراطية ومنظومة تضع آليات تعايش سلمي يحترم حقوق الإنسان، فإن أهم مطالب الشعب الثائر المتمثل في سن العدالة الاجتماعية لم يجد استجابة لدى الحكومات المتعاقبة. فهو لم يكن أولوية هذه التشكيلات السياسية التكنوقراطية التي واكتفت بتطبيق إملاءات صندوق النقد الدولي وبقية المؤسسات المالية العالمية دون مراجعتها. فعلى سبيل المثال، لم تتم إعادة النظر في المنظومة الجبائية غير العادلة أو في الاتفاقيات الدولية المجحفة، كما تعثرت العدالة الانتقالية بكل مكوناتها من آليات لمكافحة الفساد والقطع مع ثقافة المحسوبية والإفلات من العقاب. وفي المقابل تم الاعتماد على سياسة تقشف والحرص على “إصلاح” كل من مناخ الاستثمار والقطاع المالي وكأنهما يمثلان الحل الوحيد للأزمة.

نجد من أهم نتائج تغافل الحكومات المتعاقبة عن معالجة المعضلات الاجتماعية والاقتصادية، تأزم الوضع الاقتصادي وتفاقم المديونية والتبعية وكذلك انتشار المبادرات الاقتصادية غير المهيكلة أو ما يسمى بالاقتصاد الموازي. وإن دلّ ذلك على شيء فهو يؤكد أن الطبقات الوسطى والمفقرة من المجتمع التونسي لم تنتظر حلولا من الحكومات بل أخذت بزمام المبادرة مستغلة ضعف الدولة فاختلقت أنشطة اقتصادية تؤمن احتياجاتها رغم فقدانها لمواصفات العمل اللائق[1] وخروجها عن القانون في أغلب الأحيان. قد ينتقد البعض هذه الأنشطة الاقتصادية اعتمادا على كونها تغذي شبكات الإجرام المنظم وتحرم الدولة من مداخيل مهمة وتعرض المواطنين إلى مخاطر صحية الخ. لكن جدير بالقول إن الاقتصاد الموازي يمثل اليوم متنفسا للشريحة الكبرى من الشعب التونسي إما بتوفير مواطن شغل أو بالحد من وطأة التضخم.

ويقول لطفي بن عيسى –اقتصادي وخبير في الاقتصاد الاجتماعي التضامني- بشأن الأزمة الاقتصادية التونسية: ” الفضل الوحيد لهذه الأزمة أنها كشفت فاعلا غير متوقع ولكنه جاء مناسبا جدا للساحة الاقتصادية والاجتماعية، إنه الاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي، مع تصديه للأزمة، يقدم ردا سياسيا واقتصاديا مبنيا على بعث المشروعات ويهدف بالتحالف مع الجهات الفاعلة الأخرى من المجتمع المدني إلى التحول الاجتماعي والبيئي والديمقراطي للاقتصاد ككل. وقد اتاحت تلك الازمة لهذا الفاعل الجديد فرصة تاريخية لإثبات وجوده، والتعريف والاعتراف به. […]”[2]

فعلا، عززت النسيج الاقتصادي التونسي مؤخرا أعداد هامة من المؤسسات الصغرى والعائلية والتي تنشط أغلبها على صعيد محلي أو جهوي فتمثل بدائل عملية للناشطين فيها تمكنهم من مواطن شغل يخلقونها لأنفسهم. ويتجلى بوضوح في تونس أن نسبة مهمة من الأنشطة الاقتصادية الخارجة عن الأطر القانونية تتبنى، على الأقل في تنظيمها الذاتي وفي علاقتها الوطيدة بالقيم المجتمعية والثقافية، أهم مقومات الاقتصاد الاجتماعي التضامني وتمثل بديلا عمليا للعاطلين عن العمل والمهمشين في غياب اعتراف القانون والسلطات. دون الخوض في درس العلاقة بين الاقتصاد الموازي والاقتصاد الاجتماعي التضامني، نكتفي في هذا التقديم بلفت الانتباه إلى أن البدائل، كيفما كانت، تخرج في بدايتها عن الأطر القانونية والممارسات الاقتصادية المعهودة وتعيد النظر فيها وتسعى لتطويرها، فهذا القطاع الموازي للاقتصاد الرسمي، تقام التجارب وتتبلور البدائل.

  1. إشكالية الاقتصاد الاجتماعي والتضامني كبديل

يمثل ما يسمى بـ”الاقتصاد الاجتماعي التضامني” موضوعا مركزيا عند الحديث عن البدائل الاقتصادية في تونس اليوم، فهو يلقى تسويقا مهما من طرف الدولة والمؤسسات المالية وبرامج التعاون الدولي والنقابات والمجتمع المدني على حد سواء. “ويستند الاقتصاد الاجتماعي والتضامني على مفهوم مزدوج، يشترك في وجهه الاول مع القطاع العام من حيث الحرص على المصلحة العامة وفي وجهه الثاني مع القطاع الخاص من حيث المردود. ومع تنوعها في الواقع، إلا ان مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني لها سمات مشتركة منها غرض المنفعة الاجتماعية المندرجة في إطار مشروع اقتصادي وانجاز المشروع على أساس حوكمة ديمقراطية وإدارة أخلاقية وأخيرا حركية تنموية قائمة على قاعدة جهوية وتعبئة لروح المواطنة. وتعني المصلحة العامة أن يأخذ الانسان الأسبقية على رأس المال. فهيكل الاقتصاد الاجتماعي والتضامني هو بالضرورة في خدمة مشروع جماعي ذي منفعة اجتماعية وليس مشروعا فرديا يخدم حصرا المساهمين فيه. ” [3]

فللاقتصاد الاجتماعي التضامني إذن جملة من المقومات التي تجعله يمثل تجديدا في الاقتصاد التقليدي التونسي. لكن هل يمكن إطلاق صفة “البديل” على كل مشروع جماعي تشاركي محلي؟ في الواقع، تعد التجارب المنضوية تحت هذه اليافطة بالعشرات. تسهر العديد من المنظمات الدولية[4] على متابعتها وتأطيرها في محاولة لبعث مشروعات تستجيب لمقومات هذه المنظومة الجديدة. غير أن أغلبيتها تعتمد بشكل كبير على دعم خارجي ولا ترتكز على وعي سياسي حقوقي مناهض للسياسات الليبرالية. فهي وإن تمثل بديلا عمليا لأصحابها فتوفر لهم مواطن شغل، يبقى وصفها كبديل اقتصادي اجتماعي رهن قدرتها على نقد السياسات الاقتصادية ومنوال التنمية وإعادة النظر فيها. إذن، يفترض أن يكون للاقتصاد البديل بعد سياسي حقوقي بارز من شأنه أن يدفع نحو تغير السياسات ككل.

ستتناول هذه الورقة تجربتين من تونس تبحث كل منهما عن سبل الاستقلال عن المنظومة الاقتصادية السائدة التي لم تستجب لتطلعات الناس من شغل وعدالة اجتماعية فتطرح بدائل عملية تحترم حقوق أفرادها وكرامتهم وتدفع الدولة والمجتمع للاعتراف بها وبقدرات مكونيها من نساء أو مهمشين ومساءلة الدولة عن سياساتها. كما تستعرض هذه الورقة أهم التحديات التي تواجه هاتين المبادرتين وهي معمل ماموتاكس بالشابة قرب مدينة المهدية الساحلية وهنشير جمنة[5] بالجنوب التونسي في ولاية قبلي.

وقع الاختيار على هاتين التجربتين على اعتبار أنهما تتحليان بخاصيات نرى أنها مفصلية في نعتها بالبدائل بالإضافة إلى كونها تندرج ضمن الاقتصاد الاجتماعي التضامني. أما الخاصية الأولى فهي تلقائية البعث والانتصاب، أي أن هاتين التجربتين رأتا النور بمبادرة من أفراد بعد رفضهم لوضعية ما تهضم حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية لا استجابة لفرصة تمويل أو دعم، كما تعتمدان آليات التسيير الذاتي والجماعي في إدارة شؤونها. أما الخاصية الثانية فهي متعلقة بإيجاد سبل لقلب موازين القوى مع الدولة والقطاع الخاص مرتكزة على حلول ميدانية بديلة ودعم أهلي وقدرة على التنظيم الجماعي. أما الخاصية الثالثة فهي طرح هاتين التجربتين لإشكاليات اقتصادية محددة والتحلي بنظرة نقدية تجاه السياسات العمومية ومنوال التنمية استنادا لخلفية حقوقية وسياسية واضحة.

  1. معمل ماموتاكس.. محاولة فاشلة

“عندما تكون مجموعة، بالمعنى الواسع للمصطلح، أي مثلا عمال شركة أو متساكنو حي أو مدينة، عندما يتوقف هؤلاء الأشخاص عن القبول السلبي لواقعهم وحياتهم، عندما لا يقفون مكتوفي الأيدي أمام الظروف التي تفرض عليهم، عندما يحاولون التغلب عليها والتحكم فيها تكون هناك محاولة للتسيير الذاتي. وهناك تمشي في ونحو التسيير الذاتي. من هذا المنطلق، وأنا أؤكد على ذلك، ليس التسيير الذاتي بالمنظومة القانونية، (…) فهي طريق دائمة التجدد.”[6]

  • القصة

انطلقت القصة من مدينة الشابة بولاية المهدية الواقعة جنوب الساحل التونسي وهي منطقة صناعية متخصصة في النسيج منذ أن سُن قانون الشركات أوف شور أو ما يعرف بقانون 72. معمل عادي، تقتات من العمل فيه نساء وفتيات في خرق عميق لحقوقهن الاقتصادية والاجتماعية وحتى الإنسانية. يشتغلن بمعاش زهيد، تحت ضغط نفسي من صاحب المؤسسة الذي يستغلهن ولا يحترم كرامتهن. [7]

في يناير 2013، تمكنت النساء من كسر حاجز الخوف وتكوين نقابة أساسية تابعة للاتحاد العام التونسي للشغل تدافع عن حقوقهن بعد أن امتنع صاحب المعمل عن تسديد الأجور، فتمكنّ من تحسين ظروف العمل في ظرف وجيز وبعد سلسلة من الاحتجاجات والمفاوضات: ارتفع المعاش من 350 دينار إلى 46 دينار في الشهر وتمكنّ من فرض الاحترام وإيقاف الممارسات المهينة والحصول على مقابل لساعات العمل الإضافية وعلى العطل القانونية. غير أن قطاع النسيج عرف أزمة حادة إبان الثورة، أتت على 300 مؤسسات بين 2011 و2015 وتم تسريح حوالي 40 ألف عامل وعاملة كما تراجع التصدير في هذا القطاع بـ7 بالمئة في 2015[8]، وعانت مؤسسة ماموتاكس كالعديد من مثيلاتها من صعوبات مالية قد يكون لسوء الإدارة شأن فيها فالتجأ صاحب المعمل إلى إغلاقه قبل أن تتعمق صعوباته المالية وكان ذلك أخف الأضرار بالنسبة له بيد أنه لم يكترث للتداعيات الاقتصادية والاجتماعية لقراره هذا على العاملات.

من هنا، وحفاظا على مواطن الشغل، ابتدأت محاولة التسيير الذاتي. أقيمت مفاوضات بين النقابة وصاحب المؤسسة أشرف عليها الوالي اقترحت العاملات بمناسبتها تسلم زمام الأمور بشكل جماعي في المعمل وتسيير شؤونهن حتى يتم إتمام المطلبية القائمة آنذاك فتتمكنّ من استخلاص أجورهن العالقة ودفع مستلزمات التغطية الاجتماعية والحصول على مقابل العطل (أي تسديد كامل الدين الاجتماعي) شريطة ابتعاد صاحب المعمل طيلة هذه الفترة وتخليه على أجره كمدير الذي يساوي 2000 دينار في الشهر. حيث “تمكنت عاملات شركة ”ماموتاكس“ للخياطة بمعتمدية الشابة من إبرام اتفاقية يوم 01 مارس 2016 مع صاحب المصنع الممثل القانوني للشركة لاستئناف النشاط بتمكين العاملات من تسيير العمل بأنفسهن وذلك بإعطاء تفويض إداري ومالي إلى الكاتبة لضمان السير العادي للعمل إلى حين خلاص أجورهن ومستحقاتهن. كما تعهد صاحب المصنع بإرجاع التيار الكهربائي وتوفير الموارد الأساسية للإنتاج في أجل لا يتجاوز الأسبوع. وقد تم إمضاء هذه الاتفاقية بمقر الوحدة المحلية لتفقدية الشغل بالشابة مع حضور كل من البحري الهذيلي، الكاتب العام لاتحاد الشغل المحلي بالشابة وعمر المدوري، معتمد الشابة وشوقي الميساوي معتمد مركز الولاية. “[9]

لكن سرعان ما ظهر عائق جديد حيث أن المزود الأساسي للمعمل، سواء أن كان بالمطلبيات أو بالمواد الأولية (وبذلك الزبون شبه الوحيد للمعمل)، شركة على ملك قريب صاحب ماموتاكس تقترن مصالحه به، فبعد أن وعد بتزويد العاملات امتنع عن ذلك ولم يبدي استعدادا للاعتراف بالتسيير الجديد للمعمل. فاصطدمت محاولة التسيير الذاتي بعقبة النفاذ إلى السوق في ظل تبعية كاملة لشركة أخرى[10].

  • ماموتاكس تطرح إشكالية سياسات الدولة في قطاع النسيج

في تقرير حول قطاع النسيج في ولاية المنستير المجاورة لولاية المهدية والتي تعيش تقريبا نفس الإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية، يتعرض المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى أسباب فشل سياسة الدولة التونسية في هذا المجال وتداعياتها على الطبقة العاملة:

“منذ أن انتهجت الدولة سياسة صناعية متوجهة نحو التصدير في السبعينيات بسن قانون 1972 الذي يرنو إلى تشجيع الاستثمار ودفع القطاع تم إسناد امتيازات واسعة للمستثمرين على حساب العاملات. تعمق هذا التوجه بارتفاع المنافسة العالمية في النصف الأول من الثمانينيات وبعد المضي قدما في برنامج التكييف الهيكلي الذي يشجع على اسناد امتيازات للمستثمرين حسب تغيرات سوق الشغل العالمي. تبنت الدولة التونسية سياسة الانزلاق في كل القطاعات حتى تحافظ على التفرد الذي تعطيه هذه الصناعات المعملية، خاصة من حيث اليد العاملة الزهيدة. أعدت إذن الدولة الأرضية القانونية لتعزيز استغلال العمال في قطاع النسيج. “[11]

ففي محاولة التسيير الذاتي هذه، محاولة لإعادة فتح المعمل الذي أغلقه صاحبه ليس لغياب المطلبيات بقدر ما هو لإخماد اندفاع العاملات في الدفاع عن حقوقهن. فخيار إغلاق المعمل مرتبط بعقلية كاملة مستندة إلى ترسانة قانونية تعطي للمستثمر الأسبقية والسلطة الكافية للتعسف على العاملات والهروب بجلده عندما يتعرض لصعوبات مالية تاركا العاملات لمصيرهن. فمن خاصيات الإطار القانوني نجد مرونة قانون الشغل في هذا القطاع (عقود قصيرة المدى، مناولة، عدم ترسيم العاملات…) وغياب الرقابة اللازمة على المؤسسات المشغلة لإجبارها على احترام القوانين بتعلة تشجيع الاستثمار، ومرونة القوانين المتعلقة بالإفلاس وتساهلها مع أصحاب المؤسسات على حساب العمال، وعدم احترام المعاهدات والاتفاقيات الدولية في مجال حقوق العمال، واستحالة التتبعات العدلية في حال إغلاق المؤسسة أو تغيير إثمها[12]… وبذلك، يصبح من السهل والنافع لصاحب المؤسسة إغلاقها عند ظهور بوادر لصعوبات مالية أو تحركات احتجاجية وماموتاكس خير مثال على ذلك.

كبديل عملي لهذه السياسة، يأتي اقتراح التسيير الذاتي وهدفه إيجاد حلول عملية لفض المشكل بأخف الأضرار: الشيء الذي لم يرَ صاحب المعمل بدا من بحثه. كانت أولى الخطى التي قامت بها النقابة عند محاولة إعادة تشغيل المعمل هي التفاوض مع معتمد الشؤون الاجتماعية (الممثل المحلي للوزارة) الذي قبل بإعادة جدولة ديون المعمل ومراعاة الأزمة التي يمر بها كما عرض مساعدته على إيجاد زبائن جدد للخروج من التبعية للمؤسسة الشريكة. حيث تكمن الإشكالية الحقيقية للمعمل في كونه يقتصر على المناولة لدى شركة تعمل هي نفسها بالمناولة.

فرضت عاملات ماموتاكس عقلية جديدة في التعامل مع الأزمة عوض سياسة الهروب إلى الأمام التي تشجع عليها الدولة، فقبلن بتحمل المسؤولية مكان المدير المتقاعس ودرسن إمكانيات التعامل مع الوضعية صحبة النقابة والتمثيليات المحلية للدولة. تتسم هذه العقلية بتغليب المصلحة الجماعية على المصلحة الفردية وبأخذ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعمال بعين الاعتبار.

  • ماموتاكس تطور العمل النقابي وتطرح البدائل

لم يكن انتقال العاملات من أياد مطيعة منتجة إلى نقابة فعالة ثم لمجموعة تسيير ذاتي بالأمر التلقائي، بل هن يرجعن[13] الأمر إلى كون إحداهن زوجة لنقابي قام بتكوينهن في مجالات حقوقهن وسبل الدفاع عنها. يبرز هنا الدور الأساسي للتأطير النقابي في مساندة العاملات وتكوينهن وتحسين شروط المفاوضة مع أصحاب المؤسسات، لكن اقتراح التسيير الذاتي التشاركي يبقى جديدا على العمل النقابي التقليدي التونسي. فحداثة عهد نقابة المعمل مكنتها من استقلالية في التحرك والتنظيم (استقلالية عن المركزية النقابية) وبادرن باقتراح التسيير الذاتي كحل بدعم النقابة المحلية ما لم يكن من تقاليد الاتحاد العام التونسي للشغل، وبذلك تكون العاملات قد ساهمن، عن قصد أو عن غير قصد، في تطوير العمل النقابي في تونس بما يلائم الجو العام الجديد: الاقتصاد الاجتماعي التضامني كحل للمحافظة على مواطن الشغل مع مواصلة الإنتاج واقتسام أكثر عدالة للمداخيل والحفاظ على حقوق العمال.

تلت هذه التجربة عدة تصريحات نقابية تشيد بأهمية الاقتصاد الاجتماعي والتضامني كبديل عن المنظومة الرأسمالية، أو على الأقل كمكمل لها، قادر على “سد الثغرات” و”الحد من الأزمات” وتحسين الفاعلية الاقتصادية. وتمت دعوة العاملات للمواعيد النقابية التي تعنى بالموضوع للإدلاء بشهاداتهن أمام جموع من النقابيين والممولين والممثلين عن المجتمع المدني. وقام الاتحاد العام للشغل بإعداد مقترح قانون للاقتصاد الاجتماعي التضامني ينافس مشروع القانون الحكومي[14] كان لعاملات ماموتاكس دور مهم في طرحه أعلى قائمة أولويات المركزية النقابية.

دور تجربة ماموتاكس في إعادة النظر في سياسات التشغيل لا يمكن طمسه، فبحث الاتحاد عن وضع الاقتصاد الاجتماعي التضامني في قائمة أولوياته، فقد تمكنت العاملات من خلق فضاء سياسي يناقش فيه الإطار القانوني الجديد الذي سيفتح المجال مستقبلا لبلورة بدائل عملية.

  • بوادر ثقافة اقتصادية وتشغيلية جديدة في قطاع النسيج

عاملات ماموتاكس اليوم عاطلات (لم يتمكن كامل الإطار النقابي المنتخب المتكون من خمس عاملات من إيجاد مواطن شغل أخرى بما يبرهن على تضامن أصحاب المعامل فيما بينهم) أو يشتغلن في معامل أخرى في ظروف متفاوتة الصعوبة، أغلبهن يعبرن عن إرادة في الرجوع إلى “معملهن” ويحسسن بالمرارة عند الحديث في الموضوع ويشعرن بالخيبة. رفعت في الغرض 60 قضية في عدم تسديد الأجور تم البت فيها لصالح العاملات مع استعجال التنفيذ في مارس الماضي دون أن يتحصلن على أجورهن وكذلك حوالي 40 قضية فصل تعسفي لم تصدر بشأنها أحكام بعد. راجعت العاملات سقف مطالبهن في محاولة جديدة لفك الأزمة بالتعهد بالتخلي عن القضايا في حال قبل صاحب المعمل إعادة تشغيله وهن حاليا يتباحثن كيفية مواصلة النضال من أجل مواطن شغلهن.

يمكن اعتبار هذه التجربة فاشلة[15] بما أنها -حتى الآن- لم تتوصل إلى فرض التسيير الجماعي بالمعمل ولم تدخل في طور الإنتاج ولم تحقق أرباحا أو عائدات، لكنها تعتبر تجربة مهمة حيث أنها الأولى من نوعها في تونس. في محاولة التسيير الذاتي هذه هناك العديد من النجاحات التي يجب الوقوف عليها:

  • ارتفاع درجة الوعي لدى العاملات وتمكنهن من الدفاع عن حقوقهن وتحديد أولوياتهن ورسم استراتيجية لنضالهن وطرح حل بديل عملي على مدير غير مكترث لوضعياتهن الاجتماعية.
  • وعي العاملات بقدرتهن على القيام بشؤون المعمل والتأهب لذلك مع اعتماد آليات الإدارة الذاتية الجماعية وإيجاد سبل شفافة وديمقراطية لإتخاذ القرار رغم تعدد محاولات كسر لحمتهن وعزيمتهن.
  • تحول القصة إلى مثال يعرض ويحتذى به ومصدرا للإلهام وموضوعا للمقالات الصحفية مما أعطى لقضية العاملات دفعا مهما وأنشأ بوادر ثقافة جديدة.
  • المساهمة في فرض موضوع الاقتصاد الاجتماعي التضامني على أجندة الاتحاد العام التونسي للشغل

يقول دونيس كلار: “إن محاولة التسيير الذاتي لشيء أساسي وأولي تمثل التحكم في ظروف الحياة. تكون العلاقات الاجتماعية مكان ولادة التسيير الذاتي وأرضها، وهو ليس بالشأن الاقتصادي على حدة أو السياسي على حدة.”[16] فعاملات ماموتكس توصلن لسبل “التحكم في ظروف الحياة” عن طريق التآزر والتضامن والإيمان بالقدرة على التسيير الذاتي والإنتاج. فالعمل النقابي عموما يستوعب فكرة التسيير الهرمي كطريقة مثلى لإدارة المؤسسات. إعادة النظر في هذه الفكرة باقتراح تسيير جماعي يمثل تطورا وتجديدا.

  1. جمنة: الواحة التي تقطف فيها ثمار الثورة

قرابة مائة عامل قار يرتفع عددهم في فصول الذروة فتستقطب الواحة العمال من الأحواز ومن منطقة الجريد: إنها واحة جمنة (10800 نخلة منتجة) التي استرجعها أصحابها يومين قبل فرار الديكتاتور بعد أن افتكها المعمر من آبائهم ثم أممتها الدولة من ثمة مُنحت لشركة ستيل العمومية التي أفلست فقررت الدولة التفويت فيها بتأجيرها لمدة 15 سنة لمتسوغين اثنين لم يحسنا الاعتناء بها ولم يشغلا سوى 6 أو 7 عمال في كامل الواحة، يقتصر عملهم على الاهتمام بالسقي. تحوم حول عملية التسويغ هذه شبهة فساد[17] خاصة أن سعر الإيجار لم يتجاوز 40 ألف دينار في السنة.

وفي 12 يناير 2011، توجه شباب بلدة جمنة في الجنوب التونسي (ولاية قبلي) إلى ‘الهنشير” واسترجعوه بعد اعتصام دام 96 يوما وشرعوا في استغلاله استغلالا جماعيا و”خلافا للماضي، صارت المداخيل توزّع بين أجور العمّال، الذين ارتفع عددهم، وبين تعزيز إنتاجية الأرض ودعم مشروعات تنمويّة لصالح أبناء جمنة. وهو ما يضعنا أمام أوّل تجربة “تأميم شعبي” في تونس: انتقلت فيها سلطة استغلال أرض فلاحيّة من يد رأس المال الخاصّ إلى يد المجتمع المدني، وتحوّلت بفضلها المداخيل من أرباحِ في جيوب حفنة من الأثرياء إلى مشروعات تحسّن حياة عامّة الناس. “[18]

فعلا، تضاعف إنتاج الواحة في السنوات الأربع الأخيرة منذ أن أصبحت تديرها الجمعية المحلية التي تكونت للغرض (جمعية حماية واحات جمنة) فتضاعف الإنتاج من 969 ألف دينار سنة 2011 إلى مليون و800 ألف في سنة 2014، بعد أن كان بمعدل 450 ألف دينار سنويا في فترة استغلال المتسوغين. [19]

هنشير جمنة اليوم، بالإضافة إلى تشغيل العاطلين عن العمل بالمنطقة والاستثمار في تحسين الإنتاج وظروف العمل، يمول العديد من المشروعات التنموية على غرار بناء أقسام في المدارس والمعاهد ووحدات صحية وقاعة رياضة وبناء سوق للتمور واقتناء سيارتي إسعاف وغيرها من المشروعات. كما يمول جمعيات مختلفة تهتم بالثقافة والمعاقين والأطفال الخ. فهو يقوم بذلك مقام الدولة الغائبة في هذه المنطقة المهمشة ويقوم بهذه المهمة شبه المستحيلة ألا وهي التنمية.

 

  • التسيير الجماعي، سر النجاح

ليست جمنة هي الأرض الوحيدة التي استرجعها أهاليها، “في خضم الموجة الثورية التي شهدتها بلادنا قامت حركة واسعة من استرجاع الفلاحين للأراضي والضيعات سواء المسماة منها الدولية أو التي على ملك رموز النظام السابق (…). وإذا كانت أغلب تجارب استرجاع الأراضي المنهوبة التي شهدتها سنتا 2011 و2012 قد عرفت تعثرا بالنظر إلى عديد الأسباب أهمها قوة الة القمع البوليسي وغياب التنظيم الجماعي لعمليات الاستيلاء وخاصة العجز على التقدم في إدارة الإنتاج داخل تلك الضيعات بشكل تعاوني متضامن بدل تقسيم الاراضي وتفتيت ملكيتها بما حال دون القدرة على استثمارها بطريقة منتجة. “[20]

فمثلما يرد في كتاب “جمنة وفخ العولمة” تعددت تجارب استرجاع الأراضي غير أن جمنة انفردت بالنجاح. في حوار مع عضو من لجنة التسيير المزكاة[21]، تطرق هذا الأخير للأسباب التي جعلت نجاح التجربة ممكنا: تنفرد تجربة جمنة بعدة مقومات تتعلق كلها بالحوكمة والتسيير تمثلت في الاتفاق على فكرة الإبقاء على وحدة الأرض وإرساء التسيير الجماعي واقتراح لجنة للإدارة يتم تزكيتها بعريضة شعبية مع اللجوء للجلسة العامة في كل قرار مهم. اللجنة تحظى بثقة الجمنيين وتحرص على احترام الشفافية والتشاركية فيما تبقى الرقابة والمسائلة ملازمتين لمسار استغلال الواحة. زاد منوال التسيير هذا من الإحساس بالمسؤولية والانتماء والتملك، حتى أن العديد من الشباب كانوا يشتغلون دون مقابل في أوقات فراغهم وأصبح نجاح التجربة، خاصة بعد أن ذاع صيتها،[22]، [23] بمثابة الرهان لدى الجمنيين.

تم في مارس 2011 تكوين جمعية تديرها لجنة من متطوعين لتقوم بتسيير شؤون الواحة. بعد سنة أولى صعبة، لجأت فيها اللجنة لإطلاق حملة تبرع من الأهالي والسلف من تجار التمور والجمعيات المائية بالمنطقة لتأمين رأس المال اللازم لاستغلال الواحة بصفة مستدامة، تمكن الفلاحون من مضاعفة المنتوج والرفع في الأجور وتحسين وسائل الإنتاج وظروف العمل… من ذلك تحولوا إلى إنجاز مشروعات لفائدة المجموعة.

من ناحية أخرى، يعود النجاح في تسيير الهنشير إلى الانسجام الاجتماعي الذي تعرفه المجموعة، فمواطنو بلدة جمنة تمكنوا من تغييب المصلحة الفردية لصالح المصلحة العامة فلم تطلهم، على سبيل المثال، تأثيرات الاستقطاب السياسي الذي عرفته تونس، لا لغياب السياسة والاهتمام بالشأن العام ولكن لوجود اتفاق ضمني حول علوية قضية استرجاع الهنشير.

  • الحل البديل للسياسات الفلاحية الفاشلة ولمعضلة الأراضي الفلاحية الدولية في تونس

استحوذ المستعمر الفرنسي عند بسطه للحماية سنة 1881 على حوالي 10 بالمائة من الأراضي الصالحة للزراعة وهي الأراضي الأكثر خصوبة وإنتاجا والتي تقع في المناطق الرطبة. ابتدأت عملية تونسة الأراضي (تأميمها) منذ 1956 عبر مجموعة من الآليات: إما بالبيع الطوعي[24] من طرف المستعمرين أو بافتكاك الأرضي المهملة[25] أو باعتماد بروتوكولا لنقل الملكية[26] حيث اقترضت تونس من الدولة الفرنسية لشراء حوالي 150 ألف هكتار من المستعمرين بسعر يعادل 10 مرات سعر السوق كتعويض لهم ولمساعدتهم على إعادة إنتصابهم في بلدهم[27]. ثم تمت تونسة ما تبقى من الأراضي بما سمي بقانون الجلاء الزراعي في مايو 1964 وقد تحصلت الدولة التونسية على ملكية هنشير جمنة تحديدا بموجب هذا القانون.

كونت هذه الأراضي المخزون العقاري الفلاحي للدولة التونسية الفتية أي حوالي 745 ألف هكتار بالإضافة إلى 83 هكتار من أراضي الأحباس (الأوقاف)، ثم تم التفريط في 40 بالمائة منها أثناء حكم بورقيبة فلم يبقى منها سوى 500 ألف هكتار تقريبا من ضمنهم حوالي 400 هكتار في جمنة (في الأصل، ملكية مشاعية للأهالي).

ثم “وقع الاعتماد على الأراضي الدولية لتكوين أولى تعاضديات[28] الإنتاج وفي سنة 1968 بلغ عدد التعاضديات 348 تعاضدية تمسح حوالي 379 ألف هكتار وقد كان النظام يهدف من خلال ذلك إلى اعتماد تلك التعاضديات كضيعات مثالية (مكننة عالية وإنتاجية مرتفعة بحكم التقنيات التي أدخلها المستعمرون عليها) تشعّ على محيطها من أجل تعصير الفلاحة التونسية والرفع من الإنتاج والإنتاجية لكنّ تلك التجربة فشلت بسبب التطبيق المعكوس لتكوين التعاضديات حيث وقع البدء بالفلاحين الفقراء والتغافل عن الملاكين الكبار وفشلت بذلك أكبر فرصة للقيام بإصلاح زراعي ممّا أدّى إلى إنخرام كبير اليوم في هيكلة الأراضي الفلاحية.”[29]،[30]

في أوائل التسعينيات، بدأت الدولة التونسية في تطبيق برنامج التكييف الهيكلي الفلاحي المملى من صندوق النقد الدولي. وتمثلت الإصلاحات في: من ناحية، إعادة هيكلة الضيعات الدولية التي لم تحقق الأهداف المرجوة والتي تحتاج إلى استثمار وتثمين وتحويلها إلى “شركات إحياء وتنمية فلاحية”. ومن ناحية أخرى، التخلي عن الأراضي الصغرى للمستغلين القدامى والتقنيين والفلاحين الشبان وذلك بعقود إيجار على مدى 25 سنة. في الحقيقة، لم تكن شركات الإحياء والتنمية الفلاحية سوى سبل لخصخصة “وحدات الإنتاج التعاضدية” التي أحدثت في الستينيات وقد مثلت تخليا للدولة عن دورها في هذا القطاع الاستراتيجي ليستفيد القطاع الخاص.[31] كانت نتيجة هذه السياسة “الاستغلال المفرط للأراضي وتلويثها باستعمال المبيدات والأدوية الفتاكة وتدمير الموروث الجيني المحلّي بالتركيز على الأصناف المستوردة واستنزاف الموارد المائية دون التفكير مطلقا في مستقبلها[32] فساد بذلك منطق تراكم الأرباح وتحولت الفلاحة من قطاع استراتيجي هدفه تحقيق الاستقلالية الغذائية والتشغيل إلى قطاع موجه نحو التصدير.

تتجلى إشكالية الأراضي الفلاحية الدولية بوضوح في جمنة، فتأتي هذه التجربة كبديل لسياسات الدولة الفاشلة من ناحية ومن ناحية أخرى كحل لإشكاليات الاستثمار الخاص أو الإدارة الخاصة للأراضي الفلاحية الدولية. فمن حيث استغلال الأرض، توجه الأهالي إلى ترشيد استهلاك الماء والاعتناء الجدي بالواحة والعمل على إحيائها (مما يفسر الترفيع في عدد العاملين) مع وجود برنامج للعودة إلى الاستغلال التقليدي المتكامل “ذو الثلاث طوابق” الذي يجمع بين إنتاج البقول والغلال والتمور في منظومة مستدامة ومتكاملة على نفس الأرض. ومن ناحية العائدات، الاستثمار لصالح المجموعة في مشروعات اجتماعية متنوعة مع التوجه نحو تطوير الضيعة والترفيع من قدرتها التشغيلية حيث يبحث الجمنييون عن سبل إنشاء وحدات تعليب وتحويل لتمكين اليد العاملة النسوية من المشاركة في الدورة الاقتصادية. [33] نجح الجمنييون حيث فشلت الدولة وتداركوا السياسات الكارثية التي ساقتها هذه الأخيرة في فترة وجيزة لكن بجهد ثمين وصبر وحكمة.

  • تسوية الوضعية، المرحلة الحاسمة

يعبر طاهر الطاهري -رئيس جمعية حماية واحات جمنة- على قضية هنشير جمنة فيقول “هي أكبر وأقدم مظلمة تحولت إلى قضية فساد إذ تعود جذور المسألة إلى سنة 1912 لما افتك المستعمر أرضنا”. يعيش الأهالي هذه التجربة كاسترداد لحقهم المشروع أمام فشل ذريع للدولة في حماية مصالحهم والقيام بدورها في التنمية والإصلاح وما النتائج الإيجابية لقراراتهم إلا دليل دامغ على أحقيتهم في تسيير أرضهم. غير أن تسوية الوضعية القانونية لأراضي الواحة معقدة فبحوزة المواطنين إثباتات ملكية تعود إلى بداية القرن الماضي قبل أن يقوم المعمر بافتكاك أراضيهم واستغلالها حتى الجلاء الزراعي في 1964. من ذلك، وبعد أن بسطت الدولة عليها سيطرتها، اتفق الجمنيون مع هذه الأخيرة في الثمانينيات على إعادة شراء أرضهم وجمعوا نصف المبلغ المطلوب آنذاك -40 ألف دينار- وقاموا بتسديده، غير أنهم لم يتحصلوا مقابله على شيء[34] بل تم استخدام المبلغ للقيام بمشروعات ربحية مثل نزل “الواحة” في مدينة قابس المجاورة ومشروعات أخرى لم تعد بالنفع على جمنة وأهاليها.

منذ أن استرد الجمنيون أرضهم وهم في وضعية غير مستقرة ففي حوار صحفي، ” يعتبر رضا بن عامر[35] أنّ أعضاء جمعيّة الدفاع عن واحات جمنة هم مجرّد “عصابة” من اللصوص، يقودهم رئيسها الطاهر الطاهري (…) وقد سبق له أن رفع ضدّه قضيّة، رفضت محكمة ڨبلّي النظر فيها. وما يزال المتسوّغ السابق متمسّكا باسترجاع الأرض أو بأن تعوّضه الدولة عنها، ورفع في الغرض قضيّة ثانية ضدّ وزارة الشؤون العقاريّة، التي سوّغت له الأرض في عهد الوزير الأسبق رضا قريرة. الاّ أنّ المحكمة ظلّت تؤجّل البتّ فيها المرّة تلو الأخرى. ”

في 3 سبتمبر 2016 اتخذ وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية مبروك كشريد قرارا[36] كان له وقع إعلامي مهم مفاده منع جمعية حماية واحات جمنة من بيع “الصابة” (المحصول) لفائدتها ويعطي للوزارة حق مصادرتها والتصرف فيها مما أثار غضب الأهالي واستنكارهم الشديد فدخلوا في اعتصام مفتوح ونفذوا وقفة احتجاجية أمام مقر الإدارة الجهوية لكتابة أملاك الدولة بقبلي. [37] تم تنظيم اجتماع عاجل مع مكتب الوزير في الأسبوع نفسه للتباحث في الأمر والتفاوض حول حل للمشكل،[38] فالأهالي يرفضون بتاتا حرمانهم من جني ثمار عملهم وإعادة افتكاك أرضهم وهم مقدمون على التصعيد في حال تعنت السلطات وتعديها على ما يعتبرونه حقا مشروعا.

إن التفاعل الإيجابي الذي تلقاه هذه التجربة لدى الأهالي من جهة والناشطين السياسيين والمجتمع المدني من جهة أخرى، يعطيها مجالا سياسيا لا بأس به للتفاوض مع السلطة تحت ضغط شعبي مهم، والكل، الى حد كتابة هذا المقال، في حالة تأهب تحسبا لأي تمشّ جائر أو اعتباطي يحرم الجمنيين من محصولهم أو من أرضهم.

بالمقابل، تقدم جمعية حماية واحات جمنة حلا مؤقتا للوضعية العقارية، يتمثل في إحداث شركة إحياء وتنمية فلاحية مطابقة للقانون حتى يتسنى لها تأجير الأرض بصفة قانونية واستغلالها على أن تقبل وزارة أملاك الدولة تسويغها للشركة في إطار مراكنة تضمن بقاء الضيعة لأصحابها.

  • دروس من تجربة جمنة

يقول طاهر الطاهري “بممارسة الديمقراطية المحلية وعقد اجتماعات شعبية وأخذ رأي المواطن كنا قادرين على أخذ القرارات الصائبة، ولما مارسنا فوقيا وجدنا صعوبات في تمرير آرائنا[39]. لا شك في أن أهم نجاح عرفته تجربة جمنة يكمن في إحداث إطار جماعي شفاف لتسيير الضيعة وهو الشيء الذي، كما سبق وقلنا، انفردت به هذه المجموعة. أخذ تركيز هذا الإطار جهدا كبيرا وجه نحو النقاش والتحسيس والإقناع، حيث أنه في بداية السنة الأولى من التسيير تعالت بعض الأصوات المطالبة بتقسيم الضيعة على الأهالي لكن سرعان ما بان للجميع أن المصلحة الجماعية تكمن في الإبقاء على وحدتها فكان هذا البديل الأول: تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

بعد الاتفاق على التسيير الجماعي، تم تداول وسائل اتخاذ القرار وتقسيم المسؤوليات، وهنا لعب المعطى المحلي والثقافي دورا مهما في منح الثقة لمجموعة من الأشخاص حتى يقوموا بالتسيير اليومي للضيعة وذلك عن طريق عريضة شعبية، بالمقابل وضعت آليات للرقابة تعتمد على الشفافية والحوار والرجوع للجلسة العامة، التي تعقد في “ساحة العين” وسط البلدة، عندما يتعلق الأمر بقرار أو مقترح مهم وهنا يكمن البديل الثاني في اعتماد آليات الديمقراطية التشاركية أو المباشرة وكذلك المحاسبة. لا تنطبق على هذه التجربة صفة التشاركية بمفهومها التقليدي،[40] حيث تنحصر بعض صلاحيات القرار لدى أعضاء الهيئة المديرة للجمعية فيما يظل العمال أجراء لدى المؤسسة، قد يلجأون للإضراب أو الاحتجاج في بعض الأحيان، لكن ظروف عملهم تحسنت بشكل واضح وعلاقتهم بمشغليهم تتسم بالاحترام والتواصل والوفاق.

أما بالنسبة لتكوين رأس المال اللازم لاستغلال الهنشير، فقد اعتمد الأهالي هنا أيضا على بديل عن الاقتراض من الدولة أو من المؤسسات البنكية (قد يكون ذلك نتيجة استحالة اعتماد سبل التمويل التقليدية التي تحتاج لثبات الملكية) وهو تنويع المصادر بـ:

  • جمع تبرعات من الأهالي بقيمة 30 دينار للفرد مكنت من الحصول على 33 ألف دينار.
  • 22 ألف دينار سلفة من الجمعيات المائية المحلية.
  • 120 ألف دينار سلفة من تجار تمور على أن يتمتعا بالأولوية في “تخضير الصابة” (شراء المحصول).
  • مساهمة من أصدقاء الجمعية من أساتذة وجمعيات أخرى بمبلغ ألفي دينار وربع.[41]
  • التعويل في الفترة الأولى على العمل التطوعي الذي قام به شباب المنطقة لفائدة المجموعة.

كما انتهج الجمنيون مسارا بديلا فيما يخص الانتفاع الجماعي بالعائدات، فعوض أن يلتجوا إلى تقسيم الأرباح اختاروا الاستثمار في مشروعات تنموية تعود بالنفع على الأهالي وذلك على مدى أجيال. في هذا الخيار إيمان بأن رفاهة الفرد وتوازنه يمر بتحقيق العيش الكريم للمجموعة وفيه بوادر لعقلية تعايش جديدة يصفها الجمنيون عند الحديث عن تجربتهم بـ”الانسجام”[42].

يمكن القول إن هذه التجربة تعد من أنجح المبادرات التي عرفتها تونس بعد الثورة. فهي بالإضافة إلى تكريسها لمبادئ الاقتصاد الاجتماعي التضامني، تفتح العديد من الآفاق البديلة في علاقة بالسياسات الفلاحية للدولة وعلى وجه الخصوص بالنسبة للأراضي الدولية التي تمثل أكبر عائق أمام تطور القطاع في تونس. إن الأزمة الراهنة بين أهالي جمنة والسلطة ستكون بمثابة الامتحان لهذه التجربة الفريدة البديلة ويقول طاهر الطاهري: “نعتبر تجربتنا رائدة وهي رد على دعاة الخصخصة ونموذج للاقتصاد الاجتماعي التضامني ومطروح علينا إنجاحها. ونجاحها ليس مسؤولية أصحاب الارض وحدهم. (…) لنا صفر فاصل أخطاء ولو قدر لنا المواصلة أو أجبرنا على ذلك، فسنواصل بنفس العزيمة خدمة لمصلحة أهلنا. [43]

  1. البدائل العملية من تونس، تأسيس لثقافة اقتصادية جديدة

نرى في هذين المثالين العديد من أوجه التقارب رغم اختلافهما الجوهري فيما يخص ظروف الانتصاب. أولا، تأتيان كردة فعل على مظلمة (إغلاق المعمل بالنسبة لماموتاكس وافتكاك الأرض بالنسبة لجمنة)، في كلتا الحالتين، ولّد الإحساس بالغبن وبالظلم إرادة جماعية هدفها استرداد الحق المهضوم. بالنسبة لعاملات ماموتاكس، سرّع دعم النقابة ودورها التوعوي في بلورة فكرة التسيير الذاتي لكنه أبقى على تلقائيتها. أما في جمنة، فإن الوقت كان نصير الفلاحين اللذين إستغلوا ضعف الدولة قبيل هروب بن علي لاسترجاع أرضهم.

ثانيا، كان لعاملي التنظيم الذاتي والتحرك الجماعي دور مهم في إنجاح كلتا التجربتين، فقد أعطيا للأفراد الجرعة اللازمة من الشجاعة للوقوف أمام رؤوس الأموال والسلطة، وتبين ذلك من سلسة التحركات الاحتجاجية التي قامت بها المجموعتان دفاعا عن الحقوق. من ذلك، تحولت القدرة على التحرك الجماعي إلى قدرة على التسيير الذاتي، على الأقل في مثال هنشير جمنة.

ثالثا، تتسم التجربتان بوجود روح للمبادرة الإيجابية، فلم تقتصر العاملات على وسائل الاحتجاج والتفاوض بل بلورن حلا جماعيا ورؤية واضحة على كيفية الخروج من الأزمة. أما في جمنة، فالانطلاق في البحث عن تمويلات وفي استغلال الأرض أعطى للمجموعة مجالا كافيا لإثبات جديتها وقدرتها على التسيير ونجاعتها في خلق مواطن شغل ومشروعات تنموية. كما أنه في كلتا الحالتين، تم التوجه تلقائيا نحو شكل اجتماعي تضامني فيه تغييب للمصلحة الفردية أمام المصلحة الجماعية.

رابعا، من أهم خصوصيات هاتين التجربتين أنهما تنقدان بشدة سياسات الدولة كل في مجالها. أما في مثال ماموتاكس، فالنساء على وعي تام بأن تهرب صاحب المعمل من مسؤوليته وتدميره لمواطن الشغل لنتيجة مباشرة لسياسة التشجيع على الاستثمار التي تنتهجها الدولة التونسية، سياسة منحازة للمستثمر على حساب العاملات وحقوقهن تتكرس بإطار قانوني غير عادل يمنحه امتيازات ولا يسمح بمحاسبته ويتساهل معه إن ساء الإدارة أو تهاون. أما في مثال هنشير جمنة، فالفلاحون ينقدون بشدة سياسة الدولة في القطاع الفلاحي ككل وفي التناول قضية الأراضي الفلاحية الدولية بالخصوص. ثم يذهبون إلى أبعد من ذلك بتعويض الدولة في مجالات اجتماعية عدة كالصحة والتعليم والثقافة.

تدل هذه التقاطعات بين التجربتين على أن الوعي الجماعي وصل على المستوى المحلي إلى درجة من النضج تسمح لمجموعات بفرض (أو على الأقل محاولة فرض) حلول بديلة في التعامل مع الإشكاليات الاقتصادية التي تواجههم. تضع هذه الحلول نصب أعينها المصلحة الجماعية وترتكز على شرعية محلية وتقودها قيم تضامنية، هذا بالإضافة إلى وعي بفشل سياسات الدولة ومطالبة ملحة بإعادة النظر فيها، وهذه، مما لا شك فيه، بوادر ثقافة اقتصادية تضامنية جديدة في تونس.

ـــــــــــــــــــــــ

[1] Protection sociale et économie informelle, défis de la transition vers l’économie formelle, https://goo.gl/wMrzH0

[2] لطفي بن عيسى، “الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، اقتصاد قريب من المواطن منتج لفرص العمل وللتنمية المحلية”، مداخلة في ندوة حول « المبادرة التشريعية من أجل قانون أساسي للاقتصاد الاجتماعي والتضامني»، للمزيد، https://goo.gl/LojpRI

[3] المرجع السابق

[4] مرسي كوربس، الاتحاد الأوروبي، لاباس (مخبر الاقتصاد الاجتماعي التضامني)، التعاون الإيطالي والألماني والفرنسي وغيرها.

[5] كلمة تونسية مجهولة الأصل تعني الضيعة الشاسعة.

[6] Denis Clerc, extrait du postface de « Créateurs d’utopies, Démocratie, Autogestion, Economie sociale et solidaire » (Pierre Thomé), Editions Yves Michel, 2012.

[7] Résister et produire: La lutte des ouvrières de Mamotex, https://goo.gl/iYsOxm

[8] تصريح لرئيس الفيدرالية الوطنية للنسيج بالحسن غراب، 12 فبراير 2016، https://is.gd/XSkyvq

[9]قريبا على نواة: في الشابة، عاملات مصنع نسيج يسيّرن وينتجن، 9 مارس 2016، https://is.gd/2eIvg6

[10] تجري حاليا في المحاكم قضايا عديدة رفعتها العاملات بصاحب المعمل تتعلق بأجورهن التي لم تدفع، وحصصهن الإضافية وعطلهن القانونية وغيرها، ويطالبنه بتسديد ما عليه وإعادة فتح المعمل بعد أن تفاوضن مع الشريك الذي قبل في النهاية تزويد العاملات، واقترحن على صاحب المصنع تسييرا تشاركيا بينه وبين لجنة منتخبة منهن في إطار مجلس مؤسسة.

[11] Violation des droits économiques et sociaux des femmes travailleuses dans le secteur du textile (Etude du cas de Monastir), https://goo.gl/hhIYyC

[12] Violation des droits économiques et sociaux des femmes travailleuses dans le secteur du textile (Etude du cas de Monastir), https://goo.gl/hhIYyC

[13] حوار مع سامية شوشان عضوة مكتب النقابة الأساسية، والبحري الهذيلي كاتب عام الاتحاد المحلي للشغل، يوليو 2016.

[14] قدم الاتحاد العام للشغل مقترح قانونه في ندوة صحفية في يوليو الماضي لكنه لم ينشر بعد للعموم

[15] Le combat perdu des ouvrières de Mamotex, https://goo.gl/fwCsY1

[16] Denis Clerc, extrait du postface de « Créateurs d’utopies, Démocratie, Autogestion, Economie sociale et solidaire » (Pierre Thomé), Editions Yves Michel, 2012.

[17] هنشير ستيل في جمنة: المصلحة العامّة قبل الربح الخاصّ، نواة، 11 يوليو 2015، https://is.gd/3Chyca

[18] المصدر السابق.

[19] د. محمد كشكار، “جمنة وفخ العولمة”، حوار حول تجربة جمنة مع الأستاذ طاهر الطاهري عضو جمعية حماية واحات جمنة بقلم محمد المثلوثي بتاريخ 28 أكتوبر 2015. من إصدار الجمعية، 2016

[20] المرجع السابق.

[21] طاهر الطاهري الذي تطوع لرئاسة الجمعية التي أحدثت فيما بعد (جمعية حماية واحات جمنة)

[22] La « comuna » del oasis de Jemna, https://goo.gl/14aOWA

[23] هنشير ستيل في جمنة: المصلحة العامّة قبل الربح الخاصّ، مرجع سابق.

[24] 127 ألف هكتار للدولة و40 ألف لكبار الملاكين بين سنوات 1956 و1960

[25] عند صدور قانون 7 مايو 1957

[26] 13 أكتوبر 1960 و2 مارس 1963 (Protocoles de cession à la Tunisie des terres des agriculteurs français).

[27] مداخلة د. عبد الله بنسعد بالدهماني يوم 29 أغسطس 2015 حول واقع الأراضي الدوليــــة على هامش الاستشارات حول الأراضي الدولية: كيف السبيل لإعادة هيكلة الأراضي الدولية؟

[28] تطبيقا للقانون عدد 19 المؤرّخ في 25 مايو 1963 أو ما يسمى بقانون التعاضد.

[29] مداخلة د. عبد الله بنسعد بالدهماني، مرجع سبق ذكره

[30] في الذاكرة الشعبية التونسية، ارتبطت فكرة التعاضد بفشل هذه التجربة وهو ما يمثل عائقا اليوم أمام إرساء الاقتصاد الاجتماعي التضامني.

[31] Wassim Abidi, Dynamique d’Economie Sociale et Solidaire en Tunisie: Acteurs, Enjeux, Paradoxes et Perspectives de Construction, Mémoire de fin d’études, 2015.

[32] مداخلة د. عبد الله بنسعد بالدهماني، مرجع سبق ذكره

[33] حوار مع طاهر الطاهري وعمال الواحة، أغسطس 2016.

[34] د. محمد كشكار، جمنة وفخ العولمة، مرجع سبق ذكره

[35] المتسوغ السابق للهنشير

[36] حوار هاتفي مع طاهر الطاهري، رئيس جمعية حماية واحات جمنة، سبتمبر 2016.

[37] هنشير الستيل بجمنة: أملاك الدولة متمسكة بمصادرة محصول 2016، نواة، 5 سبتمبر 2016، https://is.gd/qbIFDm

[38] اقترح الأهالي مجموعة من الحلول مثل تحويل العائدات لبلدية جمنة، أو تحويل ما يتبقى من الأرباح إلى الوزارة بعد أن يتم اقتطاع تكاليف السنة الفلاحية المقبلة وميزانيات المشروعات القائمة. والتفاوض ما زال جاريا حتى الساعة.

[39] حوار مع طاهر الطاهري، رئيس جمعية حماية واحات جمنة، أغسطس 2016.

[40] هنشير ستيل في جمنة: المصلحة العامّة قبل الربح الخاصّ، مرجع سبق ذكره

[41] د. محمد كشكار، جمنة وفخ العولمة، مرجع سبق ذكره

[42] تم رصد هذا من خلال حوار مع الفلاحين وأعضاء الجمعية تم في يوليو 2016

[43] د. محمد كشكار، “جمنة وفخ العولمة”، مرجع سبق ذكره

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart