الفصل الختامي من كتاب: العدالة الاجتماعية… المفهوم والسياسات بعد الثورات العربية
فصل ضمن كتاب: العدالة الاجتماعية: المفهوم والسياسات بعد الثورات العربية
رغم مرور ما يقرب من أربع سنوات على بداية الحراك في المنطقة العربية لا يبدو أن ملف العدالة الاجتماعية قد تم تحقيق انجاز فيه، رغم كونه عنصرا أساسيا في انفجار الثورات، وجاء هذا على عكس الشعارات التي نادت بها الثورات العربية من “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” وأشارت هذه الشعارات إلى أهمية العدالة الاجتماعية وضرورة تحقيقها لدى قطاع عريض من الشعوب العربية. ومنذ تلك اللحظة التي تم فيها رفع شعارات العدالة الاجتماعية بدأت التداولات والاختلافات حول المفهوم ليثير إشكاليات كبيرة في المرحل الانتقالية في الدول العربية -ما بعد الثورات- وأدى هذا الاختلاف وهذه التداولات إلى إثمار الساحة السياسية بالمكاسب ومنها فتح باب العمل أمام المجتمع المدني، وارتفاع الطلب والوعي على التوزيع العادل للثروة وفق سياسات اقتصادية واجتماعية، بالإضافة إلى الترابط في موضوعات الخلل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والذي كان مفقودا نتيجة التطور التاريخي، وطبيعة العقد الاجتماعي السلطوي السائد قبل الثورات وفكرة أن العدالة الاجتماعية يجب أن تكون أكبر من مجرد توزيع للثروة، والتركيز على العلاقات السلطوية (Power Relations)، التركيز على العدالة الانتقالية وأهميتها في تحقيق العدالة الاجتماعية.
كما أن التجربة العربية في تحقيق العدالة الاجتماعية أثبتت وجود بعض التحديات والمشكلات في تحقيقها والتي سبق الإشارة إليها، وفي نفس الوقت طرحت تساؤلات حول الأطر الشكلية للعدالة الاجتماعية وقياس درجة مطابقة السياسة الاقتصادية والاجتماعية للعدالة الاجتماعية، وكيفية إدماج فكرة العدالة الاجتماعية بشكل فعال في السياسات العامة وتطبيقها بشكل عملي، وكيف يمكن الضغط والمتابعة لتطبيق ما نصت عليه الدساتير من مبادئ على الأرض بشكل عملي.
ويمكننا أن نرى هنا انعكاس موضوع العدالة الاجتماعية على أجندة كافة الأحزاب السياسية في المنطقة العربية كموضوع أساسي بعد الثورات، ولكننا سنتوقف هنا عند نموذج دال في هذا الشأن هو النموذج المصري، حيث تستبطن برامج كافة الأحزاب السياسية سواء الجديدة أو القديمة مفهوما للعدالة الاجتماعية وإن اختلفت أبعاد هذا المفهوم من أحزاب تيار إلى تيار آخر على النحو الذي يمكن ملاحظته كالتالي:
فالأحزاب الإسلامية مثل حزب الحرية والعدالة، وحزب النور، وحزب مصر القوية وحزب الوسط وحزب البناء والتنمية، تتبني في تناول فكرة العدالة الاجتماعية مفهوم السوق ولا تعتمد على سياسات وتشريعات لتضمنها ولكنها تعتمد على التكامل بشكل أساسي، وأيضا لا تعتمد على إعادة توزيع الثروات، وظهرت هذه السمات بتجلي في دستور 2012؛ ويروا أن الرعاية الصحية هي أهم أولويات الدول ويجب توفير تامين صحي لكافة المواطنين، وأيضا هناك طرح مشكلة الحد الأدنى للأجور والارتفاع بمستوى خريجي التعليم العام.
وبشكل عام يمثل التيار الإسلامي فيما يرتبط بالحقوق المتعلقة بالعدالة الاجتماعية فريقين هم الأحزاب السلفية (النور والبناء والتنمية)، وأحزاب (الوسط ومصر القوية) أما حزب “الحرية والعدالة” فبرنامجه يصنفه في الفريق الثاني -بينما مواقفه وسياساته عند الوصول إلى الحكم والتحالفات التي سبقتها تجعله أميل للفريق الأول- وهنا يبدو أن برامج الأحزاب السلفية مغازلة للرأي العام أكثر من كونها تمثل رؤية متكاملة فتطرح حقوق دون أخرى وتتبنى مفاهيم متعارضة مع المنهج الاقتصادي الذي يتبناه الحزب، على عكس حزب الوسط ومصر القوية اللذان طرحا شكل أكثر تكاملا ونضوجا لهذه الحقوق، فحزب الوسط يطرح ضرورة “رفع معدلات النمو لا بد وأن يصاحبه ارتفاع محسوس في مستوى المعيشة ويرجع هذا لطبيعة مصر”.
كما أن الأحزاب القومية كالعربي الديمقراطي الناصري وحزب الكرامة، تتبني شعارات ترفع العدالة الاجتماعية بشكل دائم، وعلى الرغم من ذلك نلاحظ في برامجها أنها تتناولها من ذات منظور الأحزاب الليبرالية، فيتطرقوا إلى “توفير الرعاية الصحية المدعومة بالكامل إلى كافة المواطنين، تعزيز إصلاح النظام التربوي وتوفير ظروف عمل فضلى للمعلمين، حقوق الإنسان في العمل وحد أدنى للأجر مع ربط الأجر بالأسعار، وتساوى الأجور عند تساوى العمل، وحقوق التعليم والصحة والمسكن اللائق والمعاش والضمان الاجتماعي ضد البطالة أو المرض أو العجز، وعدالة توزيع الدخل القومي”.
وبشكل عام نجد أن هذه الأحزاب القومية لا تدعم إعادة توزيع الدخل ويتضح هذا في تصريحات بعض قياداتها، بالإضافة إلى عدم وجود موقف ثابت ورؤية حول موضوع الضرائب التصاعدية وقضية الحد الأدنى والأقصى للأجور رغم تبنيها إصلاح مؤسسات الدولة.
بينما الأحزاب الليبرالية كحزب الوفد، حزب الجبهة الديمقراطي، حزب المصريين الأحرار، وحزب مصر الحرية وحزب الدستور، حكمت البرامج الاقتصادية لها قضية العدالة الاجتماعية، وآمنت هذه الأحزاب بفكرة السوق والاقتصاد الحر لتحقيق العدالة الاجتماعية حيث استهداف زيادة الثروة القومية بدلا من إعادة توزيعها، وجذب الاستثمار وبناء دولة مؤسساتية وبنية تشريعية حديثة تتسم بالاستقرار والاستمرارية وتحترم القانون وتضع ضوابط لتحقيق العدالة الاجتماعية لضمان رفع مستوى المعيشة للمواطن المصري والارتقاء بالاقتصاد المصري. ونلاحظ هنا أن أحزاب هذا التيار قد ركزت في برامجها على المبادئ أكثر من برنامج العمل وهو ما انعكس على خلافات داخلية خاصة في الأحزاب الجديدة أعاقت حركتها فيما يخص قضايا الإصلاح المختلفة، كما أن ذهنية النظم السلطوية قد أثرت على الثقافة السياسية لهذه الأحزاب فما زالت في معظمها تطرح نفسها باعتبارها الناصح للسلطة والذي يجب أن يكون له دورا أكبر، وليس باعتبارها قوى بديلة تطرح برنامج، وتتبنى مواقف، وتهدف إلى الوصول للسلطة بدلا من تلك الحاكمة لتقوم بتنفيذها.
كما أن أحزاب التيار اليساري كأحزاب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، والحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، وحزب التحالف الشعبي الاشتراكي، فتركز على مفهوم العدالة الاجتماعية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ويمكن القول أنها تمتلك رؤية أكثر وضوحا عنهما من بقية الأحزاب الأخرى، ويختلف محور التركيز والآليات من حزب إلى الأخر، فالبعض يركز على الحقوق النقابية والعمالية -حزب التجمع- وآخر يركز علي رفع الحد الأدنى للأجور والمعاشات وتحديد حد أقصى للأجور، وتطبيق إصلاح ضريبي شامل يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية لصالح الفئات محدودة الدخل، بالإضافة إلى إعادة هيكلة النظام الضريبي وإلغاء الضرائب غير المباشرة الإضافية وعمل نظام للضرائب التصاعدية على الدخل مع فرض ضرائب تصاعدية على مظاهر الاستهلاك الترقي وتشديد العقوبات على المتهربين من الضرائب، وإصلاح هيكل التعيينات في المؤسسات العامة والخاصة بحيث يضمن تثبيت العمالة المؤقتة وإلغاء العمل المؤقت في الأعمال التي لها صفة الديمومة، وإقرار نظام تأمين اجتماعي شامل يوجه للأسر المعدمة والتي تفتقد لعائل وللعمالة المؤقتة في حالة التوقف عن العمل، إقرار إعانة بطالة مربوطة بنظام لتوزيع العمالة وتوجيهها إلى الوظائف الشاغرة في القطاعين الخاص والعام بحيث لا تقل الإعانة عن خط الفقر، الإبقاء على الدعم للفقراء مع التأكيد على وصوله لمستحقيه من خلال اقتراح مجموعة من السياسات المبنية على دراسة تجارب الدول النامية الناجحة في هذا المجال -كحزب التحالف- ولكن هنا نجد أن الأحزاب الثلاثة قائمة على تحالفات لم تضع ركائز يمكن البناء عليها أو مرجعيات يمكن الاحتكام لها، مما يهدد الكيان وهو ما يتضح من خلال الاستقالات الجماعية عقب كل أزمة سياسية تتطلب موقفا من الحزب.[1]
أولا: العدالة الاجتماعية مفهوم واحد ومداخل متعددة
ويمكننا في هذا الإطار أن نرى مداخل متعددة لمفهوم العدالة الاجتماعية، أولها المدخل المثار جماهيريا وبدرجة كبيرة وهو المدخل الخدماتي وهو أقرب للمفهوم في دولة الرفاهة، والذي يقوم على أن الأساس في العدالة الاجتماعية هو توفير الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والسكن، بمعايير الحقوق المختلفة من الجودة والتوفر والقدرة على الوصول للخدمة وأخيرا الرضاء العام عنها، ويؤكد هذا المدخل على أهمية تكافؤ الفرص كأساس لتحقيق العدالة الاجتماعية، فالمساواة لا تعني هنا فقط أن يحصل الجميع على فرص متساوية بل أن يتم دعم الفئات الأكثر تهميشا لتتمكن من الوصول لهذه الخدمات.
ومع ظهور هذا المدخل بدأت بعض مؤسسات النظام الرأسمالي وعلى رأسها صندوق النقد الدولي في الدعوة إلى أهميه تحقيق المساواة بين طبقات المجتمع للحفاظ علي معدلات التنمية والتقدم، وتم التفريق بين نوعين من انعدام المساواة والتميز في المجتمع وهما التميز الخاص بالفوارق بين الدخول “Income inequality” ويحذر من أثره المباشر على معدلات النمو فكلما زاد نصيب الأغنياء من الثروات قلل ذلك من فرص تحقيق معدلات نمو مرتفعة، والنوع الأخر هو انعدام المساواة في الفرص “Inequality of Opportunity” وهذا الأخطر حيث أنه يؤثر بصورة مباشرة على التنمية والنمو.[2]
أما المدخل الثاني فهو المدخل المرتبط أو النابع من الفكر اليساري والذي يرى أن تحقيق العدالة الاجتماعية لا يتأتى إلا من خلال توزيع عادل لثروات البلاد، ويركز هذا المدخل على إعادة هيكلة الأجور والنظام الضريبي، لتكون هناك حدود دنيا للأجور تمكن المواطنين من العيش بشكل لائق، وحد أقصى يقلص من الفوارق الطبقية ويوزع الدخل القومي بشكل أكثر عدالة ويمكن من تمويل الحد الأدنى دون أعباء جديدة على ميزانية الدولة، ويصاحب ذلك نظام ضريبي يتحمل الأغنياء من خلال ضرائب تصاعدية العبء الأكبر في تمويل الخدمات الأساسية لصالح عموم الشعب. ويرتبط هذا المدخل في رؤية أصحابه بشدة بنمط أو نموذج التنمية المتبع، فعلي سبيل المثال في الحالة المصرية تكون بتحديد الحد الأدنى والأقصى للأجر، واستعادة الشركات الحكومية المباعة بالفساد، والحق في الإدارة الذاتية لوسائل الإنتاج، وتوفير الخدمات الصحية الكفؤة الرخيصة للكل، وترتبط العدالة بالتوزيع الجيد (المزايا) والسيئ (الأعباء) داخل المجتمع والطريقة التي تخصص بها الموارد للناس عبر مؤسسات المجتمع.
وتعتمد تحقيق العدالة الاجتماعية على مبدأين هما “لكل فرد الحق في المطالبة بالحريات الأساسية المتساوية وبمنظومة اجتماعية تقوم على هذا -وجود شرطين لعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية الأول أنها ترتبط بإعطاء الكل المساواة في الفرص والثاني هو أن تعتمد على مبدأ الاختلاف[3]“، ويرى هذا المدخل أيضا أن تحقيق العدالة الاجتماعية يأتي عن طريق رفع الظلم عن الأفراد ويتحقق هذا بالطريقة التي ننظر بها للمجتمع ومشكلاته فنبدأ بتحليلها وإيجاد حلول لها[4].
المدخل الثالث ما يمكننا أن نطلق عليه “الرأسمالي الرشيد” والذي لا يرى أي ضرورة في تغيير نمط السوق الحر إنما أهمية العمل على تأسيس شبكات ضمان اجتماعي واسعة تستطيع أن تكفل للطبقات الفقيرة فرص الحياة اللازمة في المجتمع، وهو يحاول اتخاذ موقف إيجابي من الضمان الاجتماعي يكفل مراعاة المهمشين ويكفل للطبقات الفقيرة فرص للحياة من خلال استثمار القطاع الخاص في الضمان الاجتماعي وتوفير نظم الحماية الاجتماعية للفقراء حتى لا يصبحوا خطرا على النظام وحفاظا على النظام ذاته وليس على حقوق الأفراد.
أن أي قراءة متأنية في هذه المداخل تؤكد استحالة فصل المفهوم، يمكن بالتأكيد تغليب مدخل عن الآخرين ولكن لا يمكن الفصل بشكل تام بينهم، فتمويل النموذج الأول والثالث لا يمكن أن يحقق العدالة الاجتماعية دون وسائل التمويل التي يطرحها النموذج الثاني، وإلا تحول إلى مزيد من الأعباء على الطبقات الأفقر والأكثر تهميشا. كما أن النموذج الثاني يسعى بدرجة كبيرة إلى تحقيق أهداف المدخل الأول من توفير الخدمات الأساسية. إلا أنه تظل العقبة الأساسية التي يمكن تبينها هنا هو نمط الإنتاج أو التنمية المتبع وهل يمكن تحقيق عدالة اجتماعية في ظل سياسات السوق المفتوح؟.
ثانيا: العدالة الاجتماعية ونمط التنمية
بمتابعة نمط الاقتصاد الذي ساد في المنطقة ما قبل الثورات العربية يمكننا أن نرى فروقا واضحة في معدلات التنمية رغم انتهاج ذات النمط التنموي بأبعاد تاريخية مختلفة بعضها يرجع لأكثر من عقد من الزمان مثل مصر وتونس وأحدهما كان في مرحلة التحول لنمط اقتصاد السوق مثلما في الحالة السورية، إلا أن الواضح في هذا النمط ثلاثة عناصر سلبية مشتركة، أولها متعلقة بطبيعة الاقتصاد الريعية، حيث أدى الاقتصاد الريعي إلى تدهور مستوى المعيشة وعدم التساوي في توزيع الدخل وزيادة معدلات الفقر والبطالة وتلاشي التعليم والصحة المجانيتين وتفكيك القطاع العام وتحكيم طبقة ضيقة -الاحتكار- والاعتماد على الزراعة فقط كمحور للدخل والتنمية وانهيار قطاعي الصناعة والتجارة، حتم ذلك ضرورة الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج حيث يتيح الأخر تحقيق حل جدي لمشكلة البطالة والأجر المتدني وكما أنه يفرض بناء منظومتي التعليم والصحة وأيضا البنية التحتية لتحقيق معدلات نمو عالية وتحقيق التنمية. وثانيها المنهج المتبني لهذا النمط وهو المنهج النيوليبرالي، والعنصر الثالث هو الاعتماد على المحاسيب في تطبيق crony capitalism هذا النمط، capitalism حيث أدى النظام الاقتصادي إلى سوء توزيع الثروات وما أدى بدورة إلى وجود تميز طبقي بين من يعمل ومن يمتلك، وخلق النمط الاقتصادي طبقة برجوازية تمتلك النسبة الأكبر من الدخل، وظهور طبقة ترتبط بالطبقة الحاكمة فأصبحت المشكلة تكمن في محاولة هذه الطبقة الدفاع عن الطبقة الحاكمة الخادمة لمصالحها وللسوق لكي لا تتحقق مطالب الشعب التي تدور بمصالحها، ولم يعد الأمر يتوقف على تغيير أشخاص الحكام بل بات في تغيير نظام اجتماعي كامل، ووجد البعض الحل في فرض نظام الضرائب التصاعدية على الرأسمالية.[5]
وإذا كان اقتصاد السوق محل خلاف فإنه مما لا شك فيه أنه مصحوبا بهذه العناصر الثلاث -التي ظهرت جلية في دراسات الحالة في هذا الكتاب- لا يمكن إلا أن ينتج اقتصادا منحاز ضد الغالبية العظمى من المجتمع، اقتصاد يخدم قلة من الأغنياء ويمثل تهديدا للفقراء والفئات المهمشة ويستنزف موارد الدولة المستقبلية، إذ أن الريعية لا تجعله قابلا على التأسيس للمستقبل، والنيوليبرالية تكف يد الدولة عن أي دعم حقيقي لحقوق الفئات المهمشة، والمحاسيب يحولون الثروة إلى حلقة مالية يسيطر عليها الفساد ولا يخرج من نطاقها أي عائد لأطراف أخرى. وهو ما يفسر لماذا دول مثل مصر وتونس تمكنت في السنوات القليلة قبل الثورة من تحقيق معدلات نمو تصل في بعض الأحيان إلى 7% [6]، انهارت فيها الخدمات العامة لمجموع المواطنين.[7]
وقد عكس الواقع العربي في فترة ما قبل الثورات أو الانتفاضات حالة من غياب العدالة الاجتماعية في جميع المجتمعات العربية وحالة من التفاوت الملحوظ بين الطبقات في حجم الثروة وامتلاكها وفي الدخول للأفراد وفي الاستفادة من الخدمات التعليمية والصحية والثقافية بل وحتى الترفيهية، كل هذا كان سببا في وضع العدالة الاجتماعية في مقدمة مسببات الثورات والاحتجاجات الشعبية.
فكان السياق العام في المجتمع قبل الثورات يتميز بتفشي مظاهر الفساد والتمييز في فرص العمل والاقصاء المتعمد لفئات ومجموعات متعددة وإهدار الثروات الوطنية في مظاهر احتفالية وعبثية لا تخدم المواطن، ناهيك عن تزايد معدلات الفقر والبطالة وضعف الخدمات العامة الأساسية وتزوير الانتخابات، حيث ارتفع معدل الفقر في اليمن ليصبح الأعلى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا –وفق البنك الدولي لعام 2010- فجاءت بعض المطالب الأساسية والمشتركة بين الثورات العربية لتشير إلى مطلب العدالة الاجتماعية وكان منها “ضمان الحق في الشغل، تحسين المقدرة الشرائية، الحق في السكن، الحق في التعليم”. كل هذه الظروف وأكثر كانت تسيطر على الساحة الاجتماعية والسياسية في الوطن العربي مما دفع إلى قيام الثورات التي نادت بضرورة تطبيق العدالة الاجتماعية في المجتمع والمساواة بين المواطنين.
صاحب هذه الوضعية غياب لشكل مؤسسي يمكنه التعامل مع أثار ذلك فتأميم النقابات وإفراغ الحركات التعاونية من مضمونها الحقيقي وتحويلها إلى أداة لفرض هيمنة الدولة، ومع تراجعها وسيطرة شبكات المصالح على النظم كان من الطبيعي أن ينتهي دور التعاونيات لتختفي في دول وتتحول إلى هياكل فارغة. فعبر التاريخ الحديث كانت النقابات العمالة هي العامل الأساسي لقيام الإضرابات والاحتجاجات، وتمثل الطبقة العمالية أكثر من 50% من السكان فهي تشكل مؤشرا كبيرا للرضا العام منذ بداية تاريخها الاحتجاجي عام 1899 وإلى الآن، فالحركة النقابية تستمد طبيعتها ومميزاتها من طبيعة التكوين الطبقي لجماهير العمال فالطبقة العاملة تمتاز عن غيرها من طبقات المجتمع بأنها موحدة ليس فيها مراتب اجتماعية ولا فئات اقتصادية وتنعدم من صفوفها كل أسباب المنافسة والخلافات، فالعمال تجمعهم وتوحدهم مصالح مشتركة وكلهم يعانون من الاستغلال الرأسمالي الذي يستنـزفهم، وهناك اتجاهان داخل أي دولة للحركات العمالية حيث يرى البعض أنه يتعين على الحركة النقابية العمالية أن تشغل نفسها بالقضايا النقابية البحتة دون التدخل في مجالات العمل السياسي حتى لا تتعرض للمشكلات، في حين يرى البعض الآخر أن نضال الطبقة العاملة التي تقودها الحركة النقابية يقتضي منها الدخول في العمل السياسي. فالظروف الاجتماعية التي تعيشها الحركة العمالية هي المؤثرة بشكل كبير على النهج المستخدم، ففي بعض الأحيان تسلك النقابات العمالية الاتجاه الأول، وفي فترة زمنية أخرى تسلك الاتجاه الثاني، فهذا يرجع إلى الظروف التي تمر بها هذه الطبقة بشكل كبير.
الحركة النقابية لا تستطيع أن تعيش بمعزل عن الحياة السياسية في المجتمع فيشهد التاريخ المصري والتونسي على ما قامت به الحركات النقابية ضد الاستعمار للحصول على الاستقرار وكانت بدايات الشعلة الاحتجاجية ومن بعدها احتجاجات الربيع العربي وما صحابها من احتجاجات أخرى، وتميزت المطالب النقابية في الآونة الاخيرة بالمطالب الفئوية دون الاهتمام بالمطالب السياسية الأخرى، بالإضافة إلى كثرة الاحتجاجات والاضرابات كسلاح قوى للتأثير على صانع القرار والسلطة.
هذه الوضعية أثرت بشدة على السياسات الخاصة بالعدالة الاجتماعية حيث أنه بعد انتهاء نظم حركات التحرر الوطني تشكل اقتصاد سياساته قائمة على آليات في صالح الشبكات المسيطرة ولا تمنح الأطراف الأخرى أداة لمواجهة هذا التوجه، مما أدى لما أطلق عليه الرأسمالية المتوحشة، مما نتج عنه حالة من الحركات الاحتجاجية ذات الطابع الاجتماعي. شهدت المنطقة العربية تزايد ملموس في عدد الحركات الاحتجاجية في الآونة الاخيرة نتيجة ارتفاع الوعي العام وأيضا لأسباب أخرى منها ضعف الاحزاب السياسية؛ فكان لابد من ظهور حركات احتجاجية لتكون بمثابة حل للخروج من المشكلات الاجتماعية ومحاولة طرحها علي الساحة السياسية، ومع تزايد الثورة التكنولوجية وانتشار وسائل الاتصال الاجتماعي زادت أهمية الحركات الاحتجاجية وانتشارها. وشكلت الحركات الاحتجاجية عاملا كبيرا في قيام الثورات العربية، فعلي سبيل المثال في مصر كان لحركة كلنا خالد سعيد وحركة كفاية وحركة 6 أبريل دورا رئيسيا في قيام الثورة والـ18 يوما حتى تنحي حسني مبارك وسيطرة الإخوان على الميادين والصورة في مصر، وتتمثل قدرة الحركات الاحتجاجية على التغير في اتجاهيين، أولهما: التحول إلى حركات سياسية ذات مرتكزات اجتماعية تقدم وجوها جديدة للحياة العامة، تتجاوز الوجوه التقليدية التي تقود أحزاب المعارضة والحكومة لتصبح هذه الحركات نواة لتغيير شكل النخب السياسية في الحكم والمعارضة معا.
وثانيهما التأثير على صانع القرار والنخب الحاكمة بصورة أقرب لجماعات الضغط، وتدفعه لمراجعة بعض سياساته وتوجهاته الاقتصادية، أو تؤدي إلى إجراء تغييرات في توازنات القوى السائدة داخل النخب الحاكمة[8].
ونجد أنه بعد الثورات لا يبدو أن هناك تغير هيكلي في هذه المنظومة الاقتصادية فما زالت الحوارات حول السياسة طاغية مع إغفال للبعد الخاص بالعدالة الاجتماعية، فلقد طرحت الثورات مطالب “اقتصادية” من أهمها: القضاء على البطالة، الأجر المتدني، انهيار التعليم والصحة وتحويلهما إلى سلعة، انهيار البنية التحتية، تهميش المرأة، وبتحقيق هذه المطالب ستتحقق العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي بدورهما.
ففي مصر وتونس أثيرت مسائل العمل والأجر، وكان واضحا أن الطبقات الشعبية لم تعد تحتمل الوضع الذي تعيشه من التهميش والفقر والجهل، ولكن بعد انتهاء الموجه الثورية الأولى والثانية فوجئنا بأنه لم يتحقق أي شيء من ذلك لتحول المطالب إلى مطالب اقتصادية فئوية أكثر منها مطالب اجتماعية، ودارت التساؤلات حول ضرورة تغير النمط الاقتصادي والتحول إلى نمط اقتصادي آخر، وفرض على المجتمع ضرورة معالجة العدالة الاجتماعية في شقها الاقتصادي وامكانيات المجتمع في التحول الاقتصادي الجزئي أو الشامل لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المرغوبة من قبل الثورات.[9]
ثالثا: العدالة الاجتماعية بين السياسي والاقتصادي
كما أن الثورات العربية مثلت ضرورة لتبني العدالة الاجتماعية إلا أن التطورات التالية أعاقت هذا المسار، وبالتالي فالتأثير ليس في اتجاه واحد بل هو تأثير متبادل، فكما أن عثرات التحول الديمقراطي على المسار السياسي قد أثرت سلبا على السياسات الخاصة بالعدالة الاجتماعية، فإن غياب هذه السياسات لم يمكن نظم ما بعد الثورات من تفكيك شبكات المصالح التي تمكنت بسبب تأخر هذه السياسات من الخروج من حالة التنكر التي أصابتها بعد الثورات واستعادة زمام الأمور في المجال الاقتصادي في بعض الحالات والسياسي في البعض الآخر، واستخدمت في ذلك قدراتها الاحتكارية ووسائل الإعلام التابعة لها في توطيد هيمنتها مرة أخرى ومواجهة أي سياسات ستؤدي إلى محاسبته على الفساد السابق للثورات وهي المتعلقة بأسس الديمقراطية كالشفافية والمحاسبة، أو التي ستمس ثرواتهم مثل تشريعات ضريبية عادلة أو سياسات تعيد توزيع الثروة في دول الثورات العربية بشكل عادل (قضية الخبراء والزبائنية) كما أن انفجار بعض دول الثورات وتحولها لساحات حرب أهلية مثلما في سوريا أو ليبيا، وحالة عدم الاستقرار مثل الحالة اليمنية والمصرية؛ كان لهم كذلك أثرهم السلبي في التوجه نحو سياسات اقتصادية تفرض نمط تنمية لصالح الغالبية وليس نمو يصب في صالح طبقة بعينها. وفي هذا المجال تثور قضية هامة وهي المتعلقة بطبيعة القرار الاقتصادي والاصرار على فصله عن السياسي وكأنهما عمليتين منفصلتين وأن القرار الاقتصادي قرار تقني فقط، وهو في الحقيقة أحد أساطير الاقتصاد الرأسمالي التي تحتاج لمراجعة.
ولعل هذا ما يتضح من تسويق العديد من السياسات الاقتصادية التي أضرت بوضعية العدالة الاجتماعية في مصر منذ السبعينيات مرورا ببرامج الإصلاح الاقتصادي التي اتبعت في عدة دول عربية من قبل العديد من الفنيين على اعتبار أنها خيارات فنية ضرورية لا تحتمل التأخير، ثم ما إن تكتشف الجماهير فشل هذه السياسات حتي يتم اتهام النظم بأنها تستعين بأهل الثقة دون أهل الخبرة وهو ما يسارع الخبراء إلى ترديده، رغم أنه ليس بالضرورة هناك حلولا فنية لمثل هذه المشكلات، بل إن تجارب دول عديدة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا أثبتت فشل الحلول الفنية وإن بدرجات متفاوتة، بحيث الحلول الفنية القوية تعمل كمسكنات لفترة أطول بينما الأضعف لا تستطيع الصمود في وجه أزمات وعيوب النظام الاقتصادي، وقد تسبب أزمات خطيرة في حالات كثيرة، لأن الغائب هنا عن هذه السياسات هو الجماهير وتمثيلها ورقابتها، لأنه في الواقع ليس هناك وصفات مدرسية لحل مشكلات اجتماعية بل أن أي سياسة اقتصادية ما يقف معها أو ضدها من تمثل مصالحهم أو تتعارض معها لأنها ليست في الأصل وصفات فنية محايدة أو موضوعية ولا يفترض فيها أن تكون كذلك،[10] فما وصف بأنه أخطاء فنية ناتجة عن سوء الإدارة أو التطبيق للسياسات الاقتصادية هو في حقيقته اختيار اجتماعي وسياسي واضح لخدمة فئات اجتماعية معينة ترتبط عادة بالنظام الحاكم في تحالفات ما.
ولا يخفى على أي متابع على الساحة أن قضية طبيعة الدولة وخاصة الهوية هي الأكثر بروزا على السطح خلال الفترة السابقة، بل أنها قد شكلت مصدرا للاستقطاب تبنته الأحزاب الدينية التي ترى فيه مصدرا لقوتها، وانجرت له أحزاب من تيارات مختلفة عندما لم تجد رؤى وبرامج جادة تقدمها للتغيير المنشود بعد الثورات العربية، فمثل هذا الاستقطاب غطاء ملائما لعملها تخفي ورائها ضعف قدراتها على تبني سياسات اجتماعية لصالح جموع المواطنين الذين نزلوا إلى الميادين خلال الثورة، فضلت هذه الأحزاب الدينية والمدنية جر هذه الجموع لموضوعات تتقنها هذه الأحزاب بدلا من أن تركز عملها على السياسات التي تطالب بها الشعوب. وللأسف انجر اليسار في عدة دول إلى هذه المعركة، فبدلا من أن يقبض على بوصلة الجماهير انساق وراء أفكار اليسار الحداثي الذي لا يرى في الفكر اليساري الا البعد التنويري الفكري.
هذه الوضعية لم تكن نتاج تطورات داخلية في بلدان المنطقة العربية وفقط، انما لعبت العوامل الخارجية دورا أساسيا فيها. فمنذ انهيار المنظومة الاشتراكية وهناك محاولات دائمة لفرض نمط تنموي محدد من جانب النظام الرأسمالي سواء عبر العلاقات الثنائية بين دول غرب أوروبا والولايات المتحدة من جانب ودول العالم الثالث بما فيها الدول العربية من جانب آخر، أو عبر المؤسسات التمويلية الدولية. وقد لعبت هذه المؤسسات دورا بارز في هذا الإطار عبر سياسات ما أطلق عليه حينا إعادة هيكلة وتارة تكيف هيكلي أو أحيانا إصلاح اقتصادي، لفرض النمط الرأسمالي وادماج اقتصادات العالم الثالث في عملية العولمة، وتقييد قدرات هذه الدول وفتح أسواقها أمام الشركات الغربية بشكل غير عادل عبر اتفاقيات مثل اتفاقية التجارة الحرة (الجات) هذه السياسات في الحقيقة لم تؤد إلا إلى زيادة الاحتكارات الدولية وزيادة الفجوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، ارتفاع نسب الفقر في العالم الثالث.
فوفقا لتقرير الأمم المتحدة للأهداف الانمائية نجد أنه يعيش حوالي واحد من كل خمسة تحت خط الفقر في المناطق النامية بحوالي 1.25 دولارا يوميا، وفي نفس الوقت أصدرت منظمة جالوب العالمية تقريرا عن الفقر في العالم واوضحت من خلاله أن قرابة ٢٢٪ من سكان العالم تحت خط الفقر الذي يعرفه البنك الدولي بأن يعيش بمعدل دولارين في اليوم الواحد فقط، واكملت بأن حوالي 16% من سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعيشون على 1.25 دولارا أو أقل في اليوم، بينما يعيش 28% من سكان المنطقة على 2 دولارا أو أقل في اليوم، تشير النتائج كذلك إلى أن مناطق أفريقيا تعيش أسوأ أنواع الفقر في العالم بحيث يعيش 54% من تعداد السكان في 27 دولة مختلفة منها في فقر مدقع. وفي جهة أخرى لا يتجاوز عدد السكان الذين يعيشون على 1.25 دولار في اليوم نسبة 1% في المناطق المتقدمة اقتصاديا مثل أستراليا، نيوزيلندا، الولايات المتحدة، كندا وأوروبا، وبذلك تكون مناطق الفقر في العالم في دول العالم الثالث.[11]
خاتمة:
رغم أوجه الاختلاف التي تظهر في تفاصيل المشهد في كل دولة من الدول التي شهدت انتفاضات/ثورات في المنطقة إلا أن هناك سمات واضحة في مرحلة ما قبل الثورات في مجال العدالة الاجتماعية وهو تراجع الاقتصاد المنتج لصالح الاقتصاد الخدمي وتزايد الأعمال على المصادر الريعية للاقتصاد، التوجه نحو نمط تنموي يعتمد على فكرة تساقط الثمار رغم أن أزمة الاقتصاد الرأسمالي في 2008 جعلها محل مراجعة في قلب الدول الرأسمالية بل طرح أسئلة عن طبيعة الديمقراطية التمثيلية المرتبطة تاريخية بنمو النظام الرأسمالي، وأخيرا سيطرة شبكات من رجال الأعمال على اقتصاديات دول وبروز الاحتكارات وتشكل تحالف بينها وبين السلطة السياسية. أما بعد الثورات فالتشابه الأبرز هو استمرار ذات السمات وغلبة السياسي على الاقتصادي وعدم ربطهما ببعضهما البعض بشكل كاف، كما تظهر الأوراق المقدمة أن الربط بين الحركات الاجتماعية/ الاحتجاجية ذات الطابع الاجتماعي والمجال السياسي هي أساس هذا الفصل، كما أن الفائز الأكبر حتى الآن في أكثر الدول –التيار الإسلامي وتحديدا الإخوان المسلمين- لا تمثل العدالة الاجتماعية بمفهومها العميق جزءا من أجندته فهو يحمل ذات الأفكار الخاصة بنمط التنمية التي تبنتها نظم ما قبل الثورات. وهو ما مكن بعد ثلاث سنوات من إعادة إحكام ذات النخب الاقتصادية على مقدرات هذه الدول، وهنا يمكننا الحديث عن ثورات على مستوى الحراك الجماهيري، لكن لا يمكننا الحديث عنها بمفهوم إحداث تغيرات هيكلية في المجتمعات العربية. إلا أن رصد الحركات الاحتجاجية في أوراق الدراسة يؤكد أن المسيرة لم تنته وما زالت هناك فئات شابة مصرة على استكمال طريقها في تحقيق مطالب يمكنها أن تغير في تركيبة المجتمعات نحو منظومة أكثر عدالة. ففي مصر بعد عامين من الثورة عادت الثورة مرة أخرى للاشتعال في 30 من يونيه 2013، حيث وجدت الحركات الاجتماعية أن الأهداف الاجتماعية والاقتصادية للثورة لم تنفذ بعد على أرض الواقع مما صعد الأمر وأجج فكرة خلق بديل جديد في النزول إلى الميادين مرة جديدة علي أمل تحقيق العدالة الاجتماعية، ولم يكن الأمر بالمغاير في تونس، فمنذ اندلاع الثورة في ديسمبر 2010 والشباب والحركات الاجتماعية لهم الدور الأبرز في قيادة الأزمة وعدم تحييدها لتحقيق العدالة الاجتماعية رغم ما تمر به من تحييد عن المسار الديمقراطي أحيانا، ولكن الوضع الأن أصبح أسوأ حيث تستمر السياسة المعادية لعموم الأجراء والكادحين وتشتد قسوتها في الوقت الذي تستفحل فيه البطالة وتهميش مئات الآلاف من القوى العاملة، ومن بينها المعطلين عن العمل أصحاب الشهادات الجامعية. كما يتواصل نهب ثروات البلاد الطبيعية واستنزاف مواردها المالية خاصة عن طريق استمرار منظومة المديونية الفاسدة وتهريب الرأسمال إلى الخارج؛ فسيعمل هذا على عودة الانتقاضات والثورة إلى الشارع التونسي من جديد.[12]
كما لا يمكننا أن نغفل ما احدثته هذه الثورات من تغيرات على مستوى المجتمع بل وتأثيرها في أحيان كثيرة على مراكز داخل الدولة ومؤسساتها، إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون عنصرا حاسما دون تفاعل معه من جانب الكيانات المؤسسات التي من المفترض أن تحمل هذا المشروع للعدالة الاجتماعية، أي الأحزاب التقدمية، ومنظمات المجتمع المدني التنموية والحقوقية الجادة، والحركات الشعبية التي تكونت في الدول ما بعد الثورات خاصة الشابة منها، وهي في هذا الإطار تحتاج لدعم النقابات والهيئات الممثلة لمصالح الفئات المهمشة، والتواصل معها بشكل يمكن من ربط المطالب الاجتماعية بنمط التنمية الاقتصادي والسياسي وهو في الحقيقة قد يتطلب إلى جوار الجهد الحركي جهدا نظريا من جانب النخب البحثية والثقافية المنتمية لهذا المشروع. كما أن علاقة المسار الثوري يجب أن ترتبط بالمسار السياسي من خلال وضع مطالب الثورة والبدائل التي تطرحها الكيانات المرتبطة بها على الساحة السياسية سواء من خلال جهد منظم للتواصل مع الإعلام، أو من خلال ممثلين في المؤسسات التمثيلية الوطنية والمحلية.
كما أن هناك ارتباط مباشر بين تنفيذ سياسات العدالة الاجتماعية والتطور السياسي في البلدان العربية فدون نظام سياسي ديمقراطي يتسم بالشفافية والمحاسبة للمسئولين السياسيين سواء في السلطة التنفيذية أو التشريعية، ونظام قضائي مستقل، ويضمن حرية تداول السلطة لا يمكن ضمان وجود سلطة تتبني هذه السياسات، إلا أن هذا النمط الديمقراطي التقليدي هو الآخر ليس بكاف في هذه المرحلة التي تحتاج كما أسلفنا إلى تفكيك شبكات المصالح المسيطرة منذ ما قبل الثورات، وهو ما يتطلب ديمقراطية تفعيل دور المواطن والكيانات الممثلة للمصالح المختلفة عبر عملية تشاركية على النمط السائد في دول أمريكا اللاتينية التي شهدت تحولا ديمقراطيا في الحقبة الأولى من هذا القرن participatory democracy.[13]
كما أن البعد الدولي هو جزء أساسي من تكوين السياسات المعادية للعدالة الاجتماعية، فالمواجهة الداخلية لن تكون كافية دون تنسيق إقليمي ومواجهة إملاءات المؤسسات التمويلية الدولية عبر تشكيل جبهة من الدول النامية تؤثر في أجندة على هذه المؤسسات، عبر إيقافها في أقل الحدود أو فرض أجندة بديلة في أقصي الطموحات. وهذه الجبهة يجب أن تتمثل في أشكال تنظيمية حركات، كيانات بديلة وهنا تأتي دور القوى الاجتماعية في تأسيس تحالفات دولية داعمة بل وأحيانا مؤسسة لهذه الكيانات التي قد تتمكن في مرحلة تاريخية لاحقة أن تمثل ما هو أكثر من كونها مصدرا للضغط على هذه المؤسسات الدولية وإنما كذلك بديلا لها، في ظل أزمات النظام الرأسمالي وإعادة تشكل الخريطة الدولية قد تكون هذه المرحلة أقرب مما نتخيل وغياب البدائل لن يكون في صالح إلا القوى المعادية لمفهوم العدالة الاجتماعية المسيطرة حتى تاريخه.
[1] محمد العجاتي، ” الدولة والنظام السياسي في مصر بعد الثورة: الأحزاب وقضايا الإصلاح“، القاهرة، منتدى البدائل العربي، 2013
[2] سلمى حسين، “عن نخبة مفترسة ودولة رهينة“، http://is.gd/dNMz9s
[3] مبدأ الاختلاف هو أن تكون عدم المساواة للفائدة العظمى للأعضاء الأقل حظوة في المجتمع.
[4] وائل جمال، “العدالة الاجتماعية والثورات العربية: إشكاليات المفهوم والسياسات“، ضمن أوراق هذا الكتاب
[5] سلامة كيله، ” الحركات الاجتماعية ومفهوم العدالة الاجتماعية في الثورات في البلدان العربية“، ضمن أوراق هذا الكتاب
[6] وفقا للبنك الدولي فان معدلات النمو في مصر وتونس قبل اندلاع الثورات كانت كالأتي: مصر كان معدل النمو نحو 4.7 في عام 2009 ليصل في عام 2010 إلى 5.1 وينخفض بعد ذلك ليصل إلى 1.8 ويصل في عام 2011 إلى 2.2 فيكون معدل النمو بمثابة المنحني الهابط، أما بالنسبة لتونس فيشير تقرير البنك الدولي أنه في عام 2009 كانت معدلات النمو 3.6 واستقرت كما هي في عام 2010 ولكن في عام 2011 شهدت هبوطا كبيرا لتصل إلى -0.2.
[7] للمزيد يرجى الرجوع لدراسات الحالة ضمن أوراق هذا الكتاب
[8] لمزيد من التفصيل حول الحركات الاحتجاجية أنظر: عمرو الشوبكي، الحركات الاحتجاجية في الوطن العربي (مصر، المغرب، لبنان، البحرين، الجزائر، سوريا، والأردن)، بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2، 2014.
[9] فـؤاد الصلاحي، “ثورات الربيع العربي ومطلب العدالة الاجتماعية“، ضمن أوراق هذا الكتاب
[10] ياسر علوي، “من الأمير إلى الخبير: هل هناك حل فني لأزمة سياسية؟“، تحت النشر.
[11] للاطلاع على تقرير البنك الدولي عن الفقر عام 2013 يمكن زيارة الرابط التالي: http://is.gd/sSXKTX
[12] للمزيد يرجى مراجعة دراسات الحالة ضمن أوراق هذا الكتاب
[13] لمزيد من المعلومات راجع محمد العجاتي وآخرون، “من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية التشاركية.. نحو دستور مصري جديد (تجارب ورؤى)”، منتدى البدائل العربي للدراسات، على الرابط التالي: http://is.gd/AlqdsG