العدالة الاجتماعية في لبنان.. الواقع الكالح
فصل ضمن كتاب: العدالة الاجتماعية: المفهوم والسياسات بعد الثورات العربية
لا تعريف موحد للعدالة الاجتماعية. فالبعض يعتبر أن هذا المصطلح يعني التوزيع العادل للثروات الوطنية. والبعض الآخر يعتبره مرتبطا بالعدالة الضريبية حصرا. والبعض يربطه بحصول الناس على الأجر العادل وعلى الوظائف. في حين يصف بعض المحللين العدالة الاجتماعية بأنها الحق في الحصول على الخدمات الاجتماعية.
وكذلك، تصنفه التقارير الدولية على أنه يختصر كل ما له علاقة بالمساواة في المجتمعات والنظم الاقتصادية، بدءا من المساواة بين الجنسين، مرورا بالقدرة على التعلم والصحة، وصولا إلى عدم تركز الثروات بيد أقلية من المواطنين.
وفق كل التعريفات، فإن العدالة الاجتماعية في لبنان، بعيدة عن واقع المواطنين ومعيشتهم اليومية. فالتفاوتالاجتماعي بين اللبنانيين يخلق فجوة واسعة بين قلة من المتمولين التابعين بغالبيتهم لزعماء الأحزاب المذهبية، وبين قاعدة ضخمة من المواطنين الذين يؤيدون زعماء الأحزاب ويفدونهم بالدم فعلا لا قولا فحسب، في مقابل تنازلهم عن حقوقهم المواطنية والإنسانية والاجتماعية والاقتصادية كافة.
لا ينحصر انعدام العدالة الاجتماعية بالفروق بين المداخيل المحققة، ولا بآلية توزيع الدخل الوطني، ولا حتى بفقدان المواطن اللبناني أبرز الخدمات العامة التي من المفترض أن يحصل عليها في مقابل الضرائب والرسوم الضخمة التي يدفعها على كل سلعة او نشاط أو دخل يحصل عليه… إذ أن غياب العدالة الاجتماعية في هذا البلد الصغير يرتبط مباشرة بنسق اقتصادي مرسوم وفق شبكة أخطبوطية تصب في النهاية في جيوب قلة قليلة من المواطنين، مدعومة بغالبيتها من زعماء المذاهب والطوائف.
طبيعة النظام الاقتصادي
يؤسس المواطن اللبناني منذ ولادته حتى مماته على تقديس الزعامات بعدما يؤمن له زعامته الخدمات الحياتية مباشرة أو عبر المؤسسات التابعة، التي تمول فعليا من موازنة الدولة اللبنانية. هذه القداسة تؤدي الى ابتعاد المواطنين عن الاعتراض، اللهم إلا إذا كان من يعادي حقوقهم هو هو عدو الزعيم، أما غير ذلك فكله قابل للتدجين.
أما النظام الاقتصادي المتبع، فهو يضمن تضخم ثروات القلة، على حساب الأكثرية، وذلك وسط بيئة اجتماعية تعاني من أزمة التركز الشديد، ولا تعترض، إلا نادرا.
يسيطر على النسق الاقتصادي اللبناني ثلاثية مقدسة: المصارف، التي تمول الدولة عبر مبالغ تشكل حوالي 80 في المئة من الدين العام اللبناني البالغ حوالي 66 مليار دولار، في مقابل حصولها على فوائد مرتفعة جدا بدأت بـ25 في المئة في التسعينيات وتسجل اليوم نسب عالمية أيضا بين 7 و8 في المئة. ويعاني القطاع المصرفي من احتكار أيضا بحيث يسيطر 12 مصرفا من أصل 72 مصرفا على أكثر من 95% من موجودات القطاع، لا بل أن ثلاثة مصارف تسيطر على 50 في المئة من الموجودات، وتسجل أرباحا تصل إلى حوالي نصف مليار دولار سنويا. علما أن عددا كبيرا من السياسيين والزعماء يستفيدون من القطاع، إما عبر إدارة المصارف أو المساهمة فيها أو عبر الإفادة من السرية المصرفية التي لا تزال سارية حتى الآن في لبنان. وينتج عن هذه السياسة، خلق قطب اقتصادي قادر على فرض القرارات على مراكز السلطة، وفق مصالح لا تخدم سوى الأثرياء.
أما العقارات، فهي محررة بالكامل، قطاع تشغله المصارف عبر ودائعها، والمغتربين والمستثمرين العرب عبر أموالهم. ولا تخضع المضاربات العقارية الى ضرائب ورسوم فعلية، وتدير غالبية الشركات العقارية الكبرى شخصيات نافذة تابعة لزعماء الأحزاب، إضافة إلى أصحاب المصارف. وينتج هذا الواقع قطاعا عقاريا مفصولا عن المجتمع اللبناني، بعدما ارتفعت أسعار الشقق والعقارات منذ العام 2006 بمعدلات تزيد عن 200%، ليصل متوسط سعر الشقة الصغيرة إلى 160 ألف دولار خارج بيروت، في حين أن الحد الأدنى للأجور في لبنان لا يتعدى الـ450 دولارا.
وإذا كان الاستيراد أساسيا في بلد قائم على الاستهلاك، إلا أنه يخضع لاحتكارات شديدة، عبر قانون الوكالات الحصرية التي تحصر الاستيراد بأفراد قلائل، وتمنعه عن غيرهم بحكم القانون. في المقابل، تنطبع الأسواق بطابع احتكاري قاس، بحيث يسيطر الاحتكار على أكثر من 66% من الأسواق، وفق دراسة أجراها الخبير الاقتصادي اللبناني توفيق كسبار لمصلحة معهد باسل فيلحان الاحصائي. وتتوزع الاحتكارات وخصوصا الوكالات الحصرية وفق حصص مذهبية. وطبعا، تؤدي هذه الاحتكارات الى تضخم شديد لا يترافق مع تضخم أسعار السلع في بلدان المنشأ أي أوروبا واميركا وغيرها. ولا يرتبط التضخم بالطلب المحلي، وإنما بأسعار مفروضة من قبل الجهات المحتكرة.
تركز عنكبوتي لصالح الأثرياء
بذلك، لا يخرج تركز الثروة في لبنان من قالب النمط الاقتصادي المتبع في هذا البلد. إذ أن الدورة الاقتصادية اللبنانية تسير وفق سلسلة مترابطة بشدة واتساق، بحيث لا يكون هنالك منفذ لخروج أي قطاع اقتصادي من تحت جناحي سلطة الطوائف المتحكمة بالمفاصل السياسية في لبنان. إذ بعد دخول ميليشيات الحرب الأهلية في القطاع العام اللبناني، وبعدما أصبح زعماء الحرب زعماء السياسة اللبنانية في فترة ما بعد الحرب، ارتسمت معالم الاقتصاد على قواعد منفعية خالصة.
فقد وزع زعماء الطوائف والمذاهب القطاع العام ومؤسساته وفق حصص تدر منافعها على الزعماء، وفق نظام “مافيو-قراطي” (وفق توصيف الدكتور فواز طرابلسي في دراسته “الطبقات الاجتماعية في لبنان إثبات وجود”). وأساس هذا النظام هو الاقتصاد الريعي الذي يعظم أرباح القلة بشكل سريع وآني، تاركا اللوحة الاقتصادية العامة غامضة المستقبل.
هذا النمط من الاقتصاد يستبعد أي عمل إنتاجي يمكن أن يوجد الوظائف، بحيث إن عائدات الريوع تعود إلى من يستثمر بها حصرا، ما يؤدي إلى اتساع قاعدة البطالة والهجرة. كذلك، تتركز في هذا النظام سلسلة من الإمتيازات الموزعة على الزعماء وحاشيتهم، ما يوجد احتكارات ترفع من نسب التضخم وتترك آثارها العميقة في المجتمع، خصوصا من ناحية رفع معدلات الفقر والعوز وتآكل القدرة الشرائية للمواطنين.
بالإضافة الى ذلك، يقوم هذا النظام على خلق أرضية ضخمة لتأمين استمراريته، فتكون عملية الاقراض المصرفي للدولة أساسية لربط الناتج المحلي الاجمالي بقلة من أصحاب رؤوس الأموال التي تعظم أرباحها من الفوائد الضخمة المفروضة على سندات الخزينة، في مقابل تأمين بقاء الاقتصاد اللبناني على حافة عدم الانهيار. وطبعا، يلحق بهذا النظام تشريعات وقوانين تعفي الريع، ومن يتعامل به، من الاقتطاعات الضريبية اللازمة لتأمين الحد الأدنى من العدالة في توزيع الثروة الوطنية، ومنها مثلا الريوع العقارية والودائع المصرفية الضخمة. وفي هذه الدورة الاقتصادية الدقيقة، تنخفض معدلات الأجور نسبة إلى التضخم وتتراجع مخصصات الإنفاق الاجتماعي للدولة، بحيث يصبح دافعو الضرائب مجرد آلة تمويل تضمن استمرارية نظام يعاكس مصالح الناس وحقوقها.
هوة سحيقة
هذه التركيبة الاقتصادية أدت إلى هوة اجتماعية سحيقة. إذ يعيش مليون و232 ألف فقير لبناني بمليار و611 مليون دولار سنويا، وهو ما يقارب ثروة شخص واحد في عائلة واحدة من العائلتين الأكثر ثراءً في لبنان. إذ أن حجم ثروة عائلتين لبنانيتين فقط، هما عائلتا الحريري وميقاتي، يصل الى 16 مليارا و800 مليون دولار.
وفي حال تمت دراسة كتلة الأجور في لبنان في مقابل ثروة هاتين العائلتين، يتبين أن حوالى 62 في المئة من اللبنانيين يتقاضون سنويا ما يقرب من حجم ثروة عائلتي الحريري وميقاتي. وكلتا العائلتين تعتبر من راسمي السياسات الاقتصادية في لبنان. إذ إن رفيق الحريري كان رئيسا للحكومة اللبنانية طوال 12 سنة، ونجله سعد شغل منصب رئيس للحكومة مدة 3 سنوات. أما نجيب ميقاتي فقد كان رئيسا للحكومة طوال 5 سنوات.
وتبلغ ثروة عائلة ميقاتي (الرئيس نجيب ميقاتي وأخاه) حوالي 6.1 مليارات دولار. في حين تبلغ ثروة عائلة الحريري (ورثة الرئيس رفيق الحريري) حوالي 10.7 مليارات دولار.
أيضا، يقول وزير العمل اللبناني السابق شربل نحاس، أن 1% فقط من الحسابات المصرفية فيها الآن أكثر من 60 مليار دولار، فيما 70% من المودعين لا يمتلكون سوى أقل من 3 مليارات دولار من مجموع الودائع في القطاع المصرفي المحلي!.
كذلك، تؤكد دراسة للأمم المتحدة ووزارة الشؤون الاجتماعية في لبنان أن 20% من أصحاب الدخل الأعلى في لبنان يستأثرون بأكثر من نصف فاتورة الاستهلاك، فيما 50% من اللبنانيين لا تبلغ حصتهم من هذه الفاتورة إلا 20%.
التفاوت الاجتماعي في لبنان مذهل حد النفور. تفاوت يتداخل فيه سوء العدالة مع سوء توزيع الدخل الوطني، بموازاة سياسة ضريبية منحازة للأثرياء، وارتفاع في معدلات البطالة والفقر.
ويبلغ عدد المقيمين في لبنان حوالى 4.4 ملايين لبناني. ويتقاضى أكثر من 2 مليون و728 ألف لبناني منهم 22 مليار دولار سنويا كرواتب.
في المقابل، يبلغ متوسط الأجر في لبنان حوالى 700 دولار أمريكي، في حين أن الحد الأدنى للأجور يصل الى 450 دولارا. ويصل عدد الفقراء، ضمن خط الفقر الأعلى، أي الذين ينفقون 4.4 دولارات يوميا، حوالى 880 ألف لبناني، وعدد الفقراء الذين ينفقون 2.4 دولار يوميا حوالى 325 ألف لبناني. أما مجموع من ينفقون بين 2.4 و4.4 دولارات فهو مليون و232 ألف لبناني، وذلك وفق دراسة الشؤون الاجتماعية أيضا.
وهذا الخلل في البنية الاجتماعية جاء موثقا العام الماضي في كتاب الثروات العالمية للعام 2013، الصادر عن بنك كريدي سويس السويسري. حيث تبين أن 8900 مليونير لبناني، أي 0.3% فقط من مجمل عدد سكان لبنان البالغين، يتحكمون بـ48% من الثروات الخاصة في البلد، فيما تتحكم النسبة العظمى من السكان والبالغة 99.7% بنحو 52% من ثروات البلاد، بما يعادل 91 مليار دولار.
كما تبين أن لبنان يحتل المركز الرابع عالميا بعد روسيا وأوكرانيا وكازاخستان في عدم المساواة بتوزيع الثروة بين السكان من مجمل ثروات القطاع الخاص في لبنان.
هكذا، تغيب العدالة الاجتماعية عن حياة اللبنانيين، ويضيع هذا المطلب في حناجر المتضررين من السياسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة… وسط أمل بتغيير قد يتحقق، بعدما يهدم بيت العنكبوت.