ثورات الربيع العربي ومطلب العدالة الاجتماعية
فصل ضمن كتاب: العدالة الاجتماعية: المفهوم والسياسات بعد الثورات العربية
مقدمة:
يمكن القول إن مفهوم العدالة الاجتماعية ودلالاته المختلفة شكل بؤرة ارتكاز في المطالب السياسية والاجتماعية والنقابية خلال الفترة السابقة على ثورات الربيع، ولكن التعبير عنه لم يأخذ صفة الحشود الشعبية الكبيرة بل كانت النقابات والجماعات الفئوية قليلة العدد التي تركز في مطالبها على مفهوم العدالة في تسوية حقوقها. ومع ثورات الربيع العربي أصبح المفهوم مطلبا وشعارا رئيسيا بل وأهم مكونات الأهداف المعلنة في مختلف دول الربيع العربي.
وللعلم فإن أي تغيير سياسي بحجم الثورات أو الانتفاضات الشعبية، فالعدالة الاجتماعية كمطلب وهدف تشكل فلسفة هذا التغيير وأحد مؤشراته القابلة للتحقق سريعا من خلال حزمة من الإجراءات والآليات المؤسسية والقانونية، ويتطلب قبل هذا توجها وانحيازا سياسيا من الحكومات تجاه المجتمع. وعليه فلا يمكن الحديث عن العدالة الاجتماعية دون تحديد لماهية السياسات الاقتصادية التي تعبر عنها الحكومات وتتمثلها إجرائيا.
ومفهوم العدالة عندما نحدده نعتمد مفهوما واسعا لا يرتبط فقط بالمحددات القانونية (الحقوقية) بل أيضا بمحددات اقتصادية واجتماعية وثقافية في آن واحد. فالعدالة الاجتماعية تعبير سسيو-سياسي عن المواطنة المتساوية في تحقيق تكافؤ الفرص والتوزيع العادل لثمار التنمية. والعدالة الاجتماعية تتضمن في تحققها ليس توزيع عادل للثروة وفائض النمو الاقتصادي فحسب بل تحقيق المواطنة المتساوية التي تتضمن تكافؤ الفرص لكل مواطن والنظر إلى مجالات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي وحق التقاضي والحقوق المدنية والسياسة كما تضمنتها الاتفاقيات الدولية كمجالات أساسية في مفهومها ويكون للحكومات واجب في دعمها كمجال تنموي، من خلاله فقط يدرك الأفراد في المجتمع توجه الدولة وانحيازها إليهم.
وواقع الحال في مجتمعنا العربي يعكس تفاوتا طبقيا في حجم الثروة وامتلاكها وفي الدخول للأفراد، وفي الاستفادة من الخدمات التعليمية والصحية والثقافية بل وحتى الترفيهية. ومن هنا فان أهم عنصر في حزمة تحقيق العدالة يكون من خلال إعادة تجديد وظائف الدولة وخلق انحياز سياسي موجه نحو المجتمع تكون السياسيات الاقتصادية هي المعبر فيه نحو تحقيق العدالة انطلاقا من حقيقة هامة تؤكد أن أي سياسة اقتصادية لا تحقق مبدأ العدالة الاجتماعية إنما هي سياسة معادية للمجتمع.
ومن هنا جاءت ثورات الربيع العربي (الانتفاضات/الاحتجاجات) بكل عنفوانها وما ترتب عليها من تغيير حتى اللحظة لتضع العدالة الاجتماعية كواجهة فلسفية ومطلبية تعبر عنها وترنو إلى تحقيقها، ومن ثم فمطلب الحرية والعدالة والعيش إنما هو جوهر لعدالة في تحسين مستوى معيشة المواطنين، وهنا تتجلي قيمة الثورات والتغييرات التي تستهدف المواطن في تحسين معيشته ودعم مطالبه الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية. فالثورات ليست ترفا ولا تستهدف تغيير حزب أو جماعة بأخر إنما تستهدف تغيير السياسات والتوجهات لنظام بكامله، أو تغيير النظام برمته وإحلال آخر يتمثل نخبة وسيسات وتوجهات منحازة للمجتمع.
وهنا تتابين الأحزاب في رؤاها نحو مفهوم العدالة الاجتماعية وتعبيراتها عنه. فهذه المفهوم جزءا رئيسيا من أحزاب اليسار الاشتراكي لكن فاعليتها السياسية ضعيفة، وهو مطلب شعاراتي للأحزاب الليبرالية يقتصر تعبيرها عنه في مؤشرات محدودة، وهو نفس التعبير لدى جماعات وأحزاب إسلاموية تركز على بعض المؤشرات لكنها لا تستهدف تغيير السياسات الموجهة ولا الانحيازات نحو تحقيق المفهوم ودلالاته.
مفهوم العدالة الاجتماعية:
تعني العدالة الاجتماعية Social Justice إعطاء كل فرد ما يستحقه وتوزيع المنافع المادية في المجتمع، وتحقيق أكبر قدر من المساواة في توزيع الثروات الاقتصادية والاجتماعية في مجتمع ديمقراطي، وتوفير متساو للاحتياجات الأساسية. فمفهوم العدالة الاجتماعية مفهوم شامل وعام يتناول كل جوانب وأبعاد النظام السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي والحقوقي والإنساني. والعدالة الاجتماعية قيمة إنسانية تعود أصولها إلى الأديان السماوية التي أكدت جميعها على ضرورة تحقيقها، ثم جاءت الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة لتقدم تفسيرات لها، فالسلم الاجتماعي لا يتحقق إلا بالعدالة الاجتماعية، وهذه الأخيرة جوهرها المساواة والتضامن واحترام حقوق الإنسان وكرامته (المساواة في الفرص, وعدالة التوزيع في الدخل و الثروة).
ومن هنا يرتبط تحقيق العدالة الاجتماعية بمفاهيم وعمليات التنمية المستدامة والديمقراطية وحضور الدولة الوطنية الحديثة وبالشراكة المجتمعية التي تتسع معها فرص للأفراد لأن يساهموا في برامج التنمية المحلية وفي أن يدلوا بأصواتهم لاختيار ممثليهم في البرلمانات ومجالسهم المحلية. وعليه فنحن عندما نتحدث عن العدالة الاجتماعية لا يمكن اجتزاءها عن سياق عام سياسي واقتصادي ومؤسسي أيضا. وفي السنوات الأخيرة أصبح مفهوم العدالة الاجتماعية مدرجا في اهتمام الكثير من الكتاب والمثقفين والساسة والأحزاب على حد سواء. ففي كتابات جون رولس تعتبر العدالة الاجتماعية فكرة فلسفية وسياسية. كما تعد من الأركان الأربعة لأحزاب الخضر في العالم. وظهرت حركات دولية تعتمد العدالة هدفها الرئيسي.[1]
في هذا السياق ظهرت ثورات الربيع ترفع شعار العدالة الاجتماعية كأهم مطالبها وهذا يبلور وعي الشباب والشعب في نقدهم للنظم والحكومات التي ثاروا ضدها وممارساتها السياسية والاقتصادية التي خلقت اختلالات في مبدأ المواطنة وتكافؤ الفرص من خلال الفساد والتوريث وعدم تمكين المواطنين من حقوقهم الأساسية. وهنا كان مطلب العدالة واضحا ومحددا تجاه تحقيق الإنصاف والمساواة وحضور دولة المؤسسات والقانون. ومثلما رفع المتظاهرون هذا الشعار في تونس ومصر تم رفعه في اليمن أيضا، وكان نقد الحكومات مرتبطا به باعتبارها حكومات فاسدة أهدرت الثروة الوطنية ولم تحقق نجاحا يذكر في مجالات التنمية. وللعلم تعتبر اليمن من أعلى الدول في الفساد وفق المؤشرات الدولية المتعارف عليها، كما تتصف بضعف شديد في العدالة القضائية وعليه فرفع شعار العدالة وجعله مطلبا في مختلف الساحات إنما يدل على وعي الشباب وإدراكهم للمضمون الاجتماعي للثورة وأنها لا تستقصد تغيير أشخاص أو أحزاب وإنما تغيير منظومة متكاملة تستهدف إعادة بناء نظام سياسي وإعادة بناء الدولة لتكون مؤسساتها قادرة على الإنجاز الإنمائي وتحقيق أهداف اقتصادية وسياسية جوهرها العدالة الاجتماعية.[2]
ومن جانبها ترى الأمم المتحدة أن العدالة الاجتماعية مبدأ أساسيا من مبادئ التعايش السلمي داخل الأمم وفيما بينها الذي يتحقق في ظله الازدهار. ومن ثم فعندما تدعو إلى تحقيق المساواة بين الجنسين أو تعزيز حقوق الشعوب الأصلية والمهاجرين يكون ذلك إعلاءً لمبادئ العدالة الاجتماعية. وعندما تدعو لإزالة الحواجز التي تواجهها الشعوب بسبب نوع الجنس أو السن أو العرق أو الانتماء الإثني، أو الدين أو الثقافة أو العجز نكون قد داعمة لعملية النهوض بالعدالة الاجتماعية. ووفقا لذلك أقرت المنظمة الأممية الاحتفال سنويا في يوم 20 فبراير بوصفه اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية.
التعبير الدستوري والحقوقي لمفهوم العدالة الاجتماعية:
والعدالة الاجتماعية ترتبط بالإطار القانوني والدستوري في مرجعيته الوطنية داخل كل دولة من حيث ما تقره القوانين والدساتير من نصوص ضامنة لحقوق الأفراد في العمل والتعليم والصحة والحريات العامة وما تقره من اعتماد المرجعيات الدولية التي صادقت الحكومات عليه بدءا من الإعلان العالمي والعهدين الدوليين واتفاقيات حقوق الطفل ومنع التمييز ضد المرأة وغيرها. والإطار القانوني جوهر الدولة الحديثة التي تعتمده في تنظيم الحقوق والواجبات وفي اقرار السياسات وفي تحديد مشروعيتها ضمن أطر محددة في صناعة القرار وإنفاق الموازنة، ومن ثم فنحن نعيش في مرحلة لا بد وأن يكون القانون والدستور محددا لهوية الدولة وفلسفتها ولمنظومة الحقوق والحريات داخل المجتمع. بل أن لا بد وأن تكون الدولة جزءا من الأسرة الدولية وموافقة على المرجعية القانونية الدولية بمختلف القوانين والاتفاقيات التي أصبحت محل اهتمام شديد من المجتمع المدني ومن التوجه السياسي العالمي.[3]
واليمن تؤكد في أهداف ثورتها وفي دستورها على الالتزام بالإعلان العالمي وبالقوانين والاتفاقيات الصادرة عن الأمم المتحدة والحكومات اليمنية موقعة ومصادقة على الكثير من الاتفاقيات الدولية ناهيك عن أن في اليمن دساتير مختلفة تتضمن بشكلها العام تأكيدات في نصوصها على تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص، لكن الممارسة العملية للحكومات والأحزاب تجعل من العدالة مطلبا ومفهوما غائبا بل وبعيد المنال. وقد عملت وثيقة الحوار الوطني على تلافي هذه الثغرات، حيث أكدت الوثيقة (نقطة 153، ص208) على التزام اليمن بالاتفاقيات والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، وعلى التزام اليمن بالمعايير الدولية في استقلالية السلطة القضائية (نقطة رقم 30، ص112).
وللعلم فان غالبية القوانين والدساتير العربية ومنها دستور وقوانين اليمن تعاني من قصور في النصوص المرتبطة بتحقيق العدالة الاجتماعية، كما أن بلادنا لا تمنح أولوية في التطبيق والاهتمام للاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها، ومن هنا نجد تمييزا ضد المرأة وضد فئات اجتماعية متعددة وإهمال الريف وقضاياه الاجتماعية والاقتصادية وغياب شبكة الضمان الاجتماعي وقصور كبير في تقديم الخدمات الصحية للمرأة والطفل ولعامة المواطنين. كما هناك قصورا في القوانين تجاه متابعة قضايا الفساد التي تعتبر من أهم القضايا والمجالات المؤثرة على تحقيق العدالة، فالفساد يتضمن إهدارا للمال العام وخصما من موازنات اجتماعية واقتصادية كانت ستحقق خدمات للمواطنين.[4] ولذلك احتلت اليمن الترتيب 167 ضمن 177 دولة في مؤشر مدركات الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية عام 2013.[5]
وعليه نأمل في سنوات ما بعد الربيع أن تولي الحكومات الراهنة وما سيليها من اهتمام كبير في السند القانوني والدستوري للعدالة الاجتماعية، وهنا نحن في اليمن نمر بعملية بناء دستور جديد سبقه حوار وطني تضمن في مخرجات إشارات هامة إلى بند العدالة الاجتماعية، وتبقى المسؤولية على الأحزاب والمجتمع المدني في الضغط المباشر لتأتي نصوص الدستور الجديد معبرة عن تطلعاتهم وعن أهداف ثورتهم في التنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وقد تناولت في دراسة سابقة حول إدماج حقوق المرأة في الدستور الجديد نصا هو ذاته النص الداعم للعدالة الاجتماعية، فلا يكفي ما ورد في الدستور السابق الذي نص في المادة السادسة بالقول: تؤكد الدولة العمل بميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وميثاق جامعة الدول العربية وقواعد القانون الدولي المعترف بها بصورة عامة. بل لا بد من نص آخر يؤكد على أولوية تطبيق الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي صادقت الحكومة عليها، وأن تكون لها قبول في المحاكم والتقاضي وأن يتم صياغة التشريعات المحلية وفق تلك الاتفاقيات والمعاهدات.[6]
فلا بد من أن تتضمن نصوص الدستور الجديدة موادا واضحة ومحددة تجاه تفعيل العدالة الاجتماعية كركن أساسي من أركان النظام والسياسات العامة، فالنص على تكافؤ الفرص لجميع المواطنين وحقهم في التعليم والصحة والعمل، وحق التعليم الأساسي والزاميته ومجانيته دونما تفعيل الإجراءات القانونية والمؤسسية لتنزيل هذه النصوص إلى حقوق وخدمات يتلمسها المواطن العادي تبقى نصوصا نظرية عاجزة عن التحقق العملي. وهنا مهمة الحكومة والأحزاب والمجتمع المدني بشكل عام في تفعيل نضالاتهم لتحويل النصوص إلى واقع ملموس من خلال إجراءات إدارية ومؤسسية تمكن المواطن من حقوقه بالتساوي مع غيره ودونما إقصاء أو تمييز.
العدالة الاجتماعية كمطلب رئيسي لثورات الربيع:
ننظر إلى العدالة كأهم مطالب للثورات الربيعية، وفي بلادنا خصوصا، حيث السياق العام المولد للثورة كان مدركا من الجميع وفق تفشي مظاهر الفساد والتمييز في فرص العمل والاقصاء المتعمد لفئات ومجموعات متعددة وإهدار الثروات الوطنية في مظاهر احتفالية وعبثية لا تخدم المواطن، ناهيك عن تزايد معدلات الفقر والبطالة وضعف الخدمات العامة الأساسية وتزوير الانتخابات.. فمعدل الفقر في اليمن هو الأعلى على الإطلاق في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا –وفق البنك الدولي- والذي بلغ 17% في عام 2010، منهم 60% من الشباب. كما سجلت اليمن أعلى معدل فقر أيضاً، حيث يعيش 17% بأقل من 1.20 دولار يوميا، بينما يعيش نصف السكان يعيشون بأقل من 2 دولار في اليوم.[7]
كلها عوامل ومسببات أنضجت الوضع الثوري فكانت ثورة 11 فبراير من العام 2011 مفاجئة للنظام وللأحزاب ومدوية في صرختها ورفع سقف مطالبها السياسية والاجتماعية. ومن هنا وللخروج من نفق الأزمات التي تراكمت مع النظام السابق وفشل الحكومات الراهنة التي أعقبت الثورة فإنه لا بد من اعتماد رؤية إستراتيجية حاسمة تجاه مسألة التنمية ومحاربة الفساد وإعادة الاعتبار إلى الدولة ومؤسساتها وجعل الخدمات الاجتماعية في أولويات اهتمام الحكومة. وإذ كانت أهداف الثورة قد ركزت على الحرية والعدالة والمواطنة؛ فجميعها مترابطة مع بعضها في المفهوم والدلالات، وتتضمن رؤية متكاملة من أجل تحقيقها عمليا وفق برامج وسياسات تعزز من التغيير السياسي والاجتماعي وفق منظورات اقتصادية متجددة ووفق سياسات متجددة في إجراءاتها العملية والإدارية.
وللعلم فإن مطلب العدالة يعزز من فلسفة اليسار الحزبي والسياسي إنطلاقا من أن منظوراته الايدولوجية والسياسية في أسس نشأته تنطلق من جعل العدالة مطلبا نضاليا، إلا ان واقع الحال في بلادنا يظهر أنه لم ترتفع هذه الأحزاب إلى مستوى الإدراك والوعي بمطالب الثورة واستيعابها كمطالب نضالية للأحزاب لتشكل دعما وسندا في التغيير والبناء الإنمائي والديمقراطي. وبالرغم من أن الأحزاب التي ظهرت في ساحات التغيير أصبحت اليوم في موقع صناعة القرار السياسي وفقا لتسلمها مقاعد الحكومة، ولكن مع ذلك لا نرى أي توجه حقيقي للحكومة وأحزابها في الآداء السياسي والاقتصادي بل غرقت في أعمال يومية ضمن منطق المحاصصة الوظيفية التي أنتجت عدم المساواة وعززت من الإقصاء الذي تم رفضه سابقا وكان من مسببات الثورة.[8]
ولتعزيز اهتمام الحكومة والأحزاب والمجتمع المدني بالعدالة الاجتماعية يجب أن يكون اهتمامها جميعا انطلاقا من نظرتها إلى العدالة الاجتماعية باعتبارها الغاية القصوى من الثورة لأنها تعنى التغيير الأساسى فى أنماط حياة الشعب ومستوى معيشته. وهي هدف الثورة الأهم والأعظم الذى يضمن إزالة الأسباب المولدة للاحتجاجات والانتفاضات المستمرة وإقامة واقع ثوري تستند إليه جماهير الشعب فى أدائها لأعمالها على النحو الذي يضمن الاستقرار. ومن بين شروط الاستقرار تحقق المساواة فى أكثر أشكالها عدالة. وبدون هذا الاستقرار الذي تكفله عدالة اجتماعية يبقى الوطن في حالة الغليان التى تسبق الثورة وتجعلها حتمية مع مرور الوقت.
وأمام المجتمع المدني والأحزاب في اليمن –كما في بلدان الربيع العربي- معركة هامة في صناعة دستور يتضمن ويؤكد على أهمية العدالة الاجتماعية بمجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إنطلاقا من أهمية الدستور الجديد الناظم لمرحلة متغيرة لا بد وأن تلبي تطلعات الشعب من ثورته المباركة. وهنا لا بد من تجاوز قصور الدستور السابق الذي لم يتضمن في نصوصه سوى التعبير عن تكافؤ الفرص وجعل العمل والصحة حق للمواطن دونما إشارة إلى كيفية ممارسة هذا الحق والحصول عليه وفق ضمانات قانونية.
ومن هنا فالدستور الجديد لا بد وأن يؤكد على أهمية النوع الاجتماعي والتنمية الريفية وإدماج المهمشين اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وتعزيز مسألة التأمين والضمان الاجتماعي للفقراء والعاطلين، وكل هذه الأمور معركة لا أظن أن الأحزاب والمنظمات المدنية والنقابية جاهزة لخوضها، فالواقع الراهن يعكس تشرذم هذه القوى وانقسامها على بعضها وعدم اهتمام الأحزاب بالمسألة الاجتماعية بما يكفي لتكون برنامج عملها السياسي. إن واجب الحكومة والأحزاب والمنظمات المدنية والشبابية العمل وفق تكتل يحشد الجهود من أجل إقرار دستور وسياسات تجعل من المواطن الركيزة الأساسية في الاهتمام وجعل حقوقه في العدالة الاجتماعية موجها ومرشدا للسياسات الرسمية وفق نص الدستور. ومن هنا نفهم إصرار الشباب في ميادين التغيير على جعل العدالة واحد من مطالبها بل وأهمها.
العدالة الاجتماعية بين الدعوة إليها وعجز الحكومات عن تحقيقها:
أهم مشكلة تواجه تحقيق مطلب العدالة الاجتماعية في بلادنا ليس إدراجه كنص دستوري واضح المعالم وفق تحديد مجالاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فحسب، بل أن الحكومة التي جاءت بعد الثورة -وهي ليست حكومة الثورة- انطلاقا من مبادرة سياسية أجهضت المسار الثوري واعتمدت منهج المحاصصة بين الأحزاب، وهنا أول مرتكز ينفي تحقيق العدالة من حيث أن المحاصصة السياسية للوظيفة العامة بدءا من حقائب الحكومة وما يليها إنما يشكل عدوانا صريحا على مبدأ العدالة وتحقيق تكافؤ الفرص والمساواة، وقد أثبتت كل الإجراءات خلال السنتين الأخيرتين أن اهتمام الحكومة منصب على تعزيز حصص الأحزاب ومغانمها دونما التفات إلى مطالب المواطنين التي زادت سوءا من خلال رفع أسعار المشتقات النفطية واحتكار السلع والخدمات الأساسية وضعف الخدمات الصحية وسوءها وعدم إيجاد فرص عمل تقلل من البطالة وضعف مؤسسات الحماية الاجتماعية للفقراء. ونظرة فاحصة للواقع الاجتماعي تظهر تزايد معدلات الفقر والبطالة وغياب الخدمات عن الريف وهم غالبية السكان مقابل إنفاق ترفي للحكومة وتزايد مظاهر الفساد والتقصير في جمع الموارد المالية من خلال الضرائب المستحقة على الشركات وإهدار ما توفر منها، وهنا لا نجد حكومة رشيدة في إدارة الشأن العام ولا في إدارة وإنفاق الموازنة العامة.[9]
لعل المسألة الاجتماعية تطرح أسئلة مشروعة تجاه آليات تحقيق العدالة في مستويات التعليم والسكن والشغل والصحة. وفي مستويات التصويت والترشح في الانتخابات البرلمانية والمحلية وضمان نزاهة العملية الانتخابية، والربط بين العمليتين هام جدا لأن المواطن المهمش وغير الفاعل سياسيا قد لا يحصل على حقوقه الاقتصادية والاجتماعية ولا يستطيع التعبير عن حرمانه من حقوقه، ومن هنا نركز على أهمية الربط بين المسار الديمقراطي وتحقيق العدالة الاجتماعية، فالمسألة الاجتماعية قضية محورية في البناء الديمقراطي والمؤسساتي نفسه ولا يمكن الفصل بينهما خاصة ونحن نستخدم مفهوما للتنمية البشرية يجعل منها مستدامة وشاملة وتعني بالبعد الاجتماعي كما البعد الاقتصادي والسياسي.
إن تبريرات الحكومة باستمرار الأزمة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي غير مقنعة لأحد في عموم المجتمع، فقد بدأت ملامح هذه الصعوبات تلوح في الأفق اجتماعيا عبر استمرار البطالة وعجز الدخول الفردية عن تلبية حاجيات الحياة اليومية، وما ينتج عن ذلك من انتشار للفقر والهشاشة الاجتماعية ومن ثم اتساع دائرة الاحتجاج. واتصور أن موجة جديدة من الاحتجاج بل والانتفاضة الشعبية ستكون موجهة تجاه مطالب تحقيق العدالة الاجتماعية التي أصبحت مدركة في وعي الشباب والناشطين في ساحات التغيير. ارتفاع معدلات الفقر والبطالة خلال فترة ما بعد الثورة.
وهنا يدعو الكاتب الأحزاب والدولة والحكومة في أن تؤسس عملها ومرجعياتها على مبدأ العدالة الاجتماعية ليكون محركا لنشاطها السياسي، بمعنى آخر إن المنطلق الذي يجب أن يؤسس للمرجعية الفكرية للدولة والأحزاب هو الديمقراطية الاجتماعية، ونعني بها المسار السياسي والاجتماعي في تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية. ويجب أن تؤكد الأحزاب في خياراتها الإستراتيجية على الاهتمام بمصالح المواطنين خاصة الفقراء وذوي الدخل المحدود في تحقيق مطالبهم الأساسية كالتعليم والصحة والشغل والسكن وحماية البيئة ومحاربة الفساد والعدالة في توزيع الثروات. حتى حينما يتم اعتماد خيار اقتصاد السوق كفلسفة للحكومة وفق روشتة البنك والصندوق الدوليين فإنه لا بد عليهم من ربطه بشرط المسؤولية الاجتماعية دفاعا عن الفئات الفقيرة والوسطى وغالبية أفراد المجتمع. فقد دعا البنك الدولي الحكومة اليمنية إلى خفض النفقات وإصلاح الدعم وبخاصة دعم الطاقة.[10] فالتحديات الراهنة في بلادنا هي ترسيخ العملية الديمقراطية وتحقيق ركائز ومنطلقات التنمية الشاملة والمستدامة المبنية على احترام الحقوق الفردية والجماعية ومحاربة اقتصاد الريع والفساد بمختلف أشكاله وإعادة الاعتبار للعمل السياسي وثقة المواطن في جدوى المشاركة في الشأن العام، وتحقيق النجاعة الاقتصادية عبر سياسات التراكم التقني في مجال الإنتاج وتكريس موارد مالية لدعم القدرات في الأبحاث والتطوير، وضمان التوزيع العادل للثروات الوطنية الذي يضمن للمواطن كل حسب جهده حدا مقبولا من الرفاه الاجتماعي.
العدالة الاجتماعية وفق رؤية جديدة للسياسات الاقتصادية:
إن تحقيق العدالة الاجتماعية لا يرتبط بنصوص الدستور فحسب بل وبتوجهات السياسة العامة وانحياز الدولة لتحقيق مطلب العدالة، ووفقا لذلك لا بد من تغيير السياسات الاقتصادية لتكون فاعلة ومحققة للعدالة. ومن هنا فلا ينفع اعتماد اقتصاد السوق دون ضوابط ودون وموجهات اجتماعية ولا ينفع أن تكون الدولة مجرد حارسة للنشاط الاقتصادي دون تدخل منها لخلق توازن ودعم فئات اجتماعية لا تلقى اهتمام اجتماعي من الشركات والمؤسسات الربحية، ومن هنا لا بد من اعتماد منظور اقتصادي جديد يحقق التنمية ويعزز من فرص النمو الاقتصادي وتفعيل الرأسمال الوطني وفي نفس الوقت يحقق العدالة الاجتماعية، ونعني بها ضرورة اعتماد اقتصاد السوق الاجتماعي كمظور اقتصادي جديد يحقق توافق بين المسارين الاقتصادي الربحي والاجتماعي السياسي في آن واحد. ويهتم هذا المنظور الاقتصادي بالموارد البشرية وباستدامة تدريبها واستدامة النمو الاقتصادي وبحماية البيئة وحق الأجيال القادمة. [11]
واقتصاد السوق الاجتماعي وحده ملائم لظروفنا في اليمن –كما أرى أنه الأفضل لدول الربيع العربي- فلا يمكن تحقيق نمو اقتصادي وإعادة توزيع منافع التنمية وثمارها إلا بسند سياسي ودستوري وبتوجه ممنهج وفق منظور يحدد السياسات الاقتصادية بإشراف وتنظيم أجهزة الدولة المنحازة لغالبية الشعب وجعل التخفيف من الفقر والبطالة هدفا رئيسيا للحكومة والتزاما وطنيا وقانونيا وأخلاقيا في آن واحد. وهنا تكون الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني في إطار تعزيز التنمية ورفع الكفاءة الإنتاجية وتدريب العمالة وتعزيز منافعها تحقيقا لمبدأ الإنصاف والمساواة.
وهذا النموذج الاقتصادي يجمع بين المسألة السياسية الديمقراطية والمسألة الاقتصادية من أجل تحقيق العدالة. بمعنى آخر أنه لا بد من تحصين الاختيارات الديمقراطية وتدعيمها بالإصلاحات المؤسساتية والدستورية الضرورية، بما يلزم من المقومات لإحقاق العدالة الاجتماعية والإنصاف بين الأفراد، وتدعيم ركائز دولة الحق والقانون.” وهذا يعني أن المسار الديمقراطي لا يستقيم إلا بإحقاق العدالة الاجتماعية، فالمسؤولية السياسية والأخلاقية للفاعل السياسي (الحكومة – الأحزاب – النظام بشكل عام) لا بد وأن يقر ويعتمد في أهدافه إقامة العدالة الاجتماعية ودعم تحقيقها بنصوص وتشريعات لازمة.
ونحن نرى أن هناك إمكانية جديدة لبناء اليمن الجديد من خلال ديمقراطية اجتماعية تستوجب لزوما أن يكون فيها الاقتصاد متضامنا والتضامن الاجتماعي ممأسسا، مع دعم الميزانيات الاجتماعية الحيوية كالتعليم والبحث العلمي والصحة والسكن… وتفعيل الحوكمة والادارة الرشيدة.. والتأكيد على أن الاستثمار الأمثل للموارد البشرية مدخل أساسي للانصهار الفاعل في اقتصاد المعرفة وتطبيقاتها العلمية والتكنولوجية بما يمكن من رفع تحديات التنمية المستدامة في ظل اقتصاد معولم يخضع للعديد من القيم الجديدة ومنها التجديد والابتكار والقيمة المضافة العالية، والقدرة التنافسية الكبيرة. وتقوم أساسا على تحقيق جيل جديد من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، باعتماد أدوات الديمقراطية التمثيلية والتشاركية ومقاربة النوع الاجتماعي.
وهنا لا بد وأن نستلهم من التجارب العالمية التي سبقتنا في مضمار التنمية والعدالة وهي تجارب كثيرة يجب دراستها والاستفادة منها في مثل ظروفنا من أجل تحقيق العدالة والتنمية. فهناك دول مثل ألمانيا والدول الاسكندنافية وهناك دول مثل البرازيل حققت نموا اقتصاديا كبيرا مدعوما باهتمام بالغالبية من السكان وفق مطالبهم الاجتماعية. وهنا يكون التحدي للحكومات القادمة والتحدي الأساسي لقوى الثورة ومكوناتها من الإدراك والوعي الكاملين بأهمية التلازم بين المسارين الاقتصادي والاجتماعي وأن تتشكل كتل سياسية جيدة تسعي للضغط على الحكومة من أجل اعتماد منظورات اقتصادية وسياسية تحقق العدالة والتنمية في آن واحد. في هذا السياق يجب أن يدرك الشباب العربي أن ربيعهم الثوري (ربيع الحرية) قد أنهى المقايضة بين الخبز والحرية، وأنه لا مجال للمفاضلة بينهما، فهما معا مطلبا واحدا وعملية واحدة.[12]
إن أهم معوقات العدالة الاجتماعية غياب المنظور الاقتصادي الموجه للحكومة وجعل سياساتها محل قرارات اعتباطية خادمة للنخبة التجارية ومراكز القوى، كما أن التركيز على النمو الاقتصادي ومؤشراته الحسابية فقط يغيب معه مبدأ العدالة الاجتماعية. فالمؤشرات التي نقيس بها التقدم نحو تحقيق التنمية تتعلق بقياس نسبة الفقر، ومعدلات البطالة، واللامساواة، والحرمان من الخدمات والسلع العامة، وليس بالاعتماد على مؤشرات دخل الفرد الحسابي والناتج القومي وحدها. إن المفهوم الحديث للتنمية يستوجب القضاء على أهم مصادر الحرمان من الحرية كالفقر، وانعدام الفرص الاقتصادية والحرمان الاجتماعي، وإهمال الخدمات العامة ومظاهر القمع السياسي والاقتصادي. وعليه فإن المؤشرات التي نقيس بها التقدم نحو تحقيق التنمية تتعلق بقياس نسبة الفقر والفقراء، ومعدلات البطالة، واللامساواة، والحرمان من الخدمات والسلع العامة، وليس بالاعتماد على مؤشرات دخل الفرد الحسابي والناتج القومي وحدها. فما هي جدوى التنمية إذا زاد معدل دخل الفرد وبقيت مؤشرات الفقر والبطالة واللامساواة كما هي؟ ويعزز هذا المفهوم الحديث من دور الناس في المشاركة في إحراز التقدم باعتبارهم شركاء فيه وليسوا فقط كفئات مستفيدة من برامج التنمية التي يطبقها أشخاص آخرين. وتقييم ما إذا كانت هذه التنمية قد ساهمت في تعزيز وتوسيع الحريات التي يتمتع بها الناس.وتلعب الديمقراطية دورا مزودجا بوصفها غاية ووسيلة في إثراء حياة البشر وتشمل القدرة على تفادي أنواع الحرمان كالجوع، واعتلال الصحة والاستمتاع بمختلف أنواع الحريات المرتبطة بالمعرفة والتعليم والمشاركة السياسية.
خلاصة القول.. تقع العدالة الاجتماعية في صلب مطالب التغيير والإصلاح في بلادنا وبلاد الربيع العربي بسبب الإخفاق في تحقيق التنمية القائمة على العدالة الاجتماعية، وانخراط الحكومة في تطبيق سياسات تكرس الفقر والتهميش والإقصاء وعدم المساواة. والعدالة الاجتماعية يمكن تحقيقها ووضع معايير وأهداف ومؤشرات لقياس مدى الوفاء بها إذا وجدت الإرادة السياسية. هذه الإرادة التي يجب أن تعكس حكومة الثورة والتغيير وهو الأمر الغائب، لأن الحكومة تتبع أحزابا تقليدية لم تكن في صف الثورة وعندما التحقت بساحات التغيير كان هدفها السيطرة على المسار السياسي وهو ما تحقق لها عقب المبادرة التي اعتمدت منهج المحاصصة في مقاعد الحكومة، وهنا غاب الشباب والثوار وظهرت القوى السابقة للثورة تجدد تحالفاتها السياسية.
خمس ركائز لتحقيق العدالة الاجتماعية:
- المواطنة المتساوية (المساواة وعدم التمييز وتكافؤ الفرص).
- التوزيع العادل للموارد الوطنية (توزيع ثمار التنمية).
- الضمان الاجتماعي للفقراء والعاطلين والمعوزين.
- توفير الخدمات والسلع الأساسية ودعمها.
- استقلال القضاء وجعل حق التقاضي مكفول للمواطنين جميعا دون تمييز.
إن حاجتنا في اليمن –وكل بلدان الربيع العربي– إلى نمط جديد للتنمية يتجاوز أهداف النمو الاقتصادي وتلبية احتياجات الناس، وهنا يكون اقتصاد السوق الاجتماعي البديل الأمثل لتحقيق التنمية المستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وحاجاتنا الى إعادة النظر في الحد الأدنى والأعلى للأجور، وربطهما بمتغيرات القيمة النقدية للسلع، إعطاء مسألة توفير فرص عمل للشباب ما تستحقه من اهتمام، إعادة النظر في السياسة الضريبية وفق تبنى سياسات ضريبية أكثر تدرجا بغية تمويل البرامج الرئيسية مثل التعليم والحماية الاجتماعية، توفير ضمان اجتماعي جيد التصميم يضمن توسيع نطاق مظلة التأمينات الاجتماعية القائمة على الاشتراكات وإعانات البطالة، وإرساء أرضية حماية اجتماعية لأكثر الناس استضعافا لا تقف عند الوصول إلى الحد الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
في هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن هناك مجموعة من التحديات تواجه تحقيق الهدف الأبرز لثورات دول الربيع العربي، وهو العدالة الاجتماعية وفق حكومات حزبية لا تولي المجتمع اهتماما كافيا واستمرار العمل الحكومي بنفس الآليات والإجراءات السابقة زد عليها غياب الفلسفة الاقتصادية الموجهة للحكومة واعتماد إجراءات إدارية اعتباطية في تقرير المسألة الاقتصادية دونما رؤية متكاملة لبعديها الاقتصادي والاجتماعي. وللعلم فإن اهتمام الحكومة بالنمو الاقتصادي فقط لن يحول دون تكرار الانتفاضات والاحتجاجات الشعبية بل والثورة مرة أخرى. في النهاية تحقيق العدالة الاجتماعية رهن تحقق الدولة المدنية بمؤسساتها وفلسفتها الحديثة في الإدارة الرشيدة وتفعيل آليات النزاهة الوطنية واعتماد منظور اقتصادي يحقق التنمية وتكافؤ الفرص في أن واحد، يحق التوازن بين المسارين الاقتصادي والاجتماعي في آن واحد.
العدالة الاجتماعية (حالة اليمن):
في إطار المشهد الثوري في اليمن خلال العام 2011 واستهدافه لتغيير النظام برمته هرولت الأحزاب السياسية نحو مبادرة سياسية وأدت الثورة وحولت الفعل الثوري إلى مساومات بين أحزاب لم تكن يوما في صف التغيير والثورة (الأحزاب الدينية) وكان بعضها في بداياته مع التغيير والثورة لكنه تحول عن هذا المسار نحو براجماتية ذرائعية، وعليه تشكلت حكومة محاصصة في شهر فبراير 2012 بين الأحزاب بعد التوقيع على المبادرة في نوفمبر 2011 وعملت هذه الحكومة وفق نصوص المبادرة مستهدفة تحقيق الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي خاصة وأنها تشكلت بعد أن تم الاستفتاء على رئيس تم التوافق عليه في 21 فبراير 2012، بدلا من العمل الجاد نحو إقرار العدالة الانتقالية وتحسين معيشة المواطنين التي تضررت كثيرا من جراء الفوضى الأمنية، وقطع الكهرباء المستمرة حتى اليوم، والتحقيق في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الأفراد المشاركين في التظاهرات الشعبية، والتحقيق في ملف المخفيين قسرا من سنوات والذي تزايد الاهتمام الشعبي به وتم وضع لوحات فنية جدارية في معظم شوارع العاصمة تخلد صور المخفيين وتذكر بهم. وللعلم هذا الملف عمره أكثر من ثلاثين سنة وتزايد عدد الاختفاء القسري من شباب الثورة وفق حالات الفوضى الأمنية.
لقد اتجهت الحكومة نحو تفعيل مصالح الأحزاب التي تتشكل منها ومصالح مراكز القوى النافذة على حساب المواطن الذي بادرته الحكومة بعقاب جماعي من خلال رفع سعر المشتقات النفطية بمقدار مائة بالمائة، وتحمل المواطن هذا الأمر عله يحقق استقرارا اقتصاديا ويكون مدخلا لتوافق حكومي يستدعي توافق سياسي وحل أمني شامل. قرار رفع المشتفات النفطية. وهذه الزيادة أثرت سلبا في ارتفاع أسعار كل السلع الأساسية (الغذائية والعلاج) وتزايد معها معاناة الفقراء والعاطلين وهم غالبية السكان. فهناك 60% من السكان يعيشون في حالة فقر لا يتمكنون من تلبية كل حاجاتهم الأساسية وهناك معدل البطالة الذي ارتفع إلى 34% في أوساط الفئات العمرية التي هي في سن العمل، ولا تغطي الخدمات الطبية كل البلاد فلا يستفيد منها سوى 51% فقط، والكهرباء لا تصل إلا لحوالي 35% من السكان، وهناك حالات إهمال متعمدة للخدمات التعليمية خاصة تجاه الأسر الفقيرة التي تضطر لسحب أولادها وبناتها من المدارس.[13] ومن هنا كنا ولا نزال نرفع صوتنا مجاهرين بأن يكون ملف العدالة الاجتماعية في أولوية الاهتمام الحكومي وأنه لا بد من اعتماد إجراءات اقتصادية تهتم بالبعد الاجتماعي وأن مصالح غالبية السكان في التعليم والصحة يجب أن تكون محل اهتمام وتقدير ومحل التزام سياسي ووطني للحكومة في الوقت الذي غاب كل هذا الأمر واظهرت الحكومة اهتماماتها فقط بمصالح الأحزاب ومراكز القوى على حساب غالبية السكان وعلى حساب ملف العدالة الاجتماعية.
الجدير بالذكر أن الأمل بتحقيق العدالة الاجتماعية التي كانت شعارا ومطلبا وهدفا للثورة تلاشى في ممارسات الحكومية ذات المصالح الحزبية فلم يجر الاهتمام بأسر الشهداء ولا الرعاية بالجرحى رغم توفر الإمكانات المالية المقدمة من دول عربية وصديقة لليمن. الشهداء والجرحي وأعداهم. كما استمرت الحكومة في ممارساتها المناهضة للقانون والمخلة بالعدالة من خلال توفير فرص عمل في السلك العسكري والمدني وفق حصص حزبية لا تعتمد منطق تكافؤ الفرص ولا تهتم بالغالبية من الفقراء ولا العاطلين الذين شاركوا في الثورة من أجل تحسين معيشتهم التي ساءت أكثر مع حكومة المحاصصة وهي أهم ملامح تغييب العدالة الاجتماعية.
- التنكر للشهدا والجرحى من صفوف الثوار.
- التمييز في التعامل مع جرحى الأحزاب دون الشباب المستقل.
- عدم الاهتمام بملف المخفيين قسرا.
- عدم فتح تحقيقات واسعة في الانتهاكات داخل ساحات التغيير والمتهم فيها أفراد من الأمن وقيادات عسكرية وسياسية.
- عدم الاهتمام بملف الفقراء والعاطلين عن العمل.
- اعتماد اجراءات اقتصادية تضاعف معاناة الفقراء وغالبية الشعب.
- استمرار العقاب الجماعي من خلال قطع الكهربا لمدة ثلاث سنوات متتالية.
- عدم الاهتمام بملفات التعليم والصحة باعتبارها قضايا أساسية تحقق العدالة الاجتماعية من خلال حصول الأفراد على حقهم في الخدمات العامة.
- عدم الاهتمام بحماية المواطنين من جراء الفوضى الأمنية وانتشار مجموعات مسلحة داخل المدن وخارجها مما تعرض له عشرات الأفراد من انتهاكات جسيمة.
- فقدان ثقة المواطن بالحكومة والنظام الجديد لعدم اهتمامه بالعدالة الاجتماعية وتركيزه على محاصصة حزبية شكلت عدوانا على مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص.
في هذا السياق ووفقا للمؤشرات السابقة غاب ملف العدالة الاجتماعية بل غاب كمفهوم في الإجراءات الحكومية وسياساتها بعد أن كان شعارا وهدفا معلنا للثورة. وعليه يمكن القول أن الحكومات التي تتشكل وفقا لمحاصصة حزبية لا تلتفت كثيرا لملف العدالة الاجتماعية لأن الأحزاب ومراكز القوى تهتم بقضاياها في إطار صراع سياسي علني يستدعي تكثيف المصالح الحزبية، وهنا غابت الثورة في اليمن وتزايدت حالات الإحباط لدى الشباب، وتعكر المزاج الفردي والجمعي، وفقد المواطن الثقة بالحكومة والأحزاب معا. فاعتماد الحكومة لإجراءات اقتصادية اعتباطية دونما رؤية متكاملة أضر بمصالح الغالبية من السكان مع العلم أن أبجديات العمل الحكومي الرسمي أن تكون المسألة الاجتماعية حاضرة في كل السياسات والإجراءات، وللعلم أيضا إن غياب البعد الاجتماعي من المنظور الاقتصادي المعتمد حكوميا يجعل من الحكومة معادية للمجتمع. فلا يمكن معاقبة شعب وفق حكومة جاءت على دماء الشهدا الذين رفعوا شعار وهدف العدالة الاجتماعية فتنكرت لمطالبهم وأهدافهم وتم خلق مبررات غير منطقية وغير مقبوله وفق حجج عدم الاستقرار وضعف إمكانات الحكومة المالية مع أن هذه الحكومة لم تولي أي اهتمام لملفات التعليم والصحة وتعويض الضحايا، ولم تهتم بملف الأجور الذي تجاوزته الأسعار وفقا للزيادة في أسعار المشتقات النفطية. بشكل عام ملف العدالة الاجتماعية غائب تماما عن اهتمام الحكومة اليمنية وهو الأمر الذي يشكل مدخلا لانتفاضة شعبية قادمة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1]مفهوم العدالة الاجتماعية له موقع خاص وأهمية كبيرة لدى أحزاب الخضر في أوروبا وفي سياسات الحكومات والأحزاب في الدول الاسكندنافية بل وفي ألمانيا ذاتها حيث السياسة الاقتصادية تعتمد بعدا اجتماعيا.
[2]مفهوم العدالة الاجتماعية له مرجعيته في القانون الدولي وفي الشرعة الدولية المتمثلة بالاعلان العالمي والعهدين الدوليين وفي الاتفاقيات الخاصة بالحقوق والحريات، والدول العربية منها اليمن ومصر وتونس موقعه ومصادقة على هذه الاتفاقيات والمطلوب منها تمثلها في التشريعات المحلية.
[3]واقع الثورات الربيعية عربيا خلقت مماثلة في الشعارات السياسية والاجتماعية ومنها عيش وحرية وعدالة اجتماعية، ومطلب العدالة موحد في هذه الدول باعتباره تعبيرا عن فشل السياسات الاقتصادية السابقة واعتماد تمايزات وضعف دور الدولة اجتماعيا، وباعتباره كاشفا لواقع غياب تكافؤ الفرص والمساواة، ومن هنا كان مطروحا في ثورات الربيع بل وهو مطلب في دول عربية أخرى.
[4]انظر لمزيد من الاطلاع: المرصد اليمني لحقوق الإنسان، التقرير الخامس حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في اليمن، 2009
[5] اليمن تتراجع في مكافحة الفساد عن العام الماضي..المجموعة اليمنية للشفافية والنزاهة تعرض مؤشر مدركات الفساد لعام 2013، موقع يمنات، 4 ديسمبر 2014.
http://is.gd/MX5J1G
[6]فؤاد الصلاحي، إدماج حقوق المرأة في الدستور اليمني الجديدة، ورقة عمل قدمت إلى حلقة النقاش المتخصصة بدسترة حقوق المرأة، منظمة فريدرتش ايبرت، صنعاء، 2013
[7] البطالة والفقر في اليمن الأعلى في المنطقة، صحيفة الحياة اللندنية، 19 فبراير 2014. http://is.gd/HMEl7K
[8] ثورات الربيع وفلسفتها السياسية تقترب من اليسار وتعلي من دوره في إطار جعل العدالة الاجتماعية أهم منطلقاته السياسية والإيدولوجية وأهم قضايا نضالاته المجتمعية. أنظر في ذلك: فؤاد الصلاحي، رؤية ليسار جديد في اليمن، دراسة قدمت إلى المؤتمر الأول بعنوان: اليسار الجديد والعدالة الاجتماعية، صنعاء، يونيه 2013
[9] وفقا للتقارير المحلية والإقليمية والدولية تتصف الحكومة اليمنية الراهنة والحكومات السابقة بعدم الرشادة وبأنها ضعيفة وهشه، وترتفع معدلات الفساد في اليمن وفقا لضعف آداء الحكومة وغياب الحوكمة، وتحصل اليمن على مواقع متأخرة في مؤشرات الفساد العالمي بمعدل 2.8 مما يجعلها من أكثر الدول والحكومات فسادا.
[10] مدير البنك الدولي في اليمن لـ“الحياة“: الإصلاحات حزمة متكاملة لا انتقائية، صحيفة الحياة اللندنية، 14 مايو 2014. http://is.gd/bZBee1
[11] هنا يقدم الباحث رؤية جديدة للربط بين العدالة الاجتماعية والسياسات الاقتصادية ويطالب بتغيير السياسات الراهنة التي تعتمد وصفة البنك الدولي باعتماد الخصخصة وتعويم العملات المحلية والنموذج الأمريكي في النيوليبرالية إلى اعتماد منظور متجدد في دلالاته وأبعاده يجمع بين اقتصاد السوق والبعد الاجتماعي وفق رؤية متكاملة سياسيا واقتصاديا.. انظر في ذلك: فؤاد الصلاحي، اقتصاد السوق الاجتماعي (المفهوم والقضايا والسياسات)، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة صنعاء، مجلد 34، العدد 3 -2013
[12] واقع بلدان الربيع وسياسات الحكومات ما بعد الثورات المتخبطة في أدائها وتبريراتها غير المقبولة اجتماعيا وسياسيا في إطار اعتماد ثنائيات تدعي أنها متناقضة ومنها الخبز أو الحرية، التنمية أو الديمقراطية، الأمن أو الديمقراطية، وكأنها متضادة مع بعضها. ومن هنا يؤكد الباحث أنه لا توجد تناقضات بين كل هذه الثنائيات فواقعنا العربي ومطالب الثورات لا تسعى للمقايضة بين الخبز والحرية، وبين الحرية والتنمية، وبين التنمية والأمن أو الديمقراطية، لأنها جيعا منظومة متكاملة من الإجراءات والسياسات والقضايا لا بد وأن تكون محل اهتمام رئيسي وجاد من الحكومات كما هي محل اهتمام شعبي واهتمام المجتمع المدني.
[13] حول الإحصاءات الخاصة بواقع الفقر والبطالة وضعف الخدمات الاجتماعية أنظر: كتاب الإحصاء السنوي للعام 2012 وهو كتاب يصدر عن مؤسسة حكومية.
وانظر في المقابل تقرير منظمة أهلية متمثلة بالمرصد اليمني لحقوق الإنسان للعام 2009 و2010 حول ذات القضايا الخاصة بالفقر والبطالة.