المزارعون العراقيون يتضررون من استيلاء المتشددين على الأراضي
عادة ما يكون نوفمبر شهراً مزدحماً بالنسبة للمزارعين في بلدة جرف الصخر العراقية، حيث يزرعون بذورهم قبل أشهر الشتاء التي تتسم بالبرد القارس، ولكن في هذا العام، لم يتم زرع الحقول بينما تهيم الماعز والأبقار غير المربوطة على وجهها بين أشجار النخيل المقطوعة.
فقد تكبدت هذه البلدة، التي تقع على بعد 60 كيلومتراً جنوب بغداد في محافظة بابل، ثمناً باهظاً جراء أشهر من القتال الذي خلف مبان مدمرة وحقولاً غمرتها المياه أو تعرضت للحرق – وفي كثير من الحالات عانت من كلا الأمرين.
وتعاني هذه المنطقة من فراغ رهيب، وعلى الرغم من استعادة قوات الأمن العراقية السيطرة عليها من متشددين إسلاميين في أواخر شهر أكتوبر، لا يزال الكثير من السكان نازحين في أماكن بعيدة بسبب الخوف من الألغام الأرضية وغيرها من المتفجرات من مخلفات الحرب.
وفي حديث مع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، قال صالح الجنابي البالغ من العمر 56 عاماً، وهو مزارع من نفس المنطقة ولكنه يقيم الآن في بلدة المسيب المجاورة: “لقد فقدت كل شيء. نشأت في مزرعتي، التي تعتبر جزءاً من عائلتي. وكانت أشجار النخيل مثل أطفالي، ولكنني الآن لا أعرف حتى متى سأتمكن من العودة إليها”.
وفي جميع أنحاء البلاد، لا تزال الجماعة التي تطلق على نفسها اسم تنظيم الدولة الإسلامية (IS) تسيطر على مساحات واسعة من الأراضي في وسط وشمال العراق، والقلق يتزايد ليس فقط بشأن سبل معيشة المزارعين المفقودة، ولكن أيضاً بسبب تأثير عدم حصد المحاصيل وعدم الشروع في الزراعة الشتوية على الأمن الغذائي في العراق خلال العام المقبل وما بعده.
وفي السياق نفسه، أوضح ألفريدو ايمبيغليا، منسق الطوارئ في مكتب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) في العراق قائلاً: “من الصعب جداً تقدير حجم الأراضي الزراعية التي تأثرت بهذا الأمر … إن الوضع يتغير بسرعة كبيرة للغاية. في أحد الأيام، تكون لديك القدرة على الوصول إلى منطقة ما، وفي اليوم التالي، لا تستطيع الوصول إليها”.
وقد هجر الكثير من المزارعين أراضيهم هرباً من قسوة تنظيم الدولة الإسلامية، فضلاً عن اندلاع القتال بين المسلحين ومختلف قوات الحكومة العراقية، وهم يشكلون الآن بعض النازحين منذ شهر يناير من هذا العام، الذين تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن عددهم يصل إلى 2.1 مليون شخص.
ولكن الكثير من المزارعين لم يبرحوا أراضيهم ويحاولون الاستمرار في الزراعة على الرغم من تلك الصعاب.
وتجدر الإشارة إلى أن مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية يحتلون مساحات واسعة من محافظتي نينوى، التي تضم مدينة الموصل، وصلاح الدين في شمال العراق، منذ شهر يونيو الماضي. وتنتج المحافظتان معاً ما يقرب من ثلث محصول القمح العراقي وما يقرب من 40 بالمائة من إنتاج الشعير الوطني، وفقاً للنظام العالمي للمعلومات والإنذار المبكر عن الأغذية والزراعة.
ويقول مسؤولون أن عدداً كبيراً من الصوامع – التي يضع المزارعون محاصيلهم بها ليتم بيعها مباشرة إلى الحكومة بأسعار مدعومة – في نينوى وصلاح الدين أصبحت الآن في أيدي تنظيم الدولة الإسلامية.
ووفقاً لبيان صادر عن وزير الزراعة العراقي فلاح حسن الزيدان، استولى تنظيم الدولة الإسلامية على أكثر من مليون طن من القمح والشعير – أي حوالي ربع إجمالي الإنتاج الوطني – ونقله عبر الحدود إلى مدينتي الرقة ودير الزور في سوريا.
وقد أغلقت الحكومة العراقية جميع مكاتبها في الموصل، مما يجعل من المستحيل دفع الأموال للمزارعين الذين سلموا محاصيلهم إلى الصوامع قبل توغل تنظيم الدولة الإسلامية، وهو ما ترك العديد منهم مفلسين وغير قادرين على تحمل نفقات البذور الضرورية لزراعة محصول العام القادم.
كما أدى تعليق الخدمات الحكومية في الموصل إلى حرمان المزارعين من الحصول على البذور والوقود والأسمدة المدعومة مركزياً – التي يعتمدون عليها لتحقيق ربح من الحصاد – ومن المتوقع أن يؤثر ذلك على قدرتهم على زراعة أراضيهم في الموسم القادم.
وذكرت منظمة الأغذية والزراعة أنه من المرجح أن تتم زراعة حوالي 500,000 هكتار فقط من أصل 800,000 من الأراضي التي كانت تزرع في الظروف العادية في محافظة نينوى هذا الشتاء، ومن المتوقع أيضاً انخفاض الزراعة في محافظة صلاح الدين بنسبة تصل إلى 30 بالمائة.
وفي كركوك، قال مهدي مبارك، مدير مديرية الزراعة في المحافظة وعضو الفرع المحلي لنقابة المهندسين الزراعيين، أن المسلحين المتشددين استولوا على أكثر من 300,000 هكتار.
“هذه خسارة كبيرة لانتاجنا وسيكون لها تأثير كبير على النظام الزراعي والاقتصاد العراقي. لقد تم إجبار العديد من المزارعين على ترك مزارعهم، إما بسبب الأضرار التي لحقت بأراضيهم أو بسبب نقص الإمدادات والإعانات والدعم الحكومي،” كما أشار.
المزارعون مضطرون للبيع بأسعار متدنية
وفي حديث مع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، قال عمر جاسم الجبوري، وهو صاحب مزرعة تبلغ مساحتها 250 هكتاراً على مشارف الحويجة في محافظة كركوك أن أفراد تنظيم الدولة الإسلامية يسيطرون على سوق الحبوب ويجبرون المزارعين على البيع بأسعار ثابتة، لكنها أقل بكثير من الأسعار المعتادة المدعومة من قبل الحكومة.
“لقد خفضوا سعر القمح من 750,000 دينار عراقي [645 دولاراً] إلى 250,000 دينار عراقي [215 دولاراً] للطن الواحد، والآن لا نستطيع أن نبيع الذرة إلا مقابل 125,000 دينار عراقي [107 دولاراً] مقارنة مع 600,000 دينار عراقي [516 دولاراً] في السابق،” كما أوضح.
وأضاف الجبوري قائلاً: “عادة ما أحصد 1.5 طناً من القمح وأكثر من ثلاثة أطنان من الذرة خلال الموسم الواحد، ولكنني لم أتمكن من زراعة أي شيء هذا العام … وبشكل عام، فقدت نحو 350 مليون دينار عراقي [301,000 دولار] بسبب هذا الغزو. نحن نعاني كثيراً. هذه أسوأ محنة شهدناها على الإطلاق”.
من جانبها، أوضحت جين بيرس، المدير القطري لبرنامج الأغذية العالمي في العراق، أنه على الرغم من أن خسارة محاصيل الحبوب تعتبر قضية مهمة من حيث تأثيرها على سبل معيشة المزارعين – الزراعة هي ثاني أكبر مصدر للرزق وتساهم بنحو 8 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد – فلن يكون لها تأثير فوري كبير على الأمن الغذائي، لأن معظم محصول القمح والشعير في العراق منخفض الجودة ويتم تصديره لتوفير النقد. ولكنها أضافت أن “ما يقلقنا هو الطماطم والخيار والفلفل والباذنجان والفواكه والخضروات التي يزرعها هؤلاء الناس لكي يأكلوها”. وفي إشارة إلى الأشخاص الذين يعيشون داخل المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية بالتحديد، تساءلت: “كيف سيحصلون على البذور اللازمة لزراعة أراضيهم مرة أخرى في العام المقبل؟ هل سيضطرون إلى الاعتماد على السلع المستوردة؟ وماذا سيعني ذلك بالنسبة للاقتصاد المحلي؟” المزيد من العواصف الترابية؟ كما حذرت من أن خفض المساحات المزروعة يمكن أن يكون له تأثير سلبي على البيئة أيضاً. “ربما يتذكر الناس العواصف الترابية التي كانت وبالاً على الشرق الأوسط بأكمله في عامي 2003 و2010، كان ذلك يرجع جزئياً إلى عدم زراعة الأراضي في العراق. ومنذ ذلك الحين، تمكن العراق من إقامة حزام أخضر مرة أخرى، مما قلل من الغبار وحمى التربة من الملوحة الزائدة … ولذلك، فإن هناك آثاراً أخرى للوضع الحالي المتعلق بتنظيم الدولة الإسلامية،” كما أشارت بيرس. في نينوى ودهوك، لاحظت تقديرات منظمة الفاو زيادة في مبيعات المواشي بأسعار منخفضة، وأوضح ايمبيغليا المسؤول بالمنظمة أن هذا يرجع إلى أن المزارعين لم يعودوا قادرين على تحمل نفقات إطعام وتلقيح حيواناتهم، فاختاروا بيعها للحصول على النقود بدلاً من الاحتفاظ بها. “لقد انخفضت الأسعار بنسبة تصل إلى 30 بالمائة، ونحن نحلل التأثير المحتمل لذلك على الأمن الغذائي في المستقبل. يمكنك إعادة بناء مخزون الحبوب على الفور، ولكن تربية قطعان الحيوانات تستغرق وقتاً طويلاً، وهو ما يجعلنا قلقين للغاية،” كما أضاف. توزيع البذور وفي محاولة لحماية محصول الحبوب في العام المقبل، تعمل الفاو مع عدد من المنظمات غير الحكومية الوطنية والدولية، بما في ذلك منظمة الإغاثة الإسلامية في المملكة المتحدة، لتوزيع البذور والأسمدة على المزارعين الذين انقطعت عنهم الإمدادات الحكومية المعتادة. وسيتم استهداف حوالي 20,000 من صغار المزارعين في دهوك ونينوى وأربيل وديالى، وسوف يحصل 7,500 من رعاة الماشية على أعلاف لحيواناتهم. وتخطط المنظمة أيضاً لمنح بذور الخضروات للأسر التي تعيش في مخيمات ومستوطنات أخرى في إقليم كردستان شبه المستقل حتى يتمكنوا من توفير الغذاء، وأيضاً كسب بعض المال. بالإضافة إلى ذلك، شرعت المنظمة في تنفيذ نظام “النقد مقابل العمل” لخلق فرص عمل لعدة آلاف من النازحين من أجل منحهم دخلاً ثابتاً وتوفير قوى عاملة للقيام بأعمال مثل تنظيف قنوات الري، وبالتالي تحسين إنتاج المزارع التي لا تزال صالحة. “تحتاج الخضروات إلى وقت قصير لتنمو، ولذلك، ففي غضون بضعة أشهر يمكن أن تحصل الأسرة على طعام تأكله، وكذلك على شيء تبيعه في السوق المحلية لتوليد الدخل،” كما أفاد ايمبيغليا، الذي دعا الجهات المانحة إلى دعم المشاريع المتوسطة إلى الطويلة الأجل، فضلاً عن تقديم المساعدات الغذائية الإنسانية الأساسية. وأضاف قائلاً: “الجميع يتحدثون عن توزيع طرود غذائية على النازحين داخلياً، ولكنهم لا يفكرون حقاً في إنتاج غذاء للغد. إذا لم نزرع بذوراً اليوم، لن نتمكن من جمع محاصيل في الغد، كما أن الأزمة التي نمر بها اليوم سوف تتفاقم في العام المقبل”. وفي إطار خطة الاستجابة الاستراتيجية للأزمة العراقية، التي بدأت في شهر أكتوبر الماضي، وجهت منظمة الأغذية والزراعة نداءً لتوفير 53 مليون دولار، لكنها لم تحصل سوى على 15 مليون دولار حتى الآن، مما يخلق عجزاً قدره 38 مليون دولار. |