الحركات الاجتماعية ومفهوم العدالة الاجتماعية في الثورات في البلدان العربية
فصل ضمن كتاب: العدالة الاجتماعية: المفهوم والسياسات بعد الثورات العربية
طرحت الثورات في البلدان العربية مسألة العدالة الاجتماعية، وفرضت البحث في السبل التي تحقق حياة أفضل للشعب، بالضبط لأن الثورات أبانت على حالات فقر شديد وبطالة عالية، وانهيار في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية، بالتالي ابانت عن حالة مروعة من الافقار والتهميش. لكن لا بد أولا من الإشارة إلى أن مفهوم العدالة الاجتماعية عمومي بشكل ما، فهو مفهوم متغير، ويخضع للمنظور الطبقي الإيديولوجي. بمعنى أن التيارات الليبرالية يمكن أن تستخدمه، كذلك تيارات في اليسار، وكل يراه في حدود “المشروع الطبقي” الذي يطرحه. فقد عبرت تجارب الناصرية والقومية عموما عن شكل ما من العدالة الاجتماعية، وطرحت الكينزية صيغة محددة لشكل من العدالة الاجتماعية. كما يجري تداول صيغ أخرى في هذا الوقت تقوم على تشجيع المشروعات الصغيرة.[1] بالتالي كيف يمكن أن نتناول هذا المفهوم في سياق الثورات التي اندلعت في البلدان العربية؟ وكيف طرحت المسألة في هذه الثورات؟ وما الذي يحقق العدالة الاجتماعية؟ وأي عدالة اجتماعية؟.
سننطلق من مفهوم مبسط يتمثل في تحقيق “عيش كريم” لمختلف طبقات الشعب، رغم أن هذا التعبير مطاط بعض الشيء، لكنه المقابل للوضع المعيشي القائم الآن، بالتالي سننطلق من مطالب الطبقات الشعبية، المعنية أصلا بمسألة العدالة الاجتماعية، لكي نلمس ممكنات تحقيقها، وفي أي تكوين اقتصادي اجتماعي. وهنا يجب أن نلمس الطابع المؤقت والطابع المستدام للمفهوم، بمعنى كيف يمكن تحقيق عدالة اجتماعية مستقرة وطويلة الأمد، وليس تحقيق عدالة اجتماعية عابرة. أي تحقيق مطالب آنية يستهلكها الزمن ليعاد التمايز الاجتماعي (الطبقي) من جديد، وتعود الحاجة إلى “العدالة الاجتماعية”.[2]
إن طرح مطلب العدالة الاجتماعية ينبني على وضع اقتصادي ينتج عنه “سوء توزيع الثروة”، وهو الأمر الذي يفضي إلى وجود تمايز طبقي واسع بين من يمتلك الثروة ومن يعمل، أو يتهمش نتيجة العجز عن استيعاب البنى الاقتصادية للقوى العاملة الوافدة إلى سوق العمل. وبهذا يصبح هناك طبقة تمتلك النسبة الأكبر من الدخل الوطني، وأغلبية شعبية لا تمتلك سوى جزء ضئيل لا يكفي العيش (وهذه هي الوضعية التي أنتجت الثورات في البلدان العربية). لا شك في أن للنمط الاقتصادي أثر كبير في تحقيق هذا التمايز، ولهذا يطرح السؤال حول هل أن النمط الاقتصادي القائم يمكن أن يصلح لكي يحقق العدالة الاجتماعية، أو أن المطلوب هو تجاوزه لبناء نمط اقتصادي يتضمن هذا الهدف؟.
هذه مسألة كانت في جوهر الثورات التي نهضت في البلدان العربية، حيث جرى العمل خلال عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، ومع مطلع القرن الجديد على تشكيل “نمط اقتصادي” أوجد هوة واسعة في المجتمع بين من يمتلك الثروة وبين الطبقات الشعبية من جهة، لكنه أيضا قام على أساس ريعي بعد أن جرى تهميش الصناعة والزراعة كقوى منتجة، وبالتالي فرض توسيع عدد العاطلين عن العمل، وأوقع المجتمع في عجز كبير نتيجة الحاجة إلى الاستيراد من جهة أخرى.
في هذا الوضع باتت نسبة البطالة مرتفعة للغاية (تقدر بنسبة 30% من القوى العاملة)،[3] وكذلك نسبة الفقر الشديد، والفقر النسبي. وسنجد بأن الأجور قد انهارت أمام ارتفاع الأسعار، وأن قطاعات اقتصادية انهارت، مثل الزراعة والصناعة، مخلفة الفقر والبطالة لنسبة كبيرة من الشعب. وهو الأمر الذي أوصل الطبقات الشعبية إلى حالة مزرية من الفقر والعجز عن العيش. وهو الأساس الذي دفع إلى انفجار الثورات، حيث كانت تلك الطبقات هي القوة الأساسية فيها.
هنا سنلمس بأن الأمر بات يتعلق بإعادة التوازن في المجتمع، ومن ثم التساؤل حول هل أن ذلك يمكن أن يتحقق في ظل النمط الاقتصادي القائم أو أن من الضروري تجاوزه لتحقيق “العدالة الاجتماعية”؟.
وإذا كانت الثورات قد طرحت شعارات تتعلق بالحرية والديمقراطية والدولة المدنية في مواجهة نظم استبدادية، فقد طرحت الثورات كذلك مطالب “اقتصادية” يمكن تلخيصها في: البطالة، الأجر المتدني، انهيار التعليم والصحة، وتحويلهما إلى سلعة، انهيار البنية التحتية، تهميش المرأة. وهذه مطالب فئات واسعة من الشعب انطلاقا من مجموعة الاحصاءات التي تتناول الفقر والبطالة والتهميش.[4] دون أن نشير إلى الملاحظة العينية التي تؤكد الأمر ذاته. ولا شك في أن تحقيق العدالة الاجتماعية بمعناها الواسع يتطلب تحقيق هذه المطالب أولا وبالأساس. حيث أن العدالة تطرح هنا مقابل عدم المساواة الذي تشكل خلال العقود الماضية، والذي أفرز حالات الفقر والبطالة والتهميش، وفرض في الأخير انفجار الثورات.
منذ ثورة تونس طرحت مسائل العمل والأجر، وتكررت في مصر، وكان واضحا أن الطبقات الشعبية لم تعد تحتمل الوضع الذي تعيشه، حيث أفقرت وتهمشت إلى حد أنها باتت تحس بأنها على شفير الموت جوعا. لهذا تعمم مطلب العدالة الاجتماعية، وأصبح شعارا رئيسيا في الثورات.[5] وهذا يفترض البحث في المعنى الذي قصدته هذه الطبقات، هل أنه يعني تحقيق تلك المطالب فقط، أو أنه يتضمن إعادة توزيع الثروة في المجتمع؟ أو أبعد من ذلك، أي تغيير النمط الاقتصادي الذي فرض هذه الوضعية؟.
في المستوى الشعبي سنلمس بأن الأمر ظل منحصرا في تحقيق المطالب، أي العمل والأجر وإعادة الأرض للفلاحين (كما في مصر خصوصا)، وربما الأمل في تعليم مجاني وضمان صحي، وتحسن في البنية التحتية. أي ظل منحصرا في تحسين وضع هذه الطبقات لكي تستطيع العيش، دون وعي بكيفية تحقيق ذلك نتيجة أن هذه الطبقات وصلت إلى ذلك عبر حسها (أصلا المتعلق بتهديد وجودها)، لأنها لا تمتلك الأدوات المعرفية التي تسمح بتحليل الواقع وتحديد السياسات التي تفضي إلى تغييره بما يحقق مطالبها. هذا الأمر يجعلها تدافع عن المطالب ولا تتقدم خطوة لتحديد كيف يمكن أن يتحقق ذلك. وها أن سنوات ثلاث تمر والمطالب هي ذاتها تطرح، دون الوصول إلى أن الأمر يقتضي تغيير كلية السلطة، وليس تبديل أشخاص من السلطة بآخرين. وأن المسألة تتعلق بمصالح طبقية هي التي تفرض على السلطة الدفاع عن النمط الاقتصادي القائم ورفض تغييره، ومن ثم التسويف لكي لا تحقق مطالب الشعب. لا شك أن التجربة أفهمت القطاعات النشطة من هذه الطبقات أن الأمر يبدو أبعد من تغيير أشخاص، ومن ثم لا بد من البحث عن بديل.
بالتالي سنلمس بأن الطبقات الشعبية تعتبر أن معنى العدالة الاجتماعية هو تحقيق مطالبها آنفة الذكر. وهي لم تربطها بعد في صيغة التغيير السياسي الاقتصادي الضروري لكي تتحقق. وهذا مخاض لا زال يخترق الحراك الشعبي، وربما أصبح مدار نقاش وتلمس من قبل القطاعات النشطة، لكنه لم يتبلور بعد في صيغة واضحة تحدد كيفية تحقيق “العدالة الاجتماعية”، وهل أن ذلك يرتبط بتعديل النمط الاقتصادي القائم (عبر فرض الضرائب التصاعدية على الرأسمال، وتحقيق شكل كنزي في الاقتصاد، أو حتى الشكل الناصري)، أم أنه لا بد من إزالة النمط الاقتصادي القائم وتأسيس نمط بديل يتضمن حلا حقيقيا للمشكلات المجتمعية، وبالتالي يحقق تلك المطالب؟.
في مستوى آخر، تبنت بعض الأحزاب مطلب العدالة الاجتماعية، خصوصا هنا أحزاب اليسار، لكن سنلمس بأن المفهوم لديها مشوش، وينحصر في الغالب في تعديل الواقع الاقتصادي القائم من خلال فرض ضريبة تصاعدية،[6] أو الإشارات العامة حول فرض توزيع عادل للثروة، أو بضمان حق العمل والأجر المناسب، والتعليم والصحة المجانيين، وتوفير الخدمات للشعب، دون لمس النمط الاقتصادي ذاته. مع ملاحظة أن الأحزاب التي طرحت هذه الموضوعات كانت ضعيفة وقليلة، بينما كانت الأحزاب الإسلامية والليبرالية تركز على حرية الاقتصاد واستمرار اللبرلة، دون إشارة، أو مع إشارات ضعيفة، تتعلق بمعالجة وضع الفقراء. أكثر من ذلك جرى الهروب من معالجة هذا الأمر إلى تحويل الصراع إلى صراع بين دعاة الدولة الدينية ودعاة الدولة المدنية من أجل التعمية على المطالب الجوهرية التي تطرحها الطبقات الشعبية. أي أن الأمر فرض تهميش وتنحية كل بحث ونقاش في مسألة “العدالة الاجتماعية”، أو في طرح حلول للمطالب المتعلقة بالعمل والأجر المناسب، والتعليم المجاني والضمان الصحي. وهذا أمر طبيعي لأن الإسلام السياسي (والإخوان المسلمون خصوصا) يطرح الحل الليبرالي تحت “مبدأ فقهي” يقول أن “في التجارة تسعة أعشار الربح”، وهو أصلا يعتمد على قاعدة اجتماعية من التجار. وأيضا لأن الأحزاب الليبرالية تعتمد بداهة على الاقتصاد الحر وتعميم اللبرلة، وهي في بلداننا غير قادرة على تحقيق الحل الكينزي. حيث أن تشابكها مع الرأسمال العالمي حولها إلى رأسمالية ريعية تنشط في الخدمات والسياحة والعقارات والاستيراد والبنوك، هذا التكوين هو أصلا ما فرض تهميش الكتلة الأكبر من الشعب، وأوجد مشكلات البطالة والفقر وانهيار التعليم والصحة والبنى التحتية.
كل ذلك يوضح بأن مفهوما واضحا للعدالة الاجتماعية لم يتبلور بعد في الحراك الشعبي، وأن الأحزاب التي “انتمت” للثورة بعضها ليس معنيا بالأمر لأن توجهاته الاقتصادية تتنافى مع أي شكل من أشكال العدالة، وبعضها يتناول الموضوع بشكل مشوش لأنه يطرحه في سياق النمط القائم، وربما بخجل في الغالب. حيث أن كل الأحزاب تقريبا لا زالت تركز على شكل الدولة وطبيعة السلطة دون أن تلمس النمط الاقتصادي بشكل جدي. أي تتناول علاقتها كأحزاب سياسية بالسلطة. ولا شك في أن “موجة الديمقراطية” التي اجتاحت العالم مع العولمة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية قد أثرت كثيرا في حصر نشاط مجمل الأحزاب، بما في ذلك اليسار، في مسألة الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان. وهذا ما حكم الخطاب السياسي طيلة عقدين سبقا الثورات. وكانت مطالب الطبقات الشعبية خلال الثورات هي التي فرضت طرح مطلب “العدالة الاجتماعية” في الواقع، حيث أخذ النقاش حوله مجراه، وإنْ بشكل ضعيف، دون أن تلزم الأحزاب “الأكبر” به، وبات مطلبا لبعض أحزاب اليسار، لكن في تفسيرات متعددة، لا تقطع مع النمط الاقتصادي القائم. أي ترى إمكانية حل مشكلات البطالة والأجر المتدني من خلال تحديد الحد الأدنى والأعلى للأجر، أو من خلال فرض الضريبة التصاعدية على الرأسمال.
هذا الأمر يفرض معالجة مسألة العدالة الاجتماعية في بعدها الاقتصادي، ومن ثم الطبقي. أي هل أن هناك إمكانية من خلال إصلاح جزئي أو شامل في النمط الاقتصادي القائم أن تتحقق العدالة الاجتماعية؟ وبالتالي هل أن الطبقة الرأسمالية المسيطرة، أو بعض فئاتها التي تسعى إلى السيطرة، معنية بإجراء هذا الإصلاح؟
يمكن أن ندرس المسألة على ضوء تحديد أن “العدالة الاجتماعية” يمكن أن تتحقق من خلال تحقيق المطالب المباشرة، أي العمل والأجر، وهذا شكل أولي لها يضمن المقدرة على العيش. لكن يمكن أن تكون أوسع من ذلك من خلال تحقيق الضمان الاجتماعي الشامل ومجانية التعليم، وضمان الحق في العمل.
نظريا يمكن أن تتحقق هذه المطالب من أجل تحقيق “العدالة الاجتماعية في صيغتها الأبسط”، في إطار النمط الاقتصادي الرأسمالي القائم، وهذا ما تحقق في البلدان الرأسمالية، وما مثلته تجارب النظم القومية. فالأمر يتعلق بحل سريع يستجيب لهذه المطالب ضمن النمط الاقتصادي القائم، أي عبر تشغيل العاطلين وزيادة الأجر كسياسة تهدف إلى توسيع السوق، أو ربما أوسع من ذلك من خلال فرض حق العمل والضمان الاجتماعي الشامل والتعليم المجاني (كما طرحت الكينزية). هذه في صيغة أولى.
لكن هناك صيغة ثانية تتعلق بحل جذري ينطلق من كيف لا يمكن أن يعود عدم التساوي في توزيع الدخل، والحفاظ على مستوى مستقر للمعيشة. وهنا تصبح المسألة أبعد من أن تكون عدالة اجتماعية وفق كل النظريات المطروحة حول المفهوم. وهو ما يفرض تجاوز النمط الرأسمالي بالضرورة، أي يجري الحديث عن الاشتراكية.
وهذا يطرح السؤال حول الحل الممكن؟.
أي كيف يمكن توفير فرص عمل؟ وكيف يمكن زيادة الأجور بما يحقق مستوى معيشي لائق؟.
أيضا من سيقوم ببناء منظومتي التعليم والصحة لخدمة المجتمع؟.
طبعا هذا يتطلب توظيف رأسمالي في قطاعات تسمح باستيعاب اليد العاملة العاطلة والتي تدخل سوق العمل سنويا، وتسمح بتوفير فائض مالي يسمح بزيادة جدية في الأجور، ويوفر إمكانيات بناء جدي لمنظومة التعليم والصحة، والبنية التحتية.
وهو السؤال الذي يتعلق بالنمط الاقتصادي الذي يحقق ذلك، حيث لا بد من الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج. فهذا وحده هو الذي يسمح بتحقيق حل جدي لمشكلة البطالة والأجر المتدني، ويفرض بناء منظومتي التعليم والصحة، وأيضا البنية التحتية. فقد ارتبطت مشاكل الإفقار والبطالة وتلاشي التعليم والصحة المجانيتين، وانهيار البنية التحتية بالتحول الليبرالي الذي حدث منذ سبعينيات القرن العشرين، والذي أفضى إلى تفكيك “القطاع العام”، وتسليع التعليم والصحة، والى تحكم طبقة “ضيقة” بمجمل الاقتصاد، وتحويله من اقتصاد كان يمتلك قوى إنتاج في الزراعة والى حد معين في الصناعة، إلى اقتصاد ريعي يقوم على الخدمات والعقارات والسياحة والاستيراد والبنوك، والمضاربات في أسواق المال. وفي هذا السياق انهارت منظومة الضمان الاجتماعي وحق العمل والتعليم المجاني والصحة المجانية. وهذا النمط الاقتصادي هو المهيمن الآن، وكما أشرنا هو الذي فرض انفجار الثورات، وطرح المطالب التي كررتها الطبقات الشعبية. ولقد باتت الطبقة الرأسمالية المسيطرة جزءا تابعا في إطار النمط الرأسمالي العالمي، ومخضعة للطغم المالية، لمصالحها وسياساتها. ولهذا لمسنا كيف أنها ترفض حل مشكلات الفقر والبطالة، وتتمسك بالنمط الاقتصادي دون ان تفكر في إصلاحه أو تغيير بعض بنياته (ومن ضمن ذلك كان الإخوان المسلمون الذين يعبرون عن فئة رأسمالية تجارية مافياوية “تقليدية”). واستمرار الموجة الثورية في البلدان التي تخلصت فيها من رئيسها وفتحت على “الديمقراطية”، يؤشر إلى هذا “التعنت” الذي يسم تلك الطبقة. ولهذا ظلت مطالب الطبقات الشعبية كما كانت في زمن “النظام القديم”، أي حق العمل والأجر المناسب والتعليم والصحة المجانيتين.
لهذا يصبح السؤال الطبقي هنا هو، من يمكن أن يقوم بذلك؟ هل أن الرأسمال الخاص يمكن أن يتوجه إلى الاقتصاد المنتج وهو الذي (عبر ارتباطه بالطغم المالية العالمية) أسس لاقتصاد ريعي مافياوي؟ وهل أنه قادر على بناء مشروعات صناعية وزراعية ضخمة هي ضرورية من أجل حل كل هذه المشكلات وفتح الطريق للتطور الحديث؟.
مع الأسف أن البرجوازية منذ بدء نشوئها ترابطت مع الرأسمال الإمبريالي نتيجة اللاتكافؤ الذي أسسته الرأسمالية ذاتها، والهوة التي أوجدتها بين المراكز والأطراف، والتي جعلت كل تنافس في السوق المفتوح هو لمصلحتها، لأنها باتت تمتلك الرأسمال الضخم والخبرة العالية والسوق الواسعة، وهي العناصر التي سمحت لها (بالإضافة إلى قوة الدولة التي تسيطر عليها) بأن تفرض إيقاعا عالميا لا يسمح بنشوء رأسمالية منتجة (أي صناعية خصوصا) جديدة. وكل المحاولات الناجحة التي جرت بعد تشكل الرأسمالية كنمط عالمي مع بداية القرن العشرين تحققت في التضاد معها، وعبر أشكال “غير تقليدية”، أي من خلال دور أساسي للدولة. فالتنافس في سوق مفتوح كان يميت ليس المشروعات الجديدة فقط بل أساسا يميت التفكير في بناء قوى منتجة. وهو ما حول الرأسمال إلى النشاط في “الهوامش”، أي في المشروعات الوسيطة، وأساسها التجارة (كمستورد ومصدر)، ثم بعد سيطرة الطغم المالية شهدنا التشكل الرأسمالي القائم الآن، أي الاقتصاد الريعي، الذي يقوم على النشاط في الخدمات والسياحة والعقارات والاستيراد والبنوك والمضاربة في البورصة.
هنا ليس من حل لمسألة العدالة الاجتماعية في ظل النمط الاقتصادي القائم، بالضبط لأنه كنمط ريعي لا يسمح بذلك، على العكس، وكما أشرنا، هو الذي أسس الـ”لا عدالة”. وإذا نظرنا من منظور رأسمالي أوسع سنجد بأن الطبقة الرأسمالية لا تستطيع تجاوز هذا الشكل الريعي للاقتصاد نتيجة التكوين العالمي للرأسمال. فقد تشكلت فيه كطبقة ريعية. وبهذا يتناقض مفهوم العدالة الاجتماعية بمعناه “البسيط” مع استمرار سيطرة هذا النمط الاقتصادي، وهذه الطبقة الرأسمالية. وهذا ما يجعل تحقيقه مرتبطا بالصراع مع الرأسمالية بالضرورة، وبتقديم بديل يتجاوزها.
وهذا الأمر لا بد من أن تصل إليه الحركة الاجتماعية خلال صراعها مع السلطة الممثلة لتلك الطبقة، لكن لا بد من “إدخال الوعي” للطبقات الشعبية لكي تكون قادرة على تحديد بديلها، حيث أننا ننتقل هنا من “رد الفعل”، ومن النشاط العفوي الذي يطرح مطالب مباشرة إلى بلورة الرؤية التي تسمح بتقديم “الخطوات العملية” والتكتيكات الضرورية لتحقيق هذه المطالب. وهذا يطرح مسألة الخيارات “الإيديولوجية” التي يمكنها أن تقدم الفهم لهذا الأمر، وتسمح بتحديد إستراتيجية قادرة على تحقيقه.
وما دامت الرأسمالية غير معنية بتأسيس قوى إنتاج كما أشرنا، لا بد من تحديد البديل الممكن الذي يتولى ذلك. ولا شك في أن الأمر يتعلق مجددا بدور الدولة الاقتصادي، ما دام الرأسمال الخاص ينشط في القطاع الريعي نتيجة تشابكه بالرأسمال العالمي. وكان هذا الدور يسمح بحل مسألة “العدالة الاجتماعية” وفق الصيغة الأولى كما لمسنا في تجارب الناصرية والبعث (ما كان يسمى تجارب حركات التحرر الوطني)، حيث لعبت الدولة دورا مهما في الاستثمار في قوى الإنتاج، والتعليم والصحة، وفي ضمان الأجر المناسب وفرص العمل والضمان الاجتماعي، رغم أن بنية النمط الاقتصادي ظلت رأسمالية. وكان ذلك هو السبب الجوهري في نقل الثروة الممركزة بيد الدولة إلى “أفراد” هم الفئة التي مسكت زمام السلطة، ومن ثم إعادة إنتاج اللاتساوي، والنمط الاقتصادي الذي أشرنا إليه. ولهذا سيكون السؤال الطبقي مهم هنا، حيث أن الإجابة على أن الرأسمالية عاجزة عن تطوير الاقتصاد بما يستوعب حل المشكلات، يفرض بالضرورة البحث عن البديل. ولقد كانت الفئات الوسطى الريفية هي التي حاولت ذلك سابقا، وأسست لـ “عدالة اجتماعية” مؤقتة تحت مسمى الاشتراكية. هل يمكن لفئات وسطى أن تلعب هذا الدور الآن؟.
ربما تكون دراسة مدققة لمجمل الأحزاب التي تستند إلى الفئات الوسطى مهمة للإجابة على هذا السؤال، لكن ما يطفو على السطح، كما أشرنا حين تناول وضع الأحزاب، هو أن الميل الليبرالي هو الذي يهيمن على مجمل الأحزاب (ربما مجموعات صغيرة هي خارج هذا المنظور). وأن الفكرة المركزية التي استحكمت خلال عقود ثلاثة سابقة تمثلت في أنْ لا خيار غير الرأسمالية، وأن النشاط يجب أن يتركز على أن تصبح الدولة ديمقراطية. وهذا منظور يبتعد عن مسألة تحقيق العدالة الاجتماعية بالضرورة، لأنها ليست واردة في صلبه، ولأن المنظور الاقتصادي المطروح يكرر النمط الاقتصادي القائم الذي أسس الـ لا عدالة. بمعنى أن النخب التي يمكنها الآن أن تصبح في السلطة لا تمتلك في هذه المسألة حلا، لأنها تكرر النمط الاقتصادي الذي أنتج المشكلة. ولهذا نلمس بأن طرحها لمسألة العدالة الاجتماعية مبهم أو غائب. وكما أشرنا فإنه ما دام الأمر يتعلق بتغيير النمط الاقتصادي فإن الضرورة تفرض تجاوز الرأسمالية من أجل تحقيق نمط اقتصادي يتضمن “العدالة الاجتماعية”. وهذا يطرح التفكير في المنظور الطبقي الإيديولوجي الذي يتأسس على تجاوز الرأسمالية.
بالعودة إلى مفهوم العدالة الاجتماعية سنشير إلى أنه عادة ما يطرح كتعبير عن وجود حلول للطبقات المفقرة في ظل النمط الرأسمالي ذاته، ولقد حققت الرأسمالية في بعض مراحلها “العدالة الاجتماعية” (الكينزية ودولة الرفاه)، لكن الأمر هنا كان يتعلق بتشكيل اقتصادي متطور، وهيمنة رأسمالية على العالم فرضت أن تتسع الطبقة الوسطى، وأن تربط الأجور بالأسعار لكي تتوسع السوق الداخلي. وكان نهب العالم هو الذي يسمح بذلك. بالتالي كان الظرف المحدد يسمح بتحقيقها. وسنجد أنها بدأت في التراجع مع تصاعد أزمة الرأسمالية.
ولقد طرحت كصيغة “اشتراكية” في نظم حركات التحرر الوطني (ومنها النظم القومية العربية)، لكن كان أساسها هو تحقيق “توزيع عادل” للثروة في ظل سيادة الملكية الخاصة (وقدسيتها)، وحق الترسمل. وهو ما جعل المساواة المتحققة في مرحلة أولى تنقلب إلى لا مساواة فظيعة بعد إذ، من خلال تفكيك القطاع العام ونهبه، ومركزة الثروة من جديد بيد أقلية تسيطر على السلطة في ظل نظام استبدادي، لأن الفئات الوسطى التي مسكت بالسلطة مالت إلى “حل مشكلاتها هي” عبر مراكمة الثروة بطرق غير “رسمية” أولا.
وبالتالي يمكن الاستنتاج بأن مفهوم العدالة الاجتماعية كان صيغة تلطيف الاستغلال الرأسمالي. لكنها صيغة مؤقتة سرعان ما تنهار أمام مصالح الطبقة الرأسمالية المسيطرة. وهو الأمر الذي يفتح، ربما، على طرح مسألة التغيير في صيغة أكثر جذرية تحقق مطالب الطبقات الشعبية، في تكوين اقتصادي حديث.
وإذا كانت قد مرت سنوات ثلاث على بدء الثورات، وحدثت تحولات في عدد من البلدان، فإن السؤال الذي يطرح ذاته هو، هل تحققت مطالب، أو بعض مطالب الطبقات الشعبية؟ سنلمس بأن احتجاجات العمال لا زالت مستمرة، حتى في بلدان مثل تونس ومصر، فهل أن شيئا لم يتحقق؟ وهل أن تغيرا قد حدث في فهم هؤلاء لمطالبهم ولكيفية تحقيقها، وبالتالي توصلوا إلى مفهوم محدد للعدالة الاجتماعية؟ هنا نشير إلى المطالب، هل ظلت كما هي أم تغيرت؟ والى الوعي بها من قبل العمال أنفسهم، هل طوروا الرؤية أم ظلوا يطرحون هذه المطالب في حدود الوعي السابق؟ وهذا الأمر ينطبق على الفلاحين الفقراء وكل الفئات الوسطى التي طرحت مطالب محددة. حيث لا بد من تلمس الفارق في الوضعية بين فترة ما قبل الثورات وما نتج عنها، في المستويين.
وفي المقابل، هل تطور النقاش حول مفهوم العدالة الاجتماعية؟ وبالتالي ما هي الصيغ التي توصل إليها؟ وما هو موقف الأحزاب، اليسارية خصوصا من هذا المفهوم بعد الثورات؟.
نشير أخيرا إلى أن الأمر يتعلق إذن بالتكوين الاقتصادي الذي يؤسس للفروق الواسعة وسوء العيش لدى قطاع كبير من المجتمع، فهذا التكوين هو الذي أوجد أغلبية مهمشة. ومن ثم كيف يطرح هؤلاء المفقرون مسألة مقدرتهم على العيش؟ وهل أن لديهم وعي في معنى “العدالة الاجتماعية”؟ أو أي صيغة تحقق لهم عيشا كريما؟ لنصل إلى أن هذا الأمر يرتبط بنشوء أفكار واضحة ومحددة من قبل فئات تمتلك مشروعا مجتمعيا يتضمن تحقيق ذلك. بالتالي سنلمس بأن هناك علاقة بين الحركات الاجتماعية و”النخب السياسية”، هي غائبة في الواقع الراهن كما أسلفنا، الأمر الذي يطرح إشكالية كيف يمكن أن يتبلور مشروع واضح يعبر عن هؤلاء المفقرون، ويحدد كيف يتحقق؟.
فالمفقرون يطرحون ما يحسون به، وعلى النخب أن تبلور كيف يتحقق في الواقع ما يحقق لهؤلاء عيشا كريما، لكن من خلال ثورتهم وفاعليتهم هم بالذات. بالتالي كيف يمكن أن يرتقي الوعي بمسألة “العدالة الاجتماعية” لديهم؟ وكيف يمكن أن يحققوها؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أنظر، أمارتيا صن “فكرة العدالة” الدار العربية للعلوم ناشرون، ترجمة مازن جندلي، الطبعة الأولى، 2010.
[2] هذا مثلا ما يمكن أن نقول أنه تحقق في نظم حركات التحرر، وخصوصا الناصرية والبعثية في مراحلها الأولى. حيث تحقق الإصلاح الزراعي ويوم عمل لثماني ساعات، والضمان الاجتماعي الشامل، والتعليم المجاني. لكن كل ذلك كان مؤقتا، فقد عملت الفئات التي حكمت على نهب المجتمع، وباتت هي الطبقة المسيطرة في الشكل “الكلاسيكي” للرأسمالية الطرفية.
[3] حول البطالة، يمكن العودة إلى، رياض بن جليلي (تحرير) “مقاربات حل مشكلة البطالة في الدول العربية، دراسة حالة مصر وسوريا” المعهد العربي للتخطيط بالكويت، 2010. ولا شك في أن التقارير الاقتصادية التي صدرت عن صندوق النقد الدولي وعن منظمة الاسكوا، وعن العديد من المراكز البحثية غطت هذه الموضوعات.
[4] أنظر، جيلبير الأشقر “الشعب يريد، بحث جذري في الانتفاضات العربية” دار الساقي، الطبعة الأولى، 2013، خصوصا الفصلين الأول والثاني (ص 17- 100).
[5] أنظر، http://is.gd/XdG3FV وأيضا لبنى الأمين “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” في الرابط http://is.gd/gNv0ZW
[6] حول ذلك دار نقاش في مصر حول علاقة الضريبة التصاعدية بالعدالة الاجتماعية، أنظر: http://is.gd/KAEsyY وأيضا http://is.gd/BqyUz8