العدالة الاجتماعية والثورات العربية.. إشكاليات المفهوم والسياسات

العدالة الاجتماعية والثورات العربية.. إشكاليات المفهوم والسياسات

فصل ضمن كتاب: العدالة الاجتماعية: المفهوم والسياسات بعد الثورات العربية

عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، كان هذا أحد الشعارات الأساسية، أو ربما حتى الشعار الأساسي، في الثورات العربية. وبالرغم من تنحية قضية العدالة الاجتماعية، والدفع بالمطالب الاجتماعية الاقتصادية، التي طرحتها، في أغلب الأحوال للخلفية في المجال السياسي، لحساب قضايا مثل ترتيبات انتقال السلطة (الدستور أولا أم الانتخابات أولا)”، والتحول الديمقراطي، والصراع العلماني الديني“…الخ، تظل هناك نتيجة مهمة: أن هذه الثورات أعادت المفهوم لعالم السياسة في العالم العربي، وأنها مدت إلى المنطقة العربية توجها وجدلا عالميا على أرضية الضعف الفكري والسياسي لمشروع الليبرالية الجديدة.[1]

ومع عودة القضية، التي تفرض نفسها مرة تلو المرة على جدول أعمال حكام ما بعد يناير ٢٠١١، في كل إضراب عمالي كبير، أو حركة احتجاج اجتماعي، أو حملة تخص قضايا توزيع الدخل والثروة، يظل الغموض، والانفتاح على التأويل، والتأرجح بين مشروعات متناقضة المصالح، السمة الغالبة، مما يفرض محاولة استطلاع وفهم المعضلات التي ترتبط بتعريف العدالة الاجتماعية كمقدمة لازمة لاستهداف تأطيره.

 (١) إشكاليات التعريف

تعريف العدالة الاجتماعية يكتنفه ما يكتنف القضية ذاتها من عدم اتفاق بالغ. بل إنه يعتقد البعض أن السعي للعدالة الاجتماعية فخ ووهم وأنه يجب أن تقودنا مثل أخرى كالحرية الفردية“.[2] أما بين من يقبلونها كهدف ليس الكل واضحا فيما يخص معناها. في بعض الأحيان يبدو أنها ليست أكثر من رطان يستخدم لإضافة بريق على سياسة ما أو اقتراح يرغب محدثنا في أن نؤيده. قد يكون الناس ملتزمين بالعدالة الاجتماعية في المجرد، لكنهم بالرغم من هذا يختلفون اختلافا مرا حول ما يمكن فعله بشأن مشكلة اجتماعية ملموسة كالبطالة“.[3] وتجعل هذه الحقيقة الواقعة لأي تعريف أو نظرية عن العدالة مكونا معياريا قيميا مؤكدا.

في كتابه فكرة العدالة[4] يذكر المفكر الهندي أمارتيا صن، والذي ينتمي لمدرسة الليبراليين المساواتيين Egalitarian Liberals مثل الثلاثة أطفال والفلوت لكي يذكر أن للعدالة أكثر من منطق يجعل هناك إمكانية لقيام أسباب ومسارات متعددة لها. “كلها تدعي الحياد ومع ذلك تختلف أو تتنافس مع بعضها البعض“. في الحكاية هناك ثلاثة أطفال آن وبوب وكارلا وفلوت. ويتعين تحديد أيهم أحق به. تطالب آن بالفلوت لأنها هي الوحيدة بينهم التي تعرف العزف عليه (ولا ينكر الطفلان الآخران ذلك)، بينما يجهر بوب بحقه فيه لأنه الأفقر وليس لديه ألعاب تخصه (ويقر الطفلان الآخران أنهما أغنى). وفي السيناريو الثالث، تطالب كارلا بالفلوت إذ أنها أنفقت شهورا وهي تصنعه بكدها واجتهادها، وهو الأمر الذي يقر به الطفلان الآخران أيضا.

إن استمعت إلى الأطفال الثلاثة وعرفت اتجاهات تفكيرهم المختلفة، حرت في أمرك لمن تعطي الفلوت منهم. قد يأخذ المنظرون ذوو الآراء المختلفة، كالنفعيين أو القائلين بالمساواة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أو الأنصار الصرحاء للحرية الفردية موقفا يقول بحل مباشر عادل ماثل أمامنا هنا، وأن لا صعوبة في إيجاده. لكن من شبه المؤكد أن كلا منهم سيرى الحلول المختلفة كل الاختلاف صحيحة كل الصحة[5] ويزداد الأمر صعوبة إذا افترضنا الوضعية التي يواجه فيها الأفراد المجتمع ويقيمون توجهاته من منطلقات موقعهم فيه وعلاقتهم بالمجموعات الأخرى: أي من منطلق مصالحهم الاجتماعية والطبقية المتناقضة.

تجعل هذه الحقيقة من تحديد وتعريف العدالة الاجتماعية كمفهوم مستقر أمرا معقدا لكن كثيرا من الباحثين والمفكرين لا يرونه مستحيلا بالرغم من ذلك.

يقول ديفيد ميللر في كتابه أسس العدالة الاجتماعية “إنه مع اعترافه بهذه المعضلة إلا أنه يرى أنه يمكن إعطاء الفكرة معنى محددا. يربط ميللر بين نظرية وتعريف مستقرين للعدالة الاجتماعية وبين القناعات الشعبية الواسعة بخصوصها ويقيم نظريته لأسس العدالة الاجتماعية على بحث إمبريقي في معناه بالنسبة لحركة الناس وفي الجدل السياسي القائم، معترفا بأن هذا له عيوبه التي قد تظهر في تناقضات ومشاكل في المعلومات.. الخ. يقيم ميللر تعريفه للعدالة الاجتماعية إذن على مبادئ العدالة التي يعتنقها الناس بالفعل. وبالتالي فمكونات التعريف التعددية بالضرورة تتغير وتصبح مهمة بقدر ما لها صلة بسياقها في الواقع. في هذا الإطار ينبني تعريف العدالة الاجتماعية على الطريقة التي تنظر بها إليه المجموعات الاجتماعية التي تناضل من أجله. وتصبح محدداته في الحالة المصرية مثلا، وهي قابلة لأن تتغير مع الوقت والسياق، الحد الأدنى والأقصى للأجر، استعادة الشركات الحكومية المباعة بالفساد، الحق في الإدارة الذاتية لوسائل الإنتاج، توفير الخدمات الصحية الكفؤة الرخيصة للكل..الخ. ويعتبر ميللر في هذا أن العدالة تتعلق بتوزيع الجيد (المزايا) والسيئ (الأعباء) داخل المجتمع والطريقة التي تخصص بها الموارد للناس عبر مؤسسات المجتمع.

في مقابل هذه النظرة التعددية يقف الليبراليون المساواتيون، وعلى رأسهم جون راولز ملهم هذه المدرسة، التي فرضت نفسها ووجودها خلال الثلاثين عاما الماضية. ويرى هؤلاء أنه يمكن حتى الوصول لنظرية شاملة موحدة فيما يخص العدالة الاجتماعية. يعني الليبراليون المساواتيون بالأساس بقضية العدالة التوزيعية، أي كيف يمكن توزيع مزايا وأعباء التعاون الاجتماعي، مثلهم مثل ميللر، لكنهم يرجعون ذلك لقيم ثابتة كما يستدعي اسم المدرسة (الحرية والمساواة). ويضع راولز الثقل في هذا على تطوير لنظرية العقد الاجتماعي: “كيف توزع المؤسسات الاجتماعية الرئيسية الحقوق والواجبات الأساسية وتحدد توزيع مزايا التعاون الاجتماعي”[6]. ويضع راولز نظريته التي يسميها العدالة كإنصاف من أجل تطبيق ما يسميه البنية الرئيسية أو المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع. “توفر النظرية مثالا معياريا لتقييم الأساس السياسي الدستوري للمجتمع والترتيبات الاقتصادية الاجتماعية الأساسية“.[7]

يقيم راولز العدالة الاجتماعية بناء على مبدأين رئيسيين: الأول هو أن لكل فرد الحق في المطالبة الحريات الأساسية المتساوية وبمنظومة اجتماعية تقوم على هذا، والثاني وجود شرطين لعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية: الأول أنها ترتبط بإعطاء الكل المساواة في الفرص، والثاني هو أن تكون عدم المساواة للفائدة العظمى للأعضاء الأقل حظوة في المجتمع وهو ما يسميه مبدأ الاختلاف.

وينقل أمارتيا صن، وهو أحد تلامذة راولز، التعريف من منطقة المثال فيما يجب أن تكون عليه المؤسسات وكيف يكيف الناس سلوكهم للتوافق معه (وهو انتقاد رئيسي تم توجيهه لنظرية راولز) إلى واقع وحياة الناس. من هنا يقول صن إن نظرية العدالة يجب أن تنطلق لا من التركيز على المجتمع العادل، وصورة المؤسسات المطلوبة فحسب بل بالأساس على المقارنات القائمة على الواقع لرصد تقهقر وتقدم العدالة، وعلى رأس هذه المؤشرات صور عدم المساواة غير المنصفة.

 (٢) عدم المساواة ورفع الظلم: السياسات

“يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلا وضميرا وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء”.

المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

يؤكد أمارتيا صن أن نقطة البدء في العدالة الاجتماعية هي تشخيص الظلم وتحليله تمهيدا لرفعه. “إن إدراك المظالم التي يمكن رفعها لا يدفعنا إلى التفكير في العدل والظلم فحسب، بل هو لب نظرية العدالة أيضا، كما يقول في كتابه فكرة العدالة. ويضيف صن أنه كي تصلح نظرية ما في العدالة كأساس للتفكير العملي، لا بد لها من أن تتضمن طرقا لتقدير كيف يمكن إنزال الظلم وإعلاء العدل، بدل التوجه فقط لوصف المجتمعات التي تتسم بعدالة كاملة“.

ومن الملفت أن صعود الليبراليين المساواتيين، ابتداء من ٣٠ عاما مضت، اقترن بشكل مباشر بسيطرة الليبرالية الجديدة على توجه الاقتصاد العالمي، وما جلبته على مدى هذه السنوات من تصاعد مستمر في عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية حتى في المجتمعات والاقتصادات المتقدمة.

 يرصد تقرير لمنظمة أوكسفام الصادر في يناير ٢٠١٣ بعنوان تكلفة عدم المساواة: كيف يضر التفاوت في الدخل والثروة بنا جميعا، التصاعد الهائل في التفاوت في فرص الناس على كوكب الأرض وحظوظهم فيما يتعلق بالدخل والثروة. يقرر التقرير الحقيقة القاسية وهي أن دخل المائة ملياردير الأغنى عالميا في ٢٠١٢ سيكون كافيا من أجل إنهاء الفقر المطلق للأبد في العالم، مطالبا قادة العالم بالتعامل مع الأزمة حتى بهدف إيصال عدم المساواة لمستوياته عام ١٩٩٠. “أغنى واحد بالمائة من السكان زادوا من دخولهم بنسبة ٦٠٪ في العشرين عاما الماضية، وقد تسببت الأزمة المالية العالمية في تعميق وتسريع هذه الوضعية، بحسب التقرير.[8] وقد عكس التفاوت نفسه بعشرات الأشكال الأخرى منها القدرة على الوصول للخدمات العامة الأساسية وللعمل الملائم.

هذا الأثر المجحف للأزمة المالية العالمية، التي اندلعت في ٢٠٠٧٢٠٠٨، وانتقلت من ساعتها لمستوى أزمة اقتصادية عالمية واسعة، وصل البعض لتشبيهها بكساد الثلاثينيات الكبير، نقلها مرة أخرى لمصاف أزمة سياسية تتعلق بالديمقراطية، بعد أن حملت الأغلبية أعباء الأزمة مرتين، مرة لإنقاذ الشركات الكبرى ومرة باستعادة سياسات التقشف بعد أن تحملت الميزانيات العامة العبء من أموال دافعي الضرائب، بينما سرع الأغنياء ومديرو المؤسسات المالية، التي تسببت في الأزمة من وتيرة تراكم ثرواتهم. ويعتبر المفكر والاقتصادي والجغرافي البريطاني ديفيد هارفي المشروع الليبرالي الجديد من الأصل مشروعا سياسيا. بمعنى أن سياسات تحرير الأسواق والخصخصة وانسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي وأولوية الاستثمار الخاص الأجنبي والمحلي هي عملية سياسية من شأنها إعادة ترتيب السلطة والقوة في المجتمع ويضع هذا ضمن أهداف المشروع في الأساس وليس مجرد عرض للسياسات الاقتصادية بالمعنى التقني.[9]

في هذا السياق اندلعت الثورات والانتفاضات العربية. ولقد قامت تنحية قضية العدالة الاجتماعية، ودفعها لخلفية الأولويات فيما أعقب هذه الثورات، على أرضية تفسيرات عدة لهذه الثورات تبقيها في فلك الحريات السياسية المجردة والفجوة الجيلية وأثر التطور التكنولوجي لوسائل التواصل الاجتماعي على التنظيم، أو ببساطة خصوصية عربية تنزعها من هذا السياق العالمي متجاهلة للأثر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والاحتجاجي لمحاولة الالتحاق العربي المتسارع بالمشروع الليبرالي الجديد العالمي كما ظهر بأوضح صوره في تونس ومصر والأردن وحتى سوريا. في المقابل، كان من أثر الثورات العربية أن ألهمت تحركات ذات طابع اجتماعي اقتصادي سياسي على رأسها حركات احتلوا وغيرها. فكأنما أقام الحس الجماهيري بهذا ذلك الربط بين الاقتصاد والسياسة، الذي رفض التيار السائد في الصحافة العالمية وفي التحليل الأكاديمي الاعتراف به، بأن رأى في الثورات العربية امتدادا ملهما للاحتجاج المتصاعد على مظالم الليبرالية الجديدة وسياساتها خلال العقود الماضية عالميا وعربيا.

لهذا ظلت المراجعة وإعادة النظر التي فرضتها الأزمة العالمية حتى على المؤسسات المالية العالمية ضعيفة وعلى الهامش وإن كانت تفرض نفسها مرة تلو الأخرى بضغط الشارع وأزمة الحكم. عالميا، كشفت المراجعات نفسها في أوضح صورها في مراجعات صندوق النقد والبنك الدوليين والتي كان على رأسها تبني مفاهيم النمو الاحتوائي. وهو مفهوم يقوم على توفير فرص متساوية للاعبين والمشاركين في العملية الاقتصادية خلال عملية النمو الاقتصادي في الناتج المحلي الإجمالي بما تقول المؤسستان إنه صار يرفع من فرص ديمومة واستمرارية النمو ذاته وليس فقط عدالة توزيع ثماره. وقد ظهرت العديد من الاستجابات الأخرى، بالإضافة للمؤسسات الدولية والليبراليين المساواتيين، من ضمنها الكنزيين الجدد، الذين يدافعون عن مراجعة فكرة الانسحاب الكامل للدولة من العملية الاقتصادية.

وفي العالم العربي، كانت المراجعات الأكاديمية، أو على مستوى السياسات الحكومية، لأسباب الظلم الاجتماعي وعدم المساواة هي الأضعف. حيث ظهرت هذه المراجعات على استحياء في برامج المرشحين الرئاسيين في الجولة الأولى من انتخابات مصر الرئاسية في ٢٠١٢، وكانت المفارقة أن المرشحين اللذين تقدما للمواجهة النهائية عبرا عن البرنامجين الأقل طموحا لإعادة النظر في سياسات الليبرالية الجديدة سعيا للعدالة الاجتماعية.

ويمكن الإشارة أيضا لظهور تيار ضعيف الصوت ولا يحوز الأغلبية يبني تصوراته على ضرورة تقديم مراجعات على مستوى السياسات من أجل استيعاب درس ثورات العرب وضمان الاستقرار السياسي للحكم في المستقبل. ويقوم هذا التيار على إدراك حقائق التفاوت الهائل لحساب قلة من رجال الأعمال، ومحاولة علاج هذا عن طريق بعض الإصلاحات التي تتعلق بالنظام الضريبي وبرفع الأجور ودرجة من إعادة توزيع الثروة. ولوحظ وجود هذا التيار، الذي بزغ أحيانا من قلب مجتمع الأعمال كما في الحالة المصرية،[10] وأحيانا أخرى من مثقفين عضويين مرتبطين بالنظام الحاكم كما في الحالة السعودية.[11]

لكن الحركات الاجتماعية والاحتجاجية، وربما بعض الأحزاب الجديدة، التي تشكلت من أعضاء الحركات الاحتجاجية، كانت هي الحامل الأساسي لفريضة العدالة الاجتماعية الغائبة في السنوات الثلاث الأخيرة. فقد لعبت الإضرابات العمالية وللمهنيين في مصر دور طارح السياسات البديلة في حالات متعددة (وإن لم تنجح في فرضها على الأرض في أغلب الأحيان)، كما حدث في حالة إضرابات الأطباء، التي هي الأطول والأوسع في تاريخ مصر. فقد قدم الأطباء مطالب محددة لتغيير السياسات الحكومية فيما يتعلق ليس فقط بدخول وأجور الأطباء لكن أيضا فيما يتعلق بالخدمة وتوزيعها إقليميا وحماية المستشفيات وميزانية الصحة وقانون التأمين الصحيالخ. في المقابل، مثلت تجارب الإدارة الذاتية العمالية الذروة في طرح السياسات البديلة لحزم السياسات الليبرالية الجديدة المفروضة من تحالفات المصالح والاحتكارات المسيطرة. وقد أخذت الدولة على عاتقها محاربة هذه البدائل ورفض أي تراجع حتى لو جاء على أثر أحكام قضائية. ويقبع هشام قنديل رئيس الوزراء في عهد محمد مرسي في السجن بسبب رفضه تنفيذ أحكام استرداد الشركات، بينما استمر من تبعه في الموقع في نفس السياسات في رفض استرداد الشركات للدولة أو إعطائها للعمال لإدارتها ذاتيا.

 وفي مواجهة مطالب العدالة الاجتماعية تطرح فكرة ضعف الثروة وضعف الإنتاج كواحدة من مبررات استمرار الوضع الراهن. يتم تقديم عجوزات الموازنة وضعف الإنتاج ومشاكل الإنتاجية وتراجع النمو الاقتصادي كعوائق أمام العدالة الاجتماعية، التي وفقا لهذا المنظور ستعني تعميق المشكلة بتوزيع الفقر وأنه ينبغي السعي لتوسيع الكعكة أولا قبل عدالة توزيعها. غير أن هذه الفكرة صارت محل شك بعد أن وجهت الأزمة العالمية ضربة مباشرة لها على مستويين: الأول أن زيادة حجم الكعكة لم يؤد لتقليص عدم المساواة، بل أثبت الباحثان ريتشارد ويلكنسون وكيت بيكيت في كتابهما الهام توازن الروح.. لماذا المساواة أفضل للجميع أنه كلما ازدادت عدم المساواة في المجتمع، مهما كان غنيا، زادت ظواهر ومشاكل المرض العقلي ووفيات الأطفال وتراجع معدل العمر المتوقع والبدانة وتدهور أداء الأطفال التعليمي ومعدلات الانتحار وعدد المسجونين ومعدلهم بالنسبة للسكان وتراجع الحراك الاجتماعي، بل وقدرة الناس على الثقة في بعضهم البعض. ويدعم الكاتبان هذه الصورة بكم هائل من الإحصائيات التي تعود لمصادر موثوقة على رأسها الأمم المتحدة.

بل صارت منظمات كبرنامج الأمم المتحدة للتجارة والتنمية تذهب لحد العكس. أن زيادة الحد الأدنى للأجور، وهو إجراء يحسب على العدالة الاجتماعية، قد يكون هو الحل الكفء الوحيد لرفع كفاءة الإنتاج وديمومته وعدالته أيضا.

ورغم أن السعي لتقليص التفاوت ومواجهة عدم المساواة هما مكون أصيل في أي مسار للعدالة الاجتماعية، غير أن المساواة ليس كل شيء كما رأينا في نظرية راولز التي تجد في بعض أشكال عدم المساواة التي تحابي الضعفاء والفقراء الإنصاف والعدالة. بل أن تعبيرات كالفرص المتساوية والمسئولية الشخصية استخدمت أحيانا لتقليص فرص تحقيق العدالة الاجتماعية بتبرير عدم المساواة الهائل في المجتمع المعاصر“.[12] العدالة الاجتماعية تتعلق إذن بما هو أكثر من هذا.

في هذا الإطار تأتي قضية التداخل بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي في قضية العدالة الاجتماعية. فالربط بين الطبيعة السياسية والاقتصادية للعدالة الاجتماعية لا يقتصر فقط على راديكاليين في نظرتهم للرأسمالية كديفيد هارفي وإنما يمتد لليبراليين مساواتيين كأمارتيا صن، الذي يعنون أحد كتبه باسم التنمية حرية“. بل إن إصلاحيين أمريكيين عديدين أبدوا قلقا من أثر تراجع العدالة على استمرارية النظام الديمقراطي، الذي صار يسمى لدى بعضهم بديمقراطية الواحد في المائة. وتبدو قضية الإصلاح الديمقراطي في العالم العربي عصية على الحل دون عدالة اجتماعية ترفع ثقل الأغلبية في توازن القوى السياسي. والعكس أيضا صحيح: فلا تبدو القوى الاجتماعية المتنفذة سياسيا مستعدة لتقديم تنازلات فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية دون ضغط يهز سيطرتها السياسية.

(٣) العدالة الاجتماعية: أن نخبز كعكتنا ونأكلها

 المعياري القياسي والعملي التنفيذي.. إصلاح أم ثورة؟

إلى أي حد يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية في إطار إصلاح؟ هل يقتضي الإصلاح ثورة جذرية تقطع تماما مع النظام الاقتصادي والاجتماعي المسيطر؟

كما يظهر في تعامل أمارتيا صن مع الانتقادات التي وجهت لراولز من حيث أنه يقدم نموذج المؤسسات المثال في مقابل الواقع وسلوك الأفراد اللذين يجب أن يتغيرا في اتجاهه، هناك دائما قضية التناقض المعياري والعملي فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية. ولقد قدم الليبراليون المساواتيون مساهمة ملموسة في تقديم نظرية للعدالة الاجتماعية تحاول التعامل مع هذه المعضلة من خلال مفاهيم كالمساواة في الحصول على الفرص أو المساواة في القدرات وعلاقة المؤسسات في صورتها المثالية بتطور الواقع ومحاصرة عدم العدالة، مما ساهم بشدة فلسفيا ونظريا في مواجهة الأفكار التي تقول بأن عدم المساواة نتاج مسئولية الأفراد عن مآلهم وبالتالي تبرر الأبنية والسياسات المجحفة اجتماعيا. غير أن انتقادات جوهرية توجه لليبراليين المساواتيين من حيث أن الأساس النظري لأفكارهم هو الحرية الفردية بالمعنى الليبرالي اقتصاديا، وبالتالي فإن هذا يخلق تناقضا مستمرا بين صعوبة الإصلاح في ظل الاستمرار في ظل الرأسمالية بميكانيزماتها وآلياتها بينما النظرية معياريا ضد الرأسمالية كنظام.[13]

ويعترف برايهاوس ورايت من مؤيدي الليبرالية المساواتية بأن النظرية ضد رأسمالية من الناحية القيمية المعيارية لكنهما لا يريان في ذلك تناقضا من قبولها عمليا بالإصلاح في ظل الرأسمالية: “البعض قد يعتقد أن التحقيق الكامل للمبادئ المساواتية غير متوافق مع الرأسمالية، وبهذا فإنها ضد رأسمالية من الناحية القيمية، وفي الوقت نفسه يعتقد أن الرأسمالية هي الترتيب الأخلاقي الأكثر قابلية للتطبيق“.[14]

في المقابل يرى أليكس كالينيكوس، الذي يعتبر أن العدالة الاجتماعية لن تتحقق إلا بثورة جذرية على جوهر النظام الرأسمالي نفسه والذي أدى في تطوره للوضع الحالي، أنه لا يوجد ما يمنع من تحقيق الاتساق بين ما هو معياري وقياسي وقيمي وبين ما هو عملي خاصة مع ما يبدو من صعوبة تزيد كل يوم في تحقيق الإصلاح. يقول كالينيكوس: “لا أرى لماذا لا يمكننا أن نحصل على الاثنين. أعتقد أن المرء يمكنه الحصول على الكعكة وأكلها، في هذه القضية على الأقل“.[15]

[1] للمزيد حول هذه الفكرة انظر كيف كانت الثورات العربية امتدادا لا قطعا مع سياق عالمي تصاعد مع الأزمة المالية العالمية في ٢٠٠٧٢٠٠٨ في: وائل جمال، الربيع العربي ومفاهيم التنمية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، منشور في كتاب الكرامة العربية (رؤى لما بعد الليبرالية)، القاهرة، منتدى البدائل العربي، ٢٠١٣.

[2]David Miller, Principles of Social Justice, Cambridge, Massachusetts,- 4 London, Harvard University Press,1999

[3] المرجع السابق.

[4] أمارتيا صن، فكرة العدالة، ترجمة مازن جندلي، بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، ٢٠١٠

[5] المرجع السابق

[6] جون راولز، العدالة كإنصاف

[7] Colin Farrelly, Contemporary Political Theory A Reader, London, Sage Publications,2004

[8] The cost of inequality: how wealth and income extremes hurt us all, Oxfam, 18 January 2013

[9] David Harvey, A Brief History of Neoliberalism, London, Oxford University Press, 2007

[10] انظر مقالات حسن هيكل في جريدة المصري اليوم http://www.almasryalyoum.com/editor/details/677

[11] جمال خاشقجي، بعض من اشتراكية أبي ذر يا سمو الأمير، جريدة الحياة، ١٢ أبريل ٢٠١٤.

Richard G. Wilkinson and Kate Pickett،The Spirit Level: Why More Equal Societies Almost Always Do Better, London, Penguin Books, 2010

[12] Matthew Robinson, What is Social Justice?

 http://gjs.appstate.edu/social-justice-and-human-rights/what-social-justice

[13] Alex Callinicos, Equality Themes for the 21st Century Series, London, Polity, 2001

[14] Brighouse, Harry, and Erik Olin Wright, “Review of Equality by Alex Callinicos”, Historical Materialism 2002

[15] Alex Callinicos, Having Our Cake and Eating It, Historical Materialism, Volume 9, 2001.

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart