الصحة والعقد الاجتماعي الجديد لما بعد ثورة 25 يناير

الصحة والعقد الاجتماعي الجديد لما بعد ثورة 25 يناير

مقدمة:

الحق في الصحة حق أصيل أكدته المواثيق الدولية ويمتد هذا الحق إلى كفالة مستوى المعيشة الذي يكفي لضمان الصحة والرفاه المستدامة له ولأسرته حيث تؤثر مدى كفاءة وجودة القطاع الصحي على مستوى التنمية البشرية للأمم، ويعتبر الوصول للنظام الصحي من قبل جميع السكان أحد مؤشرات العدالة الاجتماعية. لذلك فالصحة حق أساسي من حقوق الإنسان يحصل عليه متى احتاج إليه دون النظر إلى أي اعتبارات اجتماعية أو اقتصادية أو عقائدية.

وترتبط الصحة بقوة بدائرة الفقر والرفاه، فصحة أفضل تعني إمكانية اكبر للعمل والإنتاجية ما يعني الخروج من ربقة الفقر للأبد. وإذا كانت الخدمات الصحية حصرية لفئات معينة قادرة، وممتنعة على فئات أخرى بسبب قلة ذات يدها وفاقتها، فان هذا ينذر باستمرار الفئة الأخيرة في دائرة الفقر والعوز. لعل نتائج مثل هذه تعني عدم عدالة سياسية وقلة إنتاجية وإبداع اقتصادية ومهانة وانحطاط أخلاقي وإنساني.

نادت ثورة 25 يناير بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ولعل من أوثق ما يرتبط بهذه القيم جميعها هو الصحة وتوفير الخدمات الصحية للجميع بدون النظر للقدرة المالية. فالصحة تحرر الإنسان وتدعم حريته في الاستمتاع بالحياة والإضافة إليها. وهي تمكنه من العمل والإنتاج ما يحقق كرامته بكسب عيشه من عمل يده.

وترتبط الصحة من جهة أخرى بالقدرات الإنتاجية اللازمة للتطور الاقتصادي، فانتشار أمراض تؤدي إلى الوفاة المبكرة أو تخفيض الإنتاجية لصاحبها يؤدي إلى خسائر هائلة للوقت والجهد والمال سواء أثناء عملية الإنتاج أو عبر الإنفاق على العلاج والذي قد تكون تكلفته باهظة على المدى الطويل ولتغطية عدد كبير من السكان، هذا من الناحية السلبية.

أما من الناحية الايجابية، فيحتاج الإبداع والابتكار أيضا إلى صحة موفورة سواء بدنية أو ذهنية للانطلاق والاكتشاف بدون قيود. ولعل هذا ما يجب أن يلتفت إليه خصوصا عند تقييم العائد من الإنفاق على صحة أكثر انتشارا وشيوعا بين المصريين.

الخدمات الصحية والعقد الاجتماعي لثورة 23 يوليو

ترتكز نقاشات الخدمات التي تقدمها الدولة من صحة وتعليم وغيرها على طبيعة العقد الاجتماعي المنعقد بين الطرفين الدولة والمجتمع بكل أطيافه. ويوفي كل طرف بالتزاماته في رضا وتوافق طالما استمر الطرف الآخر في تقديم الالتزامات. كان العقد الاجتماعي لثورة يوليو يفترض رعاية الدولة لمواطنيها وتقديم كافة الخدمات والتشغيل لهم مقابل دفع المواطنين نسبة مرتفعة من الضرائب تمكن الدولة من تغطية النفقات المرتفعة والمناسبة لحجم المسؤوليات. استمر هذا التعاقد إلى بداية السبعينيات، إلى أن أدركت وقررت الدولة من طرف واحد أن هذه الشروط غير قابلة للاستمرار. كانت نتائج الخطط الخمسية وأجواء التحول نحو الولايات المتحدة الأمريكية وتبني سياسات الاقتصاد الحر أحد المحددات للخروج بهذه النتيجة. لم يكن نقض التعاقد من قبل الطرفين، ولم يكن كذلك معلنا، بل كان من طرف الدولة منفردة. كتبت الدولة عقدا مع آخرين وما زالت ملتزمة به إلى الآن، والأدهى أن الشعب المسكين ما زال متمسكا بالعقد الأول.

بدأت الدولة في الانسحاب من الميادين المتفق على تغطيتها لها، ولم يتقدم القطاع الخاص كما كان مفترضا. انخفضت مخصصات الصحة والتعليم والخدمات الأساسية، استقرت المرتبات في القطاع الحكومي عند مستويات معينة. كذلك كانت الاستثمارات التي تؤمن التوسع والصيانة للأصول القائمة عند حدودها الدنيا دائما. وبينما استقرت الأجور ودمرت كل آليات التفاوض الجماعي، عبر النقابات لتحسين شروط وظروف العمل، تم تحرير الأسواق والأسعار وإطلاقها بدون رقيب ولا حسيب.

بدأ المواطنون في التكيف مع العقد الجديد، خصوصا مع انغلاق كل آليات مراجعته وتصحيح الوضع. كانت هذه التكيفات بداية التشوهات للأوضاع العامة في مصر. بدأ المدرسون في احتراف الدروس الخصوصية، وبدأ الأطباء في التركيز على العيادات الخاصة واستقرت أسعار الخدمات عبر الرشاوى.. وهكذا.

لم يستطع النظام أن يصارح الشعب بالتغييرات الجديدة، عرف الجميع وسكت. كانت المصارحة تعني التغيير، وهذا ما لم يكن واردا. في ظل هذه الأوضاع، نشأ عقد ضمني جديد قائم على التظاهر والتجاهل والتواطؤ. تتظاهر الدولة بأنها تؤدي دورها بإعطاء مرتبات هزيلة ويتظاهر الأطباء والمدرسون بأداء عملهم الهزيل أيضا. يتجاهل الموظفون فساد وقلة كفاءة الدولة وتتجاهل الدولة انحرافاتهم، في تواطؤ متبادل.

مشكلات النظام الصحي المصري

نتيجة لما سبق من اختلال في النظام الاقتصادي وانسحاب الدولة بدون تعويض من القطاع الخاص كما كان منتظرا، حدثت العديد من الاختلالات في التوازنات الكلية للنظام ما أفرز عدم كفاءة وعدم عدالة واضحين.

إنفاق منخفض

لوحظ توجه معدل الإنفاق على الصحة إلي الانخفاض بشكل كبير مقارنة بباقي الدول حيث انخفض من 3.8% من الناتج القومي في عام 2000 إلى 1.5% في عام 2011علما بان المتوسط العالمي للإنفاق على الصحة هو 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي([1]). ولعل المفارقة تكمن أن إنفاق عام 2000 كان أيضا منخفضا عن باقي الدول بشكل كبير حيث كانت البرازيل تنفق 8.3% وأمريكا 13% من الناتج المحلي، بينما تنفق الأخيرة حوالي 16.7% من الإنفاق الحكومي على الصحة مقابل 4.9% لمصر. و في حالة احتساب النسبة من الإنفاق العام الحقيقي أي بعد خصم مخصصات سداد القروض فان النسبة ستنخفض لمجرد 4%.

أدى هذا الإنفاق المنخفض إلى تردي حالة تقديم الخدمات نتيجة لانخفاض الرواتب وضعف الإنفاق على مستلزمات العمليات والأدوية وضعف مخصصات الصيانة للآلات والمعدات والمباني وكذلك تراجع الاستثمارات في التوسعات والتطويرات للأبنية والأصول الحالية.

 

إحصائيات الإنفاق على الصحة عام 2000([2])

الدولة الصحة للدخل القومي عام 2000 الإنفاق الحكومي من الإنفاق الكلي 2000 الإنفاق على الصحة من الإنفاق الحكومي
البرازيل 8.3% 40.8% 8.4%
مصر 3.8% 46.1% 6.5%
إسرائيل 10.9% 75.9% 15.4%
الولايات المتحدة 13 44.3% 16.7

فعلي الرغم من تدني رواتب العاملين في القطاع من أطباء وتمريض وإداريين، فان الرواتب والأجور تستحوذ على النصيب الأكبر من الموازنة المخصصة للصحة حيث  تقتطع حوالي 50% من الإنفاق على الصحة. ولعل انخفاض الأجور هو أحد العوامل الأساسية لانخفاض مستوى الأداء وتعميق عدم الكفاءة والعدالة.  فمن الملاحظ أن مصر لا تعاني من قلة الأطباء أو طواقم التمريض. فلدى مصر حوالي 28 طبيبا لكل عشرة آلاف مريض مقابل 18 في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كذلك لا تعاني مصر مشكلة في عدد الأسرة حيث لديها 27 سرير لكل عشرة آلاف مقابل 21.6 ألف في المنطقة نفسها.

إحصائيات كلية للوضع الصحي ([3])

  الوحدة مصر المنطقة
عدد السكان 2010 مليون 78.3 214
الإنفاق الصحي كنسبة من الناتج المحلي % 5 4.3
نصيب الفرد من الإنفاق على الصحة دولار 112 315
نصيب الفرد من الناتج المحلي دولار 2.789 8.178
عدد الآسرة لكل 10000 نسبة 27 21.6
الأطباء لكل 10000 نسبة 28.3 18.3
توقع الحياة سنوات 70.3 71.4
معدل وفيات الأطفال لكل 1000 ولادة 18.2 25.9
نسبة كبار السن % 7.7 4.5

 

تترافق مشكلة انخفاض الأجور مع انخفاض مخصصات السلع الطبية مثل الأدوية ومستلزمات العمليات وضعف الاستثمارات العامة سواء للتوسع أو الصيانة للأصول القائمة إلى تردي حالة الخدمة الصحية المقدمة ما يؤدي بطرفي العملية المتمثل في الطبيب والمريض إلى اللجوء لبدائل أخرى لا تعزز الكفاءة والجودة بالضرورة بل وتعمق من حالة عدم العدالة والمساواة من ناحية أخرى.

فوضى تقديم الخدمة الصحية

يقوم بتقديم الخدمات الصحية العديد من المقدمين التابعين للعديد من الجهات، فهناك وزارة الصحة والسكان، والتامين الصحي، والمستشفيات التعليمية التابعة للجامعات، كذلك بعض الوزارات مثل الدفاع والداخلية، وكذلك النقابات المهنية إضافة إلى العيادات الخاصة. يصعب تقديم خدمة صحية ذات جودة مرتفعة وبكفاءة عالية وتحقق مستوى من العدالة مع وجود هذا العدد غير المنسق من المؤسسات التي تقدم الخدمة الصحية. وتلجأ كل مؤسسة لتقديم الخدمات بنفسها في محاولة لحل مشكلة فئتها الخاصة بعدما انسدت كل الطرق لإيجاد حل جماعي للمشكلة عن طريق الدولة المنسحبة.

وزارة الصحة

تعد وزارة الصحة المقدم الرئيس للخدمة والذي يحوز أكبر حجم من أماكن تقديم الخدمة الصحية في مصر، حيث تقوم وزارة الصحة بإدارة تقديم الخدمات عبر مستشفياتها التي تبلغ حوالي 1250 مستشفي بها 116 ألف سرير عبر نمط مركزي للغاية لا يمكنها من الاستفادة من ما لديها من إمكانيات. حيث تتعامل الوزارة مع حوالي 26 وزارة وجهة حكومية، ما يصعب من تحكمها في التخطيط والاستثمار والمراقبة لأنشطتها وعملياتها. ولدى الوزارة هيكل إدارة متخم بالوظائف والمهام غير محددة المعالم، مع ضعف التنسيق والاتصال بين الأقسام. هذا ما ينتج صعوبة في المحاسبة وتحديد المسئولية عن التقصير. لا يوجد نظم وسياسات رسمية للوزارة، ما يجعل القرارات عرضة للشخصنة والذاتية بشكل كبير. ولا توجد قواعد بيانات منتظمة ولا يعتمد على نظم معلومات صحية في اتخاذ القرارات.

ينجم عن الوضع السابق وجود خلل بين ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي وتشغيلي، حيث يسود الأخير في التعامل مع كل المستويات الكلية والجزئية. تقوم الوزارة بتخطيط وتنفيذ ورقابة تقديم الخدمات الصحية على كل المستويات، وهو ما يؤدي إلى التداخل في الاختصاصات والتكرار في المهام، وصعوبة متابعة منابع الخلل، إضافة إلى وجود تضارب مصالح واضح. أدت المركزية الكبيرة في التخطيط والتنفيذ والاستثمار إلى ضعف استجابة كبير للاحتياجات المحلية مولدة فجوة كبيرة بين السياسات والاستراتيجيات الحالية وحقائق المجتمعات المحلية.

تساعد هذه البنية على مضاعفة التكاليف. حيث لا يوجد نظام للتنسيق بين مقدمي الخدمة المتعددين، مما يوفر في التكاليف، ويساعد في توسيع دائرة التغطية. أيضا هناك عدم اتساق وحساسية لتوزيع الموارد بين الرعاية الأولية والثانوية ومستويات الرعاية الأعلى حيث هناك تحيز كبير للرعاية الثانوية والمتطورة على حساب الرعاية الأولية. يترافق هذا مع ضعف الكوادر الإدارية للاستفادة من الموارد المخصصة، ما ينتهي بهدر كبير في الرعاية الثانوية والمتطورة.

لا تعتمد الوزارة على أي نظم للمعلومات الصحية، حيث تتشتت نظم المعلومات الصحية بين مؤسسات وزارة الصحة، ما ينتهي بمعلومات ناقصة أو غير دقيقة. لا توجد للوزارة رؤية دقيقة حول نظم المعلومات الصحية، ولا يوجد أي تنسيق بين الأقسام لجمعها وتنميطها. ولا يتم استخدامها في التخطيط والرقابة.

نظرا للمشكلة السابقة تعاني الصيدليات وموردو الأدوية من نظم إنتاج وتسعير مبنية على معلومات يمكن الاعتماد عليها. وهذا ما ينتج عجوزات أو فوائض في الأصناف مع ما يستتبعه من فقدان للفرص أو تكاليف تخزين مرتفعة.

التأمين الصحي

 ينتفع حالياً بنظام التأمين الصحي([4]) المواطنون العاملون في القطاع الحكومي، موظفو القطاع العام، وموظفو القطاع الخاص، ويمتد ليشمل  ذوى المعاشات والأرامل ، الأطفال وتلاميذ المدارس حيث تم تطبيق برنامج التأمين الصحي عام 1993 على جميع تلاميذ المدارس وفى عام 1997 صدر قرار بتطبيق اختياري لرعاية الأطفال قبل السن المدرسي.

المظلة التأمينية الحالية تشمل 58% من شرائح المجتمع المصري ويبلغ عدد المؤمن عليهم حوالي 45 مليون([5]) وعند الحديث عن تغطية التامين الصحي لحوالي 58% من السكان فانه يجب التفرقة بين التغطية النظرية أو إمكانية الوصول للخدمة والحصول عليها. فمن الملاحظ عدم رضاء المواطنين عن مستوى تقديم الخدمة وكفاءة من يقدمونها بالإضافة إلى عدم تطويره. هذا بجانب حقيقة نقص الخدمات التأمينية في الريف أو انعدامها تقريبا خاصة في المناطق التي تعاني من قلة الخدمات أو انعدامها مقارنة بالحضر. وما يعزز ذلك استطلاع للرأي أجراه مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، أظهر بأن موظفي الحكومة اعتبروا تدني الأجور، ثم سوء حالة التأمين الصحي من أبرز المنغصات التي يعانون منها([6]).

الجودة

لا توجد في مصر مؤسسات مستقلة لضمان جودة الخدمات الصحية سواء في القطاع الخاص أو العام. ففي القطاع العام تقوم وزارة الصحة بمراقبة جودة خدماتها عن طريق إدارة للجودة داخل الكيان المركزي للوزارة ما يطرح أسئلة تضارب المصالح المحتمل وتداخل الأدوار. وفي القطاع الخاص لا توجد أيضا أي مؤسسات للجودة وتقييمها وضمانها، الأهم من ذلك انه لا توجد أي حوافز ايجابية أو سلبية لضمان الجودة لذلك فليس من المستغرب أن مصر لا يوجد بها مستشفى حاصل على شهادة اعتماد جودة إلا مستشفى واحد فقط هو دار الشفاء من 1200 مستشفي وهو ما يظهر حجم المشكلة الصحية في مصر.([7])

العدالة

تعتبر قدرة النظام على الحماية ضد المخاطر المالية أحد أبعاد التقييم الهامة لنجاحه، ولما كان المواطن يتحمل حوالي 60% من الإنفاق على الصحة مقابل 40% من باقي الجهات فان هذه النسبة المرتفعة تؤكد أن عدالة النظام الصحي في مصر محل شك كبير. ولما كان أصحاب المرتبات والدخول الثابتة هم من يدفعون النسب الأكبر من الضريبة فإنهم من المتوقع أيضا أن يكون هم من يتحمل العبء المالي الأكبر في تمويل النظام عبر الإنفاق العام، وهذا ما يفاقم من حالة عدم العدالة.

توزيع الإنفاق على الصحة ([8])

النسبة الجهة النسبة الجهة
1% مؤسسات تعليمية صحية 1%  21% وزارة الصحة والسكان بين 21%
اقل من 1% مؤسسة علاجية  اقل من 1% 10% التامين الصحي10%
اقل من 1% نقابات اقل من 1% 60% الإنفاق الأسري المباشر من الجيب60%
اقل من 1% أهلية اقل من 1% 7% وزارات أخري7%
    1% شركات عامة1%

توضح إجابة سؤال من يستفيد من المنافع التي يقدمها النظام أحد أبعاد العدالة أيضا، حيث تحصل الشريحة الدنيا على 16% من الإنفاق مقابل 24% للشريحة العليا([9]) حيث يستفيد أفقر 20% بـ19.3% من خدمات وزارة الصحة بينما أغنى 20% يستفيدون بنفس النسبة. ويستفيد أفقر 20% من 17.5% من خدمات التامين الصحي على طلبة المدارس مقابل 20.5% لأغنى 20%. ويستفيد أفقر 20% من 14.% من خدمات الهيئة العامة للتامين الصحي مقابل 33.6% لاغني 20%. ويستفيد أفقر 20% من 13% من خدمات وزارة الصحة مقابل 25.3% لأغنى 20%([10]). هنا يبدو واضحا أن الخدمات الصحية لا تذهب إلى الفقراء، وأن الفقراء، بسبب فقرهم، لا يستطيعون الاستفادة منها إن توافرت.

بالفعل لا تذهب الخدمات الصحية إلى الفقراء، حيث يتفاوت الإنفاق العام على الصحة بين الريف والحضر والوجهة القبلي والبحري. فبالإضافة إلى أن تدني أجور الأطباء وضعف التجهيزات لهذه الوحدات يؤدى إلى التغيب عن العمل في الوحدات الصحية في المناطق الريفية والنائية فإن الوجه القبلي على سبيل المثال يعاني من انخفاض ملحوظ في عدد الأطباء وطواقم التمريض مقارنة بالوجه البحري. هذا مع توقع انخفاض مستوى تقديم الخدمات بشكل عام في الريف والوجه القبلي.

يؤدي هذا إلى تكبد قاطني الريف والوجه القبلي تكاليف ومشقة السفر إلى الحضر أو القاهرة للحصول على الخدمة الطبية في العيادات الخاصة، هذا في حالة الاستطاعة، ما يؤدى إلى زيادة الأعباء المالية والمخاطر الصحية لهذه الشريحة الهامة من المواطنين. في نفس الوقت الذي يلتزمون فيه بدفع نصيبهم من الضريبة التي من المفترض أن تسوى بينهم في الإنفاق كما سوت بينهم في الجباية.

توزيع فرق العمل جغرافيا ([11])

  أطباء تمريض
حضر 99 99
بحري 67.4 143
قبلي 56 89
حدود 110 212

أفكار الإصلاح والعقد الاجتماعي الجديد

إذن اخفق النظام الحالي في تحقيق الأهداف المتمثلة في حالة صحية مرتفعة لجميع المواطنين، ورضاء عن تقديم الخدمات وحماية ضد المخاطر المالية. واضح أن هناك مشكلة كبيرة في الكفاءة والجودة والعدالة تستحق مراجعة جذرية للنظام وتقديم حلول بديلة، إذا ما العمل؟

انطلقت منذ منتصف التسعينيات مبادرات للإصلاح متمثلة في محاولات تحسين كفاءة الإدارة والتنسيق بين مقدمي الخدمات، لكن كان يعيب هذه المبادرات أنها بدون رؤية شاملة وتتجاهل المشكلات الأساسية للنظام. في عام 2006 أبرمت الحكومة اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي بقيمة 88 مليون يورو لتقديم حزمة من الإصلاحات تحتوي تقديم قانون جديد للتأمين الصحي وتفعيل دور وزارة الصحة، مع التفرقة بين متعهدي الصحة ووظيفة المؤمن الصحي، ومن ثم تأمين الموارد المالية اللازمة، والتي تعد إحدى أكبر العقبات في طريق تقديم خدمة جيدة.

أثار القانون الجديد جدلاً قوياً خوفاً من أن يكون خطوة نحو خصخصة، ولو جزئية، لنظام التأمين الصحي، ذلك على الرغم من نص القانون على أن يكون النظام تكافليا، وأن تتحمل الدولة أعباءه بالكامل بالنسبة إلى غير القادرين، ويرتكز على مبدأ فصل التمويل عن تقديم الخدمة، وإدارة التمويل ومصادره في شكل يضمن الاستدامة. وتم التوصل إلى إطاره العام بعد سنوات من الدرس والتحليل من جانب الحكومة المصرية، وبمساعدة جهات دولية على رأسها البنك الدولي، وهيئة المعونة الأميركية، والاتحاد الأوروبي([12]).

شاب الطرح الجديد أيضا مشكلة اعتماده على نفس آليات التمويل التي أثبتت عدم فعالية في ظل مستوي التقدم الاقتصادي والاجتماعي الذي نحن فيه إضافة إلى عدم الثقة المرتفع في الحكومة من قبل المجتمع والإحساس العام أن مشكلات مثل انخفاض الجودة والكفاءة وضعف الوصول للخدمة في المناطق الريفية والنائية والصعيد إضافة إلى مشكلات سوء الإدارة والفساد كلها مرتبطة بإعادة تصميم النظام وتحديد دور الأطراف بدقة ومسئولية في إطار عقد اجتماعي جديد يعكس التغيرات الجديدة في الهيكل الاقتصادي والاجتماعي.

هيكل اقتصادي اجتماعي جديد

عادة ما تُمنى العديد من محاولات الإصلاح بالفشل، على الرغم من تطورها وإخلاصها، نتيجة لتجاهل التوازنات الكلية المختلفة في النظام الاقتصادي والسياسي. فبدون إصلاح للأجور يضمن أجرا عادلا وكريما للمواطن من الصعب للغاية إصلاح النظم المالية للتعليم والصحة وغيرها من الخدمات. حيث يؤدي انخفاض الأجور الشديد إلى تشويه أي نظم للدفع الجماعي مثل التأمين الصحي، حيث تكون المساهمات منخفضة ما يؤدي إلى عجز النظام على المدى الطويل.

أيضا تؤدي النسب المرتفعة للعمالة غير الرسمية إلى خروج نسبة كبيرة من السكان من مظلة التأمين الصحي، وفي حالة تغطية الدولة لهم، فان هذا يعمق من عدم الكفاءة والعدالة. حيث من الصعب تقييم عددهم ومساهماتهم المفقودة كنتيجة لصعوبة تقييم دخولهم ما يؤدي إلى تعجيز النظام من جهة ومشاركتهم للمساهمين في الاستفادة من خدمات لم يشاركوا فيها.

تساهم مركزية النظام السياسي وغياب دور المحليات إلى زيادة أعباء الرقابة على المركز، فمن الضروري تعزيز دور المحافظات والمحليات في الرقابة على تقديم الخدمات كمقدمة لإناطة أعباء تخطيط الخدمات وتقديمها جزئيا للأطراف، مما يوفر درجة مشاركة واستجابة أكبر وبالتالي ثقة وملكية للخدمات.

لا يجب السماح للصحة بأن تتحول إلى سلعة تقدم لمن يستطيع، فبالإضافة إلى أن السوق لا يستطيع توفير معايير الكفاءة والعدالة لسوق الخدمات الصحية، فإن تكاليف فشل السوق في تقديم الخدمات الصحية كبيرة على المستويات الاقتصادية والسياسية والإنسانية أيضا.

يجب عند تصميم النظام الجديد معرفة أن الحكومة ليست خيرا دائما، وان هناك حدودا لكفاءتها في تقديم الخدمات بشكل عام. لذلك يمكن بدلا من الاعتماد على القطاع الخاص بشكل أساسي التحول نحو مفهوم جديد كان شائعا في مصر قديما وهو المؤسسات غير الهادفة للربح. وفيه تدار المؤسسات بكفاءة القطاع الخاص مع فرق بسيط وهو عدم سعيها للربح. وتقوم بإدارة هذا النوع من مقدمي الخدمات المؤسسات الدينية المختلفة في مصر. وهذا منتشر بشدة في ألمانيا والدنمارك اللتان تعتمدان عليه في تقديم العديد من الخدمات بشكل كفء وعادل.

تمويل النظام

يرتبط تصميم النظام الصحي الذي يحقق الكفاءة والعدالة للمصريين بإمكانيات التمويل المتاحة حيث يؤثر مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي على إمكانية النظام إتباع هذه الطريقة للتمويل أو تلك. فمن المعروف أن هناك أربع طرق لتمويل الخدمات الصحية؛ الإيرادات العامة، اشتراكات التأمين الصحي العام، اشتراكات التأمين الصحي الخاص، والدفع من الجيب مباشرة في العيادات والمستشفيات.

ويجب أن يقر في الذهن أن أي مبالغ تدفع إلى الصحة هي في النهاية من جيوب المواطنين سواء بشكل مباشر عبر الدفع من الجيب أو بشكل غير مباشر عبر الضرائب أو الاشتراكات للتأمين الصحي العام أو الخاص. فالهدف من أي نظام هو التأكد من توفير أكبر قدر من الكفاءة والعدالة لكم المنفق على الصحة لجميع السكان.

تتميز نظم التمويل عبر الإيرادات العامة بسهولة جمعها وتوجيهها لتطوير القطاع الصحي، وهذا ما يتوافق مع قواعد الكفاءة والفعالية والإمكانية الفنية([13]) وكذلك يوفر أكبر قدر من المشاركة في المخاطر. وتتبع العديد من الدول هذا النظام مثل السويد وبريطانيا وكندا واستراليا.

تحتاج نظم التأمين الصحي العام إلى نظام متطور اقتصاديا وإداريا لجمع الاشتراكات بدون تهرب وهذا ما يصعب تحقيقه في مصر نتيجة لوجود قطاعات كبيرة من العمالة غير الرسمية وعدم التزام المشروعات الصغيرة بالمعايير المحاسبية التي على أساسها يمكن المتابعة والرقابة. ويعتمد النظام على اشتراكات المنتفعين وأرباب الأعمال، وبالرغم من أنه يغطي تكلفته تقريبا، إلا أن هذا يتم على حساب ضعف مرتبات العاملين به وبالتالي تواضع أدائهم، وعلى حساب مستوى كفاءة الخدمات المقدمة([14]) وهذا ما يحتم ضرورة رفع الاشتراكات لرفع مستوى الخدمة، وهو ما يصطدم بتدني الأجور الاسمية التي توفر القاعدة لجمع الاشتراكات.

توفر نظم التامين الصحي الخاص رعاية صحية متطورة لأصحابها لكن مقابل تكاليف باهظة ومعدل منخفض للمشاركة في المخاطر. وتتميز نظم الدفع من الجيب بانعدام معدل المشاركة في المخاطر بين النظم المختلفة. ويدفع المصريون حوالي 60% من الإنفاق الصحي من جيوبهم الخاصة والذي يدفع أغلبه في العيادات الخاصة بنسبة 40% والدواء بنسبة 33%.

توزيع الإنفاق المباشر من الجيب حسب نوع مقدمي الخدمة ([15])

النسبة الجهة النسبة الجهة
41.9% في العيادات الخاصة 3.5% في مستشفيات وزارة الصحة
3.2% عيادات وزارة الصحة 3.1% في المستشفيات الجامعة
33% في الصيدليات (الدواء) 0.9% مستشفيات أخرى
4% (انتقالات وخلافه) أخرى 0.8% في مستشفيات التامين الصحي
    0.9% في المستشفيات الخاصة

يتضح مما سبق أن محاولات تهرب الدولة من إصلاح النظام عبر الإيرادات العامة المتمثلة في الضرائب نتيجة لالتزامها بنظام الليبرالية المتطرفة ولجوءها في الإصلاح إلى توسيع دائرة تغطية التأمين الصحي ستفضي إلى فشل أكبر للنظام ككل، وذلك لعدم حل الإشكالات الأساسية المتمثلة في فجوة التمويل والبنية التحتية الهائلة.

توصي منظمة الصحة العالمية برفع نسبة الإنفاق على الصحة إلى الإنفاق الحكومي إلى 15%، وبغض النظر عن مدى عقلانية النسبة فان هناك مشكلة في ذلك في ظل انخفاض معدل الضريبة الحالي (20%) وهو من أكثر المعدلات انخفاضا في العالم، الأمر الذي لا يمكن الحكومة من القيام بمسئولياتها. ولعله من المناسب أن نذكر أن هذا الخفض في الضريبة يتسق مع العقد الاجتماعي الخارجي للنظام السابق، ويخرق العقد الاجتماعي الداخلي الذي يعبر بدورة عن طبيعة وجهة التزام النظام بالنجاح.

يوفر هذا الحل الأموال اللازمة لرفع الأجور والتدريب والصيانة والتوسع وضمان وصول وتقديم الخدمات للمناطق النائية والريفية. هذا يتعزز إذا علمنا أن  84% من الزيارات الداخلية تتم في مرافق وزارة الصحة والتامين الصحي والمستشفيات التعليمية. و55% من زيارات العيادات تتم في العيادات الخاصة ما يعني انه بتطوير العيادات الخارجية والوحدات الصحية سيتم تخفيض كم كبير من الإنفاق الخاص على الصحة وتوفير العدالة لقطاع كبير ومهمش من المواطنين.

تساعد هذه الإصلاحات في تعزيز الثقة في النظام الصحي والخدمات الحكومية بشكل عام، وأيضا تساعد في توحيد وتنسيق مقدمي الخدمات وتوفير الهدر ومحاربة الفساد ورفع الكفاءة وزيادة الجودة وضمان العدالة للنظام.

معدلات الضرائب العالمية ([16])

الدولة أعلى معدل للضريبة على الأفراد أعلى معدل للضريبة على الشركات
مصر %20 20%
الدنمارك %62 25%
ألمانيا %45 29%
أمريكا %35 40%
تركيا %35 20%
كوريا الجنوبية %35 24%

تأتي في المرحلة التالية وبالتوازي مع رفع كفاءة الخدمات التي تقدمها الدولة تطوير خدمات التأمين الصحي ومعالجة اختلالات الجودة والإدارة لكسب ثقة المواطنين في النظام وإقناعهم بزيادة الاشتراكات من أجل ضمان استدامة جودة الخدمات.

يبدو انه لا بديل عن رفع معدل الضريبة وتحويله إلى نظام تصاعدي ليستوعب أعباء الدولة في إعادة إعمار الإنسان المصري الذي تم تخريبه عبر العقود الفائتة. فهناك زيادات مطلوبة في التعليم والبنية التحتية وغيرها من مواطن التنمية التي جرفها النظام السابق. يأتي هذا في إطار العقد الاجتماعي الجديد القائم على الصراحة والمسؤولية والجدية من جميع الأطراف من خلال عملية ديمقراطية شفافة لبناء مواطن ذو كرامة وينعم بالعدل والرفاه.

ــــــــــــــــــــــــ

[1]() تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، 2011، ص 64

[2]() الحالة الصحية والخدمات الصحية في مصر: دراسة تحليلية للوضع الراهن ورؤى مستقبلية، جمعية التنمية الصحية والبيئية، برنامج السياسات والنظم الصحية، 2005، ص 161

[3]() MENA: health care sector report, Al Masah Capital Limited, P 28

[4]() الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء،

http://www.capmas.gov.eg/pages_ar.aspx?pageid=892

[5]() نسمة تليمة، متي وكيف تصل الثورة إلي قطاع الصحة؟، مصرس،

http://www.masress.com/alahaly/6311

[6]() أمينة خيري، أوروبا جارتنا – التأمين الصحي في مصر يعد الفقراء برعاية ويطالب الأغنياء بالمشاركة في المسؤولية، القاهرة – السبت, 05 ديسمبر 2009، الحياة اللندنية، http://www.daralhayat.com/print/83131

[7]() نسمة تليمة، مرجع سابق

[8]() الحالة الصحية والخدمات الصحية في مصر: دراسة تحليلية للوضع الراهن ورؤى مستقبلية، مرجع سابق، ص 16

[9]() إشكاليات الإنفاق الصحي في مصر: تقرير حول أعمال مائدة مستديرة، برنامج الصحة وحقوق الإنسان، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ابريل 2009، ص 14

[10]()المرجع السابق، ص 28

[11]() الحالة الصحية والخدمات الصحية في مصر، مرجع سابق، ص 161

[12]() أمينة خيري، مرجع سابق

[13]() Christian A. Gericke, M.D., M.Sc. (Econ), D.T.M.H. Financing Health Care in Egypt: Current Issues and Options for Reform, Berlin University of Technology, March 2004, p3

[14]() د محمد حسن خليل، بعد ثورة 25 يناير إعادة بناء النظام الصحي، جريدة الأهالي

http://www.al-ahaly.com/?option=com_content&view=article&id=5074:-25-&Itemid=43

[15]() الحالة الصحية والخدمات الصحية في مصر، مرجع سابق، ص 161

[16]() تقرير الاتجاهات الاقتصادية الإستراتيجية، مرجع سابق، ص 70

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart