المقاولة المغربية: لا توازن اجتماعي في غياب عدالة اجتماعية ولا مساواة في ظل انتشار التمييز بين الأجراء

المقاولة المغربية: لا توازن اجتماعي في غياب عدالة اجتماعية ولا مساواة في ظل انتشار التمييز بين الأجراء

(1)

كثُر الحديث عن حقوق الإنسان داخل المقاولة، من خلال توفير حماية خاصة لفئة الأجراء، علما أن الأجير هو إنسانا قبل كل شيء، وقد ذهب البعض إلى حد اعتبار أن قانون الشغل هو الأرضية المناسبة لاختبار حقوق الإنسان([1]).
وفي ظل التطور التكنولوجي الذي عرفه عالم الشغل، برزت فكرة الحقوق الأساسية للأجراء التي تجد مصدرها في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وهذا التطور قد يهدد مبدأ استقرار الشغل بالنسبة للعديد من أنواع الأجراء، وبالتالي ضرورة احترام الحقوق الأساسية للأجراء من طرف جميع الدول كحد أدنى يساهم في التنمية الاجتماعية، الشيء الذي استرعى اهتمام منظمة العمل الدولية، فأولت أهمية وعناية كبيرة لهذه الفئة الاجتماعية من الأجراء، قصد تحسين ظروف عيشها، وتلبية متطلباتها الاجتماعية والاقتصادية.
والمغرب([2]) دأب منذ الاستقلال على الانخراط في المنظومة الكونية لحقوق الإنسان، وذلك بالانضمام والمصادقة على عديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية([3])، باعتبار أن الاتفاقيات الدولية لها مكانة خاصة في الدستور المغربي، والذي جعلها بعد المصادقة عليها، تسمو فوق التشريعات الوطنية، والعمل على ملائمة هذه التشريعات مع ما تتطلب تلك المصادقة.
ويعتبر مبدأ “سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية” الذي نص عليه لأول مرة، تقدما دستوريا في تاريخ المغرب.
أما المختصون بقانون الشغل بالمغرب، فلم يهتموا بنظرية حقوق الإنسان داخل المقاولة إلا في العقد الثامن من القرن الماضي([4])، حيث أن مشرع المدونة لم يساير هذا التوجه بالمصادقة على جل الاتفاقيات المتعلقة بالحقوق الأساسية، كي يتسنى له تضمينها في صلب مقتضيات المدونة وتكريسها. وتبرز مكانة الحقوق الأساسية في ظل مدونة الشغل، من خلال ما جاء في التصدير والديباجة
وإذا كان من الشروط الأساسية لتحقيق التنمية الاجتماعية هو ضمان الحقوق الأساسية بين الأجراء، فإن حق المساواة أو عدم التمييز بين الأجراء يعتبر منعأهم تلك الحقوق أهم تلك الحقوق، حيث يهم جل الأجراء من جهة، ومن جهة أخرى يعتمد على أساس معايير مختلفة، تهم الجنس والسن والعقيدة واللون والانتماء السياسي والنقابي والأصل الوطني والأصل الاجتماعي الخ…، وقد ركزت عليها العديد من التوصيات والاتفاقيات لمنظمة العمل الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، قبل آن يتبناها التشريع الوطني ومختلف تشريعات الدول المتقدمة.
فضلا عن ذلك، إن مبدأ الحق في المساواة أو عدم التمييز بين الأجراء يساهم في تحقيق التوازن الاجتماعي بالمقاولة، وهذا التوازن هو نتيجة تحقيق العدالة الاجتماعية بين الاجراء.
إذاً، ماذا لو تم تغييب مبدأ الحق في المساواة وترتب عنه إنتشار التمييز بين الأجراء بالمقاولة؟ ثم كذلك، هل لإنتشار التمييز بين الأجراء آثار على تحقيق العدالة الاجتماعية؟
هذا ما سنحاول الايجابة عليه من خلال هذا المقال الذي ستناول في 3 أجزاء:
ü جزء الأول: مبدأ الحق في المساواة بين الأجراء في ظل التشريع الدولي والعربي والوطني؛
ü جزء الثاني: إنعدام مبدأ المساواة وانتشار التمييز بين الأجراء داخل المقاولة؛
ü جزء الثالث: التمييز بين الأجراء و آثاره على تحقيق العدالة الاجتماعية بالمقاولة.
الجزء الأول:
مبدأ المساواة بين الأجراء في ظل التشريع الدولي والعربي والمغربي
أولى المشرع على اختلاف مستوياته، الدولية والعربية والوطنية، لمحاربة التمييز أهمية خاصة، تجلت في العديد من النصوص والتشريعات ذات العلاقة، حيث وضعت هذه التشريعات مبدأ حماية الأجراء في صلب الموضوع، من أجل تحقيق مبدأ المساواة ومنع التمييز بمختلف أنواعه، باعتبار أن جميع الأشخاص متساوون في التمتع بالحقوق وممارسة الحريات.
1- مبدأ المساواة في ظل التشريع الدولي
إن الدفاع عن مبدأ المساواة ومحاربة التمييز يعد من أهم مبادئ الأساسية لمنظمة العمل الدولية منذ نشأتها سنة 1919، وجاء إعلان فيلادلفيا الخاص بأهداف ومقاصد المنظمة الصادر في 10 ماي 1944، لينص في مادته الثانية على أن ((لجميع البشر أيا كان عرقهم أو معتقداتهم أو جنسهم، الحق في الشغل من أجل رفاهيتهم المادية وتقدمهم الروحي في ظروف توفر لهم الحرية والكرامة والأمن الاقتصادي وتكافئ الفرص))، وقد تلا هذا الإعلان، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في سنة 1948، ليؤكد في نص المادة السابعة([5]) على أن ((الناس جميعا سواء أمام القانون، وهم يتساوون في حق التمتع بحماية القانون دون تمييز، كما يتساوون في حق التمتع بالحماية من أي تمييز ينتهك هذا الإعلان ومن أي تحريض على مثل هذا التمييز)).
كما جاءت منظمة العمل الدولية سنة 1951 لتكرس وتؤكد على مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة من خلال إصدارها للاتفاقية رقم 100([6])، المتعلقة بمساواة العمال والعاملات في الأجر عن العمل ذي قيمة متساوية([7])، حيث عرفت الاتفاقية مفهوم الأجر من خلال المادة الأولى على أنه (( أ- يشمل تعبير “أجر” الأجر أو المرتب العادي، الأساسي أو الأدنى، وجميع التعويضات الأخرى، التي يدفعها صاحب العمل للعمال بصورة مباشرة أو غير مباشرة، نقدا أو عينا، مقابل استخدامه له؛
ب- تشير عبارة “مساواة العمال والعاملات في الأجر عن عمل ذي قيمة متساوية” إلي معدلات الأجور المحددة دون تمييز قائم على الجنس)).
وترسي هذه الاتفاقية مبدأ عاما على الدول الأعضاء في المنظمة، على أن تعمل على كفالة تطبيق مبدأ مساواة بين العمال والعاملات في الأجر عن عمل ذي قيمة متساوية يشمل جميع العاملين، وأن تضمن حسن تنفيذ هذا التطبيق، حيث نصت المادة الثانية من هذه الاتفاقية على أنه ((1- تشجع كل دولة عضو، بوسائل تتلاءم مع الأساليب السائدة في تحديد معدلات الأجور، علي كفالة تطبيق مبدأ مساواة العمال والعاملات في الأجر عن عمل ذي قيمة العمل يعم جميع العاملين، وأن تتضمن تطبيق هذا المبدأ في حدود عدم تعارضه مع تلك الأساليب.
2- يجوز تطبيق هذا المبدأ عن طريق:
أ- القوانين أو الأنظمة الوطنية،
ب- أي نظام قانوني لتحديد الأجور يقرره القانون أو يعترف به؛
ج- الاتفاقات الجماعية بين أصحاب العمل أو العمال؛
د- أي مزيج من هذه الوسائل)).
تعد الاتفاقية رقم 100 بداية تأكيد معايير العمل الدولية على مبدأ المساواة في الأجور بين المرأة والرجل، وقد ألحقت بهذه الاتفاقية التوصية رقم 90 والخاصة بمساواة العمال والعاملات في الأجر عن عمل ذي قيمة متساوية، والتي نصت على أن تقوم الدول الأعضاء في منظمة العمل الدولية باتخاذ الإجراءات المناسبة لضمان تطبيق مبدأ المساواة بين العمال والعاملات في الأجر عن عمل ذي قيمة متساوية.
غير أن منظمة العمل الدولية حتى وإن كانت لا تملك سلطة إلزام دول الأعضاء بتطبيق النصوص التي تقررها بشأن الاتفاقيات والتوصيات، فإنها مع ذلك تساهم في تنمية التشريع الداخلي لهذه الدول، حتى أصبح لهذه المنظمة تأثير فعال على تطور القانون الاجتماعي الدولي([8]).
2- مبدأ المساواة على مستوى التشريع العربي
على مستوى التشريع العربي فإننا سنقف أكثر على الميثاق العربي لحقوق الإنسان، الذي أكد صراحة على مبدأ المساواة وعدم التمييز في المعاملة، عكس الميثاق العربي للعمل، وكذا دستور منظمة العمل العربية، اللذان لم يؤكدان صراحة على المبدأ، بقدر ما هي نصوص عامة وعبارات فضفاضة([9]).
وبرجوعنا للميثاق العربي لحقوق الإنسان([10]) نجده قد حدد مجموعة من الأهداف، ويأتي في مقدمتها حسب ما نصت عليها المادة الأولى من هذا الميثاق على أن ((وضع حقوق الإنسان في الدول العربية ضمن الاهتمامات الوطنية الأساسية التي تجعل من حقوق الإنسان مثلاً سامية وأساسية توجه إرادة الإنسان في الدول العربية وتمكنه من الارتقاء نحو الأفضل وفقاً لما ترتضيه القيم الإنسانية النبيلة … إعداد الأجيال في الدول العربية لحياة حرة مسئولة في مجتمع مدني متضامن وقائم على التلازم بين الوعي بالحقوق والالتزام بالواجبات وتسوده قيم المساواة والتسامح والاعتدال))، كما يضع الميثاق جميع الأشخاص متساوون أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحمايته من دون تمييز (المادة 11).
ومن أهم الحقوق التي حددها الميثاق([11]): هو الحق في المساواة وعدم التمييز بين الأفراد أو بين الرجال والنساء، والحق في الحياة، والحق في الحرية والأمان، والحق في الملكية الخاصة، والحق في الخصوصية، ومنع الاسترقاق والاستعباد،واحترام الكرامة الإنسانية، والحق في الاعتراف للشخص بشخصيته القانونية، الحق في التنمية والمشاركة والإسهام في تحقيق هذه التنمية والتمتع بميزاتها وثمارها، والحق في المشاركة في الحياة الثقافية، وحرية الفكر والعقيدة والدين وحرية الرأي والتعبير والحق في الإعلام، والحق في العمل، ومنع التمييز بين الرجل والمرأة، والحق في حرية تكوين الجمعيات أو النقابات المهنية والانضمام إليها، والحق في الإضراب، والحق في مستوى معيشي كافل للعامل ولأسرته يوفر الرفاهية والعيش الكريم، والحق في الضمان الاجتماعي والتأمين الاجتماعي والرعاية الصحية.
يشار إلى أن هذا الميثاق يعبر عن الرؤية الجديدة و المتفتحة لحقوق الإنسان في منظومة الدولة العربية، بعد أن تم تعديل الميثاق السابق([12]) لسنة 1997.
كما كرست الاتفاقية العربية رقم 6 لسنة 1976 بشأن مستويات العمل “معدلة”، مبدأ المساواة بين المرأة والرجل في الأجور متى تماثلت أوضاع عملهم، حيث نصت المادة 42 من هذه الاتفاقية صراحة على أنه (( تمنح المرأة العاملة الأجر المماثل لأجر الرجل، وذلك عند تماثل العمل))، وبذلك تشترك معايير العمل العربية مع معايير العمل الدولية في إقرار مبدأ المساواة في الأجور بين العمال والعاملات، وذلك حرصاً على منع التمييز ضد المرأة فيما يتعلق بالأجر الذي تحصل عليه مقارنة بالأجر الذي يحصل عليه العامل متى تماثلت أوضاع عملهما([13]).
3- مبدأ المساواة في ظل التشريع المغربي
مبدأ المساواة يجد أصله كمبدأ قانوني في ظل التشريع المغربي، فدستور المملكة يعتبر جميع الأشخاص ذاتيين أو اعتباريين سواسية أمام القانون وملزمون بالامتثال له، حيث نص الفصل 6 من الدستور على أن ((القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والجميع، أشخاصا ذاتيين واعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له))، كما أقر الدستور بمبدأ المساواة بين الجنسين في الحقوق والحريات، حيث نص الفصل 19 على أنه ((يتمتع الرجل والمرأة على قدم المساواة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى وكذا الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها)).
وبما أن تشريع العمل تتحدد معالمه من مبادئ الأساسية التي يحددها الدستور، وبتطابقه مع المعايير العالمية، فإن مدونة الشغل أكدت على مبدأ المساواة انطلاقا من الديباجة، وذلك لمحاولة سد ثغرات التشريع السابق الذي تجاهل مبدأ المساواة، وكذا لإتفاقيات منظمة العمل الدولية في الموضوع، حيث جاء في ديباجة المدونة ((تشمل الحقوق التي يصونها هذا القانون ويضمن ممارستها داخل المقاولة وخارجها، الحقوق الواردة في اتفاقيات العمل الدولية المصادق عليها من جهة، ومن جهة أخرى، الحقوق التي تقرها الاتفاقيات الأساسية لمنظمة العمل الدولية التي تتضمن بالخصوص :
– الحرية النقابية والإقرار الفعلي لحق التنظيم والمفاوضة الجماعية؛
– منع كل أشكال العمل الإجباري؛
– القضاء الفعلي على تشغيل الأطفال؛
– منع التمييز في مجال التشغيل والمهن؛
– المساواة في الأجر)).
فضلا عن ذلك، ورد في ديباجة المدونة على أنه ((تطبق مقتضيات هذا القانون في كل أرجاء التراب الوطني وبدون تمييز بين الأجراء يقوم على أساس السلالة أو اللون أو الجنس أو الإعاقة أو الحالة الزوجية أو العقيدة أو الرأي السياسي أو الانتماء النقابي أو الأصل الوطني أو الأصل الاجتماعي)).
ومن أهم المقتضيات القانونية الواردة في مدونة الشغل والمتناولة لمبدأ المساواة وعدم التمييز، نذكر منها المادة 36 التي نصت على أنه ((لا تعد الأمور التالية من المبررات المقبولة لاتخاذ العقوبات التأديبية أو للفصل من الشغل :
1 – الانتماء النقابي أو ممارسة مهمة الممثل النقابي؛
2 – المساهمة في أنشطة نقابية خارج أوقات الشغل، أو أثناء تلك الأوقات، برضى المشغل أو عملا بمقتضيات اتفاقية الشغل الجماعية أو النظام الداخلي؛
3 – طلب الترشيح لممارسة مهمة مندوب الأجراء، أو ممارسة هذه المهمة، أو ممارستها سابقا؛
4 – تقديم شكوى ضد المشغل، أو المشاركة في دعاوى ضده، في نطاق تطبيق مقتضيات هذا القانون؛
5 – العرق، أو اللون، أو الجنس، أو الحالة الزوجية، أو المسؤوليات العائلية، أو العقيدة، أو الرأي السياسي، أو الأصل الوطني، أو الأصل الاجتماعي؛
6 – الإعاقة، إذا لم يكن من شأنها أن تحول دون أداء الأجير المعاق لشغل يناسبه داخل المقاولة)).
وحرصا من مشرع مدونة الشغل على تكريس مبدأ المساواة في الأجر بين الجنسين، وملاءمته مع الاتفاقية رقم 100، فقد نصت المادة 346 من المدونة على أنه ((يمنع كل تمييز في الأجر بين الجنسين، إذا تساوت قيمة الشغل الذي يؤديانه)).
ويبقى التساؤل الوارد في هذا الشأن هو: ما هي المعايير الواجب اعتمادها لقياس قيمة العمل حتى يتسنى التطبيق الفعلي لمبدأ المساواة في الأجر بين الجنسين كلما تساوت فيه العمل؟
وللإشارة فإن المشرع المغربي كان أكثر جرأة من المشرع العربي في إطار المنظمة العربية الذي قرر في هذا المجال المساواة في الأجر بين الرجل والمرأة عند تماثل العمل وليس عن قيمة العمل(المادة 42 من الاتفاقية العربية رقم 6 )، مما يعطي لمدونة الشغل المغربية (المادة 346) تقدما كبيرا وتطوراً يوازي المعايير الدولية للعمل (المادة الثانية من الاتفاقية رقم 100).
لكن ماذا لو إنعدم مبدأ المساواة وانتشر التمييز بين الأجراء بالمقاولة؟
هذا ما سنتناوله في الجزء الثاني المقبل.
الرباط في 19 يوليوز 2016
[1] عمر تيزاوي، مدونة الشغل بين متطلبات المقاولة وحقوق الأجراء، مطبعة سومكرام الدارالبيضاء، سنة 2011، صفحة 257.
[2] أصبح المغرب عضوا في منظمة العمل الدولية بتاريخ 13 يونيه 1956،موسى عبود، دروس في القانون الاجتماعي، المركز الثقافي العربي بيروت،الطبعة الثالثة 2004، صفحة 67.
[3] تعتبر الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب قليلة، بحيث لا تتجاوز 61 اتفاقية مقارنة مع عدد الاتفاقيات التي أصدرتها منظمة العمل الدولية والبالغة 199 اتفاقية.
[4] عمر تيزاوي، المرجع السابق 258.
[5] اعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الحمية العامة للأمم المتحدة 217 ألف (د-3) المؤرخ في 10 ديسمبر 1948
[6] اعتمدها المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية في 29 يونيه 1951 في دورته الرابعة والثلاثين
[7] اتفاقية منظمة العمل الدولي رقم 100 صادق عليها المغرب في 11 ماي 1979، والمنشور بالجريدة الرسمية عدد3539 بتاريخ 27 غشت 1980.
[8] موسى عبود، المرجع السابق، صفحتان 61 و65.
[9] محمد عرفان الخطيب، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد 25، العدد الثاني، سنة 2009، صفحات 369 و370 و371.
[10] أعتمد من قبل القمة العربية السادسة عشرة التي استضافتها تونس في 23 ماي 2004.
[11] المواد الميثاق العربي لحقوق الإنسان: 3، 5، 10، 12، 14، 20، 21، 22، 30، 31، 32، 34، 35، 36، 37، 38، 39، 40.
[12] أعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار مجلس جامعة الدول العربية في 15 سبتمبر1997.
[13] راجع محمود سلامة، محمود سلامة، ” الوسيط في عقد العمل الفردي”، الجزء الأول، الطبعة الأولى المنامة 1999، صفحة 645 وما بعدها.

(2)

بعد أن تناولنا في الجزء الأول “مبدأ المساواة بين الأجراء في ظل التشريع الدولي والعربي والمغربي”، ففي هذا الجزء سنتطرق للحديث عن “إنعدام مبدأ المساواة وانتشار التمييز بين الأجراء داخل المقاولة”.

الجزء الثاني:

إنعدام مبدأ المساواة وانتشار التمييز بين الأجراء داخل المقاولة

عندما تنعدم المساواة في الحقوق بين الأجراء، باعتبار هذا الأخير حلقة ضعيفة داخل المقاولة الإنتاجية، وتلجأ المقاولة في تدبير الرأسمال البشري إلى نهج سياسة التمييز، نتيجة التغاضي أو التجاوز عن تطبيق القانون لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وما يترتب عن ذلك من انعكاسات على التوازن الاجتماعي بالمقاولة لعدم تحقيق العدالة الاجتماعية، فإن ذلك يعتبر من أهم مظاهر الإضطراب الذي يزعزع استقرار علاقة الشغل على مستوى تسيير المقاولة، في الوقت الذي يجب أن يلعب رئيس المقاولة دورا هاما في الحفاظ على استقرار الشغل لتحسين مردودية العمل، نتيجة ما يمنحه له القانون من حقوق في شأن تسيير وتنظيم العمل بالمقاولة، من مراقبة وتوجيه وإشراف على مختلف العمليات الاجتماعية والاقتصادية والإدارية في المقاولة.

و”التمييز” يمكن تعريفه بأنه مفاضلة بين شخصين أو أكثر، وهو مخالف لمبدأ المساواة، وينجم عنه الإضرار بالبعض على حساب الآخر، نتيجة اعتماد المقاولة في تدبير الرأسمال البشري لمعايير لاتمت بصلة بالقوانين التنظيمية.

إن انعدام مبدأ المساواة ونهج مشغل المقاولة لسياسة التمييز بين الأجراء، يعد انتهاكا للحقوق الواردة في الاتفاقية رقم 111 المتعلقة بالتمييز في الاستخدام والمهنة([1])، والمنبثقة عن المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية في دورته الثانية والأربعين.

واتفاقية رقم 111 حددت مفهوم مصطلح “التمييز” من خلال مقتضيات المادة الأولى التي نصت على أنه ((1- في مفهوم هذه الاتفاقية يعني مصطلح “التمييز”:

أ‌-       أي تفريق أو استبعاد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو الدين أو الرأي السياسي أو الأصل الوطني أو الأصل الاجتماعي، ويكون من شأنه إبطال تطبيق تكافئ الفرص أو المعاملة في الاستخدام أو المهنة.

ب‌-   أي تمييز أو استبعاد أو تفضيل آخر يكون من آثره إبطال أو إضعاف تطبيق تكافئ الفرص أو المساواة في المعاملة في الاستخدام أو المهنة تحدده الدولة العضو المعنية بعد التشاور مع ممثلي منظمات أصحاب الشغل ومنظمات العمال إن وجدت ومع الهيئات المختصة الأخرى.

2- لا يعد أي تفريق أو استبعاد أو تفضيل على أساس مؤهلات يقتضيها شغل وظيفة معينة من قبل التمييز.

3- في مفهوم هذه الاتفاقية يشمل تعبير “الاستخدام” و”المهنة” إمكانية الوصول إلى التدريب المهني، والوصول إلى الاستخدام وإلى مهنة معينة، وكذلك شروط الاستخدام وظروفه)).

وتنفيذ هذه الاتفاقية تلزم سوى دول أعضاء في منظمة العمل الدولية التي صادقت عليها (المادة 8)، حيث أن الدول المصادقة على هذه الاتفاقية تتعهد بنهج سياسة وطنية ترمي إلى تشجيع تكافئ الفرص والمساواة في المعاملة في الاستخدام والمهنة، بغية القضاء على أي تمييز في هذا المجال(المادة 2).

ومنع التمييز في التشريع المغربي يجد أصله في الدستور (التصدير) كقانون أسمى، حيث أكد على ((حظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجھوي أو اللغة أو إعاقة أو أي وضع شخصي، مھما كان)).

فضلا عن ذلك، إن مدونة الشغل جاءت بنصوص قانونية مختلفة([2]) تناولت مبدأ عدم التمييز، لكننا سنركز على المادة 9 نظراً لأهمها، حيث جاءت صريحة في منع التمييز بين الأجراء، والتي نصت على أنه ((يمنع كل تمييز بين الأجراء من حيث السلالة، أو اللون، أو الجنس أو الإعاقة، أو الحالة الزوجية، أو العقيدة، أو الرأي السياسي، أو الانتماء النقابي، أو الأصل  الوطني، أو الأصل الاجتماعي، يكون من شأنه خرق أو تحريف مبدأ تكافؤ الفرص، أو عدم المعاملة بالمثل في مجال التشغيل أو تعاطي مهنة، لاسيما فيما يتعلق بالاستخدام، وإدارة الشغل وتوزيعه، والتكوين المهني، والأجر، والترقية، والاستفادة من  الامتيازات الاجتماعية والتدابير التأديبية والفصل من الشغل.

 يترتب عن ذلك بصفة خاصة ما يلي :

1. حق المرأة في إبرام عقد الشغل؛

2.  منع كل إجراء تمييزي يقوم على الانتماء، أو النشاط النقابي للأجراء؛

3. حق المرأة، متزوجة كانت أو غير متزوجة، في الانضمام إلى نقابة مهنية، والمشاركة في إدارتها وتسييرها)).

لكن، ما يلاحظ على المادة 9 من مدونة الشغل، هي أنها تناولت موضوع التمييز بصفة جزئية، دون أن تتضمن المرض كأحد أوجه التمييز، الشيء الذي يتطلب تحيين هذه المادة كي تتماشى مع توصية منظمة العمل الدولية رقم 200 التي أصدرتها في يونيو 2010، بشأن فيروس نقص المناعة البشرية والإيدز وعالم العمل([3]).

غير أن نص المادة 9 حتى وان كانت واضحة، فإن مشرع القانون الجنائي المغربي لم يكتفي بالإحالة على نصوص مدونة الشغل للتعريف بالحالات التي يمكن أن تشكل تمييزا من الناحية القانونية، بل ميز بين حالتين من التمييز: الأولى تشكل تفرقة بين الأشخاص المعنويين، والثانية تشكل تمييزا بين الأشخاص الطبيعيين، بحيث نصت مقتضيات الفصل 1-431 على أنه ((تكون تمييزا كل تفرقة بين الأشخاص الطبيعيين بسبب الأصل الوطني أو الأصل الاجتماعي أو اللون أو الجنس أو الوضعية العائلية أو الحالة الصحية أو الإعاقة أو الرأي السياسي أو الانتماء النقابي أو بسبب الانتماء أو عدم الانتماء الحقيقي أو المفترض لعرق أو لأمة أو لسلالة أو لدين معين.

تكون أيضا تمييزا كل تفرقة بين الأشخاص المعنوية بسبب أصل أعضائها أو بعض أعضائها أو جنسهم أو وضعيتهم العائلية أو حالتهم الصحية أو إعاقتهم أو آرائهم السياسية أو أنشطتهم النقابية أو بسبب انتمائهم أو عدم انتمائهم الحقيقي. أو المفترض لعرق أو لأمة أو لسلالة أو لدين معين)).

من خلال هذه النصوص القانونية السالفة الذكر، يتبين أن المشرع المغربي حق الأجراء في أن يكونوا في منئى عن أي إجراء تمييزي يمكن أن يمس بحقوقهم، متأثراً بذلك بالاتجاه الذي سطرته منظمة العمل الدولية، حيث جاءت هذه النصوص متلائمة مع الاتفاقية الدولية رقم 111 التي صادق عليها المغرب، وتتماشى مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بل المغرب ذهب أبعد من ذلك بعد أن عمل على تجريم التمييز وشدد في العقوبات على مخالفي أحكام القانون.

– تجريم التمييز بين الأجراء في ظل التشريع المغربي

إن المشرع المغربي في شأن منع التمييز، ذهب أبعد مما هو منصوص عليه في الاتفاقيات الدولية، بعد أن عمل على تجريم التمييز بين الأجراء تحت طائلة العقوبة الجنائية، بحيث تم إقراره لأول مرة وبصفة صريحة في ظل مدونة الشغل، وسار على نفس الاتجاه بعد ذلك القانون الجنائي([4]).

أ‌-    تجريم التمييز في ظل مدونة الشغل: لقد نصت مدونة الشغل في المادة 12 على أنه ((يعاقب المشغل عن مخالفة أحكام المادة 9 أعلاه بغرامة من 15.000 درهم إلى 30.000 درهم. وفي حالة العود، تضاعف الغرامة …)).

لكن المادة 12 تثير تساؤلا حول مدى تعارضها أو تداخلها مع المادة 428 من مدونة الشغل، والتي تنص على معاقبة كل شخص طبيعي أو معنوي قام بعرقلة ممارسة الحق النقابي بغرامة بين 25000 درهم إلى 30000 درهم، انطلاقا من أن التمييز لاعتبارات نقابية قد يشكل إحدى صور عرقلة ممارسة الحق النقابي، لذا هل ستطبق المادة 9 أم المادة 428؟ فهل التفسير سيكون لصالح المتهم أم لصالح الأجير؟ ومادام الحق النقابي حق دستوري مرتبط بالنظام العام فالمرجح هو التفسير لصالح الأجير.

كما يعاقب عن عدم التقيد بأحكام المادة 346 المتعلقة بمنع التمييز بين الجنسين، بغرامة من 25.000 إلى 30.000 درهم (المادة 361)، ويعاقب كذلك وكالات التشغيل في حالة المس بمبدأ تكافؤ الفرص والمعاملة في ميدان التشغيل المنصوص عليها في المادة 478، بغرامة من 10.000 درهم إلى 20.000 درهم (المادة494).

ب- تجريم التمييز في ظل القانون الجنائي: لقد سلك القانون الجنائي نفس طريق المدونة، لكن مع تشديد في العقوبة، بعدما جاء بعقوبة سلب الحرية وكذا الرفع من سقف الغرامة المالية، حيث نص الفصل 2-431 من القانون الجنائي، كما تم تعديله وتتميمه بمقتضى القانون رقم 24.03، على أنه ((يعاقب على التمييز كما تم تعريفه في الفصل 1-431 أعلاه بالحبس من شهر إلى سنتين وبالغرامة من ألف ومائتين إلى خمسين ألف درهم إذا تمثل فيما يلي :

– الامتناع عن تقديم منفعة أو عن أداء خدمة؛

– عرقلة الممارسة العادية لأي نشاط اقتصادي؛

– رفض تشغيل شخص أو معاقبته أو فصله من العمل؛

– ربط تقديم أو منفعة أداء خدمة أو عرض عمل بشرط مبني على أحد العناصر الواردة في الفصل 1-431 أعلاه.))، كما نص كذلك الفصل 3-432 على أنه ((دون الإخلال بالعقوبات التي قد تطبق على مسيريه، يعاقب الشخص المعنوي إذا ارتكب التمييز كما تم تعريفه في الفصل 1-431 أعلاه بالغرامة من ألف ومائتين إلى خمسين ألف درهم)).

لكن، رغم تدخل المشرع الدولي والعربي والوطني في منع التمييز وتشديد العقوبات، ورغم أن دستور منظمة العمل الدولية يعطي دورا هاما للنقابات في وسائل الرقابة التي تمارسها المنظمة لضمان تطبيق واحترام الاتفاقيات المصادق عليها من طرف الدولة، فإن الواقع يشهد عكس ذلك، خاصة في ميدان الشغل، حيث المقاولات والمؤسسات هم أكثر مكانا يمكن أن ينتشر فيه التمييز ويُغيب فيه تحقيق العدالة الاجتماعية، الشيئ الذي ستؤدي لا محالة إلى افتقار المقاولة للتوازن الاجتماعي ويصعب معه تحقيق السلم  الاجتماعي.

لذا ما مدى تأثير سياسة التمييز بين الأجراء على تحقيق العدالة الاجتماعية بالمقاولة؟  هذا ما سنتناوله في الجزء الثالث المقبل.

الرباط في   يوليوز 2016


[1] الاتفاقية رقم 111 صادق عليها المغرب بتاريخ 27 مارس 1963، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 2622 بتاريخ 25 يناير 1963.

[2]  ومن النصوص القانونية التي وردت في مدونة الشغل وتناولت مبدأ عدم التمييز نجد المواد 36، 105، 170، 346. 473، 478.

[3] لقد تقدم فريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية بمذكرة تقديمية تحت رقم 135 بتاريخ 12 ماي 2014، حول مقترح قانون يقضي بتتميم المادة 9 من الظهير الشريف رقم 1.03.194 صادر في 14 من رجب 1424 (11 سبتمبر 2003) بتنفيذ القانون رقم 65.99 المتعلق بمدونة الشغل، بدف ملائمة القوانين الوطنية مع الاتفاقيات الدولية وحماية حق هذه الفئة من المواطنين في الشغل والعيش الكريم.

[4] سيرة كميلي، القانون الجنائي للشغل، الجزء الأول، الطبعة الأولى، مطبعة بني ازناسن، سنة 2015، ص 43.

(3)

بعد أن وقفنا في الجزئين السابقين على” مبدأ الحق في المساواة بين الأجراء في ظل التشريع الدولي والعربي والمغربي” و على ” إنعدام مبدأ المساواة وانتشار التمييز بين الأجراء داخل المقاولة”، فإننا سنقف في هذا الجزء الثالث والأخير على “التمييز بين الأجراء و آثاره على تحقيق العدالة الاجتماعية بالمقاولة”.

الجزء الثالث:

التمييز بين الأجراء وآثاره على تحقيق العدالة الاجتماعية بالمقاولة

إذا كانت العدالة الاجتماعية ترتكز على عدة أسس، أهمها المساواة في الحقوق والواجبات وعدم التمييز بين الأفراد أمام القانون، وتكافئ الفرص، وتولي مناصب المسؤولية، والحصول على المكاسب، والامتيازات والفوائد، فإن ما هو سائد في العديد من المقاولات والمؤسسات هو نهج المشغل في إدارة أعماله لسياسة التمييز بين الأجراء، من نفس اللون ونفس الجنس ونفس العقيدة، وبمعنى أوضح من نفس الفئة المهنية التي تزاول نفس العمل والمهمة والمسؤولية، والمصنفة في نفس الإطار، وفي نفس المستوى والأقدمية، حيث العمل من نفس القيمة، وبالتالي فإن هذه السياسة الممنهجة تقف عائقا في وجه تحقيق العدالة الاجتماعية داخل المقاولة.

إن غياب المساواة في الحقوق بين الأجراء داخل المقاولة، والتغاضي والتجاوز في تطبيق القانون، يؤدي لا محالة إلى انتشار المحسوبية والزبونية والمحاباة والرشوة في الحياة العامة، وإلى الشعور بالتذمر، وإلى انعدام تكافؤ الفرص، وإلى انتشار الظلم والطغيان، والانتقام من الاجراء الذين لا يتفقون المشغل مع سياسته التدبيرية للمقاولة، والتحرش والابتزاز، وانتشار الفساد بجميع أنواعه، حيث التمييز بين الأجراء بالمقاولة غالبا ما يتجلى في منح امتيازات مالية وعينية لفئة دون أخرى، كالترقية في مناصب المسؤولية، والزيادة في الأجر بصفة مستمرة، والرفع من التعويضات والمنح التي يستفيد منها الأصدقاء والمقربين وذوي النفوذ، وتلبية طلبات الانتقال لفئة من الأجراء دون الأخرى، والتعسف على فئة من الأجراء عن طريق نقلهم  لمصالح أخرى وما يترتب عنها من حالات اجتماعية واضطرابات نفسية أو إحالتهم على المجالس التأديبية أو فصلهم تعسفيا، واستفادة البعض من امتيازات اجتماعية، والتكوين لشريحة من الأجراء على حساب الشريحة الأخرى، وإقصاء البعض من الانخراط في الضمان الاجتماعي الخ.

فضلا عن أن خرق المشغل لمبدأ المساواة في تدبيره للرأسمال البشري، ونهجه للسياسة التفضيلية، وما ينعكس ذلك على نفسية الأجراء نظراً لغياب العدالة الاجتماعية داخل المقاولة، غالبا ما يترتب عنه بروز فئة من الأجراء يعارضون سياسة المشغل في إدارة  أعمال المقاولة، مما يضطر المشغل إلى خلق جماعة ضغط من الأجراء لتأييد سياسته والتستر على فساده المالي، بعد إغرائهم وغدقهم  بامتيازات مادية ومعنوية خارج القانون، وبالتالي  فإن السياسة التمييزية بين الأجراء داخل المقاولة نتيجة غياب تحقيق العدالة الاجتماعية، هي من الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى خرق مبدأ تكافئ الفرص، وما ينعكس ذلك بصفة أوتوماتيكية على مردودية العمل وعلى تنمية المقاولة، وفي الأخير تفتقر المقاولة للتوازن الاجتماعي الذي ينبني على تحقيق العدالة الاجتماعية.

وعليه، إذا كان غياب العدالة الاجتماعية لها آثار على نفسية الأجراء(1)، فما هي الأطراف التي تساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن الاجتماعي بالمقاولة؟(2).

1- غياب العدالة الاجتماعية وآثارها على نفسية الأجراء

إذا كانت الحرية في تسيير المقاولة، فإنه لا يجب أن يتم وفق رغبات المشغل، ومساعديه المفوض لهم سلطة التدبير للتحكم في جميع دواليب الإدارة، حيث إفراطهم في التسيير يعد من الأسباب التي قد تؤدي لا محالة إلى خلق فوارق طبقية بين الأجراء، وبالتالي أن القرارات التي يتخذها المشغل في شأن تدبير الرأسمال البشري، غالبا ما تكرس سياسة التمييز بين الأجراء وما ينتج عنها من خرق للقوانين التنظيمية في مجال الشغل من جهة، ومن جهة أخرى، التعسف على فئة من الأجراء، وبالتالي يفضي ذلك إلى إقصاء الكفاءات الداخلية بالمقاولة، نظرا لإنعدام تحقيق العدالة الاجتماعية، وغياب هذه الأخيرة يؤدي بصفة مباشرة إلى فقدان تحقيق كل من التوازن الاجتماعي و السلم الاجتماعي بالمقاولة.

إن غياب تحقيق العدالة الاجتماعية نتيجة انتشار التمييز بين الأجراء داخل المقاولة، يؤثر سلبا على نفسية الأجراء الذين يتعرضون للتمييز من طرف المشغل، حيث يتولد عنه ضغط نفسي، ناهيك عن ضغط العمل الذي تتعرض له هذه الفئة المقصية، وهذا قد يعرض هذه الأخيرة لحالات من الاضطراب والقلق والإحباط، الذي يؤثر على حالتهم الصحية والنفسية والفكرية والسلوكية، وأحيانا الإقدام على الانتحار أو محاولة الانتحار أو ارتكاب جرائم في حق زملائهم أو رؤسائهم، وهناك حالات عديدة عرفتها المقاولات والمؤسسات في هذا الشأن وعرضت على القضاء.

ونظراً لخطورة هذه الظاهرة، وأمام غياب إحصائيات وأرقام رسمية توثق لذلك، دفع بالبعض إلى تأسيس جمعية( ) التي تعد الأولى من نوعها في المغرب تعني بضحايا الضغط النفسي في أماكن العمل، والتي تهدف إلى تحسيس المقاولات إزاء هذه المخاطر، وتوفر الرعايا والمتابعة النفسية اللازمة للضحايا، وفي ظل الفراغ القانوني الذي يضمن للأجراء العمل في جو مهني وصحي، تأبى هذه الجمعية إلى تقديم ملتمسا لوزير التشغيل لتجريم هذا النوع من الممارسات.

إن تدخل المشغل في خرق مبدأ المساواة في الحقوق، حتى يفسح له مجال لممارسة سياسة التميز بين الأجراء، وما يتولد عنها من ضغط نفسي الذي ينعكس سلبا على مردودية المقاولة من جهة، ومن جهة أخرى، يلقي بظلاله على الاقتصاد الوطني، وبالتالي ترتفع معه درجة الاحتقان الاجتماعي داخل المقاولة، لذا وجب تدخل المشغل ليراعي مبدأ استقرار الشغل في كل مراحل إدارة أعمال المقاولة، ومن أجل كذلك خلق التوازن الاجتماعي داخل المقاولة عن طريق عدالة اجتماعية سليمة.

وتحقيق التوازن الاجتماعي نتيجة العدالة الاجتماعية بالمقاولة لا يتأتى إلا بمساهمة أطراف رئيسية في ذلك.

2- الأطراف المساهمة في تحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن الاجتماعي بالمقاولة

انطلاقا من توسيع مهام واختصاصات كل من ممثلي الأجراء كفرقاء اجتماعيين، وكذا جهاز المراقبة المكلف بتفتيش الشغل ومدى الدور المسند إليهما في ظل التشريع الدولي والوطني، فإن هذه المؤسستان تلعبان أدواراً هامة عن طريق مساهمتهما في تحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن الاجتماعي داخل المقاولة.

أ‌- مساهمة الفرقاء الاجتماعيون بالمقاولة في تحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن الاجتماعي

إن تحقيق العدالة الاجتماعية بالمقاولة لايتأتى إلا بوجود فرقاء اجتماعيين حقيقيين، باعتبار أن الحوار الاجتماعي يتطلب مفاوضين أكفاء يمتازون بتقنيات التفاوض، وعلى معرفة من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بالمقاولة وبالوضع العام، وكذلك على بينة من القوانين التنظيمية في مجال التشريع الاجتماعي، وقادرين على إيجاد مقترحات وحلول مناسبة لتسويتها مع ادارة المقاولة تحت قاعدة “وين وين” أي “رابح رابح”.

لكن ما يلاحظ أن المشغل في إقصاء مستمر ودائم للفرقاء الاجتماعيين، ممثلين للأجراء والمنتخبين ديمقراطيا، نظرا لحمولتهم الفكرية في المجال القانوني والاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي، مما يعتبرون في نظر المشغل على أنهم شريحة مزعجة لسياسته التدبيرية بالمقاولة، خاصة بعد أن عمل مشرع مدونة الشغل المغربية( ) على توسيع اختصاصات مهام ممثلي الأجراء، حتى وإن كانت مدونة الشغل تعترضها إكراهات وصعوبات وعراقيل في تفعيل نصوصها( ).

ولكي يتفادى المشغل هذه الفئة المزعجة لسياسته التدبيرية، يعمل كل ما في وسعه عند حلول الانتخابات المهنية للمأجورين، بالتدخل في تنقية لائحة من ممثلي الأجراء على مقاسه، حتى يتفادى المعارضة لسياسته التدبيرية في إدارة أعمال المقاولة، كما أن تدخل مشغل المقاولة في اختيار ممثلي الأجراء على مقاسه، يرجع بالأساس كما قلنا، إلى محاولة إقصائه منذ البداية لمعارضين لسياسته التدبيرية، وذلك من أجل التحرر من قيود المراقبة من جهة، ومن جهة أخرى، تفادى المواجهة المباشرة مع الفرقاء الاجتماعيين نظرا للدور المسند إليهم والحماية المخولة لهم في ظل مدونة الشغل.

وفي نظري أن تدخل المشغل في اختيار ممثلي الأجراء على مقاسه يعتبر من الأخطاء الفادحة التي ترتكب في حق الأجراء والديقراطية الانتخابية، وغالبا ما يترتب عن ذلك احتقان اجتماعي حقيقي داخل المقاولة، وما ينشأ عنه من خلافات ونزاعات شغلية من طرف منظمة نقابية أو من طرف مجموعة من الأجراء الذين مسهم التمييز، ومن ثم نكون أمام نزاعات الشغل الجماعية التي نصت عليها مدونة الشغل في المادة 549 والتي عرفتها بأن ((“نزاعات الشغل الجماعية”، هي كل الخلافات الناشئة بسبب الشغل، والتي يكون أحد أطرافها منظمة نقابية أو جماعة من الأجراء، ويكون هدفها الدفاع عن مصالح جماعية، مهنية لهؤلاء الأجراء. كما تعد نزاعات الشغل الجماعية كل الخلافات الناشئة بسبب الشغل والتي يكون أحد أطرافها مشغل واحد، أو عدة مشغلين، أو منظمة مهنية للمشغلين، ويكون هدفها الدفاع عن مصالح المشغل أو المشغلين أو المنظمة المهنية للمشغلين المعنيين)).

وأمام هذه النزاعات الجماعية القائمة داخل المقاولة، يضطر المشغل بالدخول في مفاوضات مع المنظمة النقابية أو مع مجموعة من الأجراء لفضها وتسويتها، وذلك وفق إجراءات قانونية يتم اللجوء إليها واحترامها، والمتجلية في مسطرة التصالح والتحكيم المنصوص عليهما في الكتاب السادس من المدونة( ).

وتبقى نزاعات الشغل الجماعية التي تحدث نتيجة تدخل المشغل في اختيار ممثلي الأجراء على مقاسه، غالبا ما يرجع السبب في إنشائها إلى تكتل الأجراء ذوي الظروف شبه مماثلة، خاصة وأن الظرفية الحالية تساهم في التكتل، أمام الحراك الشعبي الذي يعيشه الوضع الاجتماعي داخل المغرب و خارجه، والمتمثلة في الحركات الاحتجاجية، كقوة مجتمعية مستقلة عن النقابات والأحزاب السياسية وحتى عن الدولة. كما أن شبكات التواصل الاجتماعي تلعب دورا كبيراً في سرعة التواصل وانتشار الخبر، وتعد ظاهرة إعلامية جديدة منتشرة في عالمنا اليوم بشكل واسع، فصلا على أن الشبكة الاجتماعية تعتبر من أحدث منتجات تكنولوجيا الاتصالات وأكثر شعبية، حيث تلعب دورا مهما في تنمية الوعي السياسي والاجتماعي داخل الوطن وخارجه. ويمكن القول أن شبكات التواصل الاجتماعي أحدثت ظفرة نوعية ليس فقط في مجال الاتصال بل في نتائج وتأثير الاتصال

وبرجوعنا إلى الحديث عن محاولة تجنب المشغل لمعارضين لسياسته التدبيرية في إدارة أعمال المقاولة، فإنني أستحضر ما قاله الملك الراحل الحسن الثاني في ندوة صحفية له كرد على سؤال أحد الصحفيين، حول مدى تحمله للمعارضة فقال ((لو لم تكن المعارضة لخلقتها))( )، كون المعارضة غالبا ما تساهم في تأطير الأجراء، وخلق التوازن الاجتماعي، وتحقيق لسلم اجتماعي حقيقي، ولمناخ سليم يساهم في الرفع من المردودية الإنتاجية، وبالتالي ينعكس ذلك على تنمية المقاولة.

وحتى يتسنى للمشغل الإمساك بالتوازنات داخل المقاولة، يجب أن يكون الأجراء بالمقاولة مؤطرين، لأن تغييب الفرقاء الاجتماعيين الحقيقيين داخل المقاولة نتيجة تدخل المشغل في اختيار ممثلي الأجراء على مقاسه، سيؤدي لا محالة مع مرور الوقت إلى وضع اجتماعي غير سليم وغير صحي يصعب ضبطه، ويزداد تعقيدا كلما غابت أجهزة المراقبة المكلفة بتفتيش الشغل  التي أسند إليها المشرع دورا هاما في ميدان الشغل، ومدى مساهمتها قي تحقيق العدالة الاجتماعية داخل المقاولة.

ب‌- دور جهاز تفتيش الشغل في تحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن الاجتماعي داخل المقاولة

إذا كان تغييب الفرقاء الاجتماعيين نتيجة تواطئهم مع المشغل والاصطفاف إلى جانبه في سياسته التدبيرية لإدارة أعمال المقاولة، أو غيابهم نتيجة عدم انتخابهم، وفي خرق سافر لمقتضيات مدونة الشغل، فإن تكريس مبدأ الحق في المساواة ومنع سياسة التمييز وتحقيق العدالة الاجتماعية، والحفاظ على التوازن الاجتماعي وتحقيق السلم الاجتماعي داخل المقاولة، في اعتقادي يرجع بالأساس إلى الدور الذي يجب أن تقوم بها أجهزة المراقبة المكلفة بتفتيش الشغل، باعتبار أن هذا الجهاز يضطلع بأدوار أساسية يكفلها له التشريع الدولي (اتفاقيات منظمة العمل الدولية 81 و129)( ) والوطني (مواد مدونة الشغل 530 إلى 548)، حيث يسهر هذا الجهاز على تطبيق الأحكام التشريعية والتنظيمية المتعلقة بتشريع الشغل، كما يلعب دورا محوريا لضمان حقوق الأجراء، وأيضا له دور في حماية المقاولات، من خلال مساهمته في ضمان استمرارية المقاولة عبر فض مجموعة من النزاعات الجماعية التي قد تهدد بتوقف المقاولة.

ومشرع مدونة الشغل خول لجهاز تفتيش الشغل صلاحيات عديدة، إنطلاقا من الكتاب الخامس المتعلق بأجهزة المراقبة، لكن يبدوا أن قلة الموارد البشرية لهذا الجهاز مقارنة مع توسع النسيج الاقتصادي الوطني حال دون ذلك للقيام بدوره الحقيقي، بالرغم أن الحركة النقابية ظلت باستمرار تطالب بتقوية دور جهاز تفتيش الشغل منذ اتفاقية 30 أبريل 2003، وذلك من خلال دعم هذا الجهاز بالرفع من عدد المفتشين وبتوفير وسائل العمل، لكن  مازال لم يفعل بعد على أرض الواقع( ) ، حتى وإن كان الواقع الحالي يشهد على اكتضاض وتواجد نسبة كبيرة من المعطلين ذوي الشواهد العليا، ونسبهم في تزايد مستمر، لكن يبدوا أن أرباب العمل المتحكمين في الاقتصاد الوطني، غير راغبين في سد خصص جهاز التفتيش.

إن غياب جهاز التفتيش انعكس ذلك على السياسة التدبيرية للمقاولة، حيث يعتبر المشغل نفسه في غنا عن تكريس مبدأ الحق في المساواة، وغياب المبدأ أدى  إلى انتشار التمييز بين الأجراء من جهة، ومن جهة أخرى، إلى عدم تحقيق العدالة الاجتماعية، وكذلك إلى إفتقار للتوازن الاجتماعي وإلى إنهيار السلم الاجتماعي بالمقاولة، والكلمة النهائية تبقى للقضاء.

وفي الأخير، إن مبدأ الحق في المساواة أو عدم التمييز لا يتوقف فقط على المصادقة على اتفاقيات منظمة العمل الدولية، وسمو هذه الاتفاقيات على التشريعات الوطنية، بل يستوجب الأمر ضمان التطبيق الفعلي لها على أرض الواقع، كما أن مدى فعاليتها يتوقف على قياس الفارق بين الواقع والنص القانوني، حيث واقع عالم الشغل في غالب الأحيان لا يعكس هذه المبادئ الدولية والوطنية المقننة، بقدرما يتم تغييب مبدأ الحق في المساواة وينتشر التمييز بين الأجراء داخل المقاولة، وترتفع درجة الاحتقان الاجتماعي بعد تدخل أرباب العمل المتحكمين في الاقتصاد الوطني في:

• اختيار ممثلو الأجراء على مقاسهم في الانتخابات المهنية للمأجورين للاصطفاف إلى جانبهم، في الوقت الذي يتجه المشغل نحو إقصاء المعارضين لسياسته التدبيرية في إدارة أعمال المقاولة؛

• تغييب أجهزة المراقبة المكلفة بتفتيش الشغل على أرض الواقع، لعدم تغطية الخصاص الحاصل لأكثر من عقد من الزمن، أما الحكومة فهي في وضعية المتفرج ليس إلا.

وتبقى الخلاضة على أن مبدأ الحق في المساواة يمكن تفعيله على أرض الواقع، حتى وإن تم تغييب أجهزة المراقبة، وذلك في الحالة التي يلتحم ويتحد فيها الأجراء فيما بينهم، باعتبار أن الاتحاد قوة، لكن مع الابتعاد عن إغراءات المشغل والتواطئ مع سياسته التدبيرية، إن كانت لاتخدم المصلحة العامة، بقدر ما تخدم مصالحه الخاصة.

إن التلاحم والاتحاد من أجل المصلحة العامة، سيؤدي إلى إفراز كفاءات، عند حلول انتخابات المأجورين، في المستوى المسؤولية المطلوبة في مؤسسة ممثلي الأجراء، حيث سيضطر المشغل الامتثال لأمر الواقع، وسيسهر على التطبيق الفعلي والسليم للقوانين التنظيمية، مما سيؤدي لامحالة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وهذه الأخيرة ينجم عنها التوازن الاجتماعي السليم، وكلاهما يساهمان في خلق سلم اجتماعي حقيقي، وهذا ينطبق عندما نكون أمام المؤسسة المواطنة التي تحترم نفسها، وتحترم الطبقة العاملة، وتحترم القوانين التنظيمية، وإعطاء الأسبقية للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart