قراءة في كتاب: كم ينفق المصريون على التعليم؟
يمثل التعليم واحدا من أهم القطاعات التي تقوم عليها الدولة الحديثة، فالمنظومة التعليمية مرآة لكافة قطاعات المجتمع الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، لذلك فمعظم تجارب النهضة التي شهدها العالم في العقود الماضية كان التعليم والمعرفة هما المحركان الرئيسيان لها، وفي ظل حالة الإهمال والعطب الشديد الذي أصاب المنظومة التعليمية في مصر خلال العقود الماضية والمستمر حتى الآن بصورة مفجعة، يأتي كتاب “كم ينفق المصريون على التعليم؟” للباحث عبد الخالق فاروق ليضعنا أمام مجموعة من الإحصائيات والأرقام والدراسات المهمة التي تتعلق بوضع المنظومة التعليمية في مصر ومدى كفاءتها، وكيف يمكن التعامل مع مشكلاتها.
يحتوي الكتاب على سبعة فصول تتمحور حول ثلاثة قضايا رئيسية، وهى أولًا: رصد التطور التاريخي لمنظومة التعليم المدني في مصر منذ نشأتها في عهد محمد علي وحتى الآن، وثانيا: تحليل دقيق لكم الإنفاق على التعليم من قبل الدولة والأسر المصرية في الفترة من عام 1995 حتى 2005، ثالثًا: مجموعة من المقترحات تتعلق بمنظومة من السياسات الجديدة لتمويل التعليم في مصر.
في مقدمة الكتاب يقول فاروق “أننا هنا لا نتعرض لمسألة اقتصادية بحتة، ولا قضايا فنية تندرج في تخصصات علم الاقتصاد وعلم المالية العامة، بقدر ما نحاول أن ندلف منه إلى طبيعة الخريطة الاجتماعية والقوى الطبقية المتحكمة في مصر، علّنا بهذا نستطيع أن نرسم سياسات جديدة وبديلة لكل الذي ساد طوال الأربعين عاما الماضية، وأوصلنا في النهاية إلى حد الكارثة”.
ويضيف: يعاني نظام تمويل التعليم في مراحله المختلفة من ظواهر جديدة، ومشكلات متعددة سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي، بحيث بات هيكل الإنفاق العام لا يعكس حقيقة الوضع من ناحية، ولا يضمن الكفاءة والفاعلية من ناحية أخرى، وإذا كان التعليم في جوانبه المختلفة عملية فنية، فإن إدارة النظام التعليمي عملية إدارية تعتمد على نمط أولويات سياسية واجتماعية واقتصادية بالأساس، ومن هنا فإن الإهتمام بجوانب الجودة الإدارية ضروري بنفس قدر الاهتمام بجوانب الجودة الفنية من حيث المناهج والمقررات وساعات الدرس وغيرها.
نشأة التعليم المدني في مصر
في الفصول الأولى يشير فاروق إلى أن نشاة التعليم المدني في مصر جاءت مصاحبة للمشروع النهضوي لمحمد علي في بداية القرن العشرين، فتم إنشاء مدرسة الطب والمهندس خانة والمحاسبين والصيدلة والمعادن والزراعة وغيرها من المدارس، بالإضافة للبعثات العلمية إلى أوروبا، وقد استمرت هذه الحالة من الإهتمام بالتعليم حوالي أربعين عام، ووصل عدد المدارس في هذه الفترة إلى ألف وخمسمائة مدرسة، وأصبحت الدولة المصرية جزءًا أساسيًا في تمويل التعليم في البلاد، الذي بات يتكون من قطاعين كبيرين ومتوازيين ومتنافسين وهما التعليم الديني، الأكثر إنتشارًا في الريف والصعيد والذي يبدأ بشبكة كبيرة من (الكتاتيب) وينتهي بالجامع الازهر، أما النظام الآخر فهو التعليم المدني المرتبط بالعلوم الحياتية كالزراعة والهندسة والطب،
موضحًا بعد ذلك أن التعليم المدني تراجع بصورة كبيرة بعد انهيار مشروع محمد علي وهيمنة القوى الاستعمارية في عهدي سعيد وعباس، حيث تراجع عدد المدارس ليصل إلى مائة وخمسة عشر مدرسة فقط بعد أن كان يتجاوز ألف وخمسائة مدرسة، مشيرًا إلى استمرار هذا التدهور، فرغم حالة الحراك المجتمعي الكبير ضد قوى الإستعمار وقيام ثورة 1919 إلى أن ذلك لم ينعكس على المنظومة التعليمية بصورة كبيرة، فدستور 1923 ومن بعده دستور 1930 ثم دستور 1935 لم يتضمنوا إقرار الحق في التعليم بوصفه حق دستوري لكافة المصريين، ومعظم ما أنجز في مجال التعليم خلال هذه الفترة كان بمبادرات فردية أو دعم مجتمعي في حين كانت الإرادة السياسية لدعم وتطوير المنظومة التعليمة شبه غائبة.
ثورة يوليو والتعليم
في هذا السياق يرى الكاتب أن هناك حالة من الازدهار الكبير شهدها التعليم في مصر في السنوات العشر التالية لثورة يوليو 1952، حيث تم إضفاء الحماية الدستورية على الحق في التعليم في دستور 1956 ودستور 1964 ثم إصدار قانون مجانية التعليم الجامعي عام 1962، وزادت عدد المدارس من أقل من خمسة آلاف مدرسة عام 1952 إلى ثلاثة عشر ألف مدرسة عام 1966 ، وزاد عدد الطلاب من تسعمائة ألف طالب وطالبة إلى خمسة ملايين طالبا، كما تضاعفت الإعتمادات المخصصة للتعليم من تسع وعشرين مليونا إلى مائة مليون عام 1966.
ويشير الكاتب إلى أن هذه الحالة من الاهتمام بالتعليم تراجعت عقب نكسة 1967، فرغم الأقبال الكبير من الأهالي في الريف والمدن على تعليم أطفالهم إلا أن جودة التعليم ومعدل الإنفاق الحكومي على الطالب تراجعا في كافة المراحل التعليمية. يقول فاروق ” أن مقارنة المخصصات المالية للتعليم بمعدلات النمو السكاني من ناحية، وزيادة أعداد الملتحقين بالنظام التعليمي في الريف والمدينة خاصة من أبناء الطبقات الفقيرة من العمال والفلاحين وصغار الموظفين من ناحية أخرى، يعطي نتائج غير إيجابية بشأن انخفاض متوسط نصيب الطالب من الإنفاق الحكومي خلال هذه المرحلة التاريخية، خاصة بعد عام 1974 الذي شهد أرتفاعًا ملحوظًا في معدلات التضخم والأسعار”.
الانفتاح وإنهيار منظومة التعليم
ينتقل الكاتب بعد ذلك لرصد مرحلة السبعنيات بوصفها نقطة تحول رئيسية، ليس فقط في مجال التعليم ولكن في كافة القطاعات، فرغم نصر أكتوبر 1973 والحالة المعنوية والوطنية المرتفعة عند المصريين إلا أن الرئيس السادات لم يستغل هذا في دعم المنظومة التعليمية وتطويرها بل على العكس “اندفع السادات دون حصافة في فتح أبواب الجحيم على المجتمع وفئاته الفقيرة تحت شعارات الانفتاح الاقتصادي وتحفيز الاستثمار”، وقد نتج عن هذه السياسات إنهيار كبير في المنظومة التعليمية الحكومية وظهور قطاع تعليم غير رسمي متمثل في الدروس الخصوصية “السوق السوداء للتعليم”. على الجانب الآخر تضاعفت عدد المدارس الخاصة عشرات المرات وتحول التعليم لعملية تجارية واستثمارية يحصل عليها من يملك ثمنها فقط، ” هكذا سادات فوضى شاملة – بالمعنى الحقيقي لا المجازي- للكلمة، فتعددت الأنساق التعليمية والقيمية، وأصبح سوق التعليم المصري مغنمًا هائلًا يستحيل التخلي عنه حتى لو كان الثمن استمرار هذه الفوضى”.
وفي هذا السياق يرصد فاروق مجموعة من النقاط تلخص وضع المنظومة التعليمية منذ منتصف السبيعنيات وحتى الآن وهى :
أولًا: تكدس الطلبة في الفصول، الذي وصل إلى حد يستحيل معه إدارة عملية تعليمية وتربوية بكفاءة وفاعلية (من 60 إلى 80 تلميذ بالفصل)، وتدني أجور العاملين في حقل التعليم، بما يستحيل معه ضمان كفاءة وفاعلية أداء هؤلاء العاملين وفي مقدمتهم المدرسين، وهو ما عبر عنه بشجاعة وصدق الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم عام 1992 قائلًا (لقد تظاهر المجتمع انه يوفي هؤلاء المعلمين أجورهم وهم بدورهم تظاهروا بأنهم يؤدون عملهم، والتظاهر المتبادل حقق كارثة).
ثانيًا : إن فوائض الدخل للأفراد ومصادر دخل جديدة للكثير من الأسر المصرية قد تحققت سواء بسبب سفر ملايين العمال والمهنيين المصريين للدول العربية النفطية أو بسبب تغير هيكل الدخول داخل مصر ذاتها وارتفاع حصة بعض الفئات من كعكة الدخل القومي مثل ( المقاولين- عمال الحرف- والمهنيين كالأطباء والمهندسين ألخ)، أصبح هؤلاء قادرون على تمويل جزء كبير من نفقات تعليم أبناءهم.
ثالثًا: ترتب على ذلك خلق مساريين متوازيين في قطاع التعليم، أحدهم التعليم الحكومي الذي فقدت فيه المدرسة دورها التربوي والتعليمي والرياضي والثقافي، والمسار الآخر هو التعليم الخاص والاستثماري الذي تضاعف حجمه عشرات المرات منذ عام 1974 وحتى الآن.
مبارك وخصخصة التعليم
يشير الكاتب إلى أن نهاية فترة الثمانينيات وبداية التسعينيات شهدت المزيد من العبث بالمنظومة التعليمية، فمنذ عام 1987 وحتى عام 1992 أقرت الحكومة خطة خمسية هدفها ترشيد التعليم المجاني، جاءت تحت عنوان “مبارك والتعليم” ومن أبرز محاورها: اقتصار التعليم المجاني على التعليم الأساسي، ومجانية المراحل التالية للطالب الملتزم بوظيفته الاجتماعية كطالب، الدراسات العليا بمصروفات، أما القادرون فارتضوا طواعية الإنفاق على أبنائهم في التعليم الخاص.
وقد دخلت هذه السياسات حيز التنفيذ عبر قانون رقم 101 لسنة 1992 الذي سمح بإنشاء جامعات خاصة كما سمح للجامعات الحكومية بإنشاء أقسام للتعليم باللغات الأجنبية مقابل مصروفات، وبهذا خلق هيكل اجتماعي جديد للتعليم الجامعي يقوم على فرز جديد للملتحقين بالجامعات الحكومية قائم على المصروفات، والمبالغة في درجات القبول بكليات القمة الحكومية، والتوسع في إنشاء أقسام اللغات الأجنبية مقابل مصروفات في الكليات الحكومية. نتج عن ذلك زيادة أعداد الطلاب الذين يلتحقون بالجامعات الخاصة وهى الظاهرة التي يطلق عليها علماء الاجتماع “الإزاحة الاجتماعية”، حيث يعاد تشكيل المجتمع وفقًا لقوة النفوذ المالي للطبقات الجديدة .
يرصد الكاتب في الفصول التالية حجم الإنفاق الأسري على التعليم في مصر، موضحًا أن هناك نوعان من الإنفاق، أحدهما على التعليم الرسمي ويشمل التالي قيمة مصروفات المدارس والجامعات بمختلف أنواعها، وقيمة المصروفات بمجموعات التقوية الرسمية، وقيمة المواصلات التي ينتقل بها الطلاب، والوجبات ومصروف الجيب والملابس ومسلتزمات الدراسة من أقلام وكراسات وغيرها، أما النوع الآخر فهو التعليم الموازي أو السوق السوداء للتعليم ويشتمل الإنفاق على الدروس الخصوصية والكتب الخارجية، وفي هذا السياق يرصد الكاتب مجموعة من الأرقام المتباينة بسبب غياب المعلومات والإحصائيات الدقيقة لكنها في المجمل أرقام ضخمة بصورة مخيفة خاصة إذا ما تم مقارنتها بالمحصلة الهزيلة من التعليم التي يحصل عليها الطلاب في مصر، ففي أقل التقديرات تشير الأرقام إلى أن الأسرة المصرية تنفق من 30 مليار إلى 55 مليار على التعليم بمختلف مراحلة وهذه الأرقام وفقًا لعام 2004، وتشكل نسبة الدروس الخصوصية وحدها من هذا الإنفاق حوالي 10 مليارات جنيها.
واذا أضفنا متوسط الإنفاق الأسري للأنفاق الحكومي في ذلك العام فسوف يكون المتوسط لمجمل ما ينفق على التعليم في مصر في عام 2004 يقدر بحوالي 45 مليار جنيها كإنفاق أسري بالإضافة إلى 26 مليار جنيها وهو حجم الإنفاق الحكومي على التعليم الجامعي وقبل الجامعي في موازنة عام 2004، وعبر تحليل هذه الأرقام نلاحظ ان حجم الإنفاق الأسري ضعف الحكومي وأن التعليم صار في مجمله حكومي أو خاص مدفوع الأجر، لكن المحصلة النهائية هزيلة للغاية ولا تعبر عن هذا الإنفاق الضخم.