هل هناك فعلا عدالة اجتماعية في تونس؟
“في وضع اقتصادي مماثل للذي نعيشه، تصبح الأرقام والنسب غير ذات دلالة حقيقية لأنها أرقام تحجب حقائق وتجمّل عيوبا”
أخشى أن يكون مهدي جمعة اكتفى بمسك عصا الوضع الاقتصادي والاجتماعي من وسطها حتى بدا الأمر وكأنه مواصلة السير على أشواك الأزمة الاقتصادية الخانقة وتحمّل وخز الأشواك مع التخفيف من الآلام بسياسة ترقيعية قد تعني الاستمرارية أكثر مما تبشر بالتغيير رغم أنه أكد أكثر من مرة أن الأزمة ليست ظرفية بل هيكلية، و”أن الوقت قد حان لمراجعة جذرية للمنوال الاقتصادي الذي لم يتغير منذ عقود”، وحينما يؤكد في حديثه لصحيفة “الشرق الأوسط” أنه يعمل على “الحفاظ على التوازن الاجتماعي ولو بجزء بسيط” يتعين البحث عن مدى توازن هذه المقولة.
ويبدو أن رئيس الحكومة لا يرى في المنوال الاقتصادي الحالي سوى صندوق الدعم وأهمية ترشيده ولم يتعرض لا من قريب أو بعيد إلى الخيارات الاقتصادية العامة وتحديدا لم يبد أي نقد للسياسية الليبيرالية أو على الأقل لتأثيراتها السلبية حيث اتضح أن تلك السياسية منهج لا محيد عنه، وحتى النخبة السياسية في مجملها إضافة إلى الخبراء الاقتصاديين لم يصدر عنها أي نقد للنظام الاقتصادي الحالي باستثناء ما تعرضه الجبهة الشعبية من طروحات تبقى منطلقا للنقاش رغم محدودية هامش المناورة في مجال اختيار النظام الاقتصادي.
والمؤكد أن المجتمع التونسي في أشد الحاجة إلى العدالة الاجتماعية في مقام أول ثم إلى التوازن الاجتماعي، غير أن الطريق إلى التوازن لا تمر إلا عبر العدالة، ولو وضعنا العدالة الاجتماعية في إطارها التاريخي لاتضح أنها كانت أقرب إلى شعار منه إلى ممارسة فعلية ببعديها الأخلاقي والسياسي.
قطعة الحلوى والكعكة الكبيرة
وحتى عندما نعود إلى سياسة الدعم المعتمدة منذ عقود سنرى أن فكرتها تتضمن اعترافا بأن الدولة ليست عادلة بين مواطنيها فقد كان بمثابة قطعة الحلوى للفئات الضعيفة والطبقة المتوسطة في مقابل كعكة كبيرة تتقاسمها الطبقة السياسية الحاكمة وما حولها من نخب ورجال أعمال، وبالتالي كان الدعم بمثابة المخدر الذي وقع تحت تأثيره ضعاف الحال المقتنعون بأنهم “مدعومون” ماديا عبر الأسعار ومعنويا لأنهم يروا أنفسهم مسنودين من قبل الدولة التي نجحت في إقناع نفسها بكونها الحامية لضعاف الحال، أما الطبقة الميسرة التي ليست في حاجة إلى إقناع أو اقتناع فإن جانبا من مكوناتها استغل هذا الدعم ليواصل الاستغلال في مجال التشغيل بخنق الأجور.
وإلى جانب الدعم لعبت سياسة المفاوضات الاجتماعية خلال العقود القليلة الماضية دورا في لجم الأفواه بخصوص العدالة الاجتماعية وتوزيع ثمار التنمية والثروات بينما ظل مفهوم العدالة موضع اعتداء متواصل سواء في المجال الضريبي أو التنمية المحلية بل وصل الأمر إلى الصحة والتعليم حيث أصبحت الخدمات الصحية ومن ورائها الشفاء وفق ما يتم تسديه، ونفس الشيء ينطبق على التعليم باتساع الهوة بين المردودية في التعليم العمومي والخاص.
فتحقيق العدالة الاجتماعية يعد من أهم المقاييس لمدى قدرة الدولة على ممارسة أدوراها ومدى الاحتكام إلى قواعد الاقتصاد السياسي الحديث، ألم يأت زمن كان فيه فرض الواجب الجبائي حالة نادرة واستثناء بينما استشرى الفساد الذي يفترض أن حالاته استثناء؟
فمن النظام السابق إلى حكومة مهدي جمعة ومرورا بحكومتي الترويكا لم نشهد نية حقيقية في إجراء تحول على المسألة الاقتصادية بكل جوانبها بل لم نشهد سوى إقحام لبعض مفاهيم الاقتصاد الإسلامي دون فتح ملف الخيارات الاقتصادية وما يعتريها من وهن وما تسببه من انتهاكات لمبدإ العدالة.
العصر النفطي “الأول” سحابة صيف
أليس غريبا أن ينتهي العصر النفطي “الأول” في تونس دون أن نستفيد منه كمواطنين، فالمواطن “العادي” لم يشعر يوما أنه ينتمي لبلد عضو في المنظمة العربية للبلدان المصدرة للنفط (أوابك) حيث مر النفط “علينا” وكأنه سحابة صيف؟
في وضع اقتصادي مماثل للذي نعيشه، تصبح الأرقام والنسب غير ذات دلالة حقيقية لأنها أرقام تحجب حقائق وتجمل عيوبا وتغض الطرف عن الذين تجرفهم تأثيرات الليبيرالية المتوحشة في طريقها، وهو ما يعني ضرورة فتح ملف الخيارات الاقتصادية والبحث بين مختلف المدارس الليبيرالية بما يتماشى والواقع التونسي.
ومن الخطإ الاعتقاد أن إعادة النظر في الخيارات في النظام الرأسمالي مستحيلة وتعني نكوصا عن هذا النظام الاقتصادي، وربما كان الأمر كذلك في زمن ما، زمن التحجر الفكري بخصوص الرأسمالية ومذاهبها وهو ما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي جان ميشال بسنيي بقوله” إن إعادة تقويم الرأسمالية يمر بشكل مؤكد في الأذهان عبر القضاء على معنى البدائل”.
في تونس، تواجهنا ثلاث إشكاليات ذات علاقة وثيقة بما تمر به البلاد حاليا على الصعيد الاقتصادي وهي:
-منذ السنوات الأولى للاستقلال لم ينتبْنا القلق الفكري وهو العامل الذي دخلت من خلاله أوروبا عصر الأنوار وقطعت نهائيا مع العصور الوسطى، عيشنا بلا قلق فكري يعني في جانب منه الرضا بما هو موجود مثلما يعني كسلا فكريا تجاه تفاقم المشاكل.
-الحلف بين السياسي والاقتصادي وبالتالي بين الطبقة السياسية والفاعلين الاقتصاديين السائد حاليا في تونس وهو ما كان سائدا في القرن التاسع عشر والحال أن هذا الحلف تحول إلى حلف بين الاقتصادي والاجتماعي في القرن العشرين وأنتج في الغرب المجتمع الاستهلاكي المستند على دورة اقتصادية واضحة المعالم والأدوار في العملية الانتاجية والتسويق والاستهلاك، في حين اشتغلنا في بلادنا على صورة مشوهة لمجتمع الاستهلاك.
– الغياب الكلي للدولة الراعية حيث لم تعد الدولة تقوم بدورها في الرعاية الاجتماعية وبدور الحكم في المجال الاقتصادي، وتعيدنا المسألة إلى مفهوم الدولة وإلى السؤال البديهي: لماذا يفترض أن نعيش كمجموعة من الأفراد تحت لواء دولة وليس في ظلها؟ بكل بساطة ظل الدولة لا يعكس بالضرورة كامل تفاصيل الشكل فما بالك بالمضمون.
الطبقة الوسطى ضحية أم مستهدفة؟
هذه الإشكاليات الثلاث أثمرت تفاوتا طبقيا صارخا وأحالت العدالة الاجتماعية إلى مجرد شعار أجوف حيث ما عاد في إمكاننا الحديث عن طبقة وسطى مهترئة بل عن طبقات وسطى تتفاوت في درجات الرخاء والرفاهة والعدالة وحتى في الوقوع تحت طائلة الحيف ليتدحرج كل طرف ضعيف في نهاية الأمر إلى طبقة الفقراء التي أصبحت قاعدتها في اتساع متزايد.
من أجل الحفاظ على الطبقة الوسطى وتمكين ضعاف الحال من الارتقاء إليها يتعين إعادة النظر في تطبيق الليبيرالية ولا بد من قيام الدولة بدورها وإذا كنا نعمل بنصائح صندوق النقد الدولي فيما يتعلق بالتعويض ها هي “كريستين لاغارد” المديرة العامة للصندوق تحذر – وهي في المغرب – من مخاطر تراجع الطبقة المتوسطة في البلدان العربية حيث يترتب عنها ارتفاع الاحتجاجات وتؤدي إلى الأزمات.
لاغارد كانت واضحة بقولها إن “حصة الطبقة الوسطى من الثروة أقل مما كانت تحصل عليه في الستينات بينما اقتصاداتكم حققت نموا، وهذا يعني أن الثروة التي تم خلقها في هذه الفترة لم يتم توزيعها بشكل عادل على الطبقة الوسطى”، هذه الطبقة التي تدفع الثمن في البلدان العربية بدأت تتآكل في الولايات المتحدة وهو ما عبرت عنه صحيفة “نيويورك تايمز” في 22 أفريل وذلك في مقارنة بين الطبقة الوسطى في أمريكا وفي أوروبا وكندا.
56 ملياردير
ومن المفارقات أن تتقلص الفوارق في الثروة بين البلدان بينما يزداد التفاوت داخل البلدان نفسها ولعل ارتفاع عدد أصحاب المليارات سنويا كفيل بالتدليل على خلل ما، أما وجود 65 ملياردير في تونس وفق أرقام نشرها مؤخرا بنك سويسري – فذلك في جانب منه دليل على أنه يتعين إعادة النظر في كيفية تحقيق العدالة، والعدالة في هذا السياق لا تعني بالطبع المساواة.
لذلك وبما أن حكومة مهدي جمعة بصدد الإصلاح الهيكلي يتعين عليها إعادة النظر في المنوال الاقتصادي لكن بانتهاج طريق جديدة تأخذ بعين الاعتبار العدالة الاجتماعية قبل الحديث عن التوازن الاجتماعي وذلك عبر تحديد أدوار كل الفاعلين في النشاط الاقتصادي في إطار مسحة من الإنسانية يتعين إضفاؤها على ممارسة الليبيرالية في الشأن الاقتصادي.
صحيح أن رأس المال كما يقال – جبان ويخشى المخاطرة ولا يرفض في الآن نفسه الامتيازات لكن الدولة حينما تترك الحبل على الغارب ولا تحرك ساكنا تجاه تواطؤ السياسة مع المال فذلك لا يبرئها من الجبن، لأن الدولة لها أدوارها وأخلاقيات لا مفر من حمايتها.