لانعدام العدالة الاجتماعية في لبنان وجوهٌ كثيرة
على تلك الأرصفة النظيفة، ذات المظهر الأوروبي، أمام ذاك التمثال المُلمّع، حيث انعكست عليه اشعة الشمس من زجاج المبنى المجاور، الذي علت طبقاته الاخيرة عن مستوى احلام الكثيرين في لبنان… وقفت ريم تتمايل شمالا ويميناً لتلتقط لنفسها اكبر قدرٍ من الصور الفوتوغرافية، قبل أن تدق ساعة العودة الى منزل والديها الغافي على حافة العتمة، بالجهة المقابلة، “ليس بعيداً من هنا…” بل على بعد أمتارٍ قليلة من الضوء.
لبنان ليس هو البلد الوحيد الذي يعيش التفاوت الطبقي الحاد، بقطبيه الموجب والسالب، ولكن لعله البلد الصغير الذي يعاني اكثر من غيره امتداداً قاهراً للتمايز الاجتماعي، الذي لم يكتف بخلق فروقات خيالية بين منطقة وأخرى بل انجرّ احياناً بتفاوتاته المؤذية على كافة الأصعدة وما يفوح منها من رائحة انعدام العدالة الاجتماعية الى الجغرافي الأضيق حتى في المنطقة الواحدة التي تحمل الاسم نفسه، وتلك المعايير اختلف السكان في تحديدها، واتفقوا على تمنّي زوالها. فترى من شاء القدر ان يَشم حياته بوشم الفقر جاهداً ليطلّ على العالم الآخر من نافذة صغيرة لا تتعدى التقاط الصور او اختلاس النظر على مظاهر البذخ، وممارسة رياضة المشي ما بين بهو الشوارع الفاخرة، وتراه يحفظ تضاريسها ومعالمها اكثر من أصحابها انفسهم، أصحابها الذين دون أدنى شك لا يعرفون شيئاً عن عالمه ومعاناته، بل أغلقوا جميع النوافذ المطلّة على عالم الفقير وكأنه ما كان ولم يكن.
“باشورة” بوجهين
اتخذ عدنان لنفسه زاوية جميلة على حافة سوق بيروت وراح يتأمل المارّة، وعندما توجهنا له بالسؤال هل انت من هنا؟ أجاب بسخرية “لا أنا من هونيك” قاصداً القسم الآخر لوسط بيروت، حيث أضاع الغنى طريقه اليه، وتعثّرت مظاهر الثراء عند اول مفارق طرقاته الضيقة، يتابع عدنان “بيروت التي نزورها اليوم فقط لالتقاط الصور والمشي كانت للجميع، اما اليوم فهي حكر لطبقة معينة، وفنجان القهوة صار بـ10 دولارات”، ويرى بأن الحرب الأهلية كان لها الدور الأكبر بالفرز الذي يعيشه وسط بيروت.
أما ليليان ابنة الـ”Down town” أو كما تفضل تسميته بالـ “D-T” فلا تعلم بأن هناك قسما آخر للباشورة يختلف تماماً عن الذي تعيش به، ولم تسمع من قبل بالخندق الغميق وغيرها من المناطق الشعبية المحاذية لوسط بيروت، بينما غسان صديقها يقول “سمعان فيهون بس ولا مرة شايفون من جوّا” فهي مناطق “بتخوّف” على حدّ تعبيره.
ففي الطريق من الصيفي وسط بيروت الى بشارة الخوري، الذي كان من أهم خطوط التماس أيام الحرب، ترى “باشورة” على يمينك و”باشورة” أخرى على شمالك، ولكن ما ابعد هذه الباشورة عن تلك، وما اقربها لها بالجغرافية واللغة، فالشوارع هنا ضيقة بالكاد تمر فيها سيارة- سيارة، واتخذ اهلها من الارصفة كافيهات عشوائية، تراها تعجّ بالشبان على عكس كافيهات النصف الآخر الموحشة من شدّة غلائها.
“طبخة سياسية”
يتحدّث مختار محلّة الباشورة الحاج سامي عساف عن تاريخ المنطقة، وكيف انقسمت ما بعد الحرب الى باشورتين لكل منهما عالمها الخاص المختلف عن الآخر بطريقة خيالية، يرفضها النظر ويتنكّر لها المنطق.
يروي عساف “كانت المنطقة بعد الحرب مدمرة تماماً وبطبخة سياسية استثمارية تم الاستيلاء على وسط بيروت وتم اخذ العقارات من اصحابها مقابل حصولهم على أسهم في شركة سوليدير، وبما ان أصحاب الاستثمارات يملكون امكانات هائلة حولوها من منطقة مدمرة الى منطقة تضاهي بفخامتها المدن الاوروبية، ولأسباب طائفية- سياسية لم يتم تعمير المنطقة كلها”.
وإليكم مثالا على التفاوت: يبلغ سعر الشقة في الباشورة القديمة حسب معلومات عساف من 150 الف دولار الى 400 الف دولار، اما في الباشورة الجديدة سوليدير فيبدأ سعر الشقة بمليون ونصف مليون دولار، ليصل الى 12 مليون دولار.
بينما يتمنى أحمد “لو تم إعمار الباشورة بأكملها” ويقول بحسرة “الكهرباء هنا تأتي مرة باليوم، أما هناك فالكهرباء 24/ 24، وكل فترة يقطعون الكهرباء ما يقارب الـ5 أو 6 أيام متواصلة بحجة الأعطال في الوقت الذي يكونون يقننون فيه الكهرباء عنّا لحساب المناطق المجاورة”. ويكمل سرد معاناته ومعاناة اهالي المنطقة “الضغط السكاني هلك العالم فلدينا بين سوري وفلسطيني وسوداني وبنغلادشي وغيرهم، ما يقارب الـ10 آلاف شخص ما ضاعف معاناة اهالي المنطقة”.
“سياسة تجويع”
تتابع “البلد” جولتها في بيروت لترى بأن التمايز الاجتماعي بشكله الفاضح لم يقتصر على وسط العاصمة، بل امتد بوقاحته الى مناطق عديدة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر “الجناح، بئر حسن، وكرم الزيتون في الاشرفية”.
يفسّر حسن، ابن منطقة الجناح بأن “المحسوبيات” هي التي جعلت من الجناح منطقة بعالمين متفاوتين، إذ يمكنك الانتقال بثوانٍ من عالم البنايات العملاقة والشوارع المرتبة والزجاج النظيف الى تلك الأحياء الفقيرة التي غطاها العمران الحديث وحجب عن الاسماع اصوات معاناة اهلها، اما في الداخل فترى أسلاك الكهرباء “فايتة ببعضا” وترى الاعمار العشوائي ذا الاسقف المعدنية ما منع الشمس من الوصول الى الارض.
وعن تاريخ المنطقة يتحدث العم ابو علي “كانت منطقة الجناح كلها شعبية من قبل، اما اليوم فلا تشكل المناطق الشعبية فيها الا نسبة لا تتجاوز الـ20 بالمئة من المساحة العامة، أما عن عدد السكان فبالتأكيد يوجد بشر في هذه الأحياء المتواضعة اكثر بكثير من الخارج”، ولا يعتقد العم أبو علي بأن للحرب اللبنانية علاقة بالفرز الذي تعيشه منطقته، ويحمل المسؤولية المباشرة للشعب فـ”السبب الاساسي بالذي نحن فيه والذي ادى الى اختلاق هذا التفاوت الطبقي بين المناطق وحتى بين ابناء المنطقة الواحدة، هو الناس انفسهم الذين رضوا لأنفسهم ان يكونوا مجرد ارقام انتخابية وماكينات تصفيق للزعماء مقابل لا شيء، سوى الفقر والتعتير، فكما تكونوا يولى عليكم”. مشيراً الى ان “سياسة التجويع” هي اسلوب سياسي يتبعه الزعماء لإحكام سيطرتهم على المناطق الشعبية.
أما خالد ابن “البسطة” فيفسر التفاوت الطبقي الحاصل في لبنان بالفرز الرأسمالي، فـ”يراد من بيروت ان تكون كلها مدينة للرأسماليين وحكراً لطبقة معينة، اما المعتّرون فيُدفع لهم مقابل املاكهم ليرحلوا الى الضواحي والجوار”.
عوامل التمايز
وللتعرف على العوامل التي خلقت التمايز الاجتماعي بين المناطق اللبنانية، والأخرى التي كرست هذا التمايز، كان لـ”البلد” حديث مع الخبير الاقتصادي، البروفيسور جاسم عجاقة الذي عزا التفاوت الطبقي الى ثلاثة عوامل أساسية هي العوامل النفسية، والاجتماعية والاقتصادية. فالانسان بحكم عقله وتركيبته الاجتماعية (نفسياً) يحاول التميز عن غيره، ويحاول التقرّب من الفئات التي لديها نفس المميزات، ليرسم صورة معينة له ولمن حوله، وبالتالي (اجتماعياً) الانسان هو الذي خلق التقنية الاجتماعية او عامل الانتقاء الاجتماعي وصنع طبقات خاصة به من مستويات معينة. وبعد الحرب اللبنانية صار هناك ثراء شرعي وغير شرعي وأصبح من بعدها الاثرياء الجدد يشترون عقارات ويخلقون مناطق خاصة لهم تميزهم عن الفقراء وبنفس الوقت عن الاغنياء القدامى، أي سكان بيروت الأصليين، كما وبدأ اهالي الجبل من الطبقة الاقطاعية ينزلون الى مدينة بيروت ويختارون مناطق خاصة بهم، ما اسهم بالفرز ايضاً. ويلفت عجاقة هنا الى دور عاملي الحزبية والطائفية – المذهبية اللذين اسهما كذلك الأمر بالانتقاء الاجتماعي.
أما (اقتصاديا) فـ”اسعار الشقق في بعض الاماكن أصبحت نوعا من انواع الوسيلة الاقتصادية للانتقاء الاجتماعي” ما كرس الواقع الطبقي الموجود، فالفورة السكانية وغلاء الاسعار دعوَا المقاولين بمجال العقارات الى ان يستحبسوا مناطق عبر فرض اسعار تفرض بدورها واقعاً اجتماعياً بلونٍ واحد معين وتجذب ناسا من طبقة معينة. ويرى عجاقة بأن الاحياء الفقيرة اليوم ما هي الا امتداد للماضي، وهي في طريقها الى الزوال، وفورة العمران ستبتلع آجلاً ما تبقى من مناطق شعبية في بيروت فـ”القضية قضية وقت”.
معدلات الفقر
وعن معدلات الفقر في لبنان، والتي يجهلها أصحاب الشأن السياسي في لبنان ويتجاهلونها بنفس الوقت، يقول عجاقة، في العام 2008 حسب دراسة للجامعة الاميركية في بيروت، لامست معدلات الفقر في لبنان الـ28 بالمئة، وحسب دراسة البنك الدولي في العام 2014 أشارت التوقعات الى ان عدد العائلات الفقيرة بعد ازمة النزوح السوري الى لبنان سيزيد بنسبة 170 الف عائلة. وبإجراء عملية حسابية سريعة يتوقع عجاقة حسب توقعات البنك الدولي أن تزداد معدلات الفقر ما يقارب الـ13,6 بالمئة، أي إن معدلات الفقر في لبنان اليوم تتراوح ما بين الـ33 والـ 35 بالمئة تقريبا.