العمل المأجور ورأس المال

العمل المأجور ورأس المال

كتبه ماركس على أساس المحاضرات التي ألقاها من 14 إلى 30 ديسمبر (كانون الأول) 1847
نشر لأول مرة في جريدة “Neue Rheinische Zeitung”، الأعداد 264–267 و 269؛ 5–8 و 11 أبريل (نيسان) 1849 و بكراس خاص مع مقدمة بقلم فريدريك انجلس و بتحريره، في برلين عام 1891.

مقدمة فريدريك انجلس لطبعة عام 1891

صدر هذا البحث أولا في سلسلة من الافتتاحيات نشرتها جريدة “Neue Rheinische Zeitung” في 1849 ابتداء من 4 أبريل (نيسان). و عماده المحاضرات التي ألقاها ماركس عام 1847، في رابطة العمال الألمان ببروكسل. و لم تتم هذه السلسلة. ذلك أن التعهد الذي ينطوي عليه تعبير “البقية تتبع” الواردة في نهاية المقال المنشور في العدد 269 من الجريدة لم يتحقق نظرا للأحداث التي تسارعت في ذلك الحين – الغزو الروسي في المجر، الانتفاضات في مدن درسدن و ايزيرلون و البرفلد، و في مقاطعتي البالاتينا و بادن –، و التي أدت إلى إلغاء الجريدة نفسها (19 مايو–أيار 1849). و لم نجد قط مخطوطة البقية في أوراق ماركس بعد وفاته.

لقد صدر “العمل المأجور و الرأسمال” في كراس واحدة عدة مرات و صدر للمرة الأخيرة في عام 1884 في غوتينغين–زوريخ في “المطبعة التعاونية السويسرية”. و في جميع الطبعات الصادرة حتى الآن، طبع النص الأصلي بكل ضبط و دقة. و لكن هذه الطبعة الجديدة عبارة عن كراس للدعاية و من المنوي نشر ما لا يقل عن 10000 نسخة منها. و لذلك تساءلت فيما إذا كان ماركس يوافق على إعادة طبع النص الأصلي دون أي تعديل و الحال هذه.

في العقد الخامس لم يكن ماركس قد انتهى من وضع انتقاده للاقتصاد السياسي. و لم ينجز هذا العمل إلا في أواخر العقد السادس. ولذا فإن كتاباته التي صدرت قبل الكراس الأول من مؤلفه “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” (1859) تختلف في بعض النقاط عما كتبه بعد عام 1859. فهي تحتوي تعابير و جملا كاملة تبدو، بالنسبة للمؤلفات اللاحقة، غير موفقة و حتى خاطئة. مع أنه بديهي تماما أن وجهة النظر السابقة هذه، التي هي درجة من درجات تطور المؤلف فكري، إنما يجب أن تنعكس أيضا في الطبعات العادية المعدة لجمهور القراء العاديين و أن للمؤلف و للجمهور على السواء حقا ثابتا لا مراء فيه في إعادة طبع هذه الكتابات السابقة دون أي تعديل. و في هذه الحال لن يخطر ببالي أبدا أن أبدّل فيها كلمة واحدة.

و لكن الوضع يختلف حين تكون الطبعة الجديدة معدة للدعاية بين العمال، بوجه الحصر تقريبا. فمن المؤكد في مثل هذا الوضع أن ماركس كان عدل النص السابق الذي يعود إلى عام 1849 وفقا لوجهة نظره الجديدة، و إني على ثقة بأني أعمل بروح ماركس تماما إذ ألجأ في هذه الطبعة إلى بعض التعديلات و الإضافات التي لا بد منها لأجل بلوغ هذا الهدف في كل النقاط الجوهرية. و لذا أقول للقارئ سلفا: هاهو الكراس، لا كما دبجه ماركس في عام 1849، بل تقريبا كما كان من المحتمل أن يكتبه في عام 1891. هذا مع العلم أن النص الحقيقي قد صدرت منه أعداد كبيرة من النسخ إلى حد أنها تتيح الانتظار إلى أن أتمكن من إعادة طبعه فيما بعد دون أي تعديل في طبعة للمؤلفات الكاملة.

إن التعديلات التي أجريتها إنما تدور كلها حول نقطة واحدة. فما يبيعه العامل للرأسمالي لقاء الأجرة، إنما هو عمله حسب النص الأصلي، أما حسب النص الحالي فهو يبيع قوة عمله. و لا بد أن أوضح أسباب هذا التعديل. لا بد لي أن أقدم الإيضاحات للعمال لكي يروا أن المسألة ليست مجرد مسألة تعابير و كلمات، إنما هي، على العكس، نقطة من أهم النقاط في الاقتصاد السياسي بكليته. و لا بد لي أن أقدم هذه الإيضاحات للبرجوازيين لكي يقتنعوا بأن العمال الذين لم يحصلوا على أي تعليم و الذين يمكن إفهامهم بسهولة أصعب الأبحاث الاقتصادية، هم أسمى بما حد له من أصحابنا “المثقفين” المتغطرسين الذين تظل مثل هذه المسائل المعقدة لغزا مغلقا على عقولهم طوال حياتهم.

إن الاقتصاد السياسي الكلاسيكي يستمد من النشاط العملي الصناعي هذه الفكرة الرائجة بين الصناعيين و هي أن الصناعي يشتري عمل عماله و يدفع أجره. و قد كانت هذه الفكرة تكفي الصناعي تماما لمباشرة الأعمال و المحاسبة و حساب الأسعار. فما أن نُقلت بكل سذاجة إلى ميدان الاقتصاد السياسي، حتى أحدثَت فيه بلبلة غريبة و تشوشا مدهشا.

إن الاقتصاد السياسي يواجه الواقع التالي، و هو أن أسعار جميع البضائع، و منها سعر البضاعة التي يسميها “العمل” تتغير باستمرار؛ و أنها ترتفع و تهبط بفعل ظروف غاية في التنوع و التباين، و كثيرا ما لا تمت بأية صلة إلى إنتاج البضاعة نفسه، فيبدو أن الأسعار إنما تتحدد على وجه العموم بفعل الصدفة وحدها. و لكن، ما إن ظهر الاقتصاد السياسي بمظهر العلم، حتى ترتب عليه، بين مهماته الأولى، أن يجد القانون الذي يختفي وراء هذه الصدفة التي تشرف ظاهريا على أسعار البضائع، والذي يسيطر في الواقع على هذه الصدفة عينها. و ضمن حدود هذه الأسعار، التي تتقلب باستمرار، و ترجحاتها تارة من أدنى إلى أعلى و طورا من أعلى إلى أدنى، بحَث الاقتصاد السياسي عن النقطة الوسطية الثابتة التي تدور تدور حولها هذه التقلبات و هذه الترجحات. و بكلمة موجزة، انطلق الاقتصاد السياسي من أسعار البضائع ساعيا وراء قيمة البضائع بوصفها القانون الذي يتحكم بالأسعار، وراء القيمة التي ستساعد على تفسير جميع ترجحات الأسعار و التي يمكن نسبتها كلها إلى هذه القيمة في آخر التحليل.

و الحال، أن الاقتصاد السياسي الكلاسيكي قد وجد أن قيمة البضاعة إنما يحددها العمل الضروري لإنتاجها و المتجسد فيه، و اكتفى بهذا التفسير. و بوسعنا نحن أيضا أن نتوقف عنده لحظة. غير أني اجتنابا لكل سوء في الفهم، لا بد لي من أن أشير إلى أن هذا التفسير لم يبق كافيا إطلاقا في أيامنا هذه. و قد كان ماركس أول من درس بتعمق قدرة العمل على خلق القيمة و وجد أن ليس كل عمل ضروري ظاهرا أو فعلا لإنتاج بضاعة معينة يضيف، في مطلق الأحوال، إلى هذه البضاعة قدرا من القيمة يتناسب مع كمية العمل المبذول. فإذا قلنا إذن اليوم بإيجاز، مع اقتصاديين أمثال ريكاردو، أن قيمة بضاعة معينة إنما يحددها العمل الضروري لإنتاجها فإنما لا تغيب عن بالنا أبدا التحفظات التي أباها ماركس بهذا الصدد. و هذا يكفي هنا. و إننا لنجد البقية عند ماركس في كتابه “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” (1859) و في المجلد الأول من “رأس المال.”

ولكن ما إن طبّق الاقتصاديون طريقة تحديد القيمة بالعمل، على البضاعة “العمل” حتى راحوا في تناقض إثر تناقض. فكيف تحدد قيمة “العمل”؟ بالعمل الضروري المتجسد فيها. ثم أي قدر من العمل ينطوي عليه عمل العامل في اليوم، في الأسبوع، في الشهر، في السنة؟ إنه ينطوي على عمل يوم، أسبوع، شهر، سنة. فإذا كان العمل هو مقياس جميع القيم، فإننا لا نستطيع التعبير عن “قيمة العمل” إلا في العمل. و لكننا لا نعرف شيئا على الإطلاق بشأن قيمة ساعة من العمل إذا عرفنا فقط أنها تعادل ساعة من العمل. و هكذا لم نقترب من الهدف قيد شعرة و لم نفعل غير أن درنا في حلقة مفرغة.

و لذا حاول الاقتصاد السياسي الكلاسيكي استخدام طريقة أخرى. فهو يقول: إن قيمة بضاعة معينة إنما تعادل نفقات إنتاجها. و لكن، ما هي نفقات إنتاج العمل؟ للجواب عن هذا السؤال، يضطر الاقتصاديون إلى مجافاة المنطق بعض الشيء. و لمّا كان من غير الممكن، مع الأسف، تحديد نفقات إنتاج العمل بالذات، فهم يحاولون إذ ذاك أن يعرفوا ما هي نفقات إنتاج العامل. و هذه النفقات إنما يمكن تحديدها. فهي تتغير حسب الزمن و الظرف، و لكنها في أوضاع اجتماعية معينة، و مكان معين، و فرع معين من الإنتاج، معطاة، معروفة على الأقل، ضمن حدود ضيقة إلى حد ما. و نحن نعيش اليوم في ظل سيادة الإنتاج الرأسمالي حيث طبقة كبيرة من السكان، تنمو و تتكاثر يوما بعد يوم، لا تستطيع أن تعيش إلا إذا عملت لقاء أجر من أجل مالكي وسائل الإنتاج – من أدوات و آلات و مواد أولية و وسائل عيش. و على أساس هذا الأسلوب في الإنتاج، تتقوّم نفقات إنتاج العامل في مجمل وسائل عيشه –أو في مجمل أثمانها نقد– التي هي ضرورية، بصورة وسطية، لمده بقدرته على العمل، لإبقاء هذه القدرة حية، للاستعاضة عنه بعامل جديد إذا ما أقصاه المرض أو العمر أو الموت عن الإنتاج، أي لتمكين الطبقة العاملة من التناسل و التكاثر بالمقادير الضرورية. و لنفترض أن وسائل العيش هذه إنما يبلغ ثمنها نقدا بصورة وسطية 3 ماركات في اليوم.

فإن العامل يتقاضى إذن من الرأسمالي الذي يشغله أجرة قدرها 3 ماركات في اليوم. و لقاء هذه الأجرة، يشغله الرأسمالي، لنقل، 12 ساعة في اليوم. و في هذه الحال يفكر الرأسمالي على النحو التالي تقريبا:

لنفترض أن العامل –و هو محكم مثل– إنما يترتب عليه أن يصنع قطعة آلة و ينتهي منها في يوم واحد. و لنفترض أن المادة الأولية –الحديد و النحاس و الأصفر بشكلهما الضروري المحضر سلف– تكلف 20 ماركا؛ و أن استهلاك الفحم في الآلة البخارية و استهلاك هذه الآلة البخارية نفسه، و المخرطة و سائر الأدوات التي يشتغل بها العامل، يبلغ، في يوم واحد، و بالنسبة لما يصرفه العامل، ما قيمته مارك واحد. لقد افترضنا أن أجرة العامل 3 ماركات في اليوم. و هكذا تبلغ تكاليف قطعة الآلة 24 ماركا بالإجمال. و لكن الرأسمالي يحسب أن يحصل من زبائنه على ثمن وسطي قدره 27 ماركا أي بزيادة 3 ماركات عن النفقات التي قدمها.

فمن أين جاءت هذه الماركات الثلاثة التي يضعها الرأسمالي في جيبه؟ إن الاقتصاد السياسي الكلاسيكي يؤكد أن البضائع تباع بصورة وسطية حسب قيمته، أي بأسعار تناسب كميات العمل الضرورية التي تنطوي عليها هذه البضائع. فكأن متوسط ثمن قطعة الآلة التي اتخذناه مثالا –أي 27 مارك– يساوي قيمته، يساوي العمل المتجسد فيها. و لكن 21 ماركا من أصل هذه الماركات الـ27، كانت قيمة موجودة قبل أن يبدأ صاحبنا المحكم العمل، منها 20 ماركا تنطوي عليها المادة الأولية، و مارك واحد ينطوي عليه الفحم المحروق أثناء العمل أو الآلات و الأدوات التي استخدمت لهذا الغرض و نقصت صلاحيتها للعمل بما يوازي هذا المبلغ. تبقى 6 ماركات أُضيفت إلى قيمة المادة الأولية. و لكن هذه الماركات الـ6، كما يقرّ به اقتصاديونا بالذات، لا يمكنها أن تنجم إلا من العمل الذي يضيفه عاملنا إلى المادة الأولية. و هكذا فإن عمله مدة 12 ساعة قد خلق قيمة جديدة قدرها 6 ماركات؛ و بالتالي فإن قيمة عمله مدة 12 ساعة تعادل 6 ماركات. و على هذا النحو نكون قد توصلنا آخر المطاف إلى اكتشاف “قيمة العمل.”

“قف!” –يهتف بنا محكمنا.– “6 ماركات؟” و لكني لم أقبض إلا 3 ماركات! إن الرأسمالي يحلف الأيمان المغلَّظة أن قيمة عملي مدة 12 ساعة لا تساوي إلا 3 ماركات و إذا طالبت بـ6، فإنه يسخر مني. فما معنى هذا؟”

و إذا كنا بلغنا سابقا بقيمة العمل إلى حلقة مفرغة، فها نحن الآن نتيه تماما في خضم تناقض لا مخرج منه. لقد فتشنا عن قيمة العمل و وجدنا أكثر مما كان ينبغي لنا. فإن قيمة 12 ساعة عمل هي 3 ماركات بالنسبة للعامل، و 6 ماركات بالنسبة للرأسمالي الذي يدفع منها للعامل أجرة 3 ماركات و يضع في جيبه الماركات الثلاثة الباقية. و هكذا يكون للعمل بالتالي لا قيمة واحدة، بل قيمتان اثنان و متباينتان كل التباين أيضا!

و يزداد التناقض خراقة، ما إن نعيد القيم المعبَّر عنها نقدا إلى وقت العمل. ففي ساعات العمل الـ12 نشأت قيمة جديدة قدرها 6 ماركات، أي 3 ماركات في 6 ساعات، و هو المبلغ الذي تلقاه العامل لقاء 12 ساعة عمل. و هكذا فإن العامل يتلقى لقاء 12 ساعة عمل ما يعادل منتوج 6 ساعات عمل. إذن، إما أن يكون للعمل قيمتان إحداهما ضعف الأخرى، و إما أنّ 12 تساوي 6! و في الحالين كليهم، نصل إلى محال، إلى خرق.

و مهما بذلنا من الجهود، فإننا لن نخرج أبدا من هذا التناقض طالما أننا نتحدث عن شراء و بيع العمل و قيمة العمل. وهذا ما حدث بالضبط لأصحابنا الاقتصاديين. فإن الشعبة الأخيرة من الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، و نعني بها مذهب ريكاردو، قد انهارت لعجزه، بالدرجة الأولى، من حل هذا التناقض. فقد وقع الاقتصاد السياسي الكلاسيكي في مأزق. و كان كارل ماركس هو الذي وجد السبيل للخروج من هذا المأزق.

إن ما اعتبره الاقتصاديون نفقات إنتاج “العمل”، إنما كان، لا نفقات إنتاج العمل، بل نفقات إنتاج العامل الحيّ نفسه. و ما يبيعه العامل للرأسمالي ليس عمله. يقول ماركس: “وما أن يبدأ العامل عمله حق، حتى يكف عمله على أن يكون ملكه، و لذا لا يعود بوسعه أن يبيعه”. فأكثر ما يستطيع أن يبيعه هو عمله المقبل، أي أن يقطع على نفسه عهدا بتحقيق عمل معين في أجل معين. و لكنه، و الحال هذه، لا يبيع عمله (الذي سيقوم به في المستقبل) إنما يضع تحت تصرف الرأسمالي لمدة معينة (في حالة الأجرة اليومية) أو للقيام بعمل معين (في حالة الأجرة بالقطعة) قوة عمله مقابل أجر معين؛ فهو يؤجر أو يبيع قوة عمله. غير أن قوة العمل هذه مرتبطة بشخصه ارتباطا وثيقا لا يمكن فصم عراه. و لذا فإن نفقات إنتاجها تطابق بالتالي نفقات إنتاجه هو بالذات. و ما كان يسميه الاقتصاديون نفقات إنتاج العمل إنما هي بالضبط نفقات إنتاج العامل و بالتالي نفقات إنتاج قوة العمل. و بوسعنا أن نعود هكذا من نفقات إنتاج قوة العمل إلى قيمة قوة العمل، و تحديد كمية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاج قوة عمل من كيفية معينة، كما فعل ماركس في قسم شراء و بيع قوة العمل (“رأس المال”، المجلد الأول، الفصل الرابع، الباب الثالث(.

و لكن ماذا يحدث بعد أن يبيع العامل قوة عمله من الرأسمالي، أي بعد أن يضعها تحت تصرفه مقابل أجر متفق عليه سلفا –سواء أكان أجرا يوميا أم أجرا بالقطعة؟ إن الرأسمالي يقود العامل إلى مشغله أو إلى مصنعه حيث تتوافر جميع الأشياء الضرورية لعمله من مواد أولية، و منتجات ثانوية (فحم، أصباغ، الخ.)، و أدوات، و آلات. و في هذا المشغل أو في ذاك المصنع، يشرع العامل يكدح و يعمل. و أجرته اليومية، كما سبق و افترضنا آنف، 3 ماركات، – سواء أكسبها بالمياومة أو بالقطعة، فالأمر سيان. و نحن نفترض أيضا في هذه الحال أن العامل، بعمله مدة 12 ساعة، إنما يضمِّن المواد الأولية المستخدمة قيمة جديدة قدرها 6 ماركات، و هذه القيمة الجديدة يحققها الرأسمالي ببيع القطعة بعد الانتهاء من صنعها. و من هذه الماركات الستة، يدفع 3 ماركات للعامل، و يحتفظ لنفسه بالماركات الثلاثة الباقية. و هكذ، إذا خلق العامل في 12 ساعة قيمة قدرها 6 ماركات، فإنه يخلق في 6 ساعات قيمة قدرها 3 ماركات. فهو إذن، حين يشتغل 6 ساعات للرأسمالي، يرد للرأسمالي ما يعادل الماركات الثلاثة التي قبضه، أو الأجرة. فبعد 6 ساعات عمل، يكون كل منهما قد أبرأ ذمته تجاه الآخر ولا يترتب لأحدهما على الآخر أي شيء.

و إذا الرأسمالي يصرخ الآن: “رويدك! لقد استأجرت العامل ليوم كامل، لـ 12 ساعة. و 6 ساعات ليست سوى نصف يوم. إذن، اكدح و اعمل حتى تنتهي أيضا الساعات الست الأخرى – و حينذاك فقط، يبرئ كل منّا ذمته تجاه الآخر!”. و يجب على العامل أن يخضع بالفعل للعقد الذي قبِل به “بملء إرادته” و الذي تعهد فيه بالعمل 12 ساعة كاملة مقابل منتوج يكلف 6 ساعات عمل.

و الحالة نفسها تماما في العمل بالقطعة. لنفترض أن عاملنا يصنع في 12 ساعة 12 قطعة من البضاعة عينها. و كل قطعة تكلف ماركين من المواد الأولية و استهلاك الآلات و تباع بماركين و نصف مارك. فإذا استندنا إلى الافتراضات السابقة نفسه، فإن الرأسمالي يعطي العامل 25 بفينيغا بالقطعة، أي أنه يعطيه مقابل 12 قطعة 3 ماركات ظل العامل يكدح 12 ساعة لكسبها. أما الرأسمالي، فيقبض مقابل الـ12 قطعة 30 ماركا؛ و بعد حسم 24 ماركا من هذا المبلغ مقابل المادة الأولية و تلف الآلات يبقى 6 ماركات يدفع الرأسمالي منها 3 ماركات أجرة و يضع في جيبه 3 ماركات كما في الحالة الأولى. ففي الحالة الثانية أيض، يشتغل العامل 6 ساعات لنفسه، أي تعويضا لأجره (نصف ساعة في كل من الـ12 ساعة) و 6 ساعات للرأسمالي.

إن الصعوبة التي تحطمت عليها جهود خيرة الاقتصاديين طالما أنهم انطلقوا من قيمة “العمل” تزول ما إن ننطلق من قيمة “قوة العمل” لا من قيمة “العمل”. فإن قوة العمل هي في مجتمعنا الرأسمالي الحالي، بضاعة كجميع البضائع الأخرى، و لكنها مع ذلك بضاعة من نوع خاص تماما. فإنها بالفعل تتصف بميزة خاصة تتقوم في كونها قوة تخلق القيمة، في كونها ينبوع قيمة، بل أكثر من ذلك، إذ أنها تخلق عند استخدامها بصورة ملائمة، قيمة تفوق القيمة التي تملكها هي نفسها. و في حالة الإنتاج الراهنة، لا تنتج قوة العمل الإنساني فقط في يوم واحد قيمة أكبر من القيمة التي تملكها و التي تكلفها هي نفسها؛ فلدن كل اكتشاف علمي جديد، لدن كل اختراع تكنيكي جديد، يزداد هذا الفائض من المنتوج اليومي لقوة العمل على كلفتها اليومية، و بالتالي يقل القسم من يوم العمل، الذي يقدم فيه العامل ما يعادل أجره اليومي، في حين يزداد من جهة أخرى القسم من يوم العمل، الذي يضطر فيه إلى تقديم عمله للرأسمالي دون أي مقابل.

هكذا هو النظام الاقتصادي لكل مجتمعنا الحالي: فإن الطبقة العاملة وحدها هي التي تنتج جميع القيم. لأن القيمة ليست سوى شكل آخر للعمل، ليست سوى التعبير الذي تُعيَّن به في مجتمعنا الرأسمالي الحالي كمية العمل الضروري اجتماعيا المتجسد في بضاعة معينة. و لكن هذه القيم التي ينتجها العمال لا تخص العمال. إنما تخص مالكي المواد الأولية، و الآلات، و الأدوات، و السلفيات المالية التي تتيح لهم شراء قوة عمل الطبقة العاملة. و هكذا لا يعود إلى الطبقة العاملة من مجمل المنتجات التي تبدعها سوى قسم فقط. إن القسم الثاني الذي تحتفظ به الطبقة الرأسمالية و الذي يترتب عليها على الأكثر أن تتقاسمه أيضا مع طبقة الملاكين العقاريين، يزداد أكثر فأكثر، كما سبق و رأين، لدن كل اكتشاف و اختراع جديد، في حين أن القسم العائد إلى الطبقة العاملة (محسوبا بالنسبة لكل فرد من أفرادها) إما أنه لا يزداد إلا ببطء شديد و بصورة طفيفة لا يُؤبه له، و إما أنه يجمد على حاله و أما أيضا أنه ينقص في بعض الأحوال.

ولكن هذه الاكتشافات و الاختراعات التي يزيح بعضها بعضا بسرعة متزايدة على الدوام، و هذا المردود من العمل الإنساني الذي ينمو كل يوم بمقاييس لم يُسمع لها مثيل، إنما تستثير في آخر المطاف نزاعا لا بدّ أن يودي بالاقتصاد الرأسمالي الراهن. فمِن جهةٍ، ثروات لا عدّ لها و فائض من المنتجات لا يستطيع المستهلكون شراءه. و من جهة أخرى، السواد الأعظم من أفراد المجتمع الذين تحولوا إلى بروليتاريين، إلى أجراء، و غدوا بالتالي عاجزين عن امتلاك هذا الفائض من المنتجات. وانقسام المجتمع إلى طبقة صغيرة لا حد لغناها و إلى طبقة كبيرة من الأجراء غير المالكين يجعل هذا المجتمع يختنق في وفرته بالذات في حين أن الأغلبية الكبرى من أفراده تكاد تكون غير محميّة، أو حتى هي غير محميّة إطلاقا من غائلة البؤس المدقع. و هذا الوضع، إنما يشتد يوما بعد يوم ما يتصف به من طابع أخرق لا فائدة منه. و لذا فإن إزالته ضرورية و ممكنة. و من الممكن قيام نظام اجتماعي جديد حيث تزول الفوارق الحالية بين الطبقات و حيث –ربما بعد مرحلة انتقال قصيرة، عجفاء لحد م، و لكنها على كل حال مفيدة جدا أخلاقي– بفضل استخدام قوى المجتمع الإنتاجية الهائلة القائمة استخداما منهاجي، و بفضل استمرار تطور هذه القوى، و بفضل العمل الإلزامي و المتساوي بالنسبة للجميع، – توضع أيضا وسائل الحياة و التمتع بالحياة و التطور و الإفادة من كل مواهب الجسد و الفكر تحت تصرف الجميع و بوفرة متنامية على الدوام. و الدليل على أن العمال يوطدون العزم أكثر فأكثر على الظفر بهذا النظام الاجتماعي الجديد عن طريق النضال إنما يقدمه لنا من على جانبي المحيط يوم أول مايو (أيار) غدا و يوم الأحد القادم، 3 مايو (أيار).

لندن، 30 أبريل (نيسان) 1891
فريدريك انجلس

 تمهيد

 

لقد انتقدونا من مختلف الجهات لأننا لم نصف العلاقات الاقتصادية التي تشكل الأساس المادي للنضال الطبقي و الوطني المعاصر. فإننا لم نتناول هذه العلاقات بانتظام إلا حين برزت أمامنا مباشرة في الإصطدامات السياسية.

فقد كان المقصود بالدرجة الأولى تتبع النضال الطبقي في مجرى التاريخ يوما فيوما و البرهان، على ضوء الاختبار، على ضوء المادية التاريخية القائمة و المتجددة يومي، أن هزيمة الطبقة العاملة التي قامت بثورتي فبراير (شباط) و مارس (آذار) قد كانت في الوقت نفسه هزيمة لأخصام الطبقة العاملة – أي للجمهوريين البرجوازيين في فرنسا و الطبقات البرجوازية و الفلاحية المناضلة ضد الحكم المطلق الإقطاعي في عموم القارة الأوروبية؛ و أن انتصار “الجمهورية الشريفة” في فرنسا كان في الوقت نفسه هزيمة الأمم التي ردّت على ثورة فبراير (شباط) بحروب بطولية من أجل الاستقلال؛ و أن أوروب، بسبب من هزيمة العمال الثوريين، عادت و هوت في لجة عبوديتها القديمة المزدوجة، العبودية الأنجلو–روسية. معارك يوليو (حزيران) في باريس، و سقوط فيينا و مهزلة–مأساة برلين في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1848، و ما بذلته بولونيا و إيطاليا و المجر من جهود يائسة، و خنق أرلنده بالجوع، – تلك كانت الأحداث الرئيسية التي انعكس فيها بصورة مركزة النضال الطبقي بين البرجوازية و الطبقة العاملة في أوروبا و أتاحت لنا أن نقدم الدليل على أن كل انتفاضة ثورية، مهما بدا هدفها بعيدا عن النضال الطبقي، ستظل تمنى بالإخفاق إلى أن تنتصر الطبقة العاملة الثورية، و أن كل إصلاح اجتماعي يظل مجرد طوباوية و وهم إلى أن تتقابل الثورة البروليتارية و الردة الإقطاعية بالسلاح في حرب عالمية. و في بحثنا كما في الواقع، كانت بلجيكا و سويسرا رسمين من النوع الكاريكاتوري و المضحك المبكي في لوحة التاريخ الكبرى، الأولى معروضة على أنها الدولة النموذجية للملكية البرجوازية، و الثانية على أنها الدولة النموذجية للجمهورية البرجوازية، و كل منهما تتصور أنها مستقلة سواء عن النضال الطبقي أو عن الثورة الأوروبية.

والآن، و قد رأى قرّاؤنا النضال الطبقي يتطور في عام 1848 و يرتدي أشكالا سياسية هائلة، حان الحين للتعمق في دراسة العلاقات الاقتصادية نفسها التي يقوم عليها وجود البرجوازية و سيادتها الطبقية كما تقوم عليها عبودية العمال.

وسنعرض في ثلاثة فصول كبيرة: 1– العلاقات بين العمل المأجور و الرأسمال، عبودية العامل، سيادة الرأسمالي؛ 2– حتمية سير الطبقات البرجوازية المتوسطة و ما يسمى فئة البورغير، في ظل النظام الحالي، في طريق الزوال؛ 3– استثمار الطبقات البرجوازية في مختلف أمم أوروبا و إخضاعها تجاريا من جانب طاغية السوق العالمية إنجلترا.

وسنحاول أن نقدم بحثا بسيطا و شعبيا قدر الإمكان، و دون أن نفترض لدى القارئ سابق معرفة بأبسط مفاهيم الاقتصاد السياسي. فنحن نريد أن يفهمنا العمال. هذا مع العلم أن الجهل المذهل و فوضى الأفكار حول أبسط العلاقات الاقتصادية يسودان في كل مكان في ألمانيا بين المدافعين الرسميين عن الوضع الراهن و حتى بين صانعي المعجزات الاشتراكيين و العباقرة السياسيين المغموطة أفضالهم، الذين عند ألمانيا المجزّأة منهم أكثر مما عندها من آباء الوطن.

لنعالج إذن المسألة الأولى.

ما هي الأجرة؟ و كيف تتحدد؟

إذا سألت عددا من العمال عن مقدار أجورهم، لأجابك أحدهم: “إني أقبض من رب عملي ماركا واحدا في اليوم”، و أجابك الثاني: “إني أقبض ماركين”، و هكذا دواليك. و تبعا لمختلف فروع العمل التي يعملون فيه، يذكرون مختلف المبالغ المالية التي يتقاضاها كلّ منهم من رب عمله لقاء القيام بعمل معين، مثلا لقاء حياكة متر من القماش أو صف ملزمة في المطبعة. و رغم تنوع أجوبتهم فإنهم متفقون بالإجماع حول نقطة واحدة: أن الأجرة هي مبلغ المال الذي يدفعه الرأسمالي لقاء وقت محدد من العمل أو لقاء القيام بعمل معين.

فالرأسمالي يشتري إذن (كما يبدو) عمل العمال بالمال. و لقاء المال يبيعونه عملهم. و لكن الأمر ليس كذلك إلا ظاهريا. فإن ما يبيعونه في الواقع من الراسمالي لقاء المال، إنما هو قوة عملهم. فالرأسمالي يشتري قوة العمل هذه ليوم واحد، لأسبوع، لشهر، و هلمجرا. و متى اشتراه، استخدمها بتشغيل العامل خلال الوقت المتفق عليه. و بهذا المبلغ المالي نفسه الذي اشترى به الرأسمالي قوة عمل العامل، بماركين، مثل، كان بوسعه أن يشتري كيلوغرامين من السكر أو كمية معينة من بضاعة أخرى. فالماركان اللذان اشترى بهما كيلوغرامين من السكر هما ثمن الكيلوغرامين من السكر. و الماركان اللذان اشترى بهما 12 ساعة من استخدام قوة العمل هما ثمن 12 ساعة عمل. فقوة العمل إذن بضاعة شأنها شأن السكر لا أكثر و لا أقل. الأولى تقاس بالساعة، و الثانية بالميزان.

إن بضاعة العمال، أي قوة عملهم، إنما يبادلونها ببضاعة الرأسمالي، بالمال، و هذا التبادل يتم وفق نسبة معينة. قدر معين من المال مقابل قدر معين من استخدام قوة العمل. مقابل 12 ساعة حياكة ماركان. و هذان الماركان، ألا يمثلان جميع البضائع الأخرى التي أستطيع شراءها بماركين؟ و هكذا بادل العامل إذن بضاعة، هي قوة العمل، ببضائع متنوعة، و ذلك وفقا لنسبة معينة. فحين يعطيه الرأسمالي ماركين، فكأنه يعطيه قدرا معينا من اللحم، من الألبسة، من الحطب، من النور، الخ. مقابل يوم عمله. فهذان الماركان يعبران إذن عن النسبة التي يتم بموجبها تبادل قوة العمل ببضائع أخرى، أي أنهما يعبران عن القيمة التبادلية لقوة العمل. إن القيمة التبادلية لبضاعة معينة، مقدرة بالمال، إنما هي بالضبط ما يسمونه ثمنها. فالأجرة ليست إذن سوى الإسم الخاص الذي يطلق على ثمن قوة العمل المسمى عادة ثمن العمل، ليست إذن سوى الإسم الخاص الذي يطلق على ثمن هذه البضاعة الخاصة التي لا يوجد منها إلا في لحم الإنسان و دمه.

لنأخذ أول عامل نصادفه، حائكا مثلا. فالرأسمالي يقدم له النول و الخيطان. و يشرع الحائك في العمل و تصبح الخيطان قماشا. و يأخذ الرأسمالي القماش و يبيعه بعشرين ماركا مثلا. فهل أن أجرة الحائك، في هذه الحال، حصة من القماش، من العشرين مارك، من منتوج عمله؟ كلا. لقد تقاضى الحائك أجرته قبل أن يباع القماش بزمن طويل بل ربما تقاضاه حتى قبل أن يصنع القماش بزمن طويل. فالرأسمالي لا يدفع إذن هذه الأجرة من المال الذي حصل عليه من القماش، إنما يدفعها من المال المكدس لديه سلفا. و كما أن النول و الخيطان ليست من نتاج الحائك، إنما قدمها له الرأسمالي، فإن البضائع التي يحصل عليها مقابل بضاعته، قوة العمل، ليست من نتاجه. و قد لا يجد الرأسمالي أبدا شاريا لقماشه. و قد لا يحصل من بيع القماش حتى على المبلغ الذي صرفه لدفع الأجرة. و قد يبيع القماش بفائدة كبيرة جدا بالنسبة لأجرة الحائك؛ غير أن كل هذه الاحتمالات لا علاقة لها أبدا بالحائك. فالرأسمالي يشتري بقسم من ثروته الحالية، من رأسماله، قوة عمل الحائك، بنفس الطريقة التي حصل بها بقسم آخر من ثروته على المادة الأولية –الخيطان، و أداة العمل –النول. و بعد إجراء هذه المشتريات، و من ضمنها قوة العمل الضرورية لإنتاج القماش، يشرع في الإنتاج بواسطة مواد أولية و أدوات عمل تخصه وحده دون غيره. و من ضمن هذه الأدوات، بالطبع، أصبح الآن صاحبنا الحائك الذي ليس له، شأنه شأن النول، أي حصة في المنتوج أو في ثمنه.

فالأجرة ليست إذن حصة العامل في البضاعة التي أنتجها. إن الأجرة هي قسم من بضاعة موجودة سلفا يشتري به الرأسمالي كمية معينة من قوة عمل منتجة.

فقوة العمل إذن بضاعة يبيعها مالكه، الأجير، من الرأسمالي. لماذا يبيعها؟ ليعيش.

و لكن ظاهرة قوة العمل، أي العمل، إنما هي النشاط الحيوي للعامل، إنما هي ظاهرة حياته بالذات. و هذا النشاط الحيوي هو ما يبيعه لشخص آخر، لكي يؤمّن لنفسه وسائل العيش الضرورية. و هكذا فإن نشاطه الحيوي ليس، بالنسبة له، سوى وسيلة تمكنه من العيش. فهو يعمل ليعيش. و العمل، بنظره، ليس جزءا من حياته، إنما هو بالأحرى تضحية بحياته. إنه بضاعة باعها لشخص آخر. و لذا فإن نتاج نشاطه ليس كذلك هدف نشاطه. فما ينتجه لنفسه، ليس الحرير الذي ينسج، و ليس الذهب الذي يستخرج من المنجم، و ليس القصر الذي يبني. إن ما ينتجه لنفسه، إنما هو الأجرة، و يتحول الحرير و الذهب والقصر بالنسبة له إلى كمية معينة من وسائل العيش، و ربما إلى قميص من القطن، أو إلى بعض النقود النحاسية، أو إلى منزل في قبو تحت الأرض. و العامل الذي يحيك طوال 12 ساعة، أو يغزل، أو يثقب، أو يخرط، أو يبني، أو يحفر، أو يحطم الحجر، أو ينقل الأثقال، الخ.، أتراه يعتبر هذه الساعات الـ12 من الحياكة أو الغزل أو الثقب أو الخرط أو البناء أو الحفر أو تحطيم الحجر، ظاهرة من ظاهرات حياته، أتراه يعتبرها حياته؟ بالعكس، إن الحياة تبدأ بالنسبة له حيث يكف عن هذا النشاط، عند المائدة، في الحانة، في النوم على السرير. أما ساعات العمل الـ12، فإنها لا تعني إطلاقا بنظره الحياكة و الغزل والثقب، الخ.، إنما تعني كسب ما يمكنه من الأكل، و الذهاب إلى الحانة، و النوم. و لو كانت دودة الحرير تغزل لتأمين عيشها كدودة، لكانت أجيرا كاملا. إن قوة العمل لم تكن دائما بضاعة. و العمل لم يكن دائما مأجور، أي عملا حرا. فالرقيق لا يبيع قوة عمله من مالك الأرقاء، كما أن الثور لا يبيع عمله من الفلاح. فالرقيق يُباع، بما فيه قوة عمله، من مالكه، بيعا تاما. و هو بضاعة يمكن أن تنتقل من يد مالك إلى يد مالك آخر. فهو نفسه بضاعة، و لكن قوة عمله ليست بضاعته هو. و القن لا يبيع إلا قسما من قوة عمله، و ليس هو الذي يتقاضى أجرا من مالك الأرض، إنما هو بالأحرى الذي يدفع جزية لمالك الأرض.

فالقن من لوازم الأرض و ريع لمالك الأرض. أما العامل الحر، فهو بالعكس يبيع نفسه بنفسه، و ذلك بالمفرق. فهو يتنازل عن 8، 10، 12، 15 ساعة من حياته عن طريق المناقصات، يوما بعد آخر، لأسخى العارضين، لماك المواد الأولية و أدوات العمل و وسائل العيش، أي للرأسمالي. فالعامل لا يخص مالكا و ليس من لوازم الأرض، و لكن 8، 10، 12، 15 ساعة من حياته اليومية تخص من يشتريها. و العامل يترك الرأسمالي الذي استأجره، ساعة يطيب له، و الرأسمالي يصرفه ساعة يشاء، حين لا يبتز منه أي ربح أو حين لا يجد منه الربح المأمول. و لكن العامل الذي مورده الوحيد إنما هو بيع قوة عمله لا يستطيع ترك طبقة الشارين بكليتها أي الطبقة الرأسمالية، و إلا مات جوعا. إنه لا يخص هذا الرأسمالي أو ذاك، بل يخص طبقة الرأسماليين برمته، و عليه أن يجد فيها صاحبه، أي أن يجد شاريا في هذه الطبقة الرأسمالية.

و قبل التعمق في بحث العلاقات بين الرأسمال و العمل المأجور، سنتناول الآن بإيجاز الظروف العامة التي تسهم في تحديد الأجرة.

إن الأجرة، كما رأين، إنما هي ثمن بضاعة معينة، قوة العمل. فالأجرة تحددها إذن القوانين ذاتها التي تحدد ثمن أية بضاعة أخرى. و لذ، فالسؤال الذي يوضع هو السؤال التالي: كيف يتحدد سعر البضاعة؟

ما الذي يحدد سعر بضاعة ما؟

إنها المزاحمة بين الشارين و البائعين، النسبة بين العرض و الطلب، بين الطلب و تلبيته. و المزاحمة التي تحدد سعر بضاعة ما ثلاثية.

البضاعة ذاتها يعرضها مختلف الباعة. فالذي يبيع بضائع من الصنف نفسه بأرخص الأسعار واثق من إزاحة سائر الباعة من ميدان المعركة و تأمين أكبر تصريف لبضائعه. و هكذا فإن الباعة يتنازعون بعضهم بعضا تصريف البضائع، السوق. كل منهم يريد أن يبيع، أن يبيع أكثر ما يمكن، أن يبيع وحده إن أمكن، دون سائر الباعة. و لهذ، فإن أحدهم يبيع بأرخص مما يبيع الآخر. فتقوم بالتالي مزاحمة بين الباعة تخفض سعر البضائع التي يعرضون.

و لكنه تقوم أيضا مزاحمة بين الشارين ترفع، من جانبه، أسعار البضائع المعروضة.

و أخير، توجد مزاحمة بين الشارين و الباعة؛ فالشارون يريدون أن يشتروا بأرخص الأسعار، و الباعة يريدون أن يبيعوا بأغلى الأسعار. أما نتيجة هذه المزاحمة بين الشارين و الباعة، فتتوقف على النسبة بين الطرفين المتزاحمين المشار إليهما أعلاه، أي على الواقع التالي: أية مزاحمة ستكون الأقوى – المزاحمة في معسكر الشارين، أم المزاحمة في معسكر الباعة. فالصناعة عبئ جيشين لجبين تواجه أحدهما بالآخر، و كل منهما إنما تحتدم معركة في صفوفه، بين قواته بالذات. فالجيش الذي يكون التضارب في داخل صفوفه أقل، يحرز الغلبة على الجيش المخاصم.

لنفترض أن في السوق 100 بالة من القطن، و أن هناك أيضا في الوقت نفسه شارين يبتغون شراء 1000 بالة من القطن. فالطلب في هذه الحال يوازي عشرة أمثال العرض. و لذا فإن المزاحمة بين الشارين ستكون قوية جد، فكل منهم يريد أن يحصل على بالة، و إن أمكن على المائة بالة. إن هذا المثال ليس بالفرضية الاعتباطية. فلقد عشنا في تاريخ التجارة فترات ساء فيها موسم القطن و سعى فيها بعض الرأسماليين المتحالفين إلى شراء، لا 100 بالة، بل جميع مخزونات القطن في العالم بأسره. و هكذ، فإن كلا من الشارين، في الحالة المعينة، سيسعى إلى إزاحة شار آخر من السوق بعرضه سعرا أعلى نسبيا لبالة القطن. أما باعة القطن الذين يرون قوات الجيش المخاصم تخوض معركة حامية الوطيس بعضها ضد بعض، و الذين تأكدوا إطلاقا من بيع بالاتهم المائة بكليته، فإنهم سيمتنعون عن التضارب و التماسك بالشعر لكي لا ينخفض سعر القطن في فترة يتنافس فيها أخصامهم على رفعه. و إذا السلام يستتب فجأة في معسكر الباعة. إنهم كرجل واحد إزاء الشارين، و يتكتفون كالفلاسفة، و تكاد مطالبهم لا تعرف حدا لو أن عروض أولئك الذين أشد ما يلحون على الشراء لم تكن لها حدود معينة، بيّنة.

وهكذ، إذا كان عرض بضاعة ما أضعف من الطلب عليه، فليس ثمة إطلاقا أو تقريبا أية مزاحمة بين الباعة. و بقدر ما تخف هذه المزاحمة، تنمو المزاحمة بين الشارين. النتيجة: ارتفاع كبير إلى هذا الحد أو ذاك في أسعار البضاعة.

و معلوم أن الحالة المعاكسة مع نتيجتها المعاكسة أكثر حدوثا: فائض كبير من العرض على الطلب؛ مزاحمة عنيفة بين الباعة؛ قلة في الشارين؛ بيع البضائع بأسعار بخسة.

و لكن ما معنى ارتفاع الأسعار و هبوط الأسعار، ما معنى السعر العالي و السعر الزهيد؟ إن حبة الرمل كبيرة إذا رأيتها عبر مجهر، و البرج صغير بالقياس إلى الجبل. و إذا كان السعر إنما تحدده النسبة بين العرض و الطلب، فما الذي يحدد النسبة بين العرض و الطلب؟

لنسأل أي برجوازي نشاهده، فإنه لن يتردد لحظة، و سيقطع بضربة واحدة كأنه الإسكندر ذو القرنين هذه العقدة الميتافيزيقية المعقدة بواسطة جدول الضرب و سيقول لنا: إذا كلفني إنتاج البضاعة التي أبيعها 100 مارك، و إذا بعت هذه البضاعة بـ 110 ماركات –بعد سنة طبع،– حصلت على ربح متواضع، شريف، ملائم. و إذا بعتها بـ 120، 130 مارك، حصلت على ربح عال؛ و أخير، إذا بعتها بـ 200 مارك، حصلت على ربح استثنائي، هائل. فأي عامل يستخدمه البرجوازي إذن لقياس ربحه؟ نفقات إنتاج بضاعته. فإذا حصل مقابل هذه البضاعة على قدر من البضائع الأخرى كلّف إنتاجها أقل، فقد مني بخسارة. و إذا حصل مقابل بضاعته على قدر من البضائع الأخرى كلّف إنتاجها أكثر، فقد حقق ربحا. و هذا الهبوط أو الارتفاع في الربح، إنما يقيسه بعدد الدرجات التي تهبط بها القيمة التبادلية لبضاعته تحت الصفر أو ترتفع فوق الصفر، باعتبار الصفر نفقات الإنتاج.

لقد رأينا كيف أن تغير النسبة بين العرض و الطلب يتسبب تارة بارتفاع الأسعار و طورا بهبوطه، و يؤدي تارة إلى أسعار مرتفعة و طورا إلى أسعار متدنية. فإذا ارتفع سعر بضاعة ارتفاعا كبيرا بسبب من عرض غير كاف أو بسبب من طلب يتزايد بلا حد، فلا بد أن سعر بضاعة أخرى قد هبط، بنسبة معينة، لأن سعر بضاعة ما لا يفعل غير أن يعبّر بالنقد عن النسبة التي تتم بموجبها مبادلة هذه البضاعة ببضائع أخرى. فإذا ارتفع سعر متر من الحرير من 5 ماركات إلى 6 ماركات، فإن سعر الفضة قد هبط بالنسبة للحرير، كما أن سعر جميع البضائع الأخرى التي ظلت بسعرها السابق، قد هبط أيضا بالنسبة للحرير. فللحصول على الكمية نفسها من الحرير، ينبغي الآن إعطاء كمية أكبر من البضائع مقابلها. فإلامَ يؤدّي ارتفاع سعر بضاعة من البضائع؟ إن الرساميل ستتدفق بالجملة على الفرع الصناعي المزدهر، و هذه الهجرة من الرساميل إلى الفرع الصناعي الناجح تدوم ما دام الربح في هذا الفرع لا يهبط إلى المستوى العادي أو بالأحرى حتى الفترة التي تهبط فيها أسعار منتجاته، بسبب من فيض الإنتاج، إلى ما دون نفقات الإنتاج.

و بالعكس. إذا هبط سعر بضاعة من البضائع إلى ما دون نفقات الإنتاج، انسحبت الرساميل من إنتاج هذه البضاعة. و باستثناء الحالة التي لا يستجيب فيها فرع صناعي معين لمتطلبات الزمن و لا يبقى له إلا أن يزول، فإن إنتاج هذه البضاعة، أي عرضه، سيأخذ في الهبوط من جراء هرب الرساميل هذا إلى أن يتناسب مع الطلب، فيرتفع بالتالي سعرها من جديد حتى يبلغ مستوى نفقات إنتاجها أو بالأحرى حتى يقل العرض عن الطلب، أي يرتفع سعرها من جديد على نفقات إنتاجه، لأن السعر الجاري لبضاعة ما إنما هو دائما أدنى أو أعلى من نفقات إنتاجها.

إننا نرى أن الرساميل في هجرة دائبة و استيطان دائم، متنقلة من فرع إنتاجي إلى فرع آخر، و أن ارتفاع الأسعار يؤدي إلى استيطان شديد جد، و هبوط الأسعار إلى هجرة شديدة جدا.

و بوسعنا أن نبين من وجهة نظر أخرى أن نفقات الإنتاج لا تحدد العرض و حسب، بل الطلب أيضا. و لكن هذا الأمر يبعدنا كثيرا عن موضوعنا.

لقد رأينا للتو أن تقلبات العرض و الطلب تعيد دائما من جديد سعر بضاعة ما إلى مستوى نفقات إنتاجها. إن السعر الفعلي لبضاعة ما هو حقا دائما أدنى أو أعلى من نفقات إنتاجه، و لكن الارتفاع و الهبوط يتكاملان، حتى أننا إذا جمعنا حصيلة المد و الجزر في الصناعة، في حدود فترة معينة من الزمن، تبين لنا أن البضائع إنما تتم مبادلتها بعضها ببعض وفقا لنفقات إنتاجه، أي أن نفقات إنتاجها هي التي تحدد سعرها.

إن هذا التحديد للسعر بنفقات الإنتاج، لا يجب فهمه كما يفهمه الاقتصاديون. فالاقتصاديون يقولون أن السعر الوسطي للبضائع يوازي نفقات الإنتاج؛ و أن ذلك في رأيهم هو القانون. و هم يعتبرون أنها من قبيل الصدفة هذه الحركة الفوضوية التي يعوض بواسطتها ارتفاع السعر عن هبوطه، و هبوط السعر عن ارتفاعه. و على هذا الأساس، يكون بوسع المرء أن يعتبر بنفس القدر من الصواب أن تقلبات الأسعار هي القانون، و أن تحديد الأسعار بنفقات الإنتاج هو من باب الصدفة. و هذا ما يقول به بعض الاقتصاديين. و لكن الحقيقة هي أن هذه التقلبات التي تفضي، كما يتضح عند النظر فيها عن كثب، إلى أشد التدميرات إرهاب، و تزعزع المجتمع البرجوازي حتى أسسه، أشبه بالزلازل الأرضية، هي وحدها التي، بقدر ما تحدث، تحدد الأسعار بنفقات الإنتاج. إن مجمل حركة هذه الفوضى هو نظامها بالذات. و في غمار هذه الفوضى الصناعية، و في غمار هذه الحركة الدائرة على نفسه، تعوض المزاحمة، إذا جاز القول، عن تطرف بتطرف آخر.

و هكذا نرى أن سعر بضاعة ما يتحدد بنفقات إنتاجها بصورة نجد معها أن الفترات التي يرتفع فيها سعر هذه البضاعة فوق نفقات إنتاجها تعوّضها الفترات التي يهبط فيها دون نفقات الإنتاج، و العكس بالعكس. و طبيعي أن هذا القول لا يصح على كل من المنتجات بمفرده، إنما يصح فقط على عموم الفرع الصناعي. و بالتالي فإن هذا القول لا يصح أيضا على صناعي بمفرده، بل يصح فقط على عموم طبقة الصناعيين.

إن تحديد السعر بنفقات الإنتاج مماثل لتحديد السعر بوقت العمل الضروري لإنتاج بضاعة م، لأن نفقات الإنتاج تتألف، أول، من المواد الأولية و استهلاك الأدوات، أي من منتجات صناعية كلف إنتاجها قدرا معينا من أيام العمل، و تمثل بالتالي قدرا معينا من وقت العمل، و ثاني، من العمل المباشر الذي يقاس أيضا بالوقت.

بما تتحدد الأجرة؟

و هذه القوانين العامة عينها التي تتحكم عامة بسعر البضائع، تتحكم أيضا طبعا بالأجرة، بسعر العمل.

إن أجرة العمل سترتفع تارة، و تنخفض طور، تبعا للنسبة بين العرض و الطلب، تبعا لحالة المزاحمة بين شاري قوة العمل، الرأسماليين، و باعة قوة العمل، العمال. و تقلبات أسعار البضائع بعامة إنما تُطابقها تقلبات الأجور. و لكن في حدود هذه التقلبات، يتحدد سعر العمل بنفقات الإنتاج، بوقت العمل الضروري لإنتاج هذه البضاعة التي هي قوة العمل.

و لكن ما هي نفقات إنتاج العمل؟

إنها النفقات الضرورية لإبقاء العامل بوصفه عاملا و لجعله عاملا.

و لهذ، كلما قلّ ما يتطلبه عمل معين من الوقت لأجل التدريب المهني، قلّت نفقات إنتاج العامل، و هبط سعر عمله، وهبطت أجرته. ففي الفروع الصناعية التي تكاد لا تتطلب أي تدريب مهني، و التي يكفي فيها مجرد وجود العامل مادي، تكاد نفقات الإنتاج الضرورية له تقتصر بوجه الحصر على البضائع الضرورية لإعاشته لحفظ قدرته على العمل. و لهذا يتحدد سعر عمله في هذه الحال بسعر الوسائل الضرورية للعيش.

بيد أن اعتبارا آخر ينضم إلى هذا الاعتبار.

فإن الصناعي الذي يحسب نفقات إنتاجه و على أساسها سعر المنتجات، يُدخل في حساباته استهلاك أدوات العمل. فإذا كلفته آلة ما 1000 مارك، مثل، و إذا كان سيستهلكها في عشر سنوات، فإنه يضيف كل سنة 100 مارك على سعر البضاعة لكي يتمكن من الاستعاضة بعد عشر سنوات عن الآلة البالية بآلة جديدة. و على النحو نفسه، ينبغي أن تشمل نفقات إنتاج قوة العمل البسيطة على نفقات التناسل الذي يتمكن جنس العمال بواسطته من التكاثر و من إحلال العمال الجدد محل العمال المستهلَكين. و هكذا يُؤخذ استهلاك العمال في الحساب شأنه شأن استهلاك الآلة.

إن نفقات إنتاج قوة العمل البسيطة تتألف إذن من نفقات معيشة و تناسل العمال. و سعر نفقات المعيشة و التناسل هذه تُشكل الأجرة. و الأجرة المحدَّدة على هذا النحو تسمى الحد الأدنى للأجرة. و هذا الحد الأدنى للأجرة، شأنه شأن تحديد سعر البضائع بنفقات الإنتاج على وجه العموم، إنما يصح على الجنس، لا على الفرد بمفرده. فهناك عمال، ملايين العمال لا يحصلون على ما يكفي للمعيشة و التناسل؛ و لكن أجر الطبقة العاملة بأسرها تساوي هذا الحد الأدنى، ضمن حدود تقلباتها.

و الآن، و قد أوضحنا أعم القوانين التي تحدد الأجرة و كذلك سعر أية بضاعة أخرى، نستطيع أن نتعمق أكثر في موضوعنا.

طبيعة و نمو الرأسمال

يتألف الرأسمال من مواد أولية و أدوات عمل و وسائل معيشة مختلفة، تُستخدم لإنتاج مواد أولية جديدة و أدوات عمل جديدة و وسائل معيشة جديدة. و كل هذه الأجزاء التي تؤلف الرأسمال إنما هي من مستنبطات العمل، من منتَجات العمل، من العمل المكدَّس. فالعمل المكدَّس الذي يُتخذ وسيلة لإنتاج جديد، هو رأسمال.

هكذا يقول الاقتصاديون.

من هو الرقيق الزنجي؟ إنسان من العرق الأسود. إن قيمة هذا التفسير تعادل حقا قيمة التفسير السابق.

الزنجي هو زنجي. و لا يصبح رقيقا إلا في ظروف معينة. و آلة غزل القطن هي آلة لغزل القطن. و لا تصبح رأسمالا إلا في ظروف معينة. و بدون هذه الظروف، لا تكون رأسمال، شأنها شأن الذهب الذي ليس بحد ذاته عملة، أو السكر الذي ليس هو بسعر السكر.

في الإنتاج، لا يؤثر الناس في الطبيعة فقط، بل يؤثر بعضهم في البعض الآخر أيض، فهم لا ينتِجون إلا بالتعاون فيما بينهم على شكل معين، من أجل النشاط المشترك و تبادل النشاط فيما بينهم. و من أجل أن ينتجو، يَدخل بعضهم مع بعض في صلات و علاقات معينة، و لا يتم تأثيرهم في الطبيعة، أي لا يتم الإنتاج، إلا في حدود هذه الصلات و العلاقات الاجتماعية.

و تبعا لطابع وسائل لإنتاج، تختلف بالطبع هذه العلاقات الاجتماعية التي تقوم بين المنتِجين، و الأحوال التي فيها يتبادلون النشاط و يشتركون في مجمل الإنتاج. فإن اكتشاف آلة حربية جديدة هي السلاح الناري، قد أدى بالضرورة إلى تعديل كل التنظيم الداخلي للجيش؛ و تغيرت العلاقات التي يؤلف معها الأفراد جيشا و يستطيعون فيها العمل بوصفهم جيش، كما تغيرت أيضا علاقات مختلف الجيوش فيما بينها.

بالتالي، إن العلاقات الاجتماعية التي يُنتج الأفراد بموجبه، أي علاقات الإنتاج الاجتماعية، تتغير و تتحول مع تغير وسائل الإنتاج المادية و تطوره، مع تغير القوى المنتِجة و تطورها. و علاقات الإنتاج تشكل بمجموعها ما يسمى العلاقات الاجتماعية، المجتمع، تشكل مجتمعا في مرحلة معينة من التطور التاريخي، مجتمعا مميز، معينا. فإن المجتمع القديم، والمجتمع الإقطاعي، و المجتمع البرجوازي هي مجموعات من علاقات الإنتاج، كل مجموعة منها تُميِّـز في الوقت نفسه مرحلة خاصة من مراحل تطور الإنسانية التاريخي.

و الرأسمال يمثل أيضا علاقات إنتاج اجتماعية، هي عبارة عن علاقات إنتاج برجوازية أي علاقات إنتاج المجتمع البرجوازي. فإن وسائل المعيشة و أدوات العمل و المواد الأولية التي يتألف منها الرأسمال، ألم تُنتَج و تُكدَّس في أحوال اجتماعية معينة، و وفقا لعلاقات اجتماعية معينة؟ ألا تُستخدم لإنتاج جديد في أحوال اجتماعية معينة، و في إطار علاقات اجتماعية معينة؟ أوَ ليس هذا الطابع الاجتماعي المعين هو الذي يحوّل المنتجات التي تُستخدم للإنتاج الجديد إلى رأسمال؟

إن الرأسمال لا يتألف فقط من وسائل المعيشة و أدوات العمل و المواد الأولية، لا يتألف فقط من المنتجات المادية؛ إنما يتألف أيضا من القيم التبادلية. فجميع المنتجات التي يتألف منها هي بضائع. فليس الرأسمال إذن مجرد مجموعة من المنتجات المادية، إنما هو أيضا مجموعة من البضائع، من القيم التبادلية، من المقادير الاجتماعية.

إن الرأسمال يبقى هو نفسه، سواء استبدلنا القطن بالصوف، و الرز بالقمح، و السفن البخارية بالسكك الحديدية، شرط أن يكون القطن، للرز، للسفن البخارية –جسد الرأسمال– القيمة التبادلية نفسه، السعر نفسه الذي للصوف و القمح و السكك الحديدية التي كان مجسدا فيها سابقا. إن جسد الرأسمال قد يتغير على الدوام دون أن يطرأ على الرأسمال أي تغير.

و لكن إذا كان كل رأسمال عبارة عن مجموعة من البضائع أي من القيم التبادلية، فإن كل مجموعة من البضائع، من القيم التبادلية، ليست رأسمالا.

إن كل مجموعة من القيم التبادلية هي قيمة تبادلية. و كل قيمة تبادلية هي مجموعة من القيم التبادلية. مثل، إن بيتا يساوي 1000 مارك هو قيمة تبادلية قدرها 1000 مارك. و صفحة من ورق تساوي بفينيغا هي مجموعة من القيم التبادلية قدرها 100/100 من البفينيغ. إن المنتجات التي يمكن مبادلتها بمنتجات أخرى هي بضائع، و النسبة المعينة التي تجري بموجبها مبادلة هذه المنتجات تشكل قيمتها التبادلية، أو، بالتعبير النقدي، سعرها. و إن حجم هذه المنتجات لا يمكن أن يغير شيئا في كونها بضاعة أو كونها قيمة تبادلية أو كونها ذات سعر محدد. و سواء أكانت الشجرة كبيرة أم صغيرة، فإنها تبقى شجرة. و سواء بادلنا الحديد أرطالا و أطنانا بمنتجات أخرى، فهل يغير هذا طابعه، في كونه بضاعة، قيمة تبادلية؟ إن الحديد، بوصفه بضاعة، تتفاوت قيمته و يتباين سعره تبعا لكميته.

و لكن كيف تصبح كمية معينة من البضائع، من القيم التبادلية، رأسمالا؟

إنها تصبح رأسمالا بسبب أنه، بوصفها قوة اجتماعية مستقلة، أي بوصفها قوة تابعة لقسم من المجتمع، تبقى و تنمو عن طريق مبادلتها بقوة العمل المباشرة، الحية. إن وجود طبقة لا تملك غير قدرتها على العمل هو شرط ضروري للرأسمال.

إن سيطرة العمل المكدَّس، الماضي، المتجسَّد، على العمل المباشر، الحي، هي وحدها التي تحوّل العمل المكدَّس إلى رأسمال.

إن جوهر الرأسمال، ليس في كون العمل المكدَّس وسيلة للعمل الحي من أجل تحقيق إنتاج جديد، بل في كون العمل الحي وسيلة لحفظ قيمة العمل المكدَّس التبادلية و لزيادتها.

ما الذي يجري عند التبادل بين الرأسمالي و الأجير؟

يتلقى العامل وسائل معيشة مقابل قوة عمله، و لكن الرأسمالي يحصل مقابل ما قدمه من وسائل المعيشة، على العمل، على نشاط العامل المنتج، على القوة الخلاّقة التي بواسطتها لا يرد العامل ما استهلكه و حسب، بل يعطي أيضا العمل المكدَّس قيمة أكبر من قيمته السابقة. إن العامل يتلقى من الرأسمالي قسما من وسائل المعيشة الموجودة. لأي غرض تفيده وسائل المعيشة هذه؟ لاستهلاكه المباشر. و لكني ما إن استهلك وسائل المعيشة، حتى تضيع إلى الأبد بالنسبة إليّ، إلا إذا استخدمت الوقت الذي تؤمن فيه هذه الوسائل وجودي، لكي أنتج وسائل جديدة للمعيشة، لكي أخلق بعملي، خلال هذا الوقت، قيما جديدة عوضا عن القيم التي أزلتها باستهلاكها. و لكن أليست بالضبط هذه القوة الخلاقة النبيلة هي التي يتنازل عنها العامل للرأسمال مقابل وسائل المعيشة التي يتلقاها! فهي، بالتالي، تصبح مفقودة بالنسبة له.

لنأخذ مثلا. مزارع يعطي عامله المياوم 50 بفينيغا في اليوم. و مقابل هذه البفينيغات الخمسين، يشتغل هذا العامل كل النهار في حقول المزارع و يؤمن له على هذا النحو دخلا قدره مائة بفينيغ. و هكذا لا يسترد المزارع فقط القيم التي يترتب عليه التنازل عنها للعامل المياوم، بل يضاعفها أيضا. فقد استخدم إذن، استهلك، بصورة مثمرة، منتجة، الفينيغات الخمسين التي أعطاها العامل المياوم؛ فقد اشترى بهذه البفينيغات الخمسين عمل و قوة العامل المياوم اللذين يستنبتان منتجات زراعية ذات قيمة مضاعفة، و يحولان البفينيغات الخمسين إلى مائة بفينيغ. أما العامل المياوم، فإنه يتلقى مقابل قوته المنتجة التي تنازل عن مفاعيلها للمزارع، 50 بفينيغا يبادلها بوسائل معيشة يستهلكها على أشكال مختلفة من السرعة أو البطء. و هكذ، استُهلكت البفينيغات الخمسون بصورة مزدوجة: بصورة منتجة بالنسبة للرأسمال، إذ بودلت بقوة عمل درّت مائة بفينيغ، و بصورة غير منتجة بالنسبة للعامل، إذ بودلت بوسائل معيشة زالت إلى الأبد و لا يمكنه أن يعيد قيمتها من جديد إلا إذا كرر التبادل نفسه مع المزارع. فالرأسمال يفترض أذن العمل المأجور، و العمل المأجور، يفترض الرأسمال، فكل منهما شرط الآخر، كل منهما يخلق الآخر.

العامل في معمل للمنسوجات القطنية، أتراه لا ينتج إلا المنسوجات القطنية؟ كل، إنه ينتج رأسمالا أيضا. إنه ينتج قيما تُستغل بدورها للسيطرة على عمله لكي يخلق بعمله هذا قيما جديدة.

إن الرأسمال لا يمكن له أن يتكاثر إلا إذا بودل بقوة العمل، إلا إذا خلق العمل المأجور. إن قوة عمل العامل المأجور لا يمكن مبادلتها بالرأسمال، إلا إذا كانت تزيد الرأسمال، و تعزز بالضبط تلك السيطرة التي تستعبدها. و هكذا فإن تكاثر الرأسمال هو بالتالي تكاثر البروليتاري، أي الطبقة العاملة.

ولذا، فإن مصلحة الرأسمالي و العامل واحدة – هكذا يزعم البرجوازيون واقتصاديوهم. فعلا! إن العامل يهلك إذا لم يُشغّله الرأسمال. و الرأسمال يزول إذا لم يستثمر قوة العمل، و لكي يستثمره، لا بد له أن يشتريها. وبقدر ما يسرع ويتكاثر الرأسمال المعد للإنتاج، الرأسمال المنتج، وبقدر ما تزدهر الصناعة بالتالي، وتغتني البرجوازية، وتتحسن الأحوال، بقدر ما يحتاج الرأسمالي إلى مزيد من العمال،  يبيع العامل نفسه بمزيد من الأجرة.

فالشرط الضروري الذي لا غنى عنه لكي يكون العامل في وضع مقبول، إنما هو إذن نمو الرأسمال المنتج نموا سريعا قدر الإمكان.

و لكن ما يعني نمو الرأسمال المنتج؟ إنه يعني نمو سيطرة العمل المكدَّس على العمل الحي، إنه يعني نمو سيطرة البرجوازية على الطبقة العاملة. فحين ينتج العمل المأجور ثروة الآخرين التي تسيطر عليه، القوة التي تعاديه، الرأسمال، فإن وسائل تشغيله (Beschäftigungsmittel)، أي وسائل معيشته، تعود من الرأسمال إليه، شرط أن يصبح، من جديد، قسما من الرأسمال، المحرك الذي يقذف بالرأسمال من جديد إلى حركة نمو متسارع.

إن الإدعاء بأن مصالح الرأسمال و مصالح العمال واحدة لا يعني في الحقيقة إلا أن الرأسمال و العمل المأجور هما طرفا علاقة واحدة يشترط فيها أحدهما الآخر كما يشترط المرابي و المبدد أحدهما الآخر.

فما دام العامل المأجور عاملا مأجور، ظل مصيره رهنا بالرأسمال. تلك هي وحدة مصالح العامل و الرأسمالي المزعومة.

فحين ينمو الرأسمال، يتضخم حجم العمل المأجور، و يزداد عدد العمال المأجورين، أي بكلمة، تمتد سيطرة الرأسمال و تشمل عددا أكبر من الأفراد. و لنفترض أحسن الأحوال: حين ينمو الرأسمال المنتج، يزداد الطلب على العمل، و بالتالي يتصاعد سعر العمل، الأجرة.

مهما يكن البيت، أي بيت، صغير، فهو يلبي كل ما يُتطلب اجتماعيا من البيت، ما دامت البيوت المجاورة صغيرة أيضا. و لكن ما إن يرتفع قصر منيف إلى جانب البيت الصغير، حتى ينحط البيت الصغير إلى مرتبة كوخ حقير. و إذ ذاك يغدو البيت الصغير الدليل على أن صاحبه لا يمكن له أن يكون متطلب، أو أنه لا يمكن أن يكون له غير متطلبات متواضعة جدا. و يمكن للبيت الصغير أن يكبر قدر ما يشاء في مجرى تطور الحضارة، و لكن، إذا كبر القصر المجاور بالسرعة نفسها أو بمقاييس أكبر، فإن ساكن البيت الصغير نسبيا سيشعر بتزايد عسره، بتعاظم استيائه، بالضيق بين جدران بيته الأربعة.

إن زيادة الأجرة زيادة محسوسة لحد ما تفترض نموا سريعا في الرأسمال المنتج. و النمو السريع في الرأسمال المنتج يفضي إلى نمو الثروة، و الترف، و الحاجات و المسرات الاجتماعية بالسرعة نفسها. و هكذ، إن تكن المسرات في متناول العامل قد ازدادت، إلا أن الارتياح الاجتماعي الذي تبعثه في نفسه قد خف، بالقياس إلى تزايد مسرات الرأسمالي التي ليست في متناول العامل، و بالقياس إلى مستوى تطور المجتمع بوجه عام. فإن حاجاتنا و مسراتنا إنما تنبع من المجتمع، و نحن لا نقيسها بالأغراض التي تلبيها بل نقيسها بمقاييس اجتماعية. حاجاتنا و مسراتنا تتسم بطابع اجتماعي و لذا فإنها نسبية.

و الأجرة لا تحددها فقط على وجه العموم كمية البضائع التي أستطيع الحصول عليها بالمقابل. إنما تنطوي على شتى العلاقات.

أول، إن ما يتلقاه العامل مقابل قوة عمله، إنما هو مبلغ معين من النقد. تُرى، هل أن الأجرة لا يحددها إلا هذا السعر نقدا؟

في القرن السادس عشر، ازداد المتداوَل من الذهب و الفضة في أوروبا إثر اكتشاف مناجم في أمريكا أغنى و أسهل للاستثمار. و من جراء ذلك، هبطت قيمة الذهب و الفضة بالقياس إلى سائر البضائع. و استمر العمال يتقاضون القدر نفسه من الفضة النقدية مقابل قوة عملهم. لقد ظل سعر عملهم نقدا كما كان عليه، و لكن أجرتهم هبطت رغم ذلك إذ أمسوا يتلقون مقدارا أقل من البضائع الأخرى مقابل الكمية نفسها من الفضة. و كان هذا من العوامل التي يسرت تنامي الرأسمال و نهوض البرجوازية في القرن السادس عشر.

لنأخذ حالة أخرى. في شتاء 1847، ازدادت أسعار أهم وسائل المعيشة، الخبز و اللحم و الزبدة و الجبنة و غيره، زيادة كبيرة، بسبب من سوء الموسم. لنفترض أن العمال ظلوا يتقاضون المبلغ نفسه من النقد مقابل قوة عملهم. ألم تنخفض أجرتهم في هذه الحال؟ أجل. فمقابل المبلغ نفسه من النقد، أمسوا يتلقون قدرا أقل من الخبز و اللحم، الخ.. و قد هبطت أجرتهم، لا لأن قيمة الفضة قد هبطت، بل لأن قيمة وسائل المعيشة قد ازدادت.

لنفترض أخيرا أن سعر العمل نقدا ظل على حاله دون تغير، بينما هبطت أسعار جميع المنتجات الزراعية و السلع الصناعية بسبب من استخدام آلات جديدة، و موسم وافر، الخ.. فمقابل المبلغ نفسه من النقد، أصبح بإمكان العمال أن يشتروا قدرا أكبر من شتى البضائع. و هكذا ازدادت أجرتهم، لأن قيمتها نقدا لم تتغير.

و عليه فإن سعر العمل نقد، أي الأجرة الاسمية، لا ينطبق على الأجرة الفعلية، أي على مقدار البضائع الذي يُعطَى فعلا مقابل الأجرة. فحين نتحدث عن ارتفاع الأجرة أو هبوطه، يجب علينا بالتالي ألا نأخذ بعين الاعتبار مجرد سعر العمل نقد، مجرد الأجرة الاسمية فقط.

و لكن لا الأجرة الاسمية، أي مبلغ النقد الذي يبيع العامل نفسه مقابله من الرأسمالي، و لا الأجرة الفعلية، أي مقدار البضائع الذي يستطيع شراءه بهذا المبلغ النقدي، يستنفذان العلاقات التي تنطوي عليها الأجرة.

فالأجرة إنما تحددها أيضا بالدرجة الأولى نسبتها مع كسب الرأسمالي، مع ربح الرأسمالي، و بهذا المعنى تسمّى الأجرة المقارنة، النسبية.

إن الأجرة الفعلية تعبر عن سعر العمل بالنسبة لسعر سائر البضائع، بينما الأجرة النسبية تعبّر عن حصة العمل المباشر في القيمة الجديدة التي خلقها بالنسبة للحصة التي تعود منها إلى العمل المكدَّس أي الرأسمال.

القوانين العامة التي تحدد ارتفاع و هبوط الأجرة و الربح

قلنا أعلاه في الصفحة 14: “فالأجرة ليست إذن حصة العامل في البضاعة التي أنتجها. إن الأجرة هي قسم من بضاعة موجودة سلفا يشتري به الرأسمالي كمية معينة من قوة عمل منتجة”. و لكن هذه الأجرة إنما ينبغي أن يستردها الرأسمالي من جديد من الثمن الذي يبيع به المنتوج الذي صنعه العامل، ينبغي أن يستردها بصورة يبقى له معها أيضا بوجه عام فائض عن نفقات الإنتاج التي قدمه، ربح. إن سعر مبيع البضاعة التي ينتجها العامل ينقسم بالنسبة للرأسمالي إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول، بدل ثمن المواد الأولية التي قدمها و كذلك بدل استهلاك الآلات و لأدوات و سائر وسائل العمل التي قدمها؛ القسم الثاني، بدل الأجرة التي قدمها؛ القسم الثالث، الفائض، ربح الرأسمالي. فبينما القسم الأول ليس إلا بدلا لقيم كانت موجودة في السابق، فمن الواضح أن بدل الأجرة و كذلك الفائض – ربح الرأسمالي يؤخذان بكليتهما من القيمة الجديدة التي أوجدها عمل العامل و أضيفت إلى قيمة المواد الأولية. و بهذا المعنى نستطيع أن نعتبر الأجرة و الربح على السواء، حين نقارنهما مع، حصتين من منتوج العامل.

وحتى إذا ظلت الأجرة الفعلية كما هي عليه، بل حتى إذا ازدادت، فإن الأجرة النسبية قد تهبط. لنفترض مثلا أن جميع وسائل المعيشة قد هبطت أسعارها مقدار الثلثين، بينما لم تهبط الأجرة اليومية إلا مقدار الثلث، أي أنها هبطت مثلا من 3 ماركات إلى ماركين. فمع أن العامل يستطيع الآن أن يشتري بالماركين كمية من البضائع أكبر مما كان يشتريه بالماركات الثلاثة، فإن أجرته قد هبطت مع ذلك بالنسبة لربح الرأسمالي. فإن ربح الرأسمالي (الصناعي مثلا) قد ازداد مقدار مارك واحد، أي أنه ينبغي على العامل أن ينتج كمية أكبر مما مضى من القيم التبادلية، لقاء كمية أقل من القيم التبادلية التي يدفعها له الرأسمالي. وهكذا ازدادت حصة الرأسمال بالنسبة لحصة العمل و اشتد التفاوت أيضا و أيضا في توزيع الثروة الاجتماعية بين الرأسمال و العمل. إن الرأسمالي يسيطر بالقدر نفسه من الرأسمال على قدر أكبر من العمل. و قد تعاظمت سيطرة الطبقة الرأسمالية على الطبقة العاملة، و تردّى وضع العامل الاجتماعي و هبط درجة أخرى بالنسبة لوضع الرأسمالي.

فما هو إذن القانون العام الذي يحدد هبوط و ارتفاع الأجرة و الربح في علاقتهما المتبادلة؟

إن علاقتهما متناسبة عكسا. فإن حصة الرأسمال، الربح، ترتفع بقدر ما تهبط حصة العمل، الأجرة اليومية، و العكس بالعكس. إن الربح يرتفع بقدر ما تهبط الأجرة، و يهبط بقدر ما ترتفع الأجرة.

قد يعترض معترض و يقول أن الرأسمالي يستطيع الحصول على ربح من مبادلة منتجاته مبادلة رابحة مع رأسماليين آخرين، أو من تزايد الطلب على بضاعته من جراء افتتاح أسواق جديدة، أو أيضا من ازدياد الحاجات مؤقتا في الأسواق القديمة، الخ.؛ و أن ربح الرأسمالي يمكن له إذن أن يزداد على حساب رأسماليين آخرين، بصرف النظر عن ارتفاع الأجرة أو هبوطه، بصرف النظر عن القيمة التبادلية لقوة العمل؛ أو أن ربح الرأسمالي يمكن له أيضا أن يزداد من جراء تحسين أدوات العمل و تطبيق أساليب جديدة في استخدام قوى الطبيعة، الخ..

ينبغي الإقرار بادئ الأمر أن النتيجة تظل واحدة كما هي رغم التوصل إليها بالطريق المعاكس. و الحقيقة أن الربح قد ازداد لا لأن الأجرة قد هبطت، و لكن الأجرة هبطت لأن الربح قد ازداد. فإن الرأسمالي قد اشترى بالقدر نفسه من عمل الغير قدرا أكبر من القيم التبادلية دون أن يدفع ثمنا أرفع للعمل؛ أي، بالتالي، إن ثمن العمل هبط بالنسبة للربح الصافي الذي يدرّه للرأسمالي.

و فضلا عن ذلك، لنذكر بأن متوسط سعر كل بضاعة أو النسبة التي تبادل بموجبها مقابل بضائع أخرى، إنما تحدده نفقات إنتاج هذه البضاعة، رغم تقلبات أسعار البضائع. و لذا تتعادل بالضرورة الخداعات المتبادلة في داخل الطبقة الرأسمالية. و تحسين الآلات و تطبيق أساليب جديدة في استخدام قوى الطبيعة في الإنتاج، يتيحان، في وقت معين من العمل، و بالقدر نفسه من العمل و الرأسمال، خلق قدر أكبر من المنتجات، و لكنهما لا يخلقان إطلاقا قدرا أكبر من القيم التبادلية. فإذا كنتُ أستطيع، بفضل استخدام المغزل الآلي، أن أسلّم في مدى ساعة قدرا من الخيطان يزيد 100 بالمئة عما قبل اختراع المغزل الآلي، مثلا 100 رطل بدلا من 50، فإني لا أتلقّى، بصورة وسطية و خلال فترة طويلة نسبي، مقابل الـ100 رطل قدرا من البضائع يزيد عما كنت أتلقّاه مقابل 50 رطل، لأن نفقات الإنتاج قد هبطت 50 بالمائة أو لأني أستطيع أن أسلم بالنفقات نفسها ضعف الإنتاج.

أخيرا، مهما كانت النسبة التي تتقاسم بموجبها طبقة الرأسماليين، البرجوازية، الربح الصافي من الإنتاج، إما في بلد، و إما في السوق العالمية بكليته، فإن المبلغ الإجمالي لهذا الربح الصافي ليس، على كل حال، سوى المبلغ الذي أضافه العمل المباشر، بالإجمال، إلى العمل المكدَّس. و هكذ، فإن هذا المبلغ الإجمالي يزداد تبعا للنسبة التي يزيد بها العمل الرأسمال، أي تبعا للنسبة التي يزداد بموجبها الربح بالمقارنة مع الأجرة.

مصالح الرأسمال و مصالح العمل المأجور متضادة تماما

وهكذا نرى، حتى إذا بقينا داخل حدود العلاقات بين الرأسمال و العمل المأجور، أن مصالح الرأسمال و مصالح العمل المأجور متضادة تماما.

إن نموا سريعا في الرأسمال يوازي نموا سريعا في الربح. و الربح لا يمكنه أن ينمو بسرعة إلا إذا هبط سعر العمل، الأجرة النسبية، بالسرعة نفسها. إن الأجرة النسبية قد تهبط حتى و لو ارتفعت الأجرة الفعلية في الوقت نفسه مع الأجرة الاسمية، مع قيمة العمل نقد، و لكن شرط ألاّ ترتفع الأجرة الفعلية بنفس النسبة التي يرتفع بها الربح. فإذا ارتفعت الأجرة 5 بالمئة في مراحل الانتعاش و ارتفع الربح 30 بالمئة، فإن الأجرة النسبية لا تزداد، بل تهبط.

و عليه إذا ازداد دخل العامل مع نمو الرأسمال بسرعة، فإن الهوة الاجتماعية التي تفصل بين العامل و الرأسمالي تتسع في الوقت نفسه، كما يتعاظم بالتالي سلطان الرأسمال على العمل و تتفاقم تبعية العمل إزاء الرأسمال.

فالقول إن للعامل مصلحة في نمو الرأسمال بسرعة، إنما يعني في الواقع أنه كلما زاد العامل بسرعة ثروة الآخرين، كلما ازدادت الفتائت التي يلتقطها عن المائدة؛ و كلما أمكن تشغيل عدد أكبر من العمال و كلما أمكن توليد عدد أكبر من العمال، كلما أمكن زيادة جيش الأرقاء في تبعية الرأسمال.

لقد لاحظنا إذن:

إن الظروف الأكثر ملاءمة للطبقة العاملة، نمو الرأسمال بأسرع ما يمكن، لا يقضي على التناقض بين مصالح العمال و مصالح البرجوازيين، مصالح الرأسماليين، مهما كان التحسين الذي يُدخله في حياة العامل المادية. فالربح و الأجرة هم، من بعد كما من قبل، في علاقة متناسبة عكسا.

فحين ينمو الرأسمال بسرعة، فإن الأجرة قد تنمو، و لكن ربح الرأسمالي ينمو بما لا يقاس من السرعة. إن حياة العامل المادية تتحسن، و لكن على حساب وضعه الاجتماعي. فالهوة الاجتماعية التي تفصله عن الرأسمالي تزداد اتساعا.

أخيرا:

إن القول بأن الظرف الأنسب للعمل المأجور إنما هو نمو الرأسمال المنتج بأسرع ما يمكن، يعني في الواقع أنه كلما زادت الطبقة العاملة و أنمت القوة المعادية له، ثروة الآخرين التي تسيطر على الطبقة العاملة، كلما تحسنت الأحوال التي يُسمح لها لها فيها من جديد بالعمل على زيادة الثروة البرجوازية، على تعزيز سلطان الرأسمال، راضية بأن تصنع بنفسها السلاسل الذهبية التي تجرها بها البرجوازية في ذيلها.

نمو الرأسمال المنتج و زيادة الأجرة، تُرى، هل هما حقا وثيقا الارتباط لا تنفصم عراهما كما يزعم الاقتصاديون البرجوازيون؟ ينبغي لنا ألاّ نصدق مزاعمهم. بل إنه لا يمكننا أن نصدقهم بتاتا حين يقولون أنه بقدر ما يسمن الرأسمال، بقدر ما يسمن عبده. إن البرجوازية بالغة الفطنة و الحنكة، فهي تحسب و تجيد الحساب و لا تقلّد السيد الإقطاعي في غروره و أوهامه إذ يتباهى ببريق لباس خدمه. إن شروط حياة البرجوازية إنما تُكرهها على الحساب.

و لذا لا بد أن ندرس هذا الأمر عن كثب:

ما هو تأثير نمو الرأسمال المنتج في الأجرة؟

حين ينمو الرأسمال المنتج للمجتمع البرجوازي بكليته، فذلك يعني أنه حدث بالنتيجة تكدس عمل أعمّ. فالرأسماليون يزدادون عددا و الرساميل تزداد حجما. و زيادة الرساميل تعزز المزاحمة بين الرأسماليين. و تنامي مقادير الرساميل يتيح سوق جيوش أضخم من العمال إلى ميدان المعركة الصناعية، مع أعتدة قتالية أقوى و أكبر.

إن الرأسمالي لا يستطيع إزاحة الآخر و الاستيلاء على رأسماله إلا إذا باع بأسعار أرخص، و لكي يستطيع أن يبيع بأسعار أرخص دون أن يحل به الخراب، عليه أن ينتج بكلفة أقل، أي أن يزيد إنتاجية العمل قدر الإمكان. و لكن إنتاجية العمل تزداد على الأخص من جراء زيادة تقسيم العمل، من جراء إشاعة الآلات على نطاق أوسع فأوسع و تحسينها على الدوام. فبقدر ما يزداد جيش العمال الذين يُقسَّم العمل بينهم، و تشاع الآلات على نطاق أوسع، بقدر ما تنخفض نفقات الإنتاج أسرع نسبي، و يغدو العمل أوفر مردودا. و لذا تقوم بين الرأسماليين مباراة متنوعة المظاهر لزيادة تقسيم العمل و إشاعة الآلات و لاستثمار هذين العنصرين على أكبر نطاق ممكن.

و لكن إذا استطاع رأسمالي، بفضل تقسيم العمل على نطاق أوسع، و استخدام الآلات الجديدة و تحسينه، و استغلال قوى الطبيعة على وجه أفيد و على نطاق أكبر، إذا استطاع هذا الرأسمالي أن يصنع بالقدر نفسه من العمل أو من العمل المكدس قدرا من المنتجات، من البضائع، أكبر مما يصنعه مزاحموه؛ إذا استطاع مثلا أن ينتج مترا كاملا من القماش في فترة معينة من الوقت بينما ينتج مزاحموه نصف متر من القماش نفسه في الفترة ذاته، فما عساه أن يفعل؟

إنه يستطيع أن يبيع نصف المتر من القماش بالسعر السابق في السوق. و لكن تلك لن تكون الوسيلة لإزاحة أخصامه وزيادة تصريفه. و الحال، بقدر ما يتسع إنتاجه، تتعاظم بالنسبة له الحاجة إلى التصريف. و الحقيقة أن وسائل الإنتاج الأقوى والأغلى التي أوجدها تتيح له أن يبيع بضاعته بأسعار أرخص، و لكنها تكرهه في الوقت نفسه على بيع مزيد من البضائع، على الاستيلاء على سوق لبضائعه أكبر بما لا يقاس. و هكذا فإن صاحبنا الرأسمالي هذا سيبيع نصف المتر من القماش بسعر أرخص مما يبيع مزاحموه.

و لكن هذا الرأسمالي لن يبيع المتر الكامل من القماش بنفس الثمن الذي يبيع به مزاحموه نصف المتر، رغم أن إنتاج المتر بكامله لا يكلفه أكثر مما يكلف مزاحميه إنتاج نصف المتر. و إل، فإنه لن يحصل على أي ربح زائد و لن يسترد بالمقابل إلا نفقات إنتاجه. فإذا ازداد دخله في هذه الحال، فلأنه وظّف و شغّل رأسمالا أكبر لا لكونه استحصل من رأسماله أكثر مما يستحصل الرأسماليون الآخرون. ثم إنه يبلغ الهدف الذي ينشده لمجرد أن يبيع بضاعته بسعر يقل بعض الأجزاء من مئة جزء من سعر مزاحميه. و هكذا يزيحهم من السوق، أو ينتزع منهم على الأقل قسما من تصريفهم، إذ يبيع بأسعار أدنى من أسعارهم. و أخير، لنذكّر أن السعر الجاري هو دائما أكبر أو أقل من نفقات الإنتاج، حسبما يتم بيع البضاعة في فصل يلائم الصناعة أو لا يلائمها. و حسبما يكون سعر متر القماش في السوق أكبر أو أقل من نفقات إنتاجه السابقة العادية، فإن الرأسمالي الذي استخدم وسائل إنتاج جديدة أفيد، سيبيع بأسعار تزيد على نفقات إنتاجه الفعلية بنسب مئوية مختلفة.

و لكن امتياز صاحبنا الرأسمالي لا يدوم طويلا؛ فإن الرأسماليين المنافسين الآخرين يستخدمون الآلات نفسها و تقسيم العمل نفسه، و على النطاق نفسه أو على نطاق أوسع، و هذا التحسين ينتشر و يعمّ حتى يهبط ثمن القماش لا إلى ما دون نفقات إنتاجه السابقة و حسب، بل أيضا دون نفقات إنتاجه الجديدة.

و هكذا يجد الرأسماليون أنفسهم بعضهم إزاء بعض، في ذات الوضع الذي كانوا فيه قبل تطبيق وسائل الإنتاج الجديدة، و إذا كانوا يستطيعون بهذه الوسائل أن يسلموا ضعف الإنتاج بالثمن السابق نفسه، إلا أنهم مكرهون الآن على بيع ضعف إنتاجهم بسعر أدنى من السعر السابق. و إذ تبلغ نفقات الإنتاج هذا المستوى الجديد، تتجدد اللعبة: زيادة تقسيم العمل، زيادة عدد الآلات، اتساع نطاق استخدام تقسيم العمل، و الآلات. و المزاحمة تفضي من جديد إلى رد الفعل ذاته ضد هذه النتيجة.

أثر المنافسة الرأسمالية على الطبقة الرأسمالية و الطبقة الوسطى والطبقة العاملة

و هكذا نرى كيف يتغير على الدوام أسلوب الإنتاج و وسائل الإنتاج بشكل ثوري؛ كيف يؤول تقسيم العمل بالضرورة إلى تقسيم العمل على نطاق أوسع، و استخدام الآلات إلى استخدام الآلات على نطاق أكبر، و الإنتاج على نطاق ضخم إلى الإنتاج على نطاق أضخم.

ذلك هو القانون الذي يقذف على الدوام بالإنتاج البرجوازي خارج طريقه السابقة، و يُكره الرأسمال دائما على أن يشدد أيضا و أيضا قوى العمل المنتجة و ذلك لأنه قد شددها من قبل، القانون الذي لا يدع للرأسمال أي فرصة للراحة و ما ينفك يهمس في أذنه: إلى الأمام! إلى الأمام!

و ما هذا القانون إلا القانون الذي يجعل بالضرورة سعر بضاعة ما مساويا لنفقات إنتاجه، و ذلك ضمن حدود تقلبات التجارة من فترة إلى فترة.

ومهما بلغت وسائل الإنتاج التي يضعها الرأسمالي قيد العمل، من الضخامة والقوة، فإن المزاحمة لا تلبث أن تعمم وسائل الإنتاج هذه، و متى تعممت، فإن النتيجة الوحيدة للمردود الأكبر لرأسماله هي أنه يصبح مضطرا الآن أن يسلّم، لقاء الثمن نفسه، منتجات تزيد عشر مرات، أو عشرين، أو مئة مرة عما في السابق. و لكن، بما أنه ينبغي له أن يصرف الآن قدرا من المنتجات ربما يزيد ألف مرة لكي يعوض بقدر أكبر من المنتجات المصرفة عن انخفاض سعر البيع، و بما أن بيع مقادير أكبر من البضائع غدا الآن ضروريا له لا من أجل مزيد من الكسب و حسب، بل أيضا من أجل استعادة نفقات الإنتاج – إذ إن أدوات الإنتاج نفسه، كما سبق و رأين، يزداد سعرها أكثر فأكثر – و بما أن هذا البيع بكميات كبيرة أصبح الآن مسألة حيوية لا بالنسبة لهذا الرأسمالي و حسب، بل بالنسبة أيضا لمنافسيه، فإن النضال السابق يشتد عنفا بقدر ما تصبح وسائل الإنتاج المخترعة أكثر فعالية. و هكذا ما ينفك تقسيم العمل و استخدام الآلات يتطوران في نطاق أوسع بما لا حد له.

فمهما تعاظمت إذن قوة وسائل الإنتاج المستخدمة، فإن المزاحمة تحاول أن تنتزع من الرأسمال الثمار الذهبية الناجمة عن هذه القوة بتخفيض سعر البضاعة إلى مستوى نفقات إنتاجه، جاعلة بالتالي من ترخيص الإنتاج و تسليم مقادير أكبر فأكبر من المنتجات مقابل مجموعة الأسعار السابقة، قانونا إلزامي، و هذا بقدر ما تظهر إمكانية الإنتاج بنفقات أقل، أي إمكانية إنتاج قدر أكبر من المنتجات بواسطة القدر نفسه من العمل. و هذا إذن لا يكسب الرأسمالي، بجهوده، سوى واجب تقديم مزيد من الإنتاج في الوقت نفسه من العمل، أي أنه، بكلمة، لا يكسب إلا شروطا أصعب لزيادة قيمة رأسماله. و بما أن المزاحمة تلاحق الرأسمالي على الدوام بواسطة قانون نفقات الإنتاج، و بما أن كل سلاح يشحذه ضد أخصامه يعود ضده بالذات، فهو يحاول أبدا أن يتغلب على المزاحمة بأن يستعيض بلا توقف عن الآلات القديمة و الطرائق القديمة لتقسيم العمل بالآلات و الطرائق الجديدة التي هي أكثر كلفة و لكتها ترخص الإنتاج، و لا ينتظر حتى تجعل المزاحمة من هذه الآلات و الطرائق الجديدة آلات و طرائق قديمة ولّى عهدها.

فإذا تصورنا الآن هذه الحركة المحمومة في السوق العالمية بأسره، أدركنا كيف يؤدي نمو الرأسمال و تكدسه و تمركزه إلى تقسيم في العمل يجري بصورة لا انقطاع فيه، بصورة يغير فيها نفسه بنفسه، و على نطاق يزداد اتساعا على الدوام، و إلى استخدام الآلات الجديدة و تحسين الآلات القديمة.

و لكن كيف تؤثر هذه الظروف الملازمة لنمو الرأسمال المنتج، في تحديد الأجرة؟

إن تقسيم العمل على نطاق أكبر يتيح للعامل الواحد أن يقوم بعمل 5 عمال، و 10، و 20؛ فيزيد المزاحمة إذن بين العمال 5 مرات، و 10، و 20 مرة. إن العمال لا يتزاحمون فقط بأن يبيع بعضهم نفسه بأسعار أرخص من البعض الآخر؛ إنما يتزاحمون أيضا لأن عاملا واحدا يقوم بعمل 5 عمال، و 10 و 20، و تقسيم العمل الذي أدخله الرأسمال و لا يزال يوسعه على الدوام هو الذي يكره العمال على هذا النوع من المزاحمة فيما بينهم.

و فضلا عن ذلك، فإن العمل يغدو بسيطا بقدر ما يزداد تقسيم العمل. و لا يبقى لمهارة العامل الخاصة أية قيمة. فالعامل يتحول إلى قوة منتجة بسيطة، رتيبة، إلى قوة لا يُتطلب منها أية كفاءة جسدية أو فكرية ممتازة. و يغدو عمله في مقدور الجميع. و لذا يضغط المزاحمون على العمل من كل الجهات. ثم لنذكر بأنه بقدر ما يكون العمل بسيطا و سهلا تعلمه، و بقدر ما تقل نفقات الإنتاج لاستيعابه، بقدر ما تهبط الأجرة، لأن الأجرة إنما تحددها نفقات الإنتاج، شأنها شأن سعر أية بضاعة أخرى.

فبقدر ما يصبح العمل، إذن، أقل لذة و أشد تنفير، بقدر ما تزداد المزاحمة و تهبط الأجرة. فيسعى العامل إلى الاحتفاظ بمجمل أجرته و ذلك بالعمل أكثر مما مضى، إما بالعمل ساعات أكثر، و إما بإنتاج قدر أكبر في الساعة نفسها. فهو إذن بدافع البؤس يزيد أيضا و أيضا من مفاعيل تقسيم العمل المشؤومة. و النتيجة هي أنه كلما اشتغل أكثر، كلما تقاضى أجرة أقل، و ذلك لمجرد أنه، بقدر ما يكثر عمله، بقدر ما يزاحم رفاقه في العمل، و يجعل منهم مزاحمين له يبيعون أنفسهم بشروط سيئة كشروطه، و لأنه، في آخر المطاف، يزاحم نفسه بنفسه، يزاحم نفسه بوصفه عضوا من أعضاء الطبقة العاملة.

و الآلات تحدث المفاعيل نفسها على نطاق أكبر، إذ أنها تستعيض عن العمال الماهرين بعمال غير ماهرين، و عن الرجال بالنساء، و عن الراشدين بالأحداث، و إذ أنه، لمجرد ظهوره، تلقى العمال اليدويين بالجملة إلى الشارع، و إذ أنه، في مجرى تطويرها و تحسينها و إتقانه، تطرد العمال فئات كاملة. لقد رسمنا أعلاه لوحة عاجلة للحرب الصناعية بين الرأسماليين؛ إن هذه الحرب تتميز بميزة خاصة، و هي أن المعارك فيها إنما تُكسَب عن طريق تقليل جيش العمال أكثر مما تكسب عن طريق زيادته. فالقادة، الرأسماليون، يتنافسون لمعرفة من يستطيع أن يسرّح أكبر عدد من جنود الصناعة.

صحيح أن الاقتصاديين يزعمون أن العمال الذين تجعلهم الآلات في عداد الفائضين، يجدون عملا في فروع صناعية جديدة، و لكنهم لا يجرؤون على التأكيد مباشرة أن هؤلاء العمال الذين سُرِّحوا يجدون عملا في فروع عمل جديد. فالوقائع تصرخ عاليا ضد هذا الكذب. و حقا نقول أنهم يؤكدون فقط أنه ستتوافر وسائل شغل جديدة لأقسام أخرى من الطبقة العاملة، مثل، لقسم الأجيال الفتية من العمال، الذين كان على وشك أن يدخل في الفرع الصناعي المتلاشي. و ذلك، طبع، عزاء كبير، كما يزعم، للعمال المقذوف بهم إلى الشارع. فلن يعدم السادة الرأسماليون لحما و دما طازجين للاستثمار، و “دع الموتى يدفنون موتاهم”. ذلك حقا عزاء يعزّي البرجوازيين أنفسهم به أكثر مما هو عزاء للعمال. فلو قضت الآلات على كل طبقة الأجراء، فأية كارثة رهيبة تحل بالرأسمال، إذ أنه، بدون عمل مأجور، يكف عن أن يكون رأسمالا!

و لكن، لنفترض أن العمال الذين طردتهم الآلات مباشرة من العمل، و كل قسم الجيل الجديد الذي كان على وشك أن يدخل هذا الفرع من العمل، يجدون عملا جديدا. فهل يُظن أنهم سيتقاضون عن هذا العمل الجديد الأجرة نفسها التي كانوا يتقاضونها عن العمل الذي فقدوه؟ إن هذا الظن ليناقض كل القوانين الاقتصادية. و لقد رأينا كيف أن الصناعة العصرية تسعى دائما إلى الاستعاضة عن العمل المعقد، الأعلى، بعمل أبسط، أدنى.فكيف تستطيع إذن فئة من العمال قذفت بها الآلات خارج فرع صناعي معين، إن تجد ملجأ لها في فرع صناعي آخر إلا إذا دُفِعَ لها أجر أقل، أسوأ؟

لقد استُشهد على سبيل الاستثناء بالعمال الذين يشتغلون في صنع الآلات بالذات. و قيل: طالما أن الصناعة تتطلب و تستهلك مزيدا من الآلات، فلا بد للآلات بالضرورة أن تزداد عدد، و أن يزداد بالتالي صنع الآلات، و كذلك إذن عدد العمال العاملين في صنع الآلات، و العمال العاملون في هذا الفرع الصناعي هم عمال أخصائيون، و حتى متعلمون. و لكن هذا القول الذي كان قبل عام 1840 نصف صحيح فقط، قد فقد مذ ذاك كل قيمة، إذ أن الآلات قد استخدمت، بصورة أعمّ فأعمّ، في صنع الآلات كما في إنتاج الخيطان القطنية، و أن العمال العاملين في مصانع الآلات لم يبق بوسعهم أن يضطلعو، بجانب الآلات المتقنة الراقية، إلا بدور آلات بدائية للغاية.

و لكن، ألا يشغل المصنع، بدلا عن الرجل الذي طردته الآلة، ربما ثلاثة أطفال و امرأة واحدة! و الحال، ألم يكن من الواجب أن تكفي أجرة الرجل لإعاشة ثلاثة أطفال و الزوجة؟ ألم يكن يجب أن يكفي الحد الأدنى من الأجرة لإعالة الجنس و تناسله؟ فما تعني إذن هذه الطريقة في التعبير التي يحبها البرجوازيون؟ إنها لا تعني غير الأمر التالي: إن أربع حياتات عمالية، بدلا عن حياة عمالية واحدة، تفني الآن لكي تعيل أسرة عمالية واحدة.

لنوجز: بقدر ما ينمو الرأسمال المنتج، بقدر ما يتسع تقسيم العمل و استخدام الآلات. و بقدر ما يتسع تقسيم العمل و استخدام الآلات، بقدر ما تنتشر المزاحمة بين العمال، و بقدر ما تهبط أجورهم.

و نضيف أيضا أن الطبقة العاملة إنما تنضم إلى صفوفها جماعات من فئات أعلى في المجتمع، جماعات من صغار الصناعيين و صغار أصحاب الريع، ممن ليس عندهم مخرج آخر إلا رفع أيديهم إلى جانب أيدي العمال. و هكذا فإن غابات الأيدي التي ترفع طلبا للعمل تتكاثف أكثر بينما الأيدي ذاتها تزداد نحولا و هزالا.

و بديهي تماما أن الصناعي الصغير لا يستطيع الصمود في حرب من شروطها الأولى الإنتاج على نطاق يتعاظم على الدوام، أي أن يكون الصناعي بالضبط صناعيا ضخما لا صناعيا صغيرا.

و ليس ثمة حاجة إلى مزيد من الشرح إن فائدة الرأسمال تنخفض بقدر ما ينمو الرأسمال، بقدر ما يزداد حجمه و عدده، و أنه لا يبقى بالتالي في وسع صاحب الريع الصغير أن يعيش من ريعه، فيضطر للجوء إلى الصناعة، أي أنه ينضم إلى صفوف صغار الصناعيين، و على هذا النحو، يزيد عدد المرشحين للانتقال إلى صفوف البروليتاريا.

و أخير، بقدر ما تكره حركة التطور الموصوفة أعلاه الرأسماليين على استثمار وسائل الإنتاج الجبارة القائمة و استغلالها على نطاق متسع أبد، و على تحريك جميع نوابض التسليف من أجل تحقيق هذا الغرض، بقدر ما تزداد الزلازل الصناعية التي لا يحافظ العالم التجاري على نفسه فيها إلا إذا ضحى على مذبح شياطين الجحيم بقسم من الثروة و من المنتجات و حتى من القوى المنتجة – أي بقدر ما تزداد الأزمات. و هذه الأزمات تتقارب أكثر فأكثر و تشتد عنف، لأن السوق العالمية ما تنفك تضيق بقدر ما ينمو مقدار المنتجات و تنمو بالتالي الحاجة إلى أسواق موسعة، و لأن الأسواق الجديدة التي يمكن استثمارها تقلّ يوما بعد يوم، إذ أن كل أزمة سابقة تفتح أمام التجارة العالمية أسواقا جديدة أو أسواقا لم تستثمرها التجارة حتى ذاك إلا بصورة سطحية.

و لكن الرأسمال لا يعيش من العمل و حسب. فهو كالسيد البربري من مالكي الأرقاء يجتذب إلى قبره جثث أرقائه، و هم جماهير العمال الذين يهلكون خلال الأزمات. و هكذا نرى أنه، حين ينمو الرأسمال بسرعة، تنمو المزاحمة بين العمال بصورة أسرع بما لا حد له، أي أنه بقدر ما يسرع الرأسمال في نموه، بقدر ما تنخفض بمقادير أكبر نسبيا أبواب الرزق، و سائل معيشة الطبقة العاملة؛ و مع ذلك فإن نمو الرأسمال بسرعة هو الشرط الأنسب للعمل المأجور

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart