إشكالية ثلاثية الأبعاد في منطقة الخليج.. “دولة الرفاهية.. الشباب.. البطالة”

إشكالية ثلاثية الأبعاد في منطقة الخليج.. “دولة الرفاهية.. الشباب.. البطالة”

آراء حول الخليج

الأمر الذي لا شك فيه هو أن الشباب هم سواعد بناء أية أمة، ويعد الشباب الخليجي أهم اللبنات المستقبلية في ظل التحولات التي شهدتها منطقة الخليج في التسعينات وتدني دور الدولة على المستوى الاجتماعي وعدم قدرتها على الاستمرار في نموذج الرفاهية، الأمر الذي فرض الكثير من التحديات أمام الشباب، وكان من أحد الجوانب السلبية لسياسات دولة الرفاهية هو انتشار ظاهرة البطالة بين الشباب. وهنا يمكن القول إن هناك معضلة ذات أبعاد ثلاثة وهي دولة الرفاهية في علاقتها بالشباب وانتشار مشكلة البطالة.
مبررات الرفاهية والعزوف عنها
فمع الطفرة النفطية التي شهدتها منطقة الخليج العربي في أوائل السبعينات، وفي ظل ندرة الأيدي العاملة الوطنية اللازمة لسد احتياجات عملية التنمية الواسعة التي انطلقت في دول الخليج العربية منذ ذلك الحين، قدم الملايين من الأجانب من جنسيات مختلفة للعمل بدول الخليج؛ ونظراً للطفرة التنموية التي تحققت بهذه الدول زاد عدد العمال الوافدين بدول المجلس، وقدّرتهم بعض الإحصائيات بنحو ثمانية ملايين عامل في عام 1999.
وأدى اعتماد هذه الدول بشدة على العمالة الأجنبية إلى شعور نسبة غير بسيطة من مواطنيها بالعزوف عن الرغبة في العمل أو رفض العمل بالوظائف العضلية التي يعمل بها الأجانب، والتمسك بالحصول على فرصة عمل غير شاقة في الجهاز الحكومي أو القطاع العام أو القطاع المصرفي أو الشركات الأجنبية وغيرها من الجهات التي تدفع رواتب سخية. وفي ضوء ذلك، كان من الضروري أن تتبع الدول الخليجية نموذج دولة الرفاهية؛ لخلق حالة من الرضا الشعبي العام، وإشباع رغبات المواطنين المتعطشين والمتطلعين للقيام بأدوار مهمة في المجتمع وفي العمل العام.
كما استخدمت دول الخليج العربية سياسات الرفاهية كأداة لتوزيع الثروة النفطية الكبيرة التي تحققت لها، خاصة خلال فترة الطفرة في أسعار النفط في السبعينات وأوائل الثمانينات على كافة فئات الشعب من دون تمييز، وليس لضمان حد أدنى من الدخل الذي يؤمن لصاحبه حياة كريمة فقط، بل السعي إلى تصحيح الآثار الاجتماعية السلبية لإعمال آليات السوق الحرة من خلال استخدام الإنفاق العام لتقليل الفوارق بين الدخول وتقريب الفوارق الاجتماعية.
ومن هذا المنطلق استخدمت دول الخليج سياسات الرفاهية لتقديم الدعم للمواطنين لضمان أسعار منخفضة ومستقرة للحاجيات الغذائية الأساسية والصحة والتعليم والنقل وتقديم سلع بأقل من أسعارها الحقيقية مثل المنتجات البترولية، وتقديم قروض طويلة الأجل بفائدة مدعمة، وتمكين الصناعات الأساسية ودعم قطاعات معينة لأهداف إستراتيجية، ورغم الإنجازات التي تحققت من اتباع الدول الخليجية لسياسات الرفاهية فإنها عزفت عن الاستمرار في هذه السياسات لأسباب متعددة نذكر منها:
أولاً: الارتفاع الكبير في تكاليف استمرار الرفاهية بصورتها الحالية
فقد تميزت هذه السياسات على مدى العقود الثلاثة الماضية بالسخاء الشديد المتمثل في تقديم كافة الخدمات الصحية والتعليمية والمرافق مجاناً أو بأسعار رمزية لكافة المواطنين والمقيمين على حد سواء، وأدى ذلك إلى افتقاد الحكومات في هذه الدول أهم آليات توجيه سياستها بصورة رشيدة لإحداث ما ترجوه من آثار في مجالات معينة بكفاءة عالية وبأقل التكاليف الممكنة، وبالتخلي عن مبدأ الاستهداف وتقديم الخدمات والدعم من دون تمييز، وتخلت الحكومات في دول الخليج العربية عن أهم الآليات التي تحفز المواطنين على الترشيد في استهلاك هذه السلع والخدمات المجانية أو المدعمة، مما خلف أنماطاً استهلاكية غير رشيدة بين المواطنين على حساب الميول الادخارية لديهم.
ثانياً: الاعتماد في تمويل سياسات الرفاهية على مورد متقلب الفوائد
ارتبطت سياسات الرفاهية في منطقة الخليج بعائدات صادرات النفط وبالطفرة التي حدثت في عائدات الصادرات النفطية نتيجة زيادة أسعاره العالمية خلال السبعينيات، ازداد سخاء الدول الخليجية في الإنفاق على سياسات الرفاهية كأداة لتوزيع الاستفادة من هذه العائدات على كافة مواطنيها، إلا أن أسعار البترول لم تلبث أن انخفضت بشدة، وتكرر انخفاضها عدة مرات بعد ذلك. ولأن تقليص الإنفاق على سياسات الرفاهية ليس بالسهولة التي تمت بها زيادة الإنفاق عليها، وجدت دول الخليج نفسها أمام معادلة في غاية الصعوبة، الأمر الذي يفرض عليها أن تتم أي محاولة لمراجعة هذه السياسات بتدرج شديد وكفاءة عالية.
ثالثاً: صعوبة استمرار الالتزام بالتوظيف الكامل في القطاع الحكومي
اتجهت دول الخليج إلى التوسع في تعيين مواطنيها في القطاع الحكومي، وقد أدت إدارة القوى العاملة بهذه الصورة مع مرور السنوات إلى تزايد العمالة الأجنبية بصورة كبيرة وتركزها في مشروعات القطاع الخاص من ناحية، وزيادة كبيرة في عدد العاملين في الجهاز الإداري الحكومي ومشروعات القطاع العام من مواطني دول الخليج. وهكذا أصبحت الصورة عبارة عن وجهين: أحدهما عمالة أجنبية بأعداد غفيرة تزيد في بعض الدول عن عدد السكان الأصليين، أما الوجه الثاني للصورة فيتمثل في تركز معظم القوى العاملة الوطنية في الجهاز الإداري والقطاع العام الذي يعتبر أكثر جذباً وأقل جهداً، والإحجام عن العمل في الوظائف المجهدة، وخاصة في القطاع الخاص الذي تستأثر العمالة الوافدة بمعظم وظائفه.
ومع مرور السنوات والارتفاع في معدل الزيادة السكانية في دول الخليج وفي ظل الطفرة التي حققتها دول الخليج في مجال التعليم، وجدت الحكومة نفسها أمام أعداد كبيرة من الخريجين سنوياً، ينتظرون الحصول على فرصة عمل في الجهاز الحكومي الذي يعاني بدوره من زيادة عدد المعينين فيه، وبدأت معدلات البطالة تزداد بين مواطني دول مجلس التعاون، حيث بلغت في عام 1998 نحو 15 في المائة في البحرين و 2.6 في المائة في الإمارات وواحد في المائة في الكويت. هذا الوضع المعقد لخريطة القوى العاملة في دول مجلس التعاون حتم ضرورة مراجعة سياسات التوظيف المتبعة هناك.
رابعاً: تغير الظروف الاقتصادية
مما لا شك فيه أن التغيرات الواسعة التي حدثت في بيئة الاقتصاد العالمي والعوامل الحاكمة للتفاعلات الاقتصادية مع بروز سياسات التكيف وإعادة الهيكلة أثرت في اقتصادات دول مجلس التعاون، وحتمت على دول الخليج ضرورة تطوير سياساتها الاقتصادية لتهيئة قطاعاتها الإنتاجية في مجال السلع والخدمات للمنافسة الدولية المتوقعة بعد انتهاء فترة السماح التي تتيحها الاتفاقيات الاقتصادية الدولية.
ومن ناحية أخرى، فإن سعي الدول الخليجية إلى زيادة الدور الذي يقوم به القطاع الخاص وتهيئة المناخ المناسب لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، يفرضان عليها ضرورة مراجعة سياساتها الخاصة بالدعم الذي تقدمه للمشروعات الإنتاجية في مجالات معينة والإعفاءات الضريبية والجمركية، وإضفاء المزيد من الشفافية على الاتجاهات المستقبلية للحكومة في هذه المجالات، حتى يمكن للمستثمر الخاص أن يتخذ قراراته بالاستثمار في دول الخليج ومن ثم فتح مجالات العمل أمام الشباب الخليجي.
وهنا يمكن القول إن هذه السياسات التي انتهجتها دول الخليج في تبني نموذج الرفاهية ثم العزوف عنه أدت في النهاية إلى شيوع ثقافة الاتكالية بين الشباب، ومن ثم أصبحت الدولة سبباً من أسباب تفاقم مشكلة البطالة، وأصبح يتعين عليها البحث عن السبل الكفيلة بالتغلب عليها ووضع الحلول العملية لمعالجتها. ويرجع انتشار ظاهرة البطالة إلى الأسباب التالية:
أولاً: فشل برامج التنمية في العناية بالجانب الاجتماعي بالقدر المناسب، وتراجع الأداء الاقتصادي، وتراجع قدرة القوانين المحفزة على الاستثمار في توليد فرص عمل بالقدر الكافي، إضافة إلى تراجع دور الدولة في إيجاد فرص عمل بالحكومة، والمرافق العامة وانسحابها تدريجياً من ميدان الإنتاج، والاستغناء عن خدمات بعض العاملين في ظل برامج الخصخصة والإصلاح الاقتصادي.
ثانياً: استمرار تدفق العمالة الأجنبية الوافدة إلى دول الخليج العربية النفطية، ويعود هذا التدفق إلى أسباب عديدة، بعضها تنظيمي، والآخر يتعلق بالعامل الآسيوي مقارنة بالعامل العربي، لكن أبرز هذه الأسباب حرص القطاع الخاص على استقدام العمالة الأجنبية بسبب انخفاض أجورها وتحملها ظروف العمل القاسية، كما أنها أكثر طاعة وانضباطاً وذات إنتاجية مرتفعة.
وكان من بين الآثار السلبية لهذه العمالة تفشي البطالة بين الشباب الخليجي في ظل تشبع القطاع الحكومي والتباين في الأجور وشروط العمل بين العامل الوافد والمواطن، ما أدى إلى عدم النجاح الكامل لسياسات توطين الوظائف
حلول عملية لمشكلة البطالة:
1 – تدشين عدد من المشاريع التنموية العملاقة :
انطلق عدد من المشاريع التنموية القومية أو المشتركة في دول مجلس التعاون الخليجي، ومن الأمثلة على ذلك انطلاق أكبر مشروع في مجال التجارة الإلكترونية في الشرق الأوسط في الإمارات، والذي يشمل تأسيس مدينة دبي للتجارة الإلكترونية بقيمة تصل إلى 272 مليون دولار، ويتوقع أن يبلغ حجم التجارة في هذه المدينة حوالي تريليون دولار، وأن تصل التجارة الإلكترونية فيها إلى 38 مليار دولار، وسوف تخدم حوالي ملياري نسمة في المنطقة الممتدة من شبه القارة الهندية إلى المغرب العربي مروراً بدول الكومنولث ووصولاً إلى جنوب إفريقيا، أما في سلطنة عمان فقد تم استكمال مشروع عمان للغاز المسال بتكلفة تصل إلى 2.5 مليار دولار لتنتج 6.6 مليون طن سنوياً؛ حيث بدأ التصدير في إبريل عام 2000 إلى دول آسيا، وتخطط عمان لتوسيع هذا المشروع لتحقيق 120 مليون دولار خلال الأعوام المقبلة، وتخطط البحرين لإقامة مشاريع إنمائية تبلغ تكلفتها 800 مليون دينار تتمثل في إنشاء ميناء جديد بتكلفة 200 مليون دينار وإنشاء منطقة صناعية مجاورة له بتكلفة 620 مليون دينار، أما قطر فتخطط لإنشاء مشروعات ضخمة للكهرباء والماء ومشروع ضم للغاز المسال بطاقة إنتاجية 3.4 مليون طن، وفي مجال المشروعات المشتركة تخطط حكومات أبوظبي ودبي وسلطنة عمان لإنشاء مصهر للألمنيوم في مدينة صحار العمانية بتكلفة تصل إلى 2.5 مليار دولار ليكون ثالث مصهر لإنتاج الألمنيوم في دول مجلس التعاون الخليجي.
2- العمل على توطين العمالة وتشجيع توظيفها في القطاع الخاص
ومن أجل ذلك قامت الحكومات الخليجية بتوفير الموارد اللازمة لتعزيز برامج التدريب المهني والفني في الكليات والمعاهد العامة والخاصة خلال السنوات الأخيرة، مما ساهم في زيادة نسبة التعليم، كما قدمت الحكومات كل التسهيلات اللازمة لمشروعات الشباب، سواء كانت تسهيلات فنية أو مالية أو لوجستية.
3- تكثيف جهود تنويع الموارد الاقتصادية:
مع تكرار الأزمات التي تعرضت لها اقتصادات دول مجلس التعاون نتيجة الارتفاع والانخفاض في أسعار النفط المورد الاقتصادي الرئيسي فيها، كثفت هذه الدول جهودها لتقليل الاعتماد على النفط وتنمية قطاعات اقتصادية غير نفطية خاصة في مجالات الصناعة والخدمات.
4- تحرير الاقتصاد وجذب المزيد من الاستثمارات الخاصة
اتفقت كل دول مجلس التعاون على هذا المبدأ والسعي إلى تحقيقه من خلال مدخلين: أولهما: العمل على تعديل قوانين الاستثمار لتوفير المناخ المناسب لجذب المزيد من الاستثمارات الخاصة، سواء كانت استثمارات محلية أو أجنبية. أما المدخل الثاني فيتمثل في السعي إلى تخصيص جانب من المشروعات العامة، ونقل ملكيتها للقطاع الخاص ليديرها بصورة أفضل.
ففي سلطنة عمان مثلاً وفي عام 1996 أوكلت الحكومة للقطاع الخاص تنفيذ مشروع كهرباء (منح)، كما تم إنشاء محطة الحاويات والتوسعات في ميناء (صلالة) من قبل شركات خاصة وطنية وأجنبية، كما تدرس الحكومة العمانية إنشاء عدة محطات كهربائية في بعض ولايات السلطنة كمحطات خاصة. كما قامت الحكومة بتخصيص بعض الأنشطة الاقتصادية مثل الكهرباء وخدمات البريد والاتصالات والصرف الصحي، وتم اتخاذ الخطوات العملية لتخصيص الهيئة العامة للمواصلات السلكية واللاسلكية بتحويلها إلى شركات مساهمة مغلقة، كما قدمت العديد من الحوافز والإعفاءات لرأس المال الأجنبي، مثل: الإعفاء من ضريبة الدخل، والإعفاء من الرسوم الجمركية على الآلات والمواد الخام، والسماح للأجانب بتملك نسبة تصل إلى 65 في المائة بموافقة وزير التجارة والصناعة، والسماح لمواطني دول مجلس التعاون الأخرى بتملك العقارات والأراضي في السلطنة؛ تشجيعاً لحركة التبادل التجاري والاقتصادي والسياحي.
وبالمحصلة يمكن القول إن هناك اعتبارات لا بد من النظر إليها عند إجراء السياسات السالفة الذكرفي دول مجلس التعاون الخليجي، وهي: ضرورة إنشاء شبكة للأمان الاجتماعي تضمن عدم تأثر الفئات والشرائح الاجتماعية من الشباب الأقل قدرة في المجتمع بالإصلاحات التي تجريها الحكومات الخليجية على سياسات الرفاهية، ومنح حوافز للقطاع الخاص لقيامه بعملية توظيف المواطنين وتعويضه عن فارق المهارة بين العمالة الوطنية والعمالة الأجنبية.

Share this post

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart