توصية سياسية للاتحاد الأوروبي نحو دور إيجابي لتحقيق العدالة الاجتماعية في العالم العربي
مقدمة:
أظهرت الثورات العربية في الأعوام الماضية أن النماذج الاقتصادية المتبعة فيها، والمدعومة من قبل الاتحاد الأوروبي، قد فشلت في تحقيق الأهداف التنموية الموعودة، وتسببت في تراجع واضح في نفاذ المواطنين للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وعلى الرغم من إقرار الاتحاد الأوروبي بهذا، إلا أن السياسات الأوروبية بعد الثورات أخذت من شراكة دوفيل إطارا لها، وتماشت مع خيارات المؤسسات المالية الدولية، التي لاتزال تروج للمزيد من تحرير التجارة والتمويل والخصخصة وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وكذلك التقشف في الإنفاق لسد عجز الموازنة العامة للدولة.
تعد تدخلات الاتحاد الأوروبي في المنطقة العربية من أهم المؤثرات الخارجية على السياسات العامة في العالم العربي، وخاصة على السياسات التي تمس العدالة الاجتماعية، كالسياسات الاقتصادية وسياسات الزراعة والتجارة والصناعة وسياسات التشغيل. وتظل العلاقات الأوروبية بالمنطقة العربية سواء كانت العلاقات المباشرة والثنائية بين دولة أوروبية وبين دولة عربية، أو كانت علاقة الجوار التي تربط بين الاتحاد الأوروبي ككل بدولة عربية، أو كانت الاستثمارات الأوروبية وعلاقات السياسة والأعمال، فالاتحاد الأوروبي يظل هو الشريك الأهم للدول العربية. وهكذا، يقع على عاتق الاتحاد الأوروبي مسئوليات عدة، أولها، ألا تتسبب سياساته التجارية وعلاقاته الاقتصادية مع الوطن العربي في تدمير الصناعات المحلية وتفشيل أمل الشعوب العربية في التصنيع والنمو باقتصاداتهم التي تظل هشة. كما تظل آمال الشعوب العربية أن يلعب الاتحاد الأوروبي دوره في مساندة تنمية المنطقة، دون الانحراف لتدخلات سياسية أو اقحام المشروطية في العلاقات الاقتصادية. وأخيرا، نأمل أن تتسق التدخلات الأوروبية بالصراحة والوضوح: فلو كانت مصلحة الدول العربية، لتكن السياسات منحازة لمصلحة الشعوب الأوروبية: وإن كانت –كالعادة- المصالح الاقتصادية للدول الأوروبية التي تحكم العلاقات، فليبتعد الاتحاد الأوروبي عن إيهام الشعوب العربية بأن تدخلاته للصالح العربي.
لذا، فلعل من أهم ما يجب التنبه له هو عدم اتساق التدخلات الأوروبية، حيث تصطدم السياسات الأوروبية وبعضها، كما تصطدم أهداف التدخلات الأوروبية مع بعضها البعض، ولعل أهم تضارب تشهده السياسات الأوروبية، هو التضارب الواقع ما بين أهداف الاتحاد الأوروبي في إنفاذ حقوق الإنسان، وبين هدف الاتحاد الأوروبي في نشر واحترام سياسات السوق اليمينية. ولعل هذا التضارب ينبع من تضارب أهم بين مصالح دول الاتحاد الأوروبي، ومصالح دول جنوب المتوسط، أي دول العالم العربي. وهكذا، فالتوصية الأولى والأهم هي أن يعيد الاتحاد الأوروبي دراسة ورسم سياساته، مع الأخذ في الاعتبار أن تكون واضحة في أهدافها، ومتسقة في مجملها. وفيما يلي، أهم السياسات الأوروبية وأهم التوصيات التي يتعين على الاتحاد الأوروبي أخذها في الاعتبار، من أجل أن يلعب دورا إيجابيا في تحقيق العدالة الاجتماعية في دول جنوب المتوسط، أو على أقل تقدير، لا يكون أحد المتسببين في انتشار الظلم الاجتماعي.
سياسة الجوار الأوروبية
البنوك الأوروبية:
- يتعين على الاتحاد الأوروبي إلزام البنوك الأوروبية أن تطبق نفس القوانين واللوائح التي تتبعها في دول الاتحاد الأوروبي، في دول جنوب المتوسط. ومن هنا، يتعين على الاتحاد الأوروبي مراجعة تدخلات البنك الأوروبي لإعادة الاعمار والتنمية في دول شرق أوروبا، وفي الدول العربية منذ 2011، وخاصة فيما يتعلق بسياسات البنك في تحفيز خصخصة القطاعات الخدمية، وخاصة القطاعات الأهم للمواطن كالمرافق والمواصلات وغيرها. كما ينبغي مراجعة تدخلات البنك الأوروبي خاصة فيما يتعلق بالقروض المقدمة للبنوك الاستثمارية الخاصة، والمقدمة للشركات الخاصة المستخرجة للمعادن والموارد الطبيعية. وعلى رأس السياسات التي يجب أن يتخذ الاتحاد الأوروبي موقفا صارما بشأنها، هو إلزام البنك الأوروبي باحترام البيئة، خاصة من خلال إلزام البنك بعدم تمويل مشروعات توليد الطاقة بالفحم الملوث للبيئة، وهو الخطر الذي تواجهه مصر حاليا، في حين رفض البنك اي انتقاد لاستعداده لتمويل تلك المشروعات. كما ينبغي أن يضمن الاتحاد الأوروبي حدا أدنى من شفافية تلك البنوك في تعاملاتها، حيث يتسم البنك الأوروبي لإعادة الاعمار والتنمية بفقر في الشفافية مقارنة ببنوك ومؤسسات دولية أخرى لها دورا مشابها.
- بسبب الدور التنموي الذي يوليه الاتحاد الأوروبي للبنوك الأوروبية، وعلى رأسها البنك الأوروبي لإعادة التعمير والتنمية وبنك الاستثمار الأوروبي، يتعين على الاتحاد الأوروبي إعادة صياغة ولاية البنوك الاوروبية من النواحي الآتية:
أولا، نوع المشروعات التي تمولها: من المنتظر أن ترتكز المشروعات التنموية التي تمولها البنوك الأوروبية على تشغيل العمالة (من أجل القضاء على البطالة)، وتشجيع التصنيع والقطاعات الخدمية. كما يجب أن تضع البنوك قواعد تضمن احترام حقوق الانسان من قبل القائمين على المشروعات الممولة، وعلى رأسها حقوق العمال المشاركين في المشروع.
ثانيا، من حيث الشركاء في المشروع: من المنتظر من البنوك التنموية أن تهتم بالشركاء المحليين، وخاصة المصنعين والمنتجين صغار ومتوسطي الحجم، وليس رجال الأعمال الأكثر ثراء، حيث أن رجال الأعمال قادرين على تمويل مشروعاتهم من البنوك الخاصة، ولا حاجة لهم بالبنوك التنموية، التي يتعين أن يكون لها دورا اجتماعيا واضحا. كما نلاحظ عدم استعداد البنوك الأوروبية لتمويل مشروعات حكومية، بالرغم من أن الحكومات العربية بشكل خاص مازال لها الدور الخدمي والتنموي الأكبر في الدول العربية. ومن هنا، تشترط البنوك الأوروبية خصخصة أي قطاع قبل العمل على تنميته، وذلك حتى لا تخالف قواعدها بالعمل مع الحكومة، وهو ما لا يخدم الأهداف التنموية، بل يتسبب في فرض سياسات الخصخصة على قطاعات عديدة تقوم الدولة عليها من أجل الإبقاء على توافرها بأسعار منخفضة كالماء والصرف الصحي ومترو الأنفاق.
وأخيرا، يتعين على الاتحاد الأوروبي التحقق من وضوح رؤية ورسالة تلك البنوك. فبينما يؤكد البنك الأوروبي لإعادة التعمير والتنمية على دوره التنموي، يظل بنك الاستثمار الأوروبي متأرجحا بين الدور التنموي والدور الاستثماري، وهو ما يفقد البنك شرعيته، على المستوى التنموي.
التوصيات الاقتصادية:
- أهم التوصيات الاقتصادية التي يتقدم بها الاتحاد الأوروبي للدول العربية تتم من خلال سياسة الجوار، حيث يتقدم الاتحاد الأوروبي بالتحليل الاقتصادي لكل دولة عربية على حده، كما يتقدم بناء على هذا التحليل بالتوصيات الاقتصادية اللازمة. والأزمة في التحليلات والتوصيات تلك هي أنها تستند إلى وجهة نظر الاتحاد الأوروبي في الأهداف الاقتصادية وانحيازاته في الحلول المطروحة. لذا، فليس من الغريب أن تتركز توصيات الاتحاد الأوروبي على الاعتماد على القروض الخارجية وقروض المؤسسات المالية الدولية، وذلك من أجل التعامل مع المشاكل الاقتصادية، التي تتركز –من وجهة نظر الاتحاد الأوروبي- في سد عجز الموازنة، وضمان ارتفاع نسب النمو العام.وهكذا، جاءت توصيات الاتحاد الأوروبي لدول عربية بالتوقيع على قروض صندوق النقد الدولي وقبول شروطها، مؤكدين على أن السياسات المشروطة من صندوق النقد الدولي هي في مجملها السياسات التي يتعين على الدول العربية اتخاذها من أجل تنشيط اقتصادها.
- ندعو الاتحاد الأوروبي الى التوقف عن الدفع بسياسات اقتصادية بعينها، حيث أن ذلك يقلل من فرص الحكومات العربية والمجتمعات العربية أن تبحث عن نماذج بديلة للنظم الاقتصادية التي اثبتت فشلها ودفعت الشعوب العربية للشوارع رافضة الفقر والجوع وسياسات التقشف، وهي نفس السياسات التي يدعو الاتحاد الأوروبي لاستمراريتها.
- ندعو الاتحاد الأوروبي أن يستبدل التوصيات الاقتصادية بتوصيات حقوقية، تعزز من احترام حقوق الطفل والمرأة وذوي الاعاقة، وتركز على محاربة الفقر والجوع والأمية، مساندا بذلك سياسات الأمم المتحدة، وخاصة آلياتها الحقوقية، بدلا من المؤسسات المالية الدولية.
- من نفس المنطلق، ندعو الاتحاد الأوروبي لتعزيز التعاون بين الشعوب العربية والشعوب الأوروبية، وذلك على سبيل المثال بتسهيل تنقل المواطنين، خاصة من جنوب المتوسط لشمال المتوسط، واعطاء الأولية لهذه الأهداف التي تنمي التعاون بين شعوب المنطقتين.
اتفاقيات التجارة الحرة العميقة والشاملة
وعلى الرغم من هذه المحاذير يقوم الاتحاد الأوروبي بتقييم أثر الاستدامة بشكل متسرع، مستخدما معايير كمية ومجتزأة لقياس وتقييم الأثر ودون إجراء مشاورات شاملة مع الجهات المعنية. وللتسريع في تنفيذ الأجندة التجارية الأوروبية يستخدم الاتحاد الأوروبي المؤسسات المالية والمساعدات للضغط على الحكومات للموافقة على الحزمة المعروضة من مساعدات واتفاقيات تجارية مما يقوض قدرتها على التفاوض وصيانة الأولويات الاقتصادية الوطنية. الخطورة في المفاوضات الحالية حول التجارة الحرة العميقة والشاملة أنها تتجاوز تقليص التعريفات الجمركية، والتي تضمنتها اتفاقيات سابقة، باتجاه أن تتضمن بنود الاتفاقية قواعد حول تحرير التجارة في الخدمات، مبالغة في حماية الاستثمار والمستثمر الأوروبي في الدول العربية بالتحديد، تحرير المشتريات الحكومية. فتحرير المشتريات العمومية يشكل منافسة للإنتاج الوطني في قطاع حيوي في البلدان العربية. وحماية المستثمر الأجنبي وفق الشروط المتعارف عليها من شأنها أن تقوض المساحة السياسية المتاحة للحكومات لتوجيه الاستثمارات بما يخدم مصالح القطاعات الانتاجية الوطنية لذا، تتناول المفاوضات مجالات في تنظيم النظام الاقتصادي وتوجيه السياسات الاقتصادية، وهي بهذا الشكل تمس مباشرة قدرة الدولة على اختيار سياساتها، بل وتهدد مرونة صانعي القرار في الدول العربية في تغيير سياسات اقتصادية استجابة لمطالب شعوبهم.
أولا، نطالب الاتحاد الأوروبي بوقف المفاوضات حول اتفاقيات التجارة الحرة العميقة والشاملة، وذلك حتى ينهي دراسة أثر الاتفاقيات السابقة التي أبرمها بشكل ثنائي مع الدول العربية على التنمية، وتقييم دورها، ايجابا وسلبا، على الاقتصادات الوطنية.
ثانيا، نطالب الاتحاد الأوروبي بإلغاء فقرات حماية المستثمر، وخاصة تلك التي توجه حل المنازعات للتحكيم الدولي، وذلك استجابة لمبادرة العديد من الدول التي بدأت تتخلص من هذا النظام الذي يظلم الدول بشكل عام، ومنها الدول الأوروبية، والدول النامية بشكل خاص.
أخيرا، نرجوا أن يحترم الاتحاد الأوروبي الفترات الانتقالية التي تمر بها الدول العربية، والتي نأمل فيها أن تتراجع الحكومات الانتقالية عن موروث الفساد والإفقار، وأن تتوجه لسياسات مختلفة تحترم حقوق المواطنين، وتعزز من الاقتصاد المحلي، وتحارب الفقر التهميش والبطالة وسوء توزيع الثروات. ومن هنا، نطالب الاتحاد الأوروبي أن يؤجل المفاوضات حول اتفاقيات التجارة الحرة العميقة والشاملة، وذلك حتى تتبلور السياسات والخيارات على المستوى المحلي أولا، حتى لا يتم تكبيل الحكومات العربية بنفس السياسات الفاشلة التي تسببت في اندلاع الثورات.
شراكة القطاع الخاص والمجتمع المدني:
تعمل مشاريع البنوك الأوروبية على تركيز استثماراتها على الشراكة بين القطاعين العام والخاص مع ما تمثله هذه المشروعات من ديون مستقبلية على الموازنات العامة للدول، وما قد تتضمنه من فساد في التعاقدات في دول نامية تشهد نسب فساد مرتفعة. وأخيرا، بدأت المفوضية الأوروبية تعمل مع المؤسسات المالية على تعزيز آليات الدمج بين المساعدات التنموية والاستثمارات الخاصة، وذلك لضعف التمويل المتاح للمشروعات التنموية. ولكن النتائج على مستوى التنمية قد تكون في منتهى السلبية، حيث تتقلص الملكية العامة للعملية التنموية، وتصبح الخيارات التنموية تحت تصرف القطاع الخاص والقطاع الاستثماري، وهي القطاعات التي لم ولن تهتم بأهداف تنموية، ولن تضعها على قائمة أولوياتها.
- ندعو الاتحاد الأوروبي لاحترام دور الدولة في جهودها التنموية، وذلك من خلال الاستمرار في دعم جهود الدول العربية لمكافحة الفقر والأمية واقامة المشروعات الخدمية، دون اشتراط خصخصة الجهود أو إدماج القطاع الخاص في كل جهد يتخذه الاتحاد الأوروبي.
- ندعو الاتحاد الأوروبي لتركيز دوره كشريك للحكومات العربية، وذلك من خلال مساعدة الحكومات في تعزيز الشفافية، وتشاركية اتخاذ القرار، وخلق القنوات اللازمة لكشف ومحاربة الفساد. فلعل نفس هذه الجهود هي التي تحتاجها الدول العربية، والمستثمرون الأوروبيون على وجه السواء لخلق جسور الثقة والتعاون.
- أخيرا، ندعو الاتحاد الأوروبي أن يعزز من قنوات مشاركة المجتمع المدني في آليات صنع القرار، ليس على المستوى الوطني فحسب، ولكن على مستوى الاتحاد الأوروبي ككل. فبالرغم من الآليات العديدة التي خلقها الاتحاد الأوروبي من خلال سياسة الجوار على سبيل المثال، لإدماج أصوات المجتمع المدني في العالم العربي، إلا أن هذه الجهود لا تزال قاصرة على عدد محدود من المؤسسات القادرة على الوصول للمفوضية، ولا تزال تقتصر على لقاءات وآليات لا تسمح للمجتمع المدني وخبراءه الوصول لمتخذي القرار السياسي، وعلى رأسهم مثلا مسئولي ملف التجارة بالاتحاد الأوروبي.