هل يَكفي قياس التنمية حسب الناتج المحلي الإجمالي أم يُغْفِلُ عوامل عديدة؟

هل يَكفي قياس التنمية حسب الناتج المحلي الإجمالي أم يُغْفِلُ عوامل عديدة؟

مقدمة

يُثير مفهوم التنمية جدلًا واسع النطاق، فعلى الرغم مِن تعريفه البسيط المُدْرَج في القواميس، فإن الأدبيات المتعلقة بالتنمية تقدم تفسيراتٍ مختلفةً، من ضمنها النَّظرُ إلى التنمية كتغيير، والتدخل من أجل التحسين بغض النظر عن النتيجة، والتقدم مع تحقيق نتيجة إيجابية بوصفها هدفًا منشودًا، ووسيلة للتطوير تُساعد على التنمية المستقبلية (Potter, et al., 2017). علاوة على ذلك، تغير فهمنا لمصطلح “التنمية” بسبب القوى العالمية وأوجه التقدم النظري (Potter, et al., 2017).

ولتقييم التقدم المحرَز في التنمية، بغض النظر عن التعريف المستخدم، يجب أولًا قياس التنمية. فقد كان لتأثير اقتصاديات التنمية خلال فترة الخمسينيات والستينيات مِن القرن العشرين دلالاتٌ وانعكاسات كبيرة على المصطلحات الأخرى المتعلقة بها، لا  سيما في تحديد وتوصيف البلدان النامية أو المتخلفة (Potter, et al., 2017). غير أن قياس التنمية يعتمد على مؤشرات اقتصادية لا تعترف بطبيعة التنمية متعددة الأبعاد، وهي فكرة سيرد شرحها في القسم التالي.

يتطلب السعي لتحقيق النمو الاقتصادي في ظل الرأسمالية زيادة سنوية في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2-3%، ما يؤدي إلى مضاعفة الاقتصاد العالمي كلَّ 23 عامًا. وقد أدى ذلك إلى استدامة نمط لا يتوقف لإنتاج السلع واستهلاكها، والتي لا يحمل الكثير منها أي أهمية اجتماعية، لكنها من أجل الحفاظ على النمو والربح. وبالتالي، يتم استنفاد الموارد الطبيعية، في حين تستمر كمية النُّفايات المتولدة سنويًّا في الازدياد، ما يؤدي إلى أزمات بيئية تتجاوز فيها البشرية النطاق الآمن لاستغلال موارد  الكوكب  التي حددها المجتمع العلمي (Hickel, 2020).

قياس التنمية

يؤكد علم الاقتصاد الكلاسيكي على أن زيادة الدخل يحدد نجاح أي أمة أو دولة. واستحدث سيمون كوزنتس، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، استخدام مؤشر الناتج المحلي الإجمالي لقياس الدخل القومي الأمريكي في الثلاثينيات من القرن العشرين (Prasad & Castro, 2018). وجدير بالذكر هنا أن الناتج المحلي الإجمالي هو القيمة الإجمالية للسلع والخدمات المنتجة داخل البلد. ويشمل جميع إسهامات السكان في القطاعات السوقية وغير السوقية علاوة على الخدمات الحكومية. كما أن المُنتَج القومي الإجمالي يقيس نتاج سكان البلد بغض النظر عن الموقع (Callen, 2023). وتُستخدم مؤشرات  نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي والناتج المحلي الإجمالي على نطاق واسع للسماح بإجراء مقارنات بين البلدان.

ويعد الاعتماد فقط على الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر تنموي أو مقياس للتنمية غير كافٍ لعدة أسباب. أولًا، لا يأخذ الناتج المحلي الإجمالي المستوى العام للمعيشة والرفاهية الممنوح لسكان الدولة في الاعتبار. وعلى الرغم من أن الناتج المحلي الإجمالي للفرد يُستخدم عادة لقياس رفاهية المواطن العادي، فإنه لا يراعي العوامل المهمة مثل الضرر البيئي أو التكاليف الخارجية الأخرى. علاوة على ذلك، قد تأتي زيادة الناتج على حساب استنفاد الموارد غير المتجددة. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون لعواملَ، مثل كيفية توزيع الناتج المحلي الإجمالي لبلد ما بين سكانه، تأثير في جودة حياتهم أكبر من التأثير نتيجة إهمال النمو الاقتصادي (Callen, 2023).

على سبيل المثال، تحتل الولايات المتحدة الأمريكية المرتبة الأولى من حيث الناتج المحلي الإجمالي، ولكن مؤشر “جيني” الخاص بها مرتفع، وهو مقياس شائع لتوزيع الدخل. وهذا يعني وجود فجوة كبيرة في الدخل بين أغنى الأفراد وأفقرهم في البلاد (World Bank, 2023).

على مر السنين، تم اقتراحُ مقاييسَ مركبةٍ متنوعة للتنمية. وكان مؤشر جودة الحياة المادية (PQLI) مقياسًا سابقًا ولكنه أصبح قديمًا الآن، وتم استبدال به مؤشر التنمية البشرية (HDI) الذي ابتكره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP). ويعد مؤشر التنمية البشرية مقياسًا مركبًا لثلاثة مؤشرات: نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي ومتوسط العمر المتوقع ومستوى التعليم (White, 2014).

ويعد مؤشر التنمية البشرية مقياسًا لمدى الجهود التي يبذلها بلدٌ ما، مِن أجل تحسين صحة مواطنيه وتعليمهم ومستوى معيشتهم. وهو يأخذ في الاعتبار متوسط العمر المتوقع عند الولادة، ومتوسط سنوات الدراسة للبالغين والأطفال، والدخل القومي الإجمالي للفرد. ويستخدم مؤشر التنمية البشرية لوغاريتم لإثبات أن الدخل يصبح أقل أهمية مع زيادته. ويتم دمج درجات كل بُعد من هذه الأبعاد باستخدام متوسط هندسي لإنشاء مؤشر مركب. حيث يمكن أن يوفر هذا أداة فعالة للمقارنة بين نتائج التنمية البشرية في مختلف الدول. فمن خلال فحص بلدين متشابهين من حيث نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي، يمكن لمؤشر التنمية البشرية تسليط الضوء على الفروق الواضحة في سياسات هذين البلدين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهذا بدوره يمكن أن يُشجع على إجراء مناقشات هادفة حول الأولويات والخيارات التي اتخذتها الحكومات المختلفة وتأثيرها في رفاهية مواطنيها.

وجرى انتقاد بنية مؤشر التنمية البشرية بسبب الاعتماد على مقياس مركب، ما يطرح ثلاث مشكلات رئيسية. أولًا، تحديد المتغيرات التي يجب تضمينها في المؤشر. ثانيًا، يتم اختيار الثقل والأهمية المخصصين للمتغيرات بشكل عشوائي، ما يؤثر في دقة المعدل المتوسط. أخيرًا، عندما يتم دمج مؤشرات متعددة في رقم واحد، يمكن فقدان بعض المعلومات (White, 2014). ولا يأخذ مؤشر التنمية البشرية في الاعتبار توزيع المؤشرات أو عدم المساواة في الدخل داخل البلد. بالإضافة إلى ذلك، لا يراعي مؤشر التنمية البشرية عوامل مهمة، مثل: الحرية السياسية والمساواة بين الجنسين والاستدامة البيئية.

وللتوسع في مؤشر التنمية البشرية، أنشأ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عدة مؤشرات معدلة تتضمن عوامل إضافية (الشكل 1). ويراعي مؤشر “التنمية البشرية المعدل حسب عدم المساواة” التفاوت في توزيع كل بُعد عبر السكان. ومع ذلك، نظرًا إلى محدودية توافر البيانات، فهذا المؤشر غير قادر حاليًّا على تقييم التوزيع المشترك لعدم المساواة في الأبعاد الثلاثة جميعها، أي الدخل والصحة والتعليم. وهذا يعني أنه بالرغم مِن أن مؤشر التنمية البشرية المعدل حسب عدم المساواة يمكن أن يقدم بعض الأفكار حول عدم المساواة الشاملة في التنمية البشرية، فإنه لا يمكنه أن يوفر نظرة عامة شاملة حول كيفية توزيع عدم المساواة عبر جميع الأبعاد الثلاثة (Klasen, 2018).

الشكل 2، مؤشر التنمية البشرية المعدل حسب عدم المساواة (IHDI)

المصدر: الملاحظات الفنية حول تقرير التنمية البشرية لعام 2021/2022

في عام 1995، قدم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مؤشرين لقياس التنمية المتعلقة بالنوع الاجتماعي. ومع ذلك، أدركت المنظمة الأممية لاحقًا أن هذه المؤشرات بها بعض أوجه القصور وقررت تحسينها وتنقيحها. وبناء على ذلك، فقد قدم برنامج الأمم المتحدة مؤشريْنِ جديديْنِ: مؤشر التنمية الجنسانية (GDI) ومؤشر عدم المساواة بين الجنسين (GII) – لمعالجة القضايا المتعلقة بالنوع الاجتماعي بشكلٍ أفضلَ (Klasen, 2018). ويقيس مؤشر التنمية الجنسانية أوجه عدم المساواة بين الجنسين في الصحة والتعليم والسيطرة على الموارد الاقتصادية. على الجانب الآخر، يعكس مؤشر عدم المساواة بين الجنسين العيوب القائمة على النوع الاجتماعي في الصحة الإنجابية والتمكين وسوق العمل.

الشكل 3، مؤشر التنمية الجنسانية (GDI) ومؤشر عدم المساواة بين الجنسين (GII)

المصدر: الملاحظات الفنية حول تقرير التنمية البشرية لعام 2021/2022

ويقيس مؤشر الفقر العالمي متعدد الأبعاد (MPI)، الذي جرى تقديمه في عام 2010، أوجه الحرمان على مستوى الأسرة من حيث الصحة والتعليم ومستوى المعيشة (UNDP, 2023). والمؤشر شامل، ويأخذ في الاعتبار عوامل مختلفة تتجاوز الدخل لتقييم مستويات الفقر. وهو يُقيّم قدرات الأفراد ويقيس مدى حصولهم على الاحتياجات الأساسية، مثل: التعليم والصحة وظروف المعيشة اللائقة. كما يوفر مؤشر الفقر العالمي متعدد الأبعاد (MPI)، المُصمَّم لاستكمال المؤشرات التي تركز في الدخل، فهمًا أكثر دقة للفقر. وتجدر الإشارة إلى وجود فجوات في جميع المؤشرات، خاصة فيما يتعلق بتدابير الاستدامة، التي تركز في الحفاظ على كوكب الأرض وقاعدة الموارد اللازمة لتلبية الاحتياجات البشرية الحالية والمستقبلية (Klasen, 2018).

الشكل 4، مؤشر الفقر العالمي متعدد الأبعاد (MPI)

المصدر: الملاحظات الفنية حول تقرير التنمية البشرية لعام 2021/2022

يقيس تقرير مؤشر التقدم الاجتماعي (SPI) الذي جرى ابتكاره في عام 2013، التقدم الاجتماعي. وهو مستقل عن المؤشرات الاقتصادية التقليدية وله ثلاثة أبعاد، و12 مكونًا، و60 جانبًا. وتتعلق المكونات الاثنا عَشَرَ بأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر – التي تتبع التقدم المُحْرَز نحو تحقيق هذه الأهداف والتنبؤ بالأداء بحلول عام 2030 (Social Progress Imperative, 2022). ومع ذلك، فإن أحد الانتقادات الرئيسية لمؤشر التقدم الاجتماعي (SPI) هو اعتماده الشديد على القيم الغربية (Rowan, 2022).

ما المراتب التي تحتلها مصر في المؤشرات المختلفة؟

احتلت مصر المرتبة 28 من حيث الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022. ومع ذلك، بالأخذ في الاعتبار المنتج المحلي الإجمالي للفرد، نجد أن مصر احتلت المرتبة 140 (World Bank, 2023). كما بلغ مؤشر التنمية البشرية لمصر 0.731 واحتلت المرتبة 97 في تصنيف عام 2022/2021، وَفْقًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. ومن جانب آخر، بلغ مؤشر التنمية البشرية المعدل حسب عدم المساواة لمصر 0.519 وانخفض ترتيبها 21 مركزًا لتحتل المرتبة 118 لنفس الفترة (UNDP, 2023). وأخيرًا، حصلت مصر على درجة منخفضة واحتلت المرتبة 113 من أصل 169 (المستوى 4 من أصل 6 مستويات) في مؤشر التقدم الاجتماعي، وَفْقًا لمؤسسة “سوشيال بروجرس إمبيراتيف” في عام 2022 (Social Progress Imperative, 2022).

خاتمة

يعد فحص ودراسة مؤشرات التنمية أمرًا ضروريًّا للكشف عن أوجه التفاوت العالمية وتبرير الدعم. ومع ذلك، فإن هذه المؤشرات لها قيود ولا تقدم سوى لمحة موجزة عن التنمية. وقد اتخذت الأمم المتحدة تدابير إضافية لمعالجة هذا الأمر. ويجب أن تأخذ التدخلات التنموية في الاعتبار العوامل السياقية التي تؤثر في رفاهية الأجيال القادمة وفرص نجاحها وبقائها.

وعند دراسة التنمية في مصر، فمن الواضح أن التقدم الذي حققه البلد يتسم بمؤشرات مختلطة. ففي حين أن مصر تتمتع بواحد من أعلى معدلات المنتج المحلي الإجمالي في المنطقة، فإنها تفشل في تسجيل نتائج جيدة عندما يتم دمج المؤشرات الاجتماعية. وتشمل المؤشرات الاجتماعية التي تتخلف فيها مصر الاحتياجات الأساسية، مثل: الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم ومرافق الصرف الصحي. لذا، يوصَى بأن تأخذ مصر بعين الاعتبار المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية لضمان التنمية المستدامة. ومن خلال القيام بذلك، لن تحافظ مصر على نموها الاقتصادي فحسب، بل ستعمل أيضًا على تحسين رفاهية مواطنيها.

المراجع

  • Callen, T., 2023. International Monetary Fund. [Online]
    Available at: https://www.imf.org/en/Publications/fandd/issues/Series/Back-to-Basics/gross-domestic-product-GDP
    [Accessed 10 November 2023].
  • Hickel, J., 2020. Less is More: How Degrowth Will Save the World. London: Penguin.
  • Klasen, S., 2018. Human Development Indices and Indicators: A Critical Evaluation, s.l.: UNDP Human Development Report Office.
  • Potter, R. et al., 2017. Questioning development. s.l.:Taylor & Francis.
  • Prasad, M. K. & Castro, A., 2018. International Growth Centre. [Online]
    Available at: https://www.theigc.org/blogs/gdp-adequate-measure-development
    [Accessed 17 November 2023].
  • Rowan, A., 2022. WellBeing International. [Online]
    Available at: https://wellbeingintl.org/social-progress-index/
    [Accessed 10 November 2023].
  • Social Progress Imperative, 2022. : 2022 Social Progress Index, s.l.: Social Progress Imperative.
  • UNDP, 2023. 2021/2022 Technical Notes, s.l.: United Nations Development Programme.
  • White, H., 2014. The measurement of poverty. In: V. Desai & R. Potter, eds. The Companion to Development Studies. s.l.:Taylor and Francis, pp. 60-66.
  • World Bank, 2023. The World Bank Group. [Online]
    Available at: https://databank.worldbank.org/reports.aspx?source=2&series=NY.GDP.MKTP.CD&country=
    [Accessed 10 November 2023].

قراءات إضافية

  • Human Development Indices and Indicators: A Critical Evaluation. A report by UNDP
  • 2022 Social Progress Index Methodology Report. A report by the Social Progress Imperative
  • Gross Domestic Product: An Economy’s All. An article by Tim Callen (division chief in the IMF’s Middle East and Central Asia Department)

 

المصدر

 

Share this post

Start typing and press Enter to search

Shopping Cart