الاقتصاد الاجتماعي والتضامني والحركة التعاونية في لبنان: المساهمة الاقتصادية والطاقات الكامنة
الباحث الرئيسي: نزار حريري
باحث(ة) مساعد(ة): إيلي الحايك وليا دبّاس
مساهمات في قراءات قانونيّة لقانون التعاونيات: كريم نمّور
المقدّمة
يقترح هذا التقرير دراسة إمكانيّات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في لبنان، ومساهمته الاقتصادية على المديَين القصير والمتوسّط، من خلال التركيز، بشكل خاصّ، على النموذج التعاوني كإسهام مُحتمل لحلّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي تعيشها البلاد في السنوات الأخيرة. يكتسب الاقتصاد الاجتماعي والتضامني اهتمامًا بالغًا ومتزايدًا حول العالم، وفي مختلف البلدان العربية، وذلك على صعيد السلطات المحلِّية والوطنية، كما على مستوى المؤسّسات غير الحكومية أو وكالات التنمية الدولية. كذلك يحتلّ الاقتصاد التعاوني حيّزًا مهمًّا في سياسات الإنماء والتنمية، بوتيرة متسارعة، في ظلّ الأزمات المتتالية التي يشهدها الاقتصاد الدولي في العقود الأخيرة.
ويُلاحَظ في الدول العربية بشكل خاصّ، وسط ارتفاع حدّة الانتقادات لمسارات التنمية والحوكمة السائدة التي تبلورت في مختلف مدن الربيع العربي، أنّ معظم الحكومات بدأت تعمل في الآونة الأخيرة على تطوير قطاعات الإنتاج التعاوني ودعمها، بالتشارك مع جمعيات ومنظّمات من المجتمع المدني والشركاء الاجتماعيّين، وبدعمِ المنظّمات الدولية، وإن بدرجات متفاوتة. وقد وضعت بعض الدول العربية إصلاحات جادّة في سبيل تعزيز الاعتراف بأهمّية الاقتصاد الاجتماعي والتضامني سعيًا منها إلى إرساء نماذج بديلة للإنتاج أو الاستهلاك، كما تُظهره الإصلاحات التشريعية وبرامج التطوير التي اعتمدتها مؤخّرًا تونس وفلسطين والأردن والكويت، على سبيل الذكر لا الحصر. وعلى الرغم من هذا الاهتمام المتزايد، لا يوجد حاليًّا إطار قانوني واضح المعالم في دول المنطقة العربية بشأن الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، باستثناء بعض التجارب التي قد يُبنى عليها لتعميم أسس الاقتصاد الديمقراطي في هذه الدول، منها تجارب تونسية وفلسطينية وأردنية سوف نتطرّق إليها خلال البحث. ويجدر التذكير هنا بأنّ استخدام مصطلحَيْ الاقتصاد الاجتماعي والاقتصاد التضامني ومتغيّراتهما قد لا يكون شائعًا في هذه المنطقة، وإن كانت تزخر بتجارب اجتماعية وتاريخية متنوّعة في مختلف مجالات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني أفضت إلى تطوير نماذج تعاونية تعود في معظمها إلى أوائل القرن العشرين، وهي تجارب تسبق تاريخيًّا استقلال دول المنطقة، كما تسبق تطوّر آليّات اقتصاد السوق.
قبل أن نستعرض بعضًا من تلك النماذج، وقبل الشروع في توصيف دقيق للأوضاع في لبنان، يجدر بنا بدايةً الإحاطة بمفهوم “الاقتصاد الاجتماعي والتضامني”، وبالنماذج التي قد تندرج تحت رايته.
الاقتصاد الاجتماعي والاقتصاد التضامني والاقتصاد الشعبي، كلّها مصطلحات تشير إلى الاقتصاد المتمحور على منفعة الإنسان، أي الاقتصاد الذي لا يقتصر دوره على الربحيّة وتحقيق المردود الاقتصادي الأعلى، والذي يتخطّى مسألة الفعالية الاقتصادية ليشمل أيضًا المنفعة العامة والمصالح العليا للأفراد والجماعات، والتي تنعكس من خلال مجموعة من القيم والمبادئ، كما قد تلخّصها مقولة “اقتصاد من الناس إلى الناس” (from people to people). ونذكر من مؤسّسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني التعاونيات، ومنظّمات التجارة العادلة، والجمعيات غير الحكومية، ومؤسّسات التعاضد، والمؤسّسات الاجتماعية. ترى منظّمة الأمم المتّحدة أنّ الاقتصاد الاجتماعي والتضامني هو نموذج اقتصادي بديل يتّسق مع مبادئ العدالة الاجتماعية، يمكن من خلاله معالجة التحدّيات الدائمة التي تواجه المسار الإنمائي؛ إذ إنّ مؤسّسات هذا الاقتصاد هي بحدّ ذاتها وحدات مؤسَّسية ذات غرض اجتماعي أو منفعة عامة، تشارك في الأنشطة الاقتصادية القائمة على التعاون الطوعي والحكم الديمقراطي والتشاركي والاستقلال الذاتي. وغالبًا ما تعتمد آليّات إنتاج وتوزيع الثروات فيها على غياب تحقيق الأرباح، أو على الأقلّ على الحدّ من توزيعها. بالإضافة إلى ذلك، تشكّل تلك المؤسّسات وسيلة للحدّ من فرص العمل الهشّ، غير المستقرّ أو غير اللائق، إذ تُمكِّن العمّال والمُنتِجين في القطاعَين النظامي وغير النظامي من إنشاء جمعيات وتعاونيات لتحسين ظروف العمل والوصول إلى الحمايات الاجتماعية، وتطوير أنشطة مُدرّة للدخل للحدّ من الإقصاء من أسواق العمل أو أسواق الإنتاج والاستهلاك. ولدى مؤسّسات الاقتصاد التضامني القدرة على الضلوع بدور داعم في تقديم الخدمات الصحِّية، بفضل قربها من الأعضاء المنتسبين إليها أو من المجتمعات التي تخدمها، وذلك من خلال التعاونيات الصحِّية والمؤسّسات الاجتماعية التي تلبّي الاحتياجات الصحِّية للمجتمعات المحلِّية؛ كما أنّها تؤثّر في سياسات الصحّة العامة من خلال المطالبة بخدمات اجتماعية وصحِّية مُنصِفة[1]. اكتسبت مؤسّسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني مؤخّرًا المزيد من الاعتراف بدورها خلال أزمة وباء كورونا، وفي ظلّ الأزمات الاقتصادية العالمية الناتجة منه، معزّزة الثقة بقدرات النماذج التضامنية على بناء المرونة في حقبة ما بعد الوباء، وعلى بناء القدرة على الصمود. وقد أثبتتْ النماذج التضامنية، وبخاصّة في لبنان والأردن، قدرتها على مواجهة أزمة اللاجئين والنازحين، إن على صعيد اللاجئين أو المجتمعات المضيفة.
تُعَدّ التعاونيات إحدى أبرز مؤسّسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، فهي تحظى باعتراف قانوني في معظم أنحاء العالم، في الوقت الذي تعاني فيه أشكالٌ عديدة من المؤسّسات الاجتماعية من اعتراف منتقَصٍ في العديد من الدول، وبخاصّة في المنطقة العربية. ووفقًا للتحالف التعاوني الدولي، يمكن تعريف التعاونيات بأنّها مؤسّسات اجتماعية يملكها ويديرها أعضاؤها؛ أي هي مؤسّساتٌ يديرها أعضاؤها ذاتيًّا استنادًا إلى قيم اجتماعية عدّة أهمّها المساعدة المتبادلة والذاتية والديمقراطية والمساواة والإنصاف والتضامن، لأنّها ليست مُوجَّهة فقط نحو البحث عن الربح[2]. وبحسب توصية تعزيز التعاونيات رقم 193 الصادرة عن منظّمة العمل الدولية، يُعَرَّف مصطلح “تعاونية” بأنّه رابطة مستقلّة للأشخاص المتحدّين طواعية لتلبية احتياجاتهم وتطلّعاتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المشتركة من خلال مؤسّسة مملوكة بشكل مشترك، وتتمّ إدارتها بشكل ديمقراطي. وتنصّ التوصية على أنّ التعاونيات، بمختلف أشكالها، تعزّز المشاركة الكاملة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية لجميع الناس، “إذ إنّ العولمة قد أوجدت ضغوطًا ومشاكل وتحدّيات جديدة، كما أوجدت فرصًا جديدة ومختلفة للتعاونيات”، وإنّ “هناك حاجة إلى أشكال أقوى من التضامن البشري على الصعيدَين الوطني والدولي لتيسير توزيع أكثر إنصافًا لفوائد العولمة” [3]. يُظهر عدد كبير من الدراسات المقارنة في دول البحر الأبيض المتوسّط أنّ النماذج التعاونية تعمل كمحرّك للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وذلك في الدول المتقدّمة اقتصاديًّا كما في البلدان النامية، في سياقات النموّ وفي مراحل الركود أو الأزمات على حدّ سواء[4].
يحظى الاقتصاد التضامني والقطاع التعاوني في لبنان، كما في سائر البلدان العربية، باهتمام متزايد من المؤسّسات الحكومية والشركاء الاجتماعيين؛ لكن يبدو أنّ اقتصاد ما بعد الحرب قد أسهم في تهميش القطاع التعاوني، على الرغم من تطوّر نماذج غنيّة من أشكال الاقتصاد الاجتماعي والتضامني على يد المنظّمات الأهلية والجمعيات المحلِّية والدولية.
تنظر هذه الدراسة إلى أهمِّية التعاونيات كإسهام أساسي في حلّ مشكلات الاقتصاد اللبناني بشكل عام، في مواجهة الصدمات الخارجية المتعدّدة التي عانت منها البلاد في العقد الماضي، منذ الحرب في سوريا وتدفّق اللاجئين السوريين، وصولًا إلى العديد من المخاطر والنكسات المرتبطة بغياب الاستقرار الاقتصادي والسياسي والأمني. وننطلق في نظرتنا هذه من واقعٍ يبدو فيه أنّ النماذج التضامنية في لبنان، والتعاونية تحديدًا، تطرح نفسها اليوم كحلول بديلة لمواجهة مخاطر الأزمات المتعدّدة المترافقة مع الانهيار الاقتصادي، والتي تهدّد اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، الأمن الغذائي وشبكات الأمان الاجتماعي.
ومع ذلك، عانت التعاونيات في لبنان، حتّى الآن، مشكلات هيكلية وتنظيمية داخلية، حالتْ دون تطوّرها، وبخاصّة في المجال الزراعي. ففي ما يخصّ الإنتاج الزراعي، يُجمع الباحثون والمتخصّصون على أنّ النموذج التعاوني يقدّم حلولًا فورية لمشكلات الزراعة في لبنان، من ناحية تجزئة الأراضي الزراعية وكثرة صغار المُنتِجين، وتفاوت فرص المنافسة بين الكبار والصغار منهم. وفي هذا السياق، سَعَت مساهمات العديد من المنظّمات الدولية، مثل منظّمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة ومنظّمة العمل الدولية، وبشكل لافت، إلى حثّ السلطات الوزارية على دعم المنظّمات التعاونية. وتُترجَم هذه المبادرات في أهداف إستراتيجية وزارة الزراعة التي تلحظ ما يأتي:
“التنظيم السيِّئ للمزارعين في التعاونيات والجمعيات التي يجب أن تكون بمثابة شريك رئيسي في التخطيط والبرمجة، وغياب وضع المزارع وقدراته المالية المحدودة (الوصول إلى الائتمانيات، والتدفّق النقدي، وما إلى ذلك)، والعمالة غير المتخصّصة، هي المعوقات أمام تنمية القطاع الزراعي”[5].
وبالتالي، تكمن المفارقة الخاصة بلبنان في معرفة سبب استمرار معاناة النماذج التعاونية من ضعف مؤسّساتي،في الوقت الذي تبدو فيه قادرة على تقديم حلول مباشرة وفاعلة للمشكلات الرئيسة التي يواجهها العملاء الاقتصاديون.
وتزداد أهمِّية هذا الموضوع اليوم في ظلّ أزمات لبنان المتعدّدة، بحيث تتجلّى واضحةً المخاطر غير المسبوقة التي يواجهها، المتعلّقة بالأمن الغذائي. ولهذا، فإنّ إصلاحًا شاملًا للنموذج الزراعي اللبناني من منظار تفعيل وتمكين التعاونيات الناشطة في قطاعات الزراعة والإنتاج الغذائي قد بات الآن ضروريًّا لضمان الاحتياجات الأساسية للسكّان المقيمين. كما يجدر الذكر هنا أنّ الاقتصاد الاجتماعي والتضامني غالبًا ما يوفّر حلولًا تتخطّى نطاق الإنتاج القطاعي لتشمل مساهماته تفعيل الابتكار الاجتماعي وسبل التعاضد المجتمعي في مجالات شتّى، كالتسليف التضامني أو التمويل التشاركي أو حتّى التشارك السكني، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
خلاصةً، ينظر البحث في الابتكارات الاجتماعية التي يمكن أن تفرض نفسها اليوم كحلول محتملة للأزمة الاقتصادية، وهذا انطلاقًا من المستوى العام لإعادة تعريف مفاهيم وهيكليات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وموضعتها في إطار المجتمعات المحلِّية في لبنان التي تستند، بتعدّديتها، إلى تاريخ حافل بتجارب الاقتصاد التعاوني، وصولًا إلى عشرات المساهمات التضامنية، من مقيمين ومغتربين، والتي نشأت في خضمّ الأزمات الأخيرة، كتلك التي برزت بُعَيد تفجيرات 4 آب في مرفأ بيروت.
ومع تزايد اهتمام الحكومات والشركاء الاجتماعيين حول العالم بالنماذج الاقتصادية التي ترتكز على الإنسان وعلى قيم المنفعة العامة، يشكّل هذا التقرير فرصة لتسليط الضوء على التنوّع المتزايد لنماذج المؤسّسات التي تجمع بين الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. كيف يمكن للنموذج التعاوني أن يسمح بتحويل الزراعة من شكلها الاجتماعي الحالي، المُتّسم بهيمنة الزراعة العائلية الصغيرة، إلى هيكلية أكثر إنتاجية وأكثر توجُّهًا نحو التصدير، ونحو خلق الثروة والوظائف؟ وبهذا المعنى، ما الإصلاحات التي ستكون ضرورية أيضًا لتحفيز تشكيل النماذج التعاونية وتعميمها في المستقبل في قطاع الزراعة، وفي صناعة الأغذية الزراعية، أو في قطاعات أخرى كالسكن أو التسليف، أو حتّى في قطاعات ناشئة كالبيئة والطاقة المتجدّدة أو ربّما في مجالات غير مُستكشفة بعد؟
سيرتكز السؤال الرئيسي لبحثنا على كيفيّة تحفيز مؤسّسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، أوّلًا في القطاعات التي أثبتت فيها التعاونيات فعاليتها، ثمّ في المجالات التي لم يتمّ استكشافها بعد. وبشكل أكثر تحديدًا، هل يمكن اعتبار الحركة التعاونية منطلقًا لإعادة تصويب نظام النموّ اللبناني نحو نماذج إنتاجية أكثر عدلًا وديمقراطية؟
منهجية البحث
اعتمدت هذه الدراسة على مراجعة مكتبية مُوسّعة لمجالات متعدّدة من البحث العلمي، من مجالَي الاقتصاد والاجتماع، وبخاصّة في ما يتعلّق بقطاعات التعاونيات، بالإضافة إلى مراجعة مصادر من علوم الزراعة والطبّ والعلوم القانونية. كما اعتمدنا في دراستنا على الاستشارات مع الأطراف المعنية، من خلال إجراء مقابلات معمّقة مع عيّنة من ثمانية خبراء باحثين أو أخصائيين، استغرقت ما بين نصف الساعة كحدّ أدنى والساعتَين كحدّ أقصى.
اعتمد اختيار هذه العيّنة من الخبراء على تنويع مصادر المعلومات بين معنيّين بالشأن العام أو ممثّلين عن مراكز البحث المحلِّية والدولية الخاصة أو العامة. كما شملت العيّنة أخصائيين في البحث الزراعي وخبراء ومعنيين بالقطاع التعاوني، وهم تباعًا، غلوريا أبو زيد (المديرية العامة للتعاونيات)، وجمال الأسطا (رئيسة دائرة القضايا التعاونية في المديرية العامة للتعاونيات)، وماري لويز الحايك (مديرة برامج منظّمة الأغذية والزراعة – فاو)، ورياض سعادة (مدير المركز اللبناني للأبحاث والدراسات الزراعية)، ومحمّد فرّان (باحث في كلِّية الزراعة – الجامعة الأميركية في بيروت)، وحسّان مخلوف (مهندس زراعي، أستاذ النباتات والتربة في الجامعة اللبنانية)، ورند سليمان (معهد البحوث الزراعي اللبناني – لاري)، وخضر جعفر (جهاد البناء – رئيس مجلس إدارة الاتّحاد التعاوني الإقليمي في البقاع
وأخيرًا اعتمدنا في دراستنا على استشارات قانونية قدّمها المحامي الأستاذ كريم نمّور، من المفكّرة القانونية، شملت قراءة القوانين المتعلّقة بالتعاونيات وتفسيرها، مع العلم أنّ مساهماتها تبرز في مجمل التقرير[7].
يهدف الفصل الأوّل إلى تعريف الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وتقييم مساهمته في إدارة وتعزيز الدعم العام للأشخاص والمجموعات التي تعمل تحت مظلّته، وذلك من خلال التجارب العربية التي يمكن الاحتذاء بها.
وقد خُصِّصت الفصول الثلاثة اللاحقة للإجابة تباعًا عن الأسئلة البحثية الآتية:
- لماذا عجزت الحركة التعاونية حتّى الآن عن ترسيخ نفسها كمحرّك للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في لبنان، بينما يبدو أنّها تشكّل استجابة مناسبة لعدد كبير من المشكلات التي يواجهها مُنتِجو البلد، بخاصّة في المناطق الريفية؟ )الفصل الثاني).
- أيّ مساهمة اقتصادية تقدّمها الزراعة حتّى الآن لجهة خلق الثروات وفرص العمل في نموذج النموّ ما بعد الحرب؟ ما الإستراتيجيات والسياسات الإنمائية الرئيسة المعتمدة حتّى الآن؟ كيف أثّرت الأزمة الحالية على القطاع الزراعي؟ وكيف باتت تهدّد راهنًا الأمن الغذائي للبلاد؟ وما الخطوات الإصلاحية من أجل تحفيز الحركة التعاونية وتوسيعها في قطاعَي الزراعة والصناعة الغذائية، وفي القطاعات الأخرى حيث لم يتمّ اختبار التعاونيات بعد؟ )الفصل الثالث)
- ما إمكانات الابتكارات الاجتماعية التي يمكن حشدها في إطار الاقتصاد التضامني والتعاوني في لبنان، لا سيّما في سياق الأزمات؟ )الفصل الرابع)
الفصل الأوّل: لمحة عامة عن الاقتصاد الاجتماعي والتضامني والنموذج التعاوني في لبنان ودول المنطقة العربية
يهدف هذا الفصل إلى تعريف الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وتقييم مساهمته في إدارة وتعزيز الدعم العام للأشخاص والمجموعات التي تعمل تحت مظلّته. يشمل هذا الاقتصاد وحدات مؤسّسية ذات غرض اجتماعي أو عام، تشارك في الأنشطة الاقتصادية القائمة على التعاون الطوعي والحكم الديمقراطي والتشاركي والاستقلال الذاتي، وغالبًا ما تحظر قواعده السعي إلى تحقيق الربح المال، أو هي تحثّ على أقلّه على الحدّ من توزيع الأرباح. وفي ظلّ غياب الاعتراف الرسمي بنماذج الاقتصاد الاجتماعي والتضامني أو ضعف الأطر القانونية التي ترعاه، ترسم تلك التعريفات الخطوط العريضة لأشكال الاقتصاد الديمقراطي الذي أثبت نجاحاته في العديد من القطاعات الإنتاجية حول العالم، بهدف توفير مبادئ توجيهية للسياسات الاقتصادية، وبهدف وضع خارطة طريق من أجل بيئة مؤاتية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني.
إذًا، إنّ الاقتصاد الاجتماعي والتضامني مصطلح شامل يغطّي الوحدات المؤسّسية التي لا تقتصر أعمالها على تحقيق الربح الاقتصادي، وإنّما تسعى إلى إضفاء طابع اجتماعي وأخلاقي لنشاطها، وفقًا لمجموعة من القيم والمبادئ المحدّدة التي، بتعدّدها، تسمح بتحديد بعض القواسم المشتركة التي يُشترط توافرها في مؤسّسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، أوّلها التعاون الطوعي، وثانيها الأغراض الاجتماعية أو العامة كأهداف نهائية للنشاط الاقتصادي، وثالثها الحكم الذاتي والاستقلال، ورابعها ألّا يبغي النشاط الاقتصادي الربح، أو على الأقلّ الحدّ من توزيع الأرباح، وأخيرًا الحكم الديمقراطي والتشاركي. ويتطلّب احترام قيم ومبادئ الاقتصاد الاجتماعي والتضامني احترام وضع العمّال وحقوقهم واحتياجاتهم وتطلّعاتهم وقدرتهم على المساهمة أو التحكّم في السياسات والممارسات على مستوى المؤسّسة.
وقد تتعدّد أيضًا الأشكال التنظيمية لمؤسّسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، إلّا أنّ التعاونيات تشكّل أبرزها، بالإضافة إلى الجمعيات الأهلية، ومجموعات المساعدة الذاتية، والشركات الاجتماعيّة، والمنظّمات والمؤسّسات الخيرية.
في السنوات الأخيرة، ازداد الاهتمام بمؤسّسات الاقتصاد التضامني عمومًا، وبالتعاونيات بشكل خاصّ، بصفتها مؤسّسات مملوكة و/أو مسيطرًا عليها ديمقراطيًّا، وباعتبارها آليّات أساسية لدعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة الشاملة.
أوّلًا، بصفتها جهات فاعلة اقتصاديًّا، تخلق التعاونيات الثروات من خلال الاعتماد على نموذج اندماجي، لا سيّما بالنسبة إلى أفراد مُعرَّضين للإقصاء من سوق العمل أو من مصادر التمويل. ثانيًا، بصفتها منظّمات اجتماعية، بحيث تبني التعاونيات هيكليات مشتركة تسعى إلى تحقيق أهداف موحّدة متجذّرة في الأرض أو في بيئتها الحاضنة، وتوفّر الأمن والحماية، بخاصّة لأعضائها الأكثر ضعفًا. أخيرًا، بصفتها جمعيات طوعية مُدارة ذاتيًّا (ومن حيث المبدأ، يديرها أعضاؤها بشكل ديمقراطي)، يمكن للتعاونيات أن تعمل كمحفّزات للابتكارات الاجتماعية التي تتجاوز أحيانًا النيّات الأولى لمؤسّسيها، من خلال توليد التماسك الاجتماعي، والانفتاح على مبادرات المواطنين، واستنباط إمكانيات لم يتمّ استكشافها بعد في بيئتهم. وبهذا المعنى، تستفيد التعاونيات بشكل عام، من خلال قوانينها، من الإعفاءات الضريبية ومزايا الدعم، بحيث يُفترَض أن تخلق، إلى جانب أنشطتها الاقتصادية المُربحة، خدمات اجتماعية ذات منفعة عامة.
مساهمة التعاونيات في الاقتصاد العالمي
تشير التقديرات إلى أنّ ما يقرب من 1 من كلّ 6 أشخاص من سكّان العالم مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالتعاونيات. في الواقع، أفادت قاعدة بيانات عملاقة عن التعاونيات، أُنشئت للأمانة العامة للأمم المتّحدة في العام 2014، عن وجود 2.6 مليون تعاونية في جميع أنحاء العالم، بإجمالي مليار عضو أو عميل. تحتلّ فرنسا المرتبة الأولى من حيث عدد الأعضاء أو العملاء، تليها فنلندا وسويسرا والنمسا؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ قبرص تحتلّ المرتبة التاسعة وفقًا لهذا الترتيب[8]. وحتّى مع استثناء ما يقرب من 980000 تعاونية صينِية (بسبب نقص البيانات المشتركة مع الصين)، خلُصَ الإحصاء إلى أنّ التعاونيات توظّف 12.6 مليون شخص، موزّعين على أكثر من 770000 مبنى أو مكتب، يتشاركون مخزونًا من الأصول بقيمة 20 تريليون دولار أميركي، ويولّدون 3 تريليون دولار أميركي كدخل سنوي[9].
من وجهة نظر مساهمة التعاونيات في الاقتصاد الوطني وفي تكوين الثروة، أي من وجهة نظر وزنها النسبي في الناتج المحلِّي الإجمالي، تحتلّ نيوزيلندا المرتبة الأولى مع 20% من الناتج المحلِّي الإجمالي، تليها هولندا 18% وفرنسا 18% وفنلندا 14%. أخيرًا، من حيث مساهمات التعاونيات في التوظيف، احتلّت نيوزيلندا المرتبة الأولى، تليها سويسرا وفرنسا وإيطاليا ومالطا.
بالإضافة إلى الإنجازات التي حقّقتها في البلدان المتقدّمة، نالت التعاونيات اعتراف منظّمة العمل الدولية باعتبارها من العوامل الدافعة إلى التنمية الاقتصادية، وخلق فرص عمل لائقة، ولا سيّما لمساهمتها في أهداف التنمية المستدامة في الاقتصادات النامية كما المتطوّرة[10].
السياق التاريخي لظهور مفهوم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في العالم العربي
يمكن اعتبار ابن خلدون من مؤسّسي الخطاب حول الاقتصاد الاجتماعي في العالم العربي الإسلامي، إذ يشير إلى أنّ توزيع العمل بين الأفراد يؤدّي إلى رفع إنتاجيّته “ذلك أنّه قد عرف وثبت أنّ الواحد من البشر غير مستقلّ في تحصيل حاجاته ومعاشه، وأنّهم متعاونون جميعًا في عمرانهم على ذلك؛ والحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تسدّ ضرورة الأكثر من عددهم أضعافًا”[11]، وهي نظرية سابقة للدراسات التي أعدّها “آدم سميث” (Adam Smith) في القرن الثامن عشر عن تقسيم العمل الصناعي، والتي ترتبط أوّلًا بشروط الإنتاج الرأسمالية.
تستند الحركات التعاونية في المنطقة العربية إلى تاريخ زاخر بالتجارب التضامنية. وتتعدّد الأمثلة، منها عادات “العونة” القروية في لبنان، أو “التويزة” في تونس والمغرب. تحمل “الرّغاطة” أو “التويزة”، أو ما يُتعارف على تسميته أيضًا بـ”السخرة الجماعية”، أوجه شبه مع عادات العونة القروية في لبنان. فـ”التويزة” نوعان: “التويزة” الجماعية التي يتعاون خلالها أبناء القبيلة الواحدة من أجل قضاء شأن يندرج ضمن المصلحة العامة للجماعة كلّها، و”التويزة” الخاصّة التي يستدعي خلالها فرد بقيّة أعضاء المجموعة التي ينتمي إليها من أجل مساعدته على قضاء شأن خاصّ[12]. وتجد عادات “التويزة” جذورًا تاريخية في المغرب، وتحديدًا في الثقافة الاقتصادية الأمازيغية[13]. في لبنان، تُعَدّ بعض العادات القروية كـ”العونة” و”رفع العتبة” من التقاليد التضامنية المتجذّرة في الثقافة الشعبية، بحيث تقتضي عادات “رفع العتبة” مثلًا، تجنيدَ شباب القرية لمساعدة البنّائين على رفع سقف المنزل أو تثبيت العتبة الفوقية لباب البيت، كما تفرض معايير “العونة” إسهام الجيران والأقرباء في عمليات القطاف والزرع.
تُظهر تلك الأمثلة أنّ مفاهيم الاقتصاد التضامني وقيمه متجذّرة في أصول الثقافة الشعبية في العوالم العربية، وهذا ما يحثّنا على اعتبار مأسستها تكريسًا لقيم مجتمعية تربط الاقتصاد الفردي أو الخاص بقدرات الجماعات على إرساء معايير تشاركية في العمل والإنتاج.
الاقتصاد الاجتماعي التضامني والقطاعات التعاونية في المنطقة العربية
في المنطقة العربية 30000 تعاونية تقريبًا، معظمها زراعية (59 في المئة). ويُعدّ العراق من أكثر دول المنطقة العربية التي دعمت تطوّر الحركات التعاونية، بحيث ينتشر على أراضيه 16 اتحادًا تعاونيًّا، و881 تعاونيةً إنتاجية، و221 تعاونية استهلاكية، و49 تعاونية متخصّصة، وثلاث مزارع جماعية.
بالإضافة إلى التعاونيات، تشهد المنطقة العربية مؤخّرًا نهضة لمشاريع زيادة الأعمال الاجتماعية، بحيث يدمجها روّادها بالأهداف والنتائج الاجتماعية التي تشكل محور عملهم. ففي عام 2010، بلغ عدد روّاد الأعمال الاجتماعية المعترف بهم دوليًّا في المنطقة العربية 78، كان 73 منهم في الأردن وفلسطين ولبنان ومصر والمغرب[14].
يعدّ المغرب، إلى جانب تونس، من أكثر الدول العربية إسراعًا في مأسسة الاقتصاد التضامني، بحيث عرف، ابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي، تحوّلات سريعة في هذا الاتّجاه، ويظهر ذلك جليًّا في مخطّط التنمية الاقتصادية والاجتماعية 1988-1992 الذي تبنّته مديرية التخطيط مع مخطّط التنمية الاقتصادية والاجتماعية 2000-2004.[15] وقد اعتبر مخطّط التنمية الاقتصادية والاجتماعية أنّ التعاونيات مقاولات مستقلّة منخرطة في المنافسة، مع التأكيد على العمل على تهيّؤ محيط مناسب لإعادة “هيكلة وتأهيل القطاع التعاوني وتقوية دوره، وذلك عبر اعتماد الشراكة والتعاقد بين التعاونيات ومكوّنات الاقتصاد الاجتماعي الأخرى والإدارة والمؤسّسات العمومية والجماعات المحلِّية والغرف المهنية”[16]. وفي المغرب اليوم أكثر من 6000 تعاونية تضمّ عضوية أكثر من 337000 منتسب، وتؤمّن أكثر من ثلاثة ملايين فرصة عمل[17].
وبشكل أعمّ، تُعدّ مؤسّسات الاقتصاد التضامني من أهمّ وسائل الوصول إلى الحماية الاجتماعية في المنطقة العربية. فعلى سبيل المثال، تسهم المملكة العربية السعودية في نسبة 37 في المئة من عقود التكافل عالميًّا، وهو نموذج تأمين تعاوني يؤدّي دورًا رئيسًا في التخفيف من حدّة الفقر وتعزيز الرخاء المشترك. بالإضافة إلى الوصول إلى الحمايات القانونية والاجتماعية، تساعد وحدات الاقتصاد التضامني على توسيع نطاق وحدات الاقتصاد غير الرسمي عن طريق تعزيز موقفهم التفاوضي وتوسيع نطاق أنشطتهم من خلال الأشكال الجماعية لريادة الأعمال، ناهيك عن تسهيل وصول العمّال إلى الحماية الاجتماعية.
وأخيرًا، تحقّق النماذج التعاونية، في بعض الحالات، نجاحات اقتصادية مبهرة، قد تسمح حينها للجمعيات التعاونية بتوزيع ثرواتها أو فائض إنتاجها خارج نطاق أعضائها أو مجتمعاتها المحلِّية. وخير مثال على ذلك سيطرة جمعيات تعاونية كويتية عام 2018 على 65 في المئة من سوق الأغذية والمشروبات في البلاد. تخصّص تلك التعاونيات الاستهلاكية 25 في المئة من صافي إيراداتها للجمعيات الخيرية؛ وتوجد نماذج مماثلة في جميع دول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية الأخرى.
بناءً على ما سبق، تسمح لنا قراءة أكثر تفصيلًا لبعض التجارب في المنطقة العربية باستخلاص عِبَر يمكن تبنّيها لدعم حركة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني.
ملخّص عن التجربة التونسية
تشكّل التجربة التونسية حالة رائدة في المنطقة العربية، بحيث تبنّت تونس إطارًا قانونيًّا واضح المعالم للاعتراف بالاقتصاد التضامني وتنظيم مؤسّساته. ففي حزيران عام 2020، صادق مجلس نوّاب الشعب التونسي على قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي هدف إلى وضع أوّل إطار تشريعي في تونس ينظّم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، كما يضع التعريفات القانونية الأساسية التي تسمح بتنظيم القطاع. يعرّف المشرّع نشاطات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بأنّها “مجموع الأنشطة الاقتصادية ذات الغايات الاجتماعية المتعلّقة بإنتاج السلع والخدمات وتحويلها وتوزيعها وتبادلها وتسويقها واستهلاكها، التي تؤمّنها مؤسّسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني استجابةً للحاجيات المشتركة لأعضائها والمصلحة العامة الاقتصادية والاجتماعية”[18]. ينصّ القانون التونسي على أنّ مؤسّسة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني هي كلّ مؤسّسة خاضعة للقانون ومن بينها “التعاضديات والشركات التعاونية للخدمات الفلاحية ومجامع التنمية الفلاحية والجمعيات التعاونية”، كما تمّ دمج جمعيات التمويل الصغيرة وشركات التأمين ذات الصبغة التعاونية تحت هذا التعريف.
لم تأتِ المبادرة من مؤسّسات الدولة ولم تفرضها السلطات العليا عموديًّا (ما قد يذكّر بفشل التجربة التعاضديّة التي اعتمدتها تونس بدفع من الرئيس بورقيبة خلال ستينيات القرن الماضي[19])، بل نبعت من منظّمات المجتمع المدني والاتّحاد العام التونسي للشغل، وانخرط فيها المواطنون وأصحاب القطاع والمعنيون بالأمر. وكما تُظهر دراسات المفكّرة القانونية ومنشوراتها، تطلّب صدور القانون الخاص بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني أكثر من ثلاث سنوات[20]. وفيما خصّ علامة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني التي تُعدّ تأشيرة الدخول إلى هذا القطاع، نصّت آليّات القانون على منح العلامة آليّات للتعاضديات، بما في ذلك الشركات التعاونية للخدمات الفلاحية، ومجامع التنمية في قطاع الفلاحة والصيد البحري، والجمعيات التعاونية، وجمعيات التمويل الصغير، وشركات التأمين ذات الصبغة التعاونية. تُمنح تلك العلامة للجمعيات والشركات وتجمّعات المصالح الاقتصادية بعد دراسة ملفّاتها والتثبّت من مدى التزامها بمبادئ الاقتصاد الاجتماعي والتضامني نصًّا وسلوكًا.
كذلك سعى القانون إلى تأمين مصادر التمويل من خلال إنشاء مصارف تعاضدية وآليّات لضمان التسليفات، كما ألزم المشرّع الإدارة بتخصيص “نسبة من الطلبات العمومية لفائدة مؤسّسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني مع احترام مبدأ المنافسة وتكافؤ الفرص بينها”.
ويبقى الرهان في تونس اليوم على قدرة البلديات والمجتمعات المحلِّية على دعم مسار المؤسّسات التضامنية وتأمين مصادر إضافية لتمويلها بما يدعم سياسات التنمية المحلِّية اللامركزية، ويسمح في الآن نفسه بتعميم التجارب، أو على الأقلّ بنقلها من حالات استثنائية محصورة بأطر جغرافية مركّزة إلى نسيج متكامل من الهياكل الاقتصادية.
التوجّهات التضامنية في الاقتصاد الفلسطيني
في عام 2009، ساعدت منظّمة العمل الدولية السلطة الوطنية الفلسطينية على تطوير سياسة تنموية للتعاونيات بغية دعم الإصلاحات في الحركة التعاونية الوطنية، وبهدف توحيد القانون التعاوني في البلاد الذي كان حتّى ذلك الوقت، في الضفّة الغربية وفي قطاع غزّة، منوطًا بقوانين الأردن ومصر.
منذ ذلك الحين، تشكّل سياسات القطاع التعاوني في فلسطين خطوة هامّة نحو التأسيس لاستقلال اقتصاديّ مبنيّ على إستراتيجيات محلِّية لدعم البيئة الاقتصادية والاجتماعية؛ يُعَدّ هذا القطاع أداة اجتماعية وثقافية لبناء القدرات والتعليم وتطوير المهارات لدعم صمود المُنتِجين والعاملين في قراهم ومدنهم. وبالتالي، تكوّن الإصلاحات التعاونية الفلسطينية حالة نموذجية لتجسيد العلاقة البنيوية بين الاقتصاد التضامني والإصلاح الاجتماعي والسياسي.
تعود بدايات الحركة التعاونية في فلسطين إلى ما يقرب القرن، مع تأسيس أوّل تعاونية للتبغ في عام 1924. وتزخر التجربة الفلسطينية بتاريخٍ حافل من الإنتاج التعاوني سبق إنشاء أوّل قانون للتعاونيات في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، ويجدر الذكر أنّ عدد التعاونيات المسجّلة ما قبل عام 1948 ناهز 244 تعاونية. ولم تنحصر التجارب التعاونية في ذلك الحين بالإنتاج الزراعي، بل تخطّته لتشمل تعاونيات الاستهلاك والنقل والتسليف. وبحسب منظّمة العمل الدولية، بلغ إجمالي تعداد التعاونيات المسجَّلة لدى الإدارة العامة للتعاون في وزارة العمل، في عام 2016، 957 تعاونية، منها 172 تعاونيةً في قطاع غزّة و785 تعاونيةً في الضفة الغربية، من ضمنها 240 تعاونيةً مصنَّفة على أنّها تعاونيات تحفيزية. وتتوزّع التعاونيات بشكلٍ رئيسي على خمسة قطاعاتٍ هي: الزراعة والإسكان والخدمات والحِرَف اليدوية والقطاع الاستهلاكي.
وفي شباط من العام 2017، أطلقت رئاسة الوزراء الفلسطينية إستراتيجية قطاع التعاونيات. تتمحور الإستراتيجية حول ثلاث ركائز رئيسة تتمثّل في تعزيز البيئة المؤسّسيّة بما يسمح للحركة التعاونية بالنموّ والتطوّر، وتحسين أداء التعاونيات ماليًّا وتنظيميًّا، وتوسيع نطاقها ليشمل قطاعاتٍ جديدة، منها، على سبيل المثال لا الحصر، البيئة وإعادة التدوير والطاقة المتجدّدة. وتسلِّط الإستراتيجية الضوء على أهمِّية الإنفاق على توعية الشباب ومحو أمِّيّتهم في مجال التعاونيات، واستطلاع إمكانيات قطاع التكنولوجيا بالنسبة إلى الشباب والنساء.
في تشرين الثاني من العام 2020، أطلقت منظّمة العمل الدولية، بالشراكة مع هيئة العمل التعاوني، برنامج الدعم التعاوني بعنوان “كُن الأثر” (Be The Impact). يتماشى هذا البرنامج تمامًا مع أجندة السياسة الوطنية وإستراتيجية القطاع التعاوني “الإصلاح والتنمية” 2018-2022، إذ يحثّ على إعطاء الأولوية لمُنتَجات الجمعيات التعاونية الزراعية في عقود الشراء العام، وإعطاء الفئات المهمّشة القدرة على التنافس مع الشركات الكبيرة من خلال الوصول إلى الإمدادات والموادّ الخام والمعدّات بأسعار معقولة، ودعم تسويق المُنتَجات والمبيعات.
أخيرًا، تشكّل تعاونيات التسليف في فلسطين نموذجًا يُحتذى به من أجل تمكين النساء وخفض الفوارق الجندرية، وبخاصّة في الأسواق المالية. وقد بلغ عدد الجمعيات التعاونيّة للادّخار والتسليف، المنضوية في اتّحاد هذه الجمعيات، 12 جمعية تغطّي نحو 224 موقعًا، منها 154 قرية فلسطينية. وبلغ عدد مُستخدمي هذه الجمعيات 5281 مُستخدمًا، 85 في المئة منهم من النساء في نهاية عام 2019.[21]
إصلاح القطاع التعاوني في الأردن ودور التعاونيات في معالجة أزمة اللاجئين
تؤدّي الحركة التعاونية دورًا رئيسًا في العديد من جوانب الحياة في الأردن، وتسهم في تنمية المجتمع على عدّة مستويات. صدر القانون التعاوني الأوّل في الأردن عام 1952، وتمّ تأسيس الاتّحاد التعاوني المركزي الأردني في عام 1959 لتقديم القروض والبذور والأسمدة والمبيدات ومستلزمات الإنتاج للمزارعين بأسعار مناسبة؛ إنّما غابت منذ ذلك الحين إستراتيجية تنمية طويلة الأجل للقطاع التعاوني. وعلى الرغم من ذلك، كان يُنظر إلى الحركة التعاونية الأردنية على أنّها قويّة ومتجذّرة في القطاع الخاص. إلّا أنّ هذه الحركة واجهت، في أواخر القرن العشرين، وضعًا صعبًا ناتجًا من ادّعاء الدولة احتكار جميع العمليات المتعلّقة بالتنمية التعاونية عبر الاتحاد التعاوني المركزي الأردني، في حين أنّها تعجز عمليًّا على تقديم الخدمات التي يشملها هذا الاحتكار. ومع توقُّف أنشطة الاتّحاد التعاوني المركزي الأردني، لم يعد بإمكان التعاونيات الوصول إلى خدمات التعليم والتدريب والإدارة والاستشارات.
جرى مؤخّرًا تطوير الإستراتيجية الوطنية للحركة التعاونية الأردنية 2021-2025، نتيجة للحاجة الملحّة لمعالجة الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي شلّت الحركة التعاونية في الأردن في العقود الأخيرة. وعلى الرغم من كثرة العقبات التي واجهتها الحركة التعاونية في الأردن، فإنّ البيئة التعاونية تتّصف بتنوّع مناخاتها، إذ لا تنحصر في المجالات الزراعية، بل تشمل، بشكل أساسي، تعاونيات التسليف والإسكان وتمكين المرأة. وبالفعل، تشكّل التعاونيات الزراعية والتعاونيات متعدّدة الأغراض، التي يشارك معظمها في الإمداد الزراعي والتسويق والتمويل، 75 في المئة من جميع التعاونيات الأوّلية، و64 في المئة من مجموع الأعضاء. تتركّز تعاونيات الإسكان، بشكل أساسي، في المناطق الحضرية، وتُعَدّ ثالث أكبر القطاعات التعاونية، تليها تعاونيات تمكين المرأة التي تنشط في العديد من القطاعات الاقتصادية المختلفة، منها الزراعة والحِرَف اليدوية وإنتاج المنسوجات وتوفير الرعاية والخدمات المالية وما إلى ذلك.
وكما في فلسطين، تسهم التعاونيات الأردنية، وبشكل ملحوظ، في محاربة الفوارق الجندرية، غير أنّها تمتاز عن سائر دول المنطقة العربية من خلال إثبات نجاحها في دمج فئات عديدة من اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، منذ اندلاع الحرب في سوريا في العام 2011. وبالفعل، أدّت التعاونيات الأردنية دورًا حاسمًا في مواجهة أزمة اللاجئين القادمين من سوريا في العقد الأخير، إذ أُصدِرَت آلاف تصاريح العمل للاجئين السوريين من خلال التعاونيات الزراعية. بالإضافة إلى ذلك، أُنشِئَت أنشطة مُدرَّة للدخل للأردنيين وللاجئين السوريين ضمن التعاونيات، بما في ذلك برامج النقد مقابل العمل.
خلاصة الفصل الأوّل: العِبَر المستخلصة من مقاربة بعض الدول العربية
الجدول رقم 1– ملخّص عن أهمّ التجارب التضامنية والتعاونية في الأوطان العربية
إطار للاعتراف بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني | أهمّ المساهمات القطاعية | |
تونس | إطار قانوني واضح المعالم | منح علامة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني للتعاضديات وجمعيات التمويل الصغيرة وشركات التأمين ذات الصبغة التعاونية |
المغرب | إطار جزئي من خلال مخطّط التنمية الاقتصادية والاجتماعية ١٩٩٨ | التعاونيات تضمّ عضوية أكثر من 337000 منتسب وتؤمّن أكثر من ثلاثة ملايين فرصة عمل |
فلسطين | لا إطار، ولكن توحيد للقانون التعاوني في البلاد عام ٢٠٠٩ | التعاونية أداة اجتماعية وثقافية لبناء القدرات ولدعم صمود المُنتِجين والعاملين في قراهم ومدنهم، مع إعطاء الأولوية لمُنتَجات الجمعيات التعاونية الزراعية في عقود الشراء العام تعاونيات التسليف في فلسطين وسيلة أساسية لتمكين النساء وخفض الفوارق الجندرية، تضمّ 5281 مستخدمًا، 85 في المئة منهم من النساء |
الأردن | لا إطار، مع احتكار الاتّحاد التعاوني المركزي الأردني | تعاونيات الإسكان ثالث أكبر القطاعات التعاونية تعاونيات تمكين المرأة هي رابع أكبر القطاعات التعاونية أدّت دورًا حاسمًا في مواجهة أزمة اللاجئين القادمين من سوريا |
دول الخليج | لا إطار، ولكن إطار لعقود التكافل، وهو نموذج تأمين تعاوني | الكويت: تستحوذ التعاونيات على 65 في المئة من سوق الأغذية والمشروبات تخصّص التعاونيات الاستهلاكية في دول مجلس التعاون الخليجي جزءًا من صافي إيراداتها للجمعيات الخيرية، قد يصل إلى 25 في المئة كما في الكويت |
يمكن استخلاص بعض العِبَر من تجارب شبيهة في الأوطان العربية، ومنها:
- ضرورة تبنّي الدولة إطارًا قانونيًّا واضح المعالم للاعتراف بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني وبمؤسّساته كما في تونس؛
- منح علامة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، كما في تونس، للتعاضديات وجمعيات التمويل الصغيرة وشركات التأمين ذات الصبغة التعاونية؛
- دعم دور التعاونية كأداة اجتماعية وثقافية لبناء القدرات والتعليم وتطوير المهارات، لدعم صمود المُنتِجين والعاملين في قراهم ومدنهم، أسوة بالتعاونيات الفلسطينية، ومن أجل دعم وتطوير المجتمع المحلِّي، الريفي منه بشكل خاصّ؛
- تطوير إستراتيجية وطنية للحركة التعاونية لتشمل القطاعات التكنولوجية الحديثة كالطاقة المتجدّدة والحفاظ على البيئة، كما في فلسطين، ممّا قد يسهم في إيجاد حلول بديلة لأزمات الكهرباء أو تلوّث الأنهار التي تشهدها الدول، منها لبنان، على سبيل المثال لا الحصر؛
- تطوير إستراتيجية التعاونيات السكنية، كما في الأردن، لتصبح أحد الحلول لمشكلات الحقّ في السكن والحقّ في المدينة؛
- تطوير إستراتيجية لتعاونيات التسليف، كما في فلسطين والأردن، لتكون أداة أساسية لتمويل الأعمال، ولمحاربة الإقصاء المالي للعديد من الفئات المهمّشة، وبخاصّة الأعمال التي ترأسها نساء؛
- إعطاء الأولوية لمُنتَجات الجمعيات التعاونية في عقود الشراء العام، كما في فلسطين، لتفادي سيطرة شركات المستوردين وكبار الموزّعين على العقود العامة، ولإرساء معالم أكثر تنافسية وأكثر عدلًا للمُنتِجين المحلِّيين الساعين إلى إرساء نماذج اقتصادية ديمقراطية ومُستدامة؛
تفعيل دور روّاد الأعمال الاجتماعية والتضامنية من خلال إرساء الاعتراف بشكل المؤسّسات الاجتماعية، أسوةً بما نجده في الكويت ودول الخليج، كشركات لا تبتغي الربح، أو تبتغي الربح لكن أقلّه مع المحافظة على طبيعتها الاجتماعية ومع تأمين آليات لتوزيع أجزاء من الأرباح على جمعيات المجتمع المدني.
[1] إسكوا، الاقتصاد الاجتماعي التضامني أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية، سلسلة السياسات العامة أوراق موجزة، بيروت، 2014.
[2] hhtps://ica.coop
[3] توصية تعزيز التعاونيات رقم 193 الصادرة عن منظّمة العمل الدولية.
[4] Esim, Simel. Omeira, Mansour. 2009. “FAO-IFAD-ILO Workshop on Gaps, trends and current research in gender dimensions of agricultural and rural employment: differentiated pathways out of poverty”. Rome. Italy. 2009.
ILO. 2011. “Rural Policy Brief. The Role of Cooperatives in Achieving the Sustainable Development Goals- the economic dimension”. Expert Group Meeting and Workshop on Cooperatives. Nairobi. Kenya.
Ghadban, Elias. 2013. Cooperative enterprises and agricultural development: the case of Lebanon. PhD Thesis. SOAS, University of London.
[5] MoA. 2015. Ministry of Agriculture Strategy 2015-2019. Beirut Lebanon.
[7] يرغب الباحث الرئيسي في شكر كّل من ساهم في تنفيذ هذه الدراسة، بالأخصّ من وردت أسماؤهم، إلّا أنّه يؤكد تحمّله وحيدًا مسؤولية أيّ خطأ وارد فيها.
[8] نحن نتحدّث هنا عن “أعضاء أو عملاء” بمعنى عدد المشاركة (أو العضوية أو الانتساب) في الهيكل، وليس بمعنى عدد الأفراد أو الأشخاص. على سبيل المثال، يوجد في فرنسا 147 مليون عضو أو زبون للتعاونيات، في بلد يبلغ عدد سكّانه 65 مليون نسمة، لذلك سيكون كلّ ساكن عضوًا أو عميلًا لـ 2,25 تعاونية كمعدّل وسطي.
[9] UN. 2014. “Measuring the Size and Scope of the Cooperative Economy: Results of the 2014 Global Census on Cooperatives”. UN Department of Economic and Social Affairs, Dave Grace and Associates.
[10] Wanyama, Fredrick. 2016. “Cooperatives and the sustainable development goals a contribution to the post-2015 development debate”. ILO. Geneva. Switzerland.
[11] ابن خلدون، مقدّمة ابن خلدون، الجزء الثاني، الباب الرابع: الكتاب الأوّل في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق؛ الفصل الحادي عشر: في أنّ تفاضل الأمصار والمدن في كثرة الرزق لأهلها ونفاق الأسواق إنّما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلّة.
[12] المفكّرة القانونية، الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في تونس… بين زمنَين، 17/11/2020.
[13] محمّد أعراب ومعاذ النجاري، مفهوم الاقتصاد الاجتماعي ورهانات كسب تحدّي التنمية البشرية، 2021.
La Revue Marocaine de la Pensée Contemporaine. NUMERO 8, juillet 2021-ISSN : 2605-6488.
[14] إسكوا، المرجع نفسه.
[15] مخطّط مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية 1988-1992، مديريّة التخطيط.
[16] محمّد أعراب ومعاذ النجاري، المرجع نفسه.
La Revue Marocaine de la Pensée Contemporaine. NUMERO 8, juillet 2021-ISSN : 2605-6488.
[17] محمّد أعراب ومعاذ النجاري، المرجع نفسه.
La Revue Marocaine de la Pensée Contemporaine. NUMERO 8, juillet 2021-ISSN : 2605-6488.
[18] محمّد العفيف الجعيدي، معادلة مؤسّسات الاقتصاد التضامني الصعبة: الخصوصية والديمومة، المفكّرة القانونية، 17/11/2020.
[19] وسيم العبيدي، ديناميات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في تونس: تاريخ من التوظيف والتطويع، المفكّرة القانونية، 17/11/2020.
[20] المفكّرة القانونية، حوار مع لطفي بن عيسى: الاقتصاد الاجتماعي والتضامني عنوان “لأنسنة” الاقتصاد، 17/11/2020.
[21] ILO. 2019. Enhanced programme of development cooperation for the occupied Arab territories. 337th Session, Geneva, 24 October–7 November 2019.
https://www.ilo.org/wcmsp5/groups/public/—ed_norm/–relconf/documents/meetingdocument/wcms_722028.pdf
المصدر