الجمعيات التعاونية في لبنان: أو البحث عن الطاقات الكامنة
في إطار البحث عن سبل لمواجهة الأزمة التي تنهش المجتمع اللبناني، أعدّت “المفكرة القانونية” بالتعاون مع الباحث الاقتصادي نزار الحريري دراسة حول إمكانيّات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في لبنان، ومساهمته الاقتصادية على المديَين القصير والمتوسّط، من خلال التركيز، بشكل خاصّ، على النموذج التعاوني. يكتسب الاقتصاد الاجتماعي والتضامني اهتمامًا بالغًا ومتزايدًا حول العالم، وفي مختلف البلدان العربية، وذلك على صعيد السلطات المحلِّية والوطنية، كما على مستوى المؤسّسات غير الحكومية أو وكالات التنمية الدولية. ننشر هنا جزءًا من هذه الدراسة التي ستصدر في نشرة خاصّة، وهو الجزء الذي نرسم فيه واقع الجمعيات التعاونية في لبنان وتطوّرها قبل الحرب وما بعدها، وأبرز عوامل الخلل والمعوقات التي تعاني منها (المحرر).
ظهرت التعاونيات بأشكالها الحديثة في لبنان منذ عام 1964، وذلك إثر إقرار قانون الجمعيات التعاونية، مع العلم أنّ أوّل أشكال الإنتاج التعاوني فيه يعود إلى ما قبل الاستقلال. وعلى الرغم من كثرة تجاربها التاريخيّة، عجزت الحركة التعاونية، حتّى الآن، عن ترسيخ نفسها كمحرّك للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، في حين يشير الواقع إلى أنّها تشكّل استجابة مناسبة لعدد كبير من المشكلات التي يواجهها المُنتِجون في البلاد، ولا سيّما في المناطق الريفية وفي قطاعَي الزراعة والإنتاج الغذائي. لذا، نسعى هنا إلى تقديم صورة مفصّلة عن واقع التعاونيات في لبنان، وعن العقبات القانونية والمؤسّساتية، بهدف تسليط الضوء على سبل تفعيل القطاع التعاوني في لبنان كنموذج رديف للنهج الاقتصادي السائد.
تنظيم القطاع التعاوني في لبنان قبل الحرب:1964-1975
حدّد قانون الجمعيات التعاونية الآليات التي تسمح للجمعيات بالعمل التعاوني بشكل مستقلّ؛ وقد منحها ذلك تسهيلات كبرى مقارنة بالهياكل الإنتاجية الأخرى، وبالأخصّ تلك الناتجة من الإعفاءات الضريبية. صحيحٌ أنّ القانون لم يبرّر في صريح نصّه سبب هذه الإعفاءات، إلّا أنّ روحيّته توحي بأنّ سببها يعود إلى تقديمها خدمات ذات مصلحة عامة. في عام 1968، دُمجَت التعاونيات في تعاونية وطنية اتّحادية لتعزيز الحركة التعاونية. وفي عام 1972، استطاعت الـ39 تعاونية زراعية الموجودة -33 تعاونية كلاسيكية أو عامة و6 تعاونيات متخصّصة- أن تؤدّي دورًا مهمًّا في تطوير الإنتاج، منها تعاونية الشمندر السكّري، وتعاونية البقاع لإنتاج وتوزيع البيض، وتعاونية البطاطا. أظهر هذا النظام البيئي الجديد للتعاونيات أنّ الزراعة اللبنانية قد خطَتْ بالفعل خطوة مهمّة في التخصّص الزراعي، على الرغم من وجود مزارع كبيرة منذ ذلك الحين، إلى جانب تركيزات كبيرة شوّهت آليات المنافسة وهمّشت صغار المُنتِجين. وهكذا، سوَّقَت تعاونية مُنتِجي الشمندر جميع أنواع الشمندر السكّري المُنتَج في لبنان، وسوّقت تعاونية البقاع لإنتاج وتوزيع البيض وتعاونية البطاط تباعا نسبة 47% و55% من إنتاج هذين القطاعيْن.
في عام 1973، أنشأت الحكومة وزارة الإسكان والتعاونيات، معبّرة عن الدور الاجتماعي والاقتصادي الأساسي للتعاونيات في السياق اللبناني، وعن الحاجة إلى إدارة أنشطتها وتعزيزها بشكل مستقلّ عن الوزارات الأخرى، ولا سيّما وزارة الزراعة. في عام 1975، كان هناك 115 تعاونية (بما في ذلك 67 تعاونية زراعية) بإجمالي نحو 29900 منتسب إليها. وقد شهد القطاع التعاوني طفرة مهمّة، بخاصّة بعد صدور المرسوم التنفيذي للتعاونيات في العام 1972 وإنشاء وزارة الإسكان والتعاونيات في العام 1973. وخلال الحرب الأهلية، لم يتمّ إحراز أيّ تطوّر ملحوظ أو أيّ تقدّم في الحركة التعاونية.
بعد انتهاء الحرب اللبنانية، تركّزت كلّ الجهود الحكومية على دعم السياحة، وكذلك التجارة والخدمات، على حساب قطاعَيْ الزراعة والتعاون، ممّا أدّى إلى إضعاف القطاع التعاوني. ونتيجة لهذه السياسة، وفي ضوء فضائح فساد ضخمة في القطاع التعاوني طالت مجمل الطبقة السياسية، أُلغِيَت وزارة الإسكان والتعاونيات بموجب قانون عام 2000، وضُمَّت المديرية العامة للتعاونيات إلى وزارة الزراعة.
دور التعاونيات اللبنانية في اقتصاد ما بعد الحرب
نشأت أنواع مختلفة من التعاونيات في لبنان عن أنشطة اقتصادية واحتياجات مجتمعية متعدّدة: تعاونيات إنتاجية، تعاونيات عمّالية، تعاونيات سكنية، تعاونيات مالية، تعاونيات استهلاكية، تعاونيات تحويل المُنتَجات، تعاونيات اجتماعية. أهمّها:
– التعاونيات الزراعية، وكانت تمثّل 51% من مجموع التعاونيات قبل العام 2020؛
– تعاونيات غذائية (إنتاج غذائي أو مونة)؛
– تعاونيات الحرفيّين؛
– تعاونيات الأسماك، وكانت تمثّل 3% من مجموع التعاونيات قبل العام 2020
– تعاونيات تربية النحل (العسل والنحل)، وكانت تمثّل 5٪ من مجموع التعاونيات قبل العام 2020؛
– التعاونيات الاستهلاكية؛
– تعاونيات السوق والمَعارض (تنظيم الأسواق والمَعارض)؛
– تعاونيات التزويد والائتمان؛
– التعاونيات السكنية، وكانت تمثّل 9٪ من مجموع التعاونيات قبل العام 2020؛
– تعاونيات ثقافية وسياحية؛
– تعاونيات التنمية (خدمات التنمية)؛
وقد ارتفع عدد التعاونيات المُسجّلة من 100 تعاونية في العام 1975 إلى أكثر من 1200 تعاونية في العام 2019. وزاد عدد تعاونيات المُنتِجين مباشرة بعد نهاية الحرب، من 162 في العام 1990 إلى 431 في العام 2000، وهي أرقام بشّرت بعصر ذهبي للتعاونيات. وبعد أزمة العام 2000 السياسية التي أدّت إلى إلحاق مديرية التعاونيات بوزارة الزراعة، زاد عدد التعاونيات ليصبح 890 تعاونية للمُنتِجين في العام 2010. وفي العام 2012، أفادت وزارة الزراعة أنّ العدد الإجمالي للتعاونيات التي أُنشئت رسميًّا في لبنان منذ الاستقلال وحتّى العام 2011 بلغ 1636 تعاونية، تمّ حلّ 445 منها. ووفقًا لأرقام وزارة الزراعة لعام 2014، ما تزال تعاونية واحدة فقط من كلّ 3 تعاونيات فاعلة، مع العلم أنّ نصف هذه التعاونيات تقريبًا هي تعاونيات زراعية تضمّ 4.5% فقط من مزارعي لبنان.
تشير بعض التقديرات إلى أنّ هناك ما لا يقلّ عن 500 تعاونية زراعية إلّا أنّه يصعب التحقُّق من هذه الأرقام لأنّ تعاونيات عديدة منها غير نشِطة.
وبحسب بيانات منظّمة العمل الدولية، فإنّ أكثر من نصف التعاونيات المُسجّلة هي تعاونيات زراعية (51%)، وأكثر من ربعها بقليل متخصّصة في صناعة الأغذية (27%)، في حين أنّ 15% منها فقط مخصّصة للإنتاج الحيواني، و7% لمُنتجات الألبان، و5% للعسل و3% للصيد.
تحدّيات الجمعيات التعاونية في لبنان وسبل تطويرها
تواجه العديد من التعاونيات عقبات تتمثّل في القدرات الداخلية الضعيفة، بالإضافة إلى هياكل إدارية غير فعّالة، والتنسيق المحدود مع الجهات الحكومية، ممّا يمنعها من تحسين دعمها وخدماتها للأعضاء ولمحيطهم. لذا وجب وضْعُ هذه التحدّيات ضمن الإطار القانوني والمؤسّسي للبحث عن سبل تخطّيها.
مشكلات التعاونيات الوهمية وغير الفاعلة
يبدو أنّ ثلث التعاونيات المسجّلة لغاية العام 2018 نشِطة حقًّا، بحيث كان يُستخدَم عدد كبير من الهياكل الوهمية كأداة بسيطة لجمع المساعدات والتمويل والدعم.
وبالفعل، في السنوات الأخيرة، عمدت مديرية التعاونيات إلى حلّ وشطب مئات التعاونيات الوهمية أو غير النشطة، بعد إعطاء فرصة لتسوية الأوضاع قبل الحلّ، وذلك بحسب النصّ القانوني؛ مع العلم أنّ العديد من التعاونيات الوهميّة لم يتمّ حذفها بعد من قوائم المديرية العامة للتعاونيات.
“لا تكمن المشكلة فقط بوجود تعاونيات وهمية أو غير فاعلة. المشكلة الحقيقية هي أنّ العديد من تلك التعاونيات لا تتوافق مع روحية قانون التعاونيات، ولا تتلاءم مع قيم التعاون. إذا كانت تلك الجمعيات في العمق مؤسّسات تبتغي الربح فيجب إذًا شطبها من التعاونيات”. كذلك صرّحت أبو زيد أنّ ارتباط العديد من تلك الجمعيات المشكوك في أمرها بالأحزاب التقليدية قد منع مُطوَّلًا حلّها، وأنّ عملية الإصلاح التي بدأت مؤخّرًا ستتطلّب تأسيس تعاونيات تمثّل القيم والمبادئ المطروحة في القانون تكون بديلًا للجمعيات الانتهازية. مثال على ذلك، وضع التعاونيات السكنية التي تبدو بمعظمها مشاريع تجارية تتغطّى بسمات التعاونيات للتهرُّب من الضرائب. وبالاستناد إلى نتائج مراجعة مُفصّلة لقوائم التعاونيات المُسجّلة، خلُصت دراسة دليل التضامن في العام 2020 إلى أنّ غالبية التعاونيات السكنية مُسجّلة ضمن إطار زمني معيّن في العام 1997، وهي في الغالب مخطّطات غير رسمية لتجنّب الضرائب والرسوم.
وما يزيد من حجم مشكلات الرقابة هو أنّ 90% من التعاونيات لا تقدّم ميزانيّاتها السنوية إلى إدارة التعاونيات، بالإضافة إلى حجم تدخُّل الأحزاب التقليدية لحماية بعض الهياكل التي تتبع لها أو تشكّل مُتنفَّسًا للخدمات الزبائنية التي تنضوي تحت رايتها.
من هنا، تبنّت مديرية التعاونيات حلًّا إصلاحيًا يقضي بمعالجة أوضاع الجمعيات غير الفاعلة الواحدة تلو الأخرى، عوضًا من الدخول في معركة تطهير شاملة، بهدف تحقيق مكاسب جزئية ولكن ملموسة، بعد إعطاء الجمعيات غير الفاعلة وقتًا لتسوية أمورها قبل حلّها. وتترافق تلك الإصلاحات مع تكثيف الدورات التدريبية التي تشرف عليها مديرية التعاونيات، والهادفة إلى نشر ثقافة التعاون وبناء القدرات الداخلية للتعاونيات وتعزيز إمكانيّاتها من ناحية الإنتاج والتسويق.
آفة الاعتماد على المساعدات والمنح
بالإضافة إلى مشكلة التعاونيات الوهمية أو غير الفاعلة، يبدو أنّ التعاونيات تعتمد بشكل كبير على مساعدات الدولة والأموال المُخصَّصة من المانحين الدوليين. في الواقع، وقبل أزمة عام 2019، كان يمكن للمنح الوزارية وحدها أن تبلغ 37000 دولار أميركي.
وبحسب دراسة تعود إلى العام 2013، أقرّت 65% من التعاونيات التي شملها الاستطلاع بأنّها تلقّت دعمًا من المنظّمات غير الحكومية مقابل 28% من الدولة، بخاصّة على شكل معدّات وبرامج بناء القدرات.
أظهرت نتائج أخرى أكثر حداثة أنّ أكثر من نصف التعاونيات الغذائية في سهل البقاع تتلقّى دعمًا منتظمًا على أساس سنوي؛ 26% منها يتلقّى هذا الدعم بشكل متكرّر، من 3 إلى 5 مرّات في السنة الواحدة.
يمكن لمجلس إدارة التعاونيات، بموجب القانون، قبول التبرّعات من مختلف الجهات (الحكومة، والسياسيين، والأفراد، والمنظّمات غير الحكومية، وما إلى ذلك) من دون الحاجة إلى موافقة مُسبقة من الجمعية العامة.
بناء على ذلك، تمّ إنشاء العديد من التعاونيات باستخدام نهج من أعلى إلى أسفل، إمّا بدعم من الحكومة أو من بعض الأحزاب التقليدية لتوجيه المساعدات السياسية، وبكثير من الأحوال بتمويل المنظّمات غير الحكومية والمؤسّسات الدولية، وإمّا بمبادرات قلّة من المُنتِجين الذين يستخدمون الهيكل التعاوني لمصالح فردية وليس كتعبير عن مصالح مشتركة للأعضاء.
أدّى الاعتماد المفرط على المساعدات الحكومية والدولية، وكذلك تدخّل الأحزاب والزعامات التقليدية، إلى تشويه صورة التعاونيات. وقد انعكس تحوير دورها سلبًا على سمعتها لدى المانحين الدوليين، كما لدى المُنتِجين والمستهلكين المحلِّيين. فقد تبيّن أنّ عددًا كبيرًا من التعاونيات التي تأسّست في العقود الأخيرة كانت مجرّد مخطّطات أو مشاريع احتيالية للاستحواذ على الإعانات، أو مجرّد آليات نفوذ تقليدية تخالف مبادئ الحكم الديمقراطي التي يتبنّاها القانون.
كذلك، ترتبط مشكلات انعدام الثقة بالجمعيات التعاونية الحالية بغياب آليات الرقابة والمحاسبة التي من شأنها أن تعزّز صورة الجمعيات التعاونية الفاعلة. ذلك أنّ الانتشار الواسع للهياكل التعاونية المرتبطة بالمساعدات يسهم في تصوير القطاع التعاوني ككلّ على أنّه جزء من الاقتصاد الريعي، ممّا يطمس حقيقة إمكانيّاته كنموذج إنتاجي بديل وفاعل. وبالفعل، تعاني التعاونيات من مشكلة ضعف المأسسة، حيث يبدو أنّ 90% منها تتخلّف عن تقديم التزاماتها الإدارية والمحاسبية وتقاريرها المالية للسلطات القانونية.
وفي حين يفتقرعدد كبير من الجمعيات التعاونية إلى الحدّ الأدنى من الاستقلالية والحكم الديمقراطي، يتوجّب بذل المزيد من الجهود لإبراز النماذج الناجحة والبناء على مسارات التطوير القطاعي الذي أُحرِزَ في السنوات الأخيرة من خلال برامج وزارة الزراعات بدعم من منظّمات الأمم المتحدة، كبرنامج رائدات الريف المُموَّل من الفاو، والذي يُعنى بدعم التعاونيات النسائية.
بالإضافة إلى المشكلات التنظيمية الداخلية والشكوك حول مصادر تمويلها، ترتسم أيضًا العديد من التحدّيات الخارجية والشكوك المرتبطة بالبيئة الاقتصادية والاجتماعية التي تعمل فيها التعاونيات، والتي لا تساعد على إنشاء سياق من الثقة.
فلقد شهدت أولى سنوات ما بعد الحرب، في التسعينيات، اندفاعًا كبيرًا لتأسيس الجمعيات التعاونية. لكن سرعان ما أدّى انتشار التعاونيات الفاشلة إلى تصوير التعاونيات على أنّها هياكل غير مستدامة بمعظمها، ذلك أنّ عددًا كبيرًا منها لم يمتثل لقيم التشارك والاستقلال وبناء القدرات والحكم الديمقراطي، بل غلبت عليها آليات البحث عن الربح المادّي السريع. تكمن المشكلات الأساسية إذًا في البيئة الحالية للتعاونيات، أي في اغتراب جزء كبير من الجمعيات المسجَّلة عن قيم الحكم الديمقراطي أو التشاركي، فلا تعدو كونها مؤسّسات تجارية تبغي الربح، ممّا يتطلّب، إمّا متابعة حلّها واحدة تلو الأخرى، وإمّا إخضاعها لقوانين ومبادئ التعاونيات من خلال تفعيل دور المحاسبة والرقابة.
أضف إلى ذلك غياب ثقافة التضامن في معظم تلك الجمعيات التعاونية، في الوقت الذي تحتاج فيه تلك النماذج إلى أشخاص رياديين يحملون على عاتقهم قيم الجمعية ورؤيتها الاجتماعية والتضامنية. وبحسب الباحث رياض سعاده، غالبًا ما يشكّل تواجد أولئك “الأبطال القياديين” العنصر الأوّل لنجاح الجمعيات التعاونية. فمتى قصر دورهم أو غاب، تحوّلت التعاونية إلى مشروع تجاري، كاسب أو خاسر، لا يمتّ، بكل الأحوال، إلى التعاون بصلة.
لا شكّ في أنّ غياب الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي قد دفع بالعديد من الجمعيات التعاونية التي تأسّست بعد الحرب إلى التوقُّف قسرًا عن العمل، بسبب عدم قدرتها على تحقيق أهدافها، ممّا حدّ من اندفاع كثُرٍ لتأسيس تعاونيات. ونتيجةً لهذا المسار، لا تستقطب التعاونيات اليوم الشباب والشابّات في لبنان، بحسب رياض سعاده، لأنّها ضحيّة سمعتها، وبسبب غياب ثقافة التعاون في مساحات الخطاب العام، إذ تظهر لهم كهياكل تقليدية وبالية لا تتناسب مع تطلّعاتهم. فقد يتّجه الشباب والشابات من روّاد الأعمال، وبشكل تلقائيّ، إلى تأسيس شركات ناشئة أو حتّى جمعيات مدنية قد لا تتلاءم مع أهدافهم، ظنًّا منهم أنّ الجمعيات التعاونية قد تحدّ من إمكانية تطوُّر أعمالهم، مُضحّين في الوقت نفسه بمجمل الفوائد والمميّزات التي يمنحها قانون التعاونيات.
الإشكالات القانونية المعيقة لإنشاء القطاع التعاوني وتطوّره
يربط القانون اللبناني نشاط الجمعيات التعاونية بالنموّ المحلِّي، إذ يقرنُ نطاق عملها بالمنطقة الجغرافية المحدّدة في نظامها، ويحدّ من إنشاء عدّة جمعيات تعاونية لها الغرض نفسه في المنطقة أو المحلّة الواحدة.
– تمارس الجمعية التعاونية أعمالها في المنطقة المحدّدة في نظامها؛
– لا يجوز إنشاء أكثر من جمعية تعاونية واحدة للغرض الواحد في قرية واحدة، أمّا في المدن التي يزيد عدد سكّانها عن 20000، فيمكن تأسيس أكثر من جمعيّة واحدة لغرض واحد بحسب مقتضيات المصلحة.
إلّا أنّ القانون اللبناني لا يحدّ عمل التعاونيات بالنطاق المحلِّي الضيق، إذ يسمح بتأسيس اتّحادات تعاونيات على أساس الإيمان بمبدأ التعاون بين الجمعيات التعاونية.
كما أنّ القانون لا يمنع غير الأعضاء من التعامل مع التعاونيات في ظلّ الشروط الآتية:
أ- إمكانيات المشروع أو قدرة المشروع على التعامل مع المزيد من الأشخاص؛
ب- عدم تجاوز المدّة الزمنية التي حدّدها أعضاء مجلس الإدارة؛
ج- وجوب إعطاء الأولوية للأعضاء على غير الأعضاء في جميع العمليات المختلفة التي تديرها الجمعية التعاونية؛
د- إلزاميّة أن يدفع غير الأعضاء نقدًا لجميع المعاملات التي تقدّمها التعاونية؛ يتمّ تحويل الدخل الناتج من التعامل مع غير الأعضاء إلى الميزانية الاحتياطية للتعاونية لاستخدامها في تطوير المشروع التعاوني.
ولكن، على الرغم من الإمكانيات التي يسمح بها القانون حاليًّا، تبقى الجمعيات التعاونية محصورة بنطاق جغرافي ضيّق، مع حصر أعدادها بسبب صعوبة تأسيس أكثر من جمعية واحدة للغرض نفسه في المحلّة الواحدة التي يقلّ عدد سكّانها عن العشرين ألف نسمة. ويشكّل حصر التعاونيات في نطاق جغرافي مقيّد (منطقة محلِّية أو بلدية) عقبة أمام توسّع المنظّمات وتشكيل اقتصاديات الحجم وتوسيع حصص السوق، نظرًا إلى أنّ روابط التعاونيات مع قنوات البيع غالبًا ما تقتصر على البنى التحتية المجاورة في أقرب الأسواق المحلِّية.
لا شكّ في أنّ القانون الحالي يهدف إلى حماية التعاونيات الناشئة من منافسة تعاونيات جديدة قد تسهم في نسف جهود الأعضاء المؤسّسين، لكنّه يسهم أيضًا في إعطاء الاحتكار لأولى التعاونيات في القرى والمحلّات الصغرى التي يقلّ عدد سكّانها عن العشرين ألف نسمة. وبما أنّ القانون الحالي يحظر تشكيل أكثر من تعاونية لكلّ منطقة محلِّية، فإنّ كثرة الجمعيات الوهمية أو غير الناشطة تشكّل حواجز أمام دخول تعاونيات جديدة (قفل قانوني للمنافسة، أو امتياز المتحرّك الأوّل). لذلك قد يسهم تعديل هذا القانون، بما يسمح بتأسيس جمعية جديدة كلّ ثلاث سنوات، في إرساء شروط أكثر تنافسية بين الجمعيات، مع إعطاء الأعضاء المؤسّسين إمكانية الاستقالة لتأسيس جمعية منافسة في حال لم تكن إدارة الجمعية الحالية تعبّرعن تطلّعات أفرادها.
وبالمثل، فإنّ الشرط القانوني القاضي بإنشاء تعاونية على أساس قائمة أسماء من 10 أشخاص على الأقل يحدّ كثيرًا من إمكانية تأسيس جمعيات فاعلة أو منافسة.
وقد أثبتت التجربة اللبنانية أنّ ربط شرط تأسيس التعاونية بعشرة مؤسّسين على الأقلّ لا يخفّف من مخاطر تأسيس تعاونيات الظلّ، بل على العكس، قد يحدّ هذا العدد المطلوب من قدرة بعض المشاريع على اتّخاذ الشكل التعاوني، إمّا لغياب العدد الكافي، وإمّا لعدم رغبة المؤسّسين في التشارك مع هذا العدد من الأعضاء. وقد يحدّ هذا الشرط أيضًا من إمكانية تحوّل بعض المؤسّسات الإنتاجية غير النظامية أو الشركات الميكروية والصغرى إلى الشكل التعاوني. لذلك، قد يؤدّي تعديل القانون بما يسمح بتأسيس تعاونيات بأعداد أقلّ من الأعضاء – شخصين أو ثلاثة مثلًا، أسوة بمعظم الدول الرائدة في قطاع التعاون- إلى تطوير القطاع ككلّ، من خلال اجتذاب مشاريع جديدة لروّاد الأعمال المبتكرة، أو من خلال تشجيع المنشآت الحالية النظامية أو غير النظامية على التحوُّل إلى نموذج تعاوني قد يكون أقرب إلى تطلّعات أفرادها.