دور دول الخليج في “التحوّل إلى الاستدامة” في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
تعمل دول الخليج بنشاط على تشكيل مستقبلها في ظل التحديات المناخية الراهنة. ولذا فمن الضروري فهم الآليات الكامنة وراء هذه العملية لتحقيق انتقال عادل للطاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إذ يفضي النفوذ المتنامي لدول الخليج إلى تشكيل مشهد إقليمي متباين، مما يؤثر على التطور الاجتماعي والديمقراطي. ولهذا النفوذ أيضًا تداعيات عالمية، حيث تسعى هذه الدول جاهدة لضمان استمرار الطلب العالمي على الوقود الأحفوري والاستثمار فيه.
استكشفوا.ن النسيج الدقيق للقوى والسياسة والطاقة في منطقة الخليج والصدى العالمي الذي تخلقه في هذا المقال الملهم، فصل من كتابيْ “تحدي الرأسمالية الخضراء: العدالة المناخية و الانتقال الطاقي في شمال أفريقيا(enlace externo)” الذي نُشر بالتعاون مع دار الصفصافة و “تفكيك الاستعمار الأخضر: العدالة الطاقية والمناخية في المنطقة العربية“، الذي نشر بالتعاون مع دار النشر Pluto Press باللغة الانجليزية.
كانت قدرة دول الخليج على التعامل مع التغيّر المناخي موضع تفكّر في الاعلام الغربيّ في السنوات الأخيرة. وفي بعض الحالات، كانت قدرة تلك البلدان على النجاة محلّ سؤال هي ذاتها. ومن المحتمل، بحسب مقالة في الغارديان البريطانية، أن تشهد المنطقة في المستقبل القريب ضرباً من “القيامة” نتيجة الزيادة في درجات الحرارة وارتفاع منسوب مياه البحر.1 ترسم المقالة لوحةً لدول صاغتها بيئات طبيعية مناوئة، ومجتمعاتٍ هشة سوف تلقي بها الأزمة المناخية من على شفير الهاوية. وتشير المقالة، علاوةً على تحديات التغير المناخي، إلى أن تراجع الطلب على النفط والغاز سوف يكون سبباً آخر لزوال دول الخليج، نظراً إلى اعتمادها على صادرات المحروقات.
تتّسم هذه التقارير بعيوب تحليلية جسيمة، إلى جانب نبرتها الدرامية. فهي تميل إلى افتراض أن دول الخليج فاعل سلبيّ في سياسات التغيّر المناخي. وبدلاً من أن تكون سيطرة هذه الدول على 30-40 في المئة من احتياطي النفط المُثبَت مصدر قوة، فإنّها تُصوَّر كنقطة ضعف، وتُضَمَّن أنَّ تزايد استخدام الطاقات المتجددة سوف يجعل تلك البلدان نافلةً بينما ينتقل الاقتصاد العالمي إلى أشكال خضراء من الطاقة. ويحسب هذا التصوير أيضاً، بناءً على تصوّر ظروف بيئية ومناخية مشتركة، أنَّ منطقة الخليج على متن القارب ذاته مع أجزاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأخرى في ما يتعلّق بخطر الأزمة المناخية وتحديات الانتقال الطاقي.
يخالف هذا الفصل تلك الافتراضات. ويبيّن أنَّ بلدان الخليج ليست مجرّد منتجين لا سلطة لهم، بل تعمل على ضمان بقائها في مركز نظام الطاقة العالمي. وهذا يستلزم صوغ سياسة ثنائية: سياسة تتيح لها أن تفيد من كلٍّ من الوقود الأحفوري والطاقات المتجددة. وبلدان مجلس التعاون الخليجي عازمة على استخراج النفط والغاز ومنتجاتهما الثانوية الأدنى وإنتاجها وبيعها، ما دام ثمة طلب عليها.2 لكنّها تسعى، في الوقت ذاته، إلى اكتساب موطئ قدم في أسواق الطاقات المتجددة وفي تطوير الوقود البديل، كالهيدروجين، وتستخدم رؤوس أموالها كي تستثمر في مزارع الريح والشمس في أرجاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وبخلاف الافتراض الذي مفاده أنَّ بلدان الخليج عرضة لنفس الأخطار الاجتماعية البيئية التي تواجه بقية دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يوضح هذا الفصل أيضاً أنَّ بعض دول مجلس التعاون الخليجي تستثمر في بنية تحتية من المقدّر لها أنّ توفّر بعض الحماية من الأزمات. وهذا ما سيمدّها بمقدرة على إدارة موارد الماء والغذاء والطاقة تتجاوز بمراحل مقدرة البلدان الأخرى في المنطقة، الأمر الذي يمكن أن يوفر بعض الحماية من الاضطراب البيئي.
تبقى الإحاطة بهذه الديناميات أساسيةً للإحاطة بمعالم الانتقال العادل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لقد اتّسمت تدفقات الطاقة واستخراجها وتطويرها في هذه المنطقة بأنساق تاريخية من سيطرة الشمال على الجنوب. وأدّت الحقبة الاستعمارية إلى إدماج كثير من مجتمعات المنطقة إدماجاً خاضعاً بالاقتصاد العالمي. وعلى سبيل المثال، فإنَّ اقتصادات شمال أفريقيا تحددت باستخراج السلع الزراعية والموارد الطبيعية؛ وهو دور لا يزال إرثه مستمرّاً إلى يومنا هذا.3 لكن ما يتوجّب علينا أن ندركه هو أنَّ لهذا التراتب الآن تجلٍّ إقليمي أيضاً؛ فقوة دول الخليج الاقتصادية والسياسية الناشئة تخلق ديناميةً إقليمية شديدة الاستقطاب، ورؤوس أموال مجلس التعاون الخليجي تُستثمر في الاقتصادات الرسمية لبعض الدول العربية الأشد كثافةً سكانية: يشكّل الخليج واحداً من أكبر مصادر رأس المال الخارجي في بلدان مثل الأردن ومصر والسودان.4 وتقوم بلدان الخليج، في الوقت ذاته، بدورٍ في الإشراف على السياسات الداخلية لتلك الدول. إذ أن مساعداتها واستثماراتها ترسّخ زعامتها، متيحةً لها أن تصمد في وجه العواصف الاقتصادية وتقمع معارضتها السياسية الداخلية. هكذا تقف قوة دول الخليج في طريق التقدم الاجتماعي والديمقراطي الذي يتوقف عليه انتقالٌ طاقيّ عادل. ذلك أنَّ النَّفاذ المتساوي إلى الطاقة النظيفة وسواها من الموارد، كالماء والغذاء، وأشكال التعويض وجبر الضرر، كالتعويضات المناخية، تتطلب تحولاً سياسياً بقدر ما تتطلب تجديداً بيئياً تقنياً.
لهذه الدينامية شديدة الاستقطاب تداعيات عالمية أيضاً. فأحد الأهداف السياسية لبلدان مجلس التعاون الخليجي هو ضمان ألّا تؤدي المخاوف الاجتماعية المتعاظمة حيال الوقائع المريعة للأزمة المناخية إلى تنظيم حكومي يتداخل مع الطلب على الوقود الأحفوري ويفضي إلى انخفاض قيمة موارده. وهذا هدف مشترك مع شركات وأسواق وطبقات حاكمة أخرى في الاقتصاد العالمي. وبهذا المعنى، فإنَّ على الاستراتيجيات الناجحة للانتقال العادل أن تأخذ في الحسبان دور الخليج في مثل هذه التحالفات، وحصيلة نفوذه في الاقتصاد العالمي. وتتجلّى سلطة دول الخليج في استثمارها في الأسواق العالمية، وفي الدعاية والإعلان، والمناسبات الرياضية ومؤسسات عدة، مثل مؤتمر الأمم المتحدة القادم عن المناخ في الإمارات العربية المتّحدة.
هل ثمّة تحوّلٌ إلى الطاقة الخضراء في الخليج؟
شهدت السنوات الأخيرة، في دول الخليج، استخدام مصطلحي “الاستدامة” و”الاقتصاد الأخضر” الرائجين بالكثرة التي يُستخدمان بها في كلّ مكان أخر. ودول مجلس التعاون الخليجي حريصة على أن تصوّر نفسها كمشارك متحمّس في التغيّر البيئي.5 يظهر هذا أكثر ما يظهر في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، الدول الثلاث التي يركّز عليها هذا الفصل. وهي بلدان عززت استثمارها في الطاقة المتجددة وأعلنت عن برنامج للتحديث البيئي، اشتمل على خطط لـ”نفط وغاز منزوعيّ الكربون” واقتصاد تدويري، والزراعة الرأسية، ومجموعة من الحلول التقنية‘.6 لكنّ هذه التصورات تعتّم على حقيقة واقعة بعيدة كلّ البعد عن مبادئ الاستدامة البيئية وممارستها. فهذه البلدان لا نيّة لها في أن تخفف إنتاجها النفطي، وكانت قد أفصحت عن التزامها توسيع الإنتاج ما دام ثمة طلب. وبهذا المعنى، يكون موقف الخليج منحازاً تماماً لموقف معظم مصدّري المحروقات الآخرين وشركات النفط.
عبّر المسؤولون الخليجيون عن هذا الموقف صراحةً. وفي صيف عام 2021، أفصح عنه وزير الطاقة السعودي، الأمير عبد العزيز بن سلمان آل سعود، بوضوح تام. فوفقاً لأحد تقارير بلومبيرغ، علّق الأمير في لقاء خاص على نيّة بلده مواصلة إنتاج النفط وبيعه مهما تكن الظروف. “ما زلنا آخر رجل على قيد الحياة، وسنخرج آخر جزيء من الهيدروكربونات”.8 وهذا ما ردده مسؤولون آخرون في المنطقة. ففي عام 2022، قالت وزيرة المناخ والأمن الغذائي في الإمارات، مريم المهيري، أنّه “ما دام العالم بحاجة إلى النفط والغاز فسنمدّه بهما”.9 وتنعكس هذه النيّة في حماية الأصول الهيدروكربونية وتلبية الطلب عليها في خطط كلّ دولة من دول الخليج الرامية إلى القفز بإنتاجها من النفط والغاز.10
في ضوء هذا الالتزام الحازم بالنفط والغاز، كيف تتلاءم الطاقات المتجددة مع سياسات الطاقة الخليجية؟ يجب التشديد، أولاً، على أنَّ التقدّم الحالي في الانتقال إلى الطاقة المتجددة في دول الخليج يبقى بالغ البطء. في عام 2019، كان إنتاج الإمارات العربية المتّحدة للطاقات المتجددة هو الأكبر ضمن خليط طاقاتها، بين جميع دول مجلس التعاون الخليجي، بنسبة 0.67 بالمئة من الاستهلاك الوطني الإجمالي للطاقة في البلد.11 وهذا أدنى بكثير مما في العديد من الدول خارج مجلس التعاون الخليجي.12 غير أنّ بعض دول الخليج أعربت عن عزمها تغيير هذا الواقع. وأعلنت الإمارات العربية المتحدة التزامها توفير خمسين بالمئة من حاجتها إلى الكهرباء من خلال “طاقة نظيفة”، باستخدام خليط من الطاقات المتجددة والطاقة النووية و”الفحم النظيف”، بحلول عام 2050. 13 وتنوي المملكة العربية السعودية بلوغ الهدف ذاته بحلول عام 2030. 14
في هذه السياسات طموحٌ زائد ويجب أن تُعامل بشيء من الشكّ. يتيح إطلاق هذه التصريحات لتلك البلدان أن تظهر بمظهر الساعي وراء الاستدامة البيئية. وبذلك يكون التزام الانتقال إلى الطاقة المتجددة جزءاً من التزام الاستدامة البيئية الأوسع، ذلك الالتزام الذي يتجلّى أيضاً في معارض عامة، مثل إكسبو دبي 2020 الذي غلبت عليه سرديات الاستدامة.15 كذلك تشكّل سرديات الوعي البيئي أساس تطورات كبرى، مثل نيوم، المدينة المستقبلية الجديدة التي خُطِّط لها أن تُقام على ساحل المملكة العربية السعودية على البحر الأحمر. وسوف تكون نيوم، بحسب المواد التي تروِّج لها، “مخططُ غَدٍ تتقدم فيه البشرية من دون مساومة على سلامة الكوكب”.16 تُسفر هذه الحملات الدعائية في بعض الحالات عن تصريحات واضحة الزيف. وكان منظّمو كأس العالم في قطر 2022 قد زعموا أنَّ تلك الدورة هي الأولى الخالية من الانبعاثات الكربونية في التاريخ، لكنّ الصحفيين والناشطين سرعان ما كشفوا زيف هذا الادّعاء.17
بصرف النظر عن كون هذه المزاعم سطحية ومحلّ تساؤل، فإنَّ هذا التمويه الأخضر18 الزائد يخدم غرضاً مهمّاً، هو التعتيم على حقيقة أنَّ دول الخليج تحتل موقع المنتج الأكبر للنفط والغاز في الاقتصاد العالمي. وهذا يتيح لهذه البلدان أن تحافظ على شرعيتها في الساحة الدولية وتضمن مكانتها كفاعل محوري في الجدالات حول سياسات الطاقة. فمن جهة أولى، يضمن التزام النفط والغاز أن تُبقي دول مجلس التعاون الخليجي سيطرتها على أسواق الطاقة، تلك السيطرة التي تتجلّى في الدور القيادي الذي تمارسه السعودية والإمارات والكويت وقطر في منظمة الدول المصدرة لنفط (أوبيك). ومن جهة أخرى، تُظهر صورة الاستدامة والوعي البيئي دول الخليج على أنّها مساهم مهمّ في أسواقٍ للطاقة المتجدّدة ومستقبلٍ خالٍ من الكربون. ومن الأمثلة على ذلك الدورة الـ28 من مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية المعنية بتغير المناخ “COP28″ لعام 2023 التي ستعقد في دبي. فالمُراد لقمم المناخ العالمي هذه، منذ ثلاثة عقود وإلى الآن، أن تفضي إلى اتفاق دولي يؤدي إلى خفض انبعاثات غازات الدفيئة والحدّ من التغير المناخي. لكنَّ من سيقف على رأس المفاوضات، في الإمارات العربية المتحدة، فيCOP28 هو رئيس شركة بترول أبو ظبي الوطنية (ADNOC)، الأمر الذي وصفه أحد الناشطين بأنّه أشبه بـ”تولية ثعلب مسؤولية قنّ دجاج”.19 يمثّل هذا تناقضاً واضحاً، لكنّه تناقضٌ يَسِمُ سياسات الاستدامة في كلّ مكان.
غير أنَّ دول الخليج، بعيداً عن السياسة، من المرجّح أن تتّخذ في آخر الأمر خطوات تزيد نسبة الطاقات المتجددة في مزيج طاقاتها المحلي. لعلّها لا تحقق الانتقال السريع الذي تعهّدت أن تحققه، لكنَّ من المحتمل أن تترسّخ الطاقات المتجددة في صميم الاستخراج العالمي للنفط. وكي نفهم ذلك، علينا أن نتمعّن في تكوين اقتصاد الطاقة في المنطقة ومقتضيات معاش المجتمع من أخذ وعطاء مع الطبيعة، في نظام بيئي حار وجاف.20 فهذه البلدان تتسم بمستويات من الاستهلاك المحلي للطاقة بالغة الارتفاع. وتتميّز السعودية والإمارات وقطر ببعضٍ من أعلى مستويات استهلاك الفرد للطاقة في العالم،21 وتتسم جميع دول مجلس التعاون الخليجي باستهلاك للفرد أعلى من متوسط استهلاك البلدان عالية الدخل. أحد أسباب هذا الاستخدام المرتفع هو الاستهلاك المحلي للطاقة في التكييف، وهو طلب فاقمته الطاقة المدعومة، مع أنَّ كثيراً من دول مجلس التعاون الخليجي يخفض هذا الدعم الآن. وينجم سبب آخر لهذا الطلب عن تحلية مياه البحر، تلك التحلية التي تغطي غالبية الاستهلاك المحلي للمياه في معظم دول مجلس التعاون. وتحلية المياه هي عملية شديدة الاستهلاك للطاقة. وتغطي في السعودية، على سبيل المثال، 20 بالمئة من استهلاك الطاقة.22 ويشير أحد التقديرات إلى أنَّ محطات التحلية في دول الخليج تغطي 0.2 بالمئة من استهلاك الكهرباء العالمي.23 ولقد توسّع هذا الطلب على الطاقة في السنوات الأخيرة بسبب النمو الاقتصادي والسكاني. ففي السعودية، على سبيل المثال، زاد استهلاك الطاقة عن الضعف، من 1335 تيرا واط/ساعة في عام 2000 إلى 3007 في عام 2021. 24 ويمكن أن نلحظ زيادات مماثلة في غير مكان في المنطقة.
يغدو هذا المستوى الهائل لاستهلاك الطاقة عائقاً مكلّفاً لاقتصادات الخليج. فمعظم الكهرباء في دول الخليج توفّره محطات توليد تعتمد على النفط والغاز. ونتيجة لزيادة الطلب المحلي، تتغير وجهة كميات متزايدة من النفط بعيداً عن التصدير إلى المستهلكين العالميين الذين يدفعون بأسعار السوق. ولا يبدي الطلب المحلي على النفط أي علامة من علامات الهبوط. وتشير بعض التقديرات إلى إمكانية استمرار تزايد الاستهلاك المحلي للنفط بمعدل خمسة بالمئة في السنة.25 وتشير دراسة إلى أنّ الاستهلاك المحلي للنفط في السعودية سوف يضاهي مقدار الصادر منه بحلول عام 2030. 26 وتحفّز هذه الميول على التوسع في إنتاج الطاقة المتجددة في دول الخليج. فما يدفع التحوّل إلى الطاقة الخضراء في هذه البلدان هو فعلياً الحاجة إلى الاحتفاظ بالنفط للتصدير؛ أي أنَّ ما يحفزه هو التزام الاستدامة المالية، لا المخاوف البيئية.
سوق جديدة
علاوةً على حاجة دول الخليج إلى إعادة تشكيل إنتاج الطاقة المحلي، فإنها تنظر أيضاً إلى الطاقات المتجددة ووقود مثل الهيدروجين على أنّها فرصة سوق جديدة. والطاقة الخضراء هي فئة من الأصول الاستثمارية لرأس المال الفائض لدى دول مجلس التعاون الخليجي. وهذا القطاع قليل المخاطرة نسبياً: إذ يحظى بدعم مؤسّسات تمويل التنمية وبضمانات الحكومات المضيفة. وهذا ما يدفع شركات الخليج الكبرى لأن تنشط في هذا القطاع. وقد نشأت شركات طاقة جديدة غالباً ما تتلقى قدراً من دعم الدولة وتمويلها. إحدى هذه الشركات هي مصدر في الإمارات العربية المتحدة. وهي ملك لإمارة أبو ظبي، واشتُهرت في البداية بخطّتها لبناء مدينة في أبو ظبي على أساس مبدأ الاستدامة واستخدام الطاقة المتجددة.27 وللشركة ذراع استثماري ضخم يملك حوالي 20 مليار دولار أميركي في أصول الطاقة المتجددة في عدد من الأسواق حول العالم.28 ومن الأمثلة الأخرى مجموعة أكوا (ACWA) التي تملك السعودية أجزاء منها. ولدى هذه الشركة ذات الحضور العالمي أصول تبلغ قيمتها 75 مليار دولار، لكن أقلية من هذه الأصول هي التي تنتمي لفئة الطاقة المتجددة.29
تنشط هذه الشركات بقوة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتيسّر العلاقات الثنائية الوثيقة بين دول الخليج وبلدان مثل المغرب والأردن ومصر انفتاح اقتصادات هذه الأخيرة أمام الشركات الخليجية. وغالباً ما تُضمَّن حيازة الطاقات المتجددة في صناديق الإعانة والاستثمار التي تقدّمها دول الخليج، ما يضمن أن تحظى تلك المشاريع بأرفع مستوى من الدعم. وهذا جزء من اتجاه دول الخليج إلى توسيع نفوذها في سياسات المنطقة واقتصاداتها. وهو نموذج يترافق مع استثمارات في قطاعات أخرى، كإنتاج الغذاء والبنية التحتية، وكذلك الدعم الحكومي المباشر للحلفاء في المنطقة. والمثال الأوضح على هذا هو مصر: إذ يُقدَّر ما منحته السعودية والإمارات والكويت من إعانات لحكومة عبد الفتّاح السيسي بين عامي 2014 و2016 بما يقارب 30 مليار دولار أميركي. وهذا ما كان له دور محوري في تمكين حكمه واستقرار البلاد في طور الثورة المضادة، بعد ثورة 2011. وكان هذا التدفق المالي أساسياً في استرجاع الحكم السلطويّ في أكثر البلدان العربية كثافةً سكانيةً.
تجلًى أحد أمثلة هذا الدعم من دولة إلى دولة في قطاع الطاقات المتجددة في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي السابع والعشرين (COP27) الذي انعقد في شرم الشيخ في تشرين الثاني/نوفمبر 2022. وحضر شخصياً كلّ من الشيخ محمد بن زايد رئيس الإمارات، وعبد الفتّاح السيسي رئيس مصر، وجرى توقيع اتفاقية بين مصدر وإنفينيتي، أضخم شركة للطاقات المتجددة في مصر، على مزرعة رياح سوف تكون الأكبر من نوعها في البلد.30 ومن الأمثلة الأخرى صفقة وقّعت عليها حكومات الإمارات ومصر والأردن في عام 2022، سُمّيت “الشراكة الصناعية التكاملية لتنمية اقتصادية مستدامة”. وهي تغطي الغذاء والسماد والنسيج والأدوية والمعادن والبتروكيماويات.31 وتشتمل الاتفاقية على خطط لتحسين إنتاج الطاقات المتجددة.
يتمثّل واحد من أبعاد هذه الصفقات في الدور التمويلي الذي تؤدّيه بنوك التنمية. فقد موَّلت مؤسسات مثل البنك الدولي والبنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية وبنك التنمية الأفريقي مشاريع استثمرت فيها دول الخليج. ويخلق انخراط كلّ من الحكومات وهذه المؤسسات الدولية مساهمين أقوياء في هذه المشاريع ويقلّل المخاطرة. وقد أتاح هذا النمط من الدعم لمستثمري الخليج أن يكونوا من أكبر المساهمين في سياسات الطاقة المتجددة التي تنتهجها بعض حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. واتّخذ رأس المال الخليجي من مستقبل الطاقة في المنطقة حصناً له، كي يمكنه أن يشفط الأرباح من الانتقال إلى الطاقات المتجددة.
من الأمثلة الواضحة للتضافر القوي بين الحكومات والمساهمين المؤسسيين مجمع ورزازات للطاقة الشمسية في المغرب، أحد كبريات محطات الطاقة الشمسية المركّزة في العالم. يموّل هذا المشروع ائتلاف يضم مجموعة أكوا السعودية والوكالة المغربية للطاقة الشمسية وشركة TSK، وهي شركة إسبانية. ومن الداعمين الآخرين البنك الدولي وعدد آخر من بنوك التنمية. ومن الأمثلة الأخرى استثمار شركة أميا باور (AMEA Power) الإماراتية في مزرعة رياح ومحطة طاقة شمسية في مصر. ويُنفَّذ هذان المشروعان بالتعاون مع شركة سوميتومو، وتمولّهما مؤسسة التمويل الدولية والبنك الهولندي لتنمية ريادة الأعمال والوكالة اليابانية للتعاون الدولي.32
من الأمثلة الإضافية على مدى ترسيخ أموال دول مجلس التعاون الخليجي أقدامها في مستقبل الطاقات المتجددة وإدارة الموارد في المنطقة ذلك المقترح الذي وقعت عليه الإمارات وإسرائيل والأردن. إذ اتفقت هذه الدول الثلاث على خطّة لاستثمار مصدر الإماراتية في منشأة للطاقة الشمسية في الأردن تبيع جميع إنتاجها من الكهرباء لإسرائيل، مقابل بيع إسرائيل المياه المحلّاة للأردن.33 وإذا ما عُقدَت هذه الصفقة، فسوف توضح كيف يمكن لرأس المال الإماراتي والتكنولوجيا الإسرائيلية أن يحظيا بموطئ قدم أوسع في المنطقة. وسوف تطبّع الصفقة احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية ونظام الفصل العنصري الذي تفرضه على الفلسطينيين وتعزّزهما. وهي تُبدي عن قدرة هذا النمط من المشاريع على توليد نتائج غير متكافئة إلى حدّ بعيد؛ حيث ستُحوَّل الطاقة من مزرعة شمسية مقامة على أراضٍ أردنية إلى الأسواق الإسرائيلية، وستوصل شبكات إنتاج الماء والكهرباء للمستهلكين الأثرياء، في حين يُقصى السكّان المحرومون الخاضعون لاحتلال عسكري.
يمكن أن يكون للهيدروجين، إلى جانب الطاقة الشمسية والرياح، دور في الانتقال الطاقي، كمصدر بديل للطاقة/الوقود.34 ويكشف عدد من دول الخليج، كالسعودية وقطر وعمان والإمارات، عن مشاريع سوف تلبّي طلباً عالمياً متزايداً على الهيدروجين. ولا يزال من غير المعروف ما إذا كانت هذه المشاريع سوف تُنتج هيدروجيناً “أخضر” (من طاقات متجددة) أم “أزرق” (من الغاز مع احتجاز الكربون) أم “رمادي” (من مصدر أحفوري من دون احتجاز الكربون). ولا يزال من الصعب التحقّق ما إذا كان المنتج النهائي سوف يخلو تماماً من الكربون أم أنه سيكون وقوداً منخفض الكربون فحسب.
يبقى الغاز الطبيعي هو المزية التنافسية لهذه البلدان: ذلك أنها ستتمكّن باستخدام هذا الوقود من إنتاج هيدروجين بكلفة أقلّ بكثير قياساً بكلفة استخدام الطاقة المتجددة، كما ستتمكّن من إنتاج كميات هائلة من المياه المحلّاة (كانت ستحتاج استهلاكاً أكبر للطاقة). سوف يكلّف الهيدروجين الأخضر ما يزيد على أحد عشر ضعف كلفة الغاز الطبيعي، وخمسة أضعاف كلفة الهيدروجين الرمادي، وضعفيّ كلفة الهيدروجين الأزرق35. وبأخذ ذلك في الحسبان، تبدو تفاصيل هذه الخطط مبهمةً ويمكن التعتيم على فئات الهيدروجين، فيصعب تحديد ما إذا كان هذا الوقود خالياً بالفعل من الانبعاثات الكربونية أو يشتمل عليها بدرجات منخفضة.
يستحوذ المستثمرون الخليجيون أيضاً على أصول خارجية في قطاع الهيدروجين. وتسعى مصر لأن تصبح مركزاً لإنتاج الهيدروجين الأخضر (والأزرق)، في حين تسعى شركات مجلس التعاون الخليجي لأن تستثمر في تلك المحطات. وعلى سبيل المثال، فقد وقّعت مصدر على اقتراح للاستثمار في موقعين للهيدروجين الأخضر في مصر، أحدهما على ساحل البحر المتوسط والآخر في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس في العين السخنة على ساحل البحر الأحمر.36 ويشتمل الاتفاق أيضاً على خطة لإنتاج أمونيا خضراء، يمكن أن تستخدم في إنتاج سماد “خالي الكربون”. وتستثمر شركات خليجية أخرى في استراتيجية مصر الرامية لأن تغدو مركزاً لإنتاج الهيدروجين الأخضر. كما موّل البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية شركةً مصريةً منخرطة في هذه الخطة. وقد خفض التمويل الخليجي والأوروبي ما تنطوي عليه هذه المشاريع من مخاطرة.37
يبقى من غير المحقَّق ما إذا كانت هذه المشاريع معقولة وواقعية أم لا، لكنَّ للتركيز على الهيدروجين معاني سياسية قوية. إذ يُروَّج للهيدروجين على أنّه الدواء لكلّ داء في أسواق الطاقة. وينظر إليه على أنه وسيلة لتخفيض استهلاك الوقود الأحفوري، الأمر الذي اكتسب أهمية أكبر منذ غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022، واضطرار كثير من الحكومات الأوروبية إلى البحث عن بدائل لاعتمادها على صادرات الغاز الروسي. وإذا ما تحققت هذه الخطط فسوف تسفر عن إطار مشابه لتوسّع مشاريع الطاقات المتجددة (الشمسية والهوائية)، مع توظيف رأس المال الخليجي والغربي في مشاريع تقودها الدولة تتكامل مع شبكات الطاقة الأوروبية. وأحد الدوافع المحتملة لهذه السياسة، من وجهة نظر المنتجين الخليجيين، هو دور الغاز في إنتاج الهيدروجين. إذ توفّر أسواق الهيدروجين المتنامية حماية تسمح للاقتصادات الخليجية بالمشاركة في الانتقال الطاقي مع المحافظة في الوقت ذاته على قيمة احتياطياتها من الغاز.
منطقةُ انعدامٍ للتكافؤ
كيف تستخدم دول الخليج عوائدها من المحروقات لحماية مستقبلها في ضوء أخطار التغيّر المناخي؟ تضع موارد دول الخليج ورؤوس أموالها هذه الدول في قمّة التراتب الاقتصادي والسياسي الإقليمي الذي يتّسم باستقطاب متزايد. إذ يسود المنطقة انعدام للتكافؤ سحيق بين بلدانها الفقيرة وبلدانها الغنية. على سبيل المثال، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للفرد في اليمن 701 دولار أميركي، بينما يبلغ في الإمارات 44315 دولاراً أميركياً.38 ويمكن أن نقع على أمثلة أخرى لهذا التباين في غير مكان من المنطقة: إذ يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للفرد في سوريا 533 دولاراً، وفي قطر 66000 دولار.39 ونتيجةً لانعدام التوازن هذا، فإنَّ بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تتقاسم التوقعات ذاتها في ما يخصّ تأثيرات التغيّر المناخي. وما تعنيه قوة دول الخليج السياسية والاقتصادية هو أنّها أقدر على تدبّر مشاكل احترار المناخ. وذلك بخلاف القدرة الضعيفة لبلدان أخرى في المنطقة، كاليمن ولبنان وسوريا، تعاني من تضافر الانهيار الاقتصادي مع الدَّين العام الخانق والصراع والاضطراب الداخلي.
من الأمثلة على هذا الانعدام للتكافؤ في المنطقة حالة الأمن الغذائي لدول الخليج. ذلك أنَّ دول مجلس التعاون الخليجي تعتمد اعتماداً شديداً على واردات الغذاء، وتستورد ما بين 80 و90 بالمئة من السلع. وهذا ما يخلق هشاشةً إزاء الاضطراب الجيوسياسي يمكن أن تؤثّر في اللوجستيات وسلاسل الإمداد. ولقد استخدمت دول الخليج رأسمالها لتخفيف هذا الخطر. واستثمرت بسخاء في البنية التحتية للنقل والتخزين. وبات بمقدورها أن تستورد الغذاء من أماكن مختلفة من العالم، ضامنةً بذلك امتلاكها مصادر متنوعة للسلع. فدول الخليج تستورد الغذاء من جميع مناطق العالم، وتمتلك أراضٍ في شمال أفريقيا ومنطقة البحر الأسود والولايات المتّحدة وأميركا اللاتينية.40 وأقامت منشآت ضخمة لتصنيع الأغذية والدواجن والألبان. تخدم هذه المنشآت الأسواق الخليجية وتوفّر بعض الاكتفاء الذاتي، لكنها لا تزال تحتاج استيراد السلع الخام، مثل علف المواشي. ومؤخّراً، راحت دول الخليج تستثمر في القدرات التقنية الزراعية التي تسمح لها بتنمية الغذاء في بيئات داخلية مضبوطة بالكامل.41 وهذه المشاريع شديدة الاستهلاك للطاقة وتعتمد على إمداد بالكهرباء وغيرها من المُدخَلات تموّله حكومات الخليج.42
هذا الإنتاج للغذاء هو شكل من أشكال التحديث البيئي، وهو محاولة ترمي إلى مزيد من السيطرة على العلاقات الاجتماعية والبيئية المرتبطة بهذا الإنتاج، الأمر الذي يعود بمكاسب في احترار المناخ. فغياب الزراعة المحلية يخلق اعتماداً على الواردات لكنه يحدّ في الوقت ذاته من التعرّض المباشر للتغيّر المناخي. والمجتمعات التي تعتمد بشدّة على زراعة أصحاب الحيازات الصغيرة كمصدر للدخل والعمالة أكثر عرضة لآثار التدهور المناخي. تستغرق الزراعة في اليمن ومصر والمغرب ما بين 20 و35 بالمئة من العمالة، في حين تستغرق ما يقلّ عن 5 بالمئة في دول الخليج.43 لكنَّ دول الخليج ليست منيعة تماماً إزاء هذا الخطر، إذ يمكن أن يهدّد التدهور المناخي الإنتاج في المناطق التي تستورد منها السلع، وإن كانت قوّتها الشرائية وشبكات سلاسل الإمداد المتنوعة تحدّ من تعرّضها للخطر، في الوقت الحالي على الأقلّ. واستخدام عائدات النفط لتمويل واردات الغذاء هو مثال آخر على استمرار اتّكال هذه الدول على تصدير النفط والغاز. فهو مسألة وجود بالنسبة إليها.
يتجلّى عدم التكافؤ الإقليمي أيضاً في استثمار دول الخليج في التجارة الزراعية في الخارج. وتميل أدبيات التنمية في بعض الأحيان إلى افتراض أنَّ التعاون وتدفقات الاستثمار الإقليمي هي وسائل لمعالجة مشكلات الأمن الغذائي في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إذ تُطرَح هذه التدفقات كوسيلة لحلّ مشكلة انعدام الأمن الغذائي في دول الخليج وللاستثمار في القطّاعات الزراعية في اقتصادات البلدان العربية الأفقر في الوقت ذاته.44 لكنَّ واقع الاستثمار الخليجي في الزراعة يناقض هذا التفسير. فالمزارع القائمة على أراضٍ واسعة تحوزها دول الخليج في مصر والسودان وإثيوبيا تستهلك الماء وموارد أخرى من أجل غذاء يُصدّر مباشرة إلى دول الخليج. والفصّة هي واحد من أشيع المحاصيل في هذه المحميات، وهي علف للماشية يُستخدم في معامل الألبان الضخمة التي أُقيمت في دول الخليج.45 وهذا يعني أنَّ هذه السعرات تُنتزع من اقتصادات تعاني من ضعف شديد في الأمن الغذائي ولها تاريخ في المجاعات. ففي السودان، على سبيل المثال، حاز مستثمرو الخليج ما يزيد على 500 ألف هكتار من الأراضي، هي غالباً من أحسن المناطق الزراعية القريبة من النيل، وهي أراض غالباً ما حازها مزارعون صغار.46 تنتج هذه المزارع الحبوب والأعلاف التي يُعاد تصديرها إلى اقتصادات دول مجلس التعاون، في حين يبقى المجتمع السوداني غير آمن غذائياً، حيث من المقدّر الآن أن يواجه 12 مليوناً من سكان السودان، من أصل 44 مليوناً، انعداماً حاداً للأمن الغذائي.47 كما يُقدَّر أن يعاني نصف مليون طفل في البلد من سوء التغذية الحاد. وعادةً ما توصف هذه الأنواع من الحيازة الواسعة للأرض بأنّها “استيلاء على الأرض” وهي تمثّل تهديدات موثّقة جيداً لكلّ من حقوق السكّان في تلك المناطق ومعيشتهم وصحتهم.48 كما يُضعف هذا الاستيلاء على الأرض وهذا الإنتاج الزراعي الضخم الموجّه للتصدير من السيادة الغذائية لبلدان مثل السودان.
من الأبعاد الأخرى لعدم التكافؤ في المنطقة السعة التخزينية لحبوب الطعام، تلك السعة التي تشكّل درعاً في وجه ارتفاع الأسعار المفاجئ وأزمات العَرض. ولهذا الأمر أهميته الخاصّة في البلدان العربية، نظراً إلى اعتمادها على الغذاء المستورد مع الانكشاف للصدمات المناخية وصدمات السوق المحتملة. ولقد استثمرت دول الخليج بقوة في صوامع الحبوب ومخازن الغذاء، وضُمِّنَت هذه البنية التحتية في مشاريع الموانئ والمطارات في تلك البلدان. والنتيجة، أنَّ سعتهم التخزينية تتفوق بأشواط على نظيرتها في بلدان المنطقة الأخرى. على سبيل المثال، فإنَّ سعة تخزين الحبوب لدى السعودية تبلغ حوالى 3.5 مليون طن، لسكّان يبلغ تعدادهم 35 مليون نسمة،49 في حين تبلغ سعة مصر التخزينية نحو 3.4 مليون طن، لسكّان تعدادهم ثلاثة أضعاف سكّان السعودية، نحو 105 مليون نسمة.50 وتبلغ سعة قطر التخزينية نحو 250 ألف طن، لسكّان تعدادهم 2.6 مليون نسمة،51 في حين لليمن السعة التخزينية ذاتها إنّما لسكّان تعدادهم 30 مليون نسمة. ونجد هذا التباين في مقارنات أخرى بين بلدان المنطقة، لا سيما مع تلك المجتمعات المنكوبة بالحروب والكوارث. وعلى سبيل المثال، فقد دمّر انفجار مرفأ بيروت الكارثي في آب/أغسطس 2020 صوامع المرفأ التي تسع 100 ألف طن من الحبوب.
علاوة على الصوامع، تستثمر دول الخليج أيضاً في أشكال أخرى من البنية التحتية توفّر وسائل لإدارة مواردها الأساسية في وجه آثار التغيّر المناخي. ولقد أكمل كلّ من السعودية وقطر والإمارات مؤخّراً بناء مرافق لتخزين المياه تضمن الإمداد المتواصل. وتُعَدّ هذه المرافق من بين الأكبر في العالم: يكفي خزّان مياه قطري حجمه 6.5 مليون متر مكعّب كامل الاستهلاك الوطني للماء لسبعة أيام.52 تشير إقامة هذه البنية التحتية إلى الكيفية التي تحصّن بها دول الخليج استقلابها الاجتماعي؛ إذ يمكن للسعة التخزينية للماء والغذاء أن توفّر قدرة الصمود في وجه الصراعات والأزمة المناخية والاضطرابات اللوجستية. وهذا ما يعطي فكرة عن تباعد مسارات التطوّر في المنطقة، من حيث شدّة التفاوت في القدرة على التعامل مع التغيّر المناخي والإجهاد البيئي وأزماتهما المحتملة.
الخليج والانتقال العادل
تقف المبادئ الاجتماعية والاقتصادية الأساسية التي تَسِمُ الانتقال العادل في تعارض مع الاستراتيجيات آنفة الذِّكْر. فما يسعى إليه الخليج، باستثماره في الطاقة المتجددة والتجارة الزراعية وتطوير البنية التحتية، هو برنامج رأسمالي مكثّف وتقني للتحديث البيئي. ويشتمل ذلك على حلول تقنية وتراكم من خلال الاستيلاء باسم “الاستدامة”. وما يحفز هذه الطرائق في المقام الأول هو الربح والاعتبارات الأمنية، في حين يشغل التزام الاستدامة البيئية مرتبة ثانوية من الاهتمام. ذلك أنَّ هذه المقاربة لا تبدي، إن أبدت، سوى أقلّ اهتمام بالمساواة والعدالة والحاجات العامة الأساسية. وهي تنطلق من فكرة أنَّ الاستدامة البيئية مسألة تكنوقراطية، يمكن فصلها عن المسائل السياسية العميقة المتعلقة بتوزيع الثروات والموارد، و الاستهلاك، واستخلاص الأرباح.
لهذا الاتجاه عواقبه الإقليمية. وكما أشرنا أعلاه، فإنَّ نفوذ دول الخليج جليّ في استثمارات الطاقة المتجددة في اقتصادات بلدان مثل مصر وتونس والمغرب والأردن. إذ تعمل شركات مجلس التعاون الخليجي الكبرى التي تقودها الدولة على ترسيخ أقدامها، من خلال استثماراتها، في تحوّل المنطقة إلى الطاقة المتجددة. لكنَّ هذا النفوذ حاضر أيضاً على مستوى أوسع في أرجاء المنطقة. إذ تعمل إعانات دول الخليج واستثماراتها على تعزيز سلطة عدد من الحكومات العربية، مثل مصر والأردن و تونس، تقدّم لها دول الخليج قروضاً تموّلها وتسندها. وإضافة إلى التمويل، توجّه دول الخليج السياسات في المنطقة عبر سبل أخرى. فقد تدخّلت السعودية والإمارات عسكرياً في اليمن، ودعمت قطر والسعودية وكلاء رجعيين لهما في سوريا. تحول هذه التدخلات دون قيام الفضاء الديمقراطي الضروري لانتقالٍ عادلٍ حقّاً؛ فهي تعيق نشوء حركات اجتماعية يمكن أن تطالب باستخدام للموارد الوطنية أعدل وأكثر استدامةً. علاوة على ذلك، وكما ذكرنا آنفاً، فإنَّ استخدام مساحات واسعة من الأرض لإنتاج الطاقة المتجدّدة وإقامة محميات التجارة الزراعية غالباً ما يقوم على الاستيلاء على أرض مستخدمين آخرين، وهو استيلاء يتحقق بأشكال من الحكم سلطوية وقمعية. وكي يتحقق انتقال عادل في العديد من بلدان المنطقة العربية، لا بدّ من أن تأخذ مسائل العدالة الاجتماعية والبيئية هذا البعد الإقليمي في الحسبان. ذلك أنَّ مسار التغير الثوري والاجتماعي لا يمكن فهمه على أنّه لا ينطوي إلا على نضالات يحددها الصراع الطبقي على المستوى الوطني وحده: لا بدّ من إدخال ثقل النفوذ الخليجي في الاقتصاد السياسي للمنطقة في المعادلة.
يمكن رصد مثل هذه العقبات التي تعترض سبيل الانتقال العادل على المستوى العالمي أيضاً. لدول الخليج حضورها في سياسات التغير المناخي، وهي تستخدم مواردها في تبييض صورة الاقتصاد القائم على النفط. يتجلى هذا في التمويه الأخضر ودمغة الاستدامة اللذين يفعلان فعلهما في تلك الدول، ويتجلّيان في تعيين مدير لشركة نفطية رئيساً لمؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي الثامن والعشرين. ويتجلّى هذا التسويق أيضاً في استثمارات دول الخليج في أصولٍ رفيعة المستوى في الغرب. أوضح الأمثلة على ذلك هي فرق كرة القدم، إذ تملك دول خليجية بعضاً من أكبر أندية أوروبا أو عقدت معها شركات طيران خليجية أو سواها من الهيئات صفقات دعائية. تبيّض ملكية دول الخليج لأندية مثل باريس سان جرمان وبرشلونة ونيو كاسل ومانشستر سيتي سمعة تلك الدول وتستدخل عائداتها من الغاز والنفط إلى رموز فخار الطبقة العاملة وهويتها هذه؛ وذلك في مسعىً للإبقاء على ألفة الوقود الأحفوري من خلال الثقافة، وضمان استمرار الطلب عليه في السوق العالمية.
ليست دول الخليج وحدها في عزمها على حماية مناخ سياسي يواصل قبول الانبعاثات الكربونية من النفط والغاز. ذلك أنَّ التزامها الوقود الأحفوري يجعلها في حلف مع رأس المال العالمي؛ إذ تتقاسم هذا الهدف مع شركات متعددة الجنسية وأسواق مالية ودول. ولا غنى عن دول الخليج في الإبقاء على هيمنة هذه البنى، نظراً إلى صادراتها من النفط والغاز، وكذلك أيضاً بفضل رؤوس أموالها المستثمرة في شتّى أرجاء الاقتصاد العالمي. وهذا ما سيضمن بقاء دول الخليج موقعاً من مواقع القوة الإمبراطورية لبعض الوقت. كما سيضمن طلب الاقتصادات الآسيوية الناشئة المتنامي على الطاقة احتفاظ دول الخليج بهذه الأهمية. وإذ يؤخذ ذلك كلّه في الحسبان، يتضح أنَّ على المحاولات الرامية إلى تحقيق انتقال عادل في مجتمعات الشرق الأوسط أن تواجه هذا الحلف المكوّن من طبقات حاكمة محلية ودول الخليج ورأس المال العالمي.
غير أنَّ عدداً من أوجه الشكّ وانعدام اليقين لا يزال يترصّد دول الخليج، على الرغم من قوّتها. فمثل جميع المجتمعات، ليست مجتمعات دول الخليج منيعة إزاء وقائع التغيّر المناخي. واعتمادها الاقتصادي على النفط والغاز يعني أنَّ عليها أن تنوّع اقتصاداتها كي تسدد الفاتورة المرتفعة لوارداتها الغذائية، وإنتاجها الطاقة، واستهلاكها المياه. كما قد تؤثّر الحرارة المتصاعدة في محاصيل الغذاء العالمية وتُحدث أزمات في سلاسل السلع العالمية، الأمر الذي يمكن أن يضرّ بتلك الاقتصادات أيضاَ. أمّا على المستوى الإقليمي، فإنّ قدرتها على إقامة تحالفاتٍ سلطوية، يقوم عليها جزئياً ما تحققه من تراكم وإنتاج الغذاء، يمكن أن تخضع للاختبار أيضاً. فالضغوطات التي أدّت إلى ثورات عامي 2010 و2011 لم تُحلّ بعد؛ ولا يزال ثمة حاجة لإعادة تكوين بنيوية عميقة. ويبقى من المبكر التنبّؤ بالكيفية التي ستتطور بها تلك المعضلات لكن دول الخليج ليست منيعة إزاء مطالبة الشعوب بالديمقراطية والمساواة وإعادة التوزيع التي تدخل في تعريف الانتقال العادل.