المجتمع المدني والحركات الاجتماعية العربية وقدراتها على التأثير في قضية العدالة الاجتماعية "لبنان وتونس نموذجا"
فصل ضمن كتاب: العدالة الاجتماعية بين الحراك الشعبي والمسارات السياسية في البلدان العربية
مقدمة:
برزت أهمية الدور الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني في قضايا بعينها مع بداية الحراك العربي في أواخر عام 2010 في تونس، ولعل أبرز القضايا التي رفعتها مطالب المواطنين منذ بداية الحراك وحتى الأن هي قضية العدالة الاجتماعية، ولعل الحراك الأخير الذي اندلع في كلا من العراق ولبنان والذي كانت مطالبه تتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية خير دليل على ذلك.
ظهر دور المجتمع المدني في تحقيق العدالة الاجتماعية مع نشأته، حتى وإن اقتصر في البدايات على البعد الخيري، فجوهر الفكرة كان دائما تحسين حياة الفئات الأكثر فقرا وتهميشا، حتى وإن كان العمل الخيري غير كاف في هذا الإطار ومع وصول المجتمع المدني إلى درجة النضج مع الثورات العربية ومحاولة لعب دور قوي في تحقيق أهداف هذه الثورات والتي عند انطلاقها رفعت شعارات أساسية كانت العدالة الاجتماعية في القلب منها سواء بشكل مباشر، أو من خلال شعارات أخرى مثل الكرامة والحرية هي شعارات مرتبطة بشكل أساسي بالعدالة الاجتماعية بشكل أو بآخر. لذلك لا يمكننا إغفال الوضع الاقتصادي المفتقد للعدالة الاجتماعية الذي أدى إلى تفجر هذه الثورات والحراكات. كما لا يمكننا أن نغفل أن الشرارة الأولى لهذه الثورات كان حادث محمد بوعزيزي الذي يرتبط فيه الظرف الاقتصادي (الفقر والبطالة (بمفهوم الحقوق (الكرامة والحرية).
وباعتبار المجتمع المدني -بحكم التعريف- هو حلقة الوصل بين المواطنين بآمالهم وطموحاتهم والسلطة أو الحكومات، فانه بعد هذه الثورات يقع على عاتقه دورا كبيرا في ترسيخ وتفعيل مفهوم العدالة الاجتماعية في مصر. وتحقيق العدالة الاجتماعية كهدف، يرتبط بالكثير من التحديات منها البعد الدولي أو التراكمات تاريخية وتعقيدات سياسية وجغرافية وتنموية، لكن ذلك لا يعفي الدول والحكومات العربية من واجباتها والتزاماتها السياسية والاجتماعية والقانونية والأخلاقية، حتى أصبح ركن أساسي لشرعية أي نظام حكم هي تحقيق العدالة الاجتماعية لمواطنيها. هذه التحديات تستوجب من المجتمع المدني تطوير استراتيجياته وأدواته لمجابهة هذه التحديات مستندا إلى الفرص التي وفرتها الثورات العربية والتي جعلت من العدالة الاجتماعية مطلبا أساسيا بالرغم من محاولات التحايل، وحولت المواطنين إلى فاعلين قادرين على التأثير رغم محاولات القمع التي تمارس أحيانا، وفتح مجالات جديدة لحركة حتى داخل مؤسسات الدولة رغما عن محاولات إعادة السلطوية.
وفي هذا الإطار يجب أن يكون توجه المجتمع المدني نحو تحقيق العدالة الاجتماعية بمعني السعي “لتلك الحالة التي ينتفى فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثروة أو السلطة أو من كليهما، والتي يغيب فيها الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي وتنعدم فيها الفروق غير المقبولة اجتماعيا بين الأفراد والجماعات والأقاليم داخل الدولة، والتي يتمتع فيها الجميع بحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية متساوية وحريات متكافئة، ولا تجور فيها الأجيال الحاضرة على حقوق الأجيال المقبلة، والتي يعم فيها الشعور بالإنصاف والتكافل والتضامن والمشاركة الاجتماعية، والتي يتاح فيها لأفراد المجتمع فرص متكافئة لتنمية قدراتهم وملكاتهم ولإطلاق طاقاتهم من مكامنها ولحسن توظيف هذه القدرات والطاقات بما يوفر لهؤلاء الأفراد فرص الحراك الاجتماعي الصاعد، وبما يساعد المجتمع على النماء والتقدم المستدام، وهى أيضا الحالة التي لا يتعرض فيها المجتمع للاستغلال الاقتصادي وغيره من آثار التبعية لمجتمع أو مجتمعات أخرى، ويتمتع بالاستقلال والسيطرة الوطنية على القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية”.
عند الحديث حول دور المجتمع المدني في تفعيل آليات العدالة الاجتماعية نجد أنه له جذوره التاريخية ومواصفاته وملامحه الأساسية في العصور المختلفة، وتعددت أنماط هذا الدور بحسب المرحلة التاريخية وخصوصية كل مجتمع في انتقاء أو تكييف أو استحداث آليات مناسبة له. إلا أن عملية إعادة التنظيم المجتمعي تبقى القاسم المشترك بين كل المجتمعات التي خرجت من مراحل صراع أو عنف أو تحول سياسي في نظام الحكم) من النظام الديكتاتوري إلى النظام الديمقراطي)، حيث أن فرضيات عملية الانتقال السياسي والتي تتسم بالسرعة والمفاجأة والصراعات -يستثنى من ذلك بعض المجتمعات التي مرت بمرحلة الانتقال نحو الديمقراطية بشكل سلمي- لذا فإن عملية الانتقال نحو الديمقراطية تتطلب تخطيطا لإعادة التنظيم المجتمعي لتلافي أو معالجة أو منع حدوث انتهاكات لحقوق أفراد ذلك المجتمع، ويأتي ذلك من خلال تضمين إعادة التنظيم المجتمعي في آليات العدالة الاجتماعية ضمن استراتيجيات شاملة لعدالة انتقالية يتقاسم فيها الأدوار والمهام والمسؤوليات النظام السياسي متمثلا بالجهازين التشريعي التنفيذي والمجتمع المدني المتمثل بالمؤسسات.
وما شهده المجتمع المدني من تطور ونمو وفعالية في المجال السياسي والمجال الاجتماعي منذ القرن العشرين وخصوصا بعد الثورات العربية جعل المجتمع المدني يتناول أماكن وقضايا لم يتناولها من قبل، ويحقق فيها نتائج مثل قضية العدالة الاجتماعية؛ والتي نالت في الآونة الأخيرة النصيب الأكبر من الدارسات لأهميتها للمجتمعات النامية والتي تستعد وتنتظر مزيد من التحولات الديمقراطية. وتدل الآونة الاخيرة في دراسة المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني على تغير ونضج في دور الأسلوب المتبع، فأصبح لمنظمات المجتمع المدني تأثيرا كبيرا في المجتمعات يصل في بعض الأحيان إلى وضع السياسات والمساعدة في تنفيذها.[1]
1) دور المجتمع المدني في قضية العدالة الاجتماعية في كلا من تونس ولبنان:
من الممكن في هذا الشأن الحديث حول الدور الذي قامت به منظمات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية فيما يخص قضية العدالة الاجتماعية في كلا من تونس ولبنان خاصة وأن الحالتين قد تعرضتا لحراك اجتماعي واسع وكان في أغلبه يرفع مطالب تتعلق بتحقيق العدالة الاجتماعية.
حيث أنه في تونس على سبيل المثال، كان هناك دور للحركات الاجتماعية قبيل وبعد الثورة في تونس، حيث شكلت الحركات، من خلال نضالاتها الجماعية، الأحداث التاريخية التي أدت إلى رحيل بن علي عن السلطة. تحركات قادتها المنظمات التقليدية، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل (UGTT)، و”الرابطة التونسية لحقوق الإنسان”، ونقابة المحامين، و”اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل”، والجمعيات التي تعنى بالهجرة، فضلا عن شبكات تنسيق، كتلك الخاصة بالمدونين (yizzi fok) في 2007، أو “حركة 18 أكتوبر”.[2]
بالإضافة كانت الحركة الاجتماعية بالحوض المنجمي من أهم التحركات الشعبية في المنطقة وفي السنوات الألفين. وبينما كانت مطالبها محلية فإن تأثيرها وصيتها طالا المنطقة بأسرها وتعديا الحدود. كان الصراع في الحوض المنجمي من أجل العدالة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية حسب العديد من المتابعين للشأن التونسي أولى الخطوات التي أدت إلى سقوط نظام بن علي، تلتها محطات أخرى في عدة مناطق بتونس منها بن قردان والمنستير وكانت ذروتها مع الحراك في سيدي بوزيد إلى أن عمت الاحتجاجات البلاد رافعة شعارات منددة بالتهميش والظلم الاجتماعي. يمكننا القول أن الحراك الاجتماعي توصل في تلك الفترة إلى عرقلة منظومة بن علي وزعزعتها إلى أن أطاح بالدولة البوليسية القمعية ورغم أن البديل نحو منوال اقتصادي وتنموي يحقق الشغل والعدالة الاجتماعية والمساواة بين المناطق بقي مفقودا فإن دور الحراك الاجتماعي في فتح أبواب الأمل لا ريب فيه.
أما الفترة الموالية التي تعاقبت فيها الحكومات منها التكنوقراطي ومنها المنتخب وأثناء صياغة الدستور الجديد فقد عرفت العديد من التحركات الاجتماعية تبلورت تارة حول مطالب سياسية مثل اعتصامات القصبة أو اعتصام باردو وتارة حول مطالب متعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وقد تباينت هذه الأخيرة من حيث طرق التعبئة والنضال وكذلك من حيث المطالب والانتشار . (تحركات نقابية من اعتصامات وإضرابات، إضرابات جوع من أجل التشغيل كان لاتحاد المعطلين عن العمل دور ريادي فيها، مسيرات ومظاهرات، حملات إعلامية وغيرها) فاتسم المناخ الاجتماعي في هذه السنوات الثلاث بالتوتر ولم يكن الرأي العام دائما مناصرا للتحركات بل عرفت بعضها تعتيما أو حملات إعلامية مناهضة فيما صدت بعضها بعنف من طرف الدولة.
يمكننا القول إن المناخ الاجتماعي التونسي كان طيلة هذه الفترة متسما بشحنة عالية من الروح النضالية والمطلبية وباهتمام كبير بالشأن العام وبالسياسة ودور الفرد والمجموعة في بلورة السياسات العامة. أما المواعيد الانتخابية فكانت بمثابة المحطات التي يتجلى فيها صراع قطبين سياسيين أساسيين وتنحصر فيها النقاشات فيما يسمى “بالنمط المجتمعي” أي تتمحور خاصة في مسألة الحريات الفردية ثم تعود بعد الانتخابات لتطرح إشكاليات الحقوق الاقتصادية. فعوض أن تكون الحملات الانتخابية فرصة لتنافس البرامج والسياسات الاقتصادية والاجتماعية فهي ما انفكت تعمق الاستقطاب الثنائي بين إسلاميين وعلمانيين.
شهدت المرحلة ما بعد انتخابات 2014 في تونس العديد من الحركات التي يمكن ربطها مباشرة بقضية العدالة الاجتماعية سوف نقف عند واحدة منها وهي حملة “وينو البترول” (أين النفط؟). انطلقت هذه الحملة في شهر مايو الماضي وهي تطالب بالشفافية في قطاع الطاقة وبالتوزيع المتكافئ للدخول. وقد عرفت تصعيدا مهما منذ أن أعلنت شركة مازارين عن اكتشاف موارد باطنية من النفط بالجنوب التونسي تقدر منتوجيتها بـ4300 برميل/يوم، الشيء الذي جعل سكان المنطقة يطالبون بنصيبهم من العائدات. والجدير بالقول إن الجنوب التونسي (ولايتي قبلي وتطاوين) يعرف منذ بداية 2015 العديد من التحركات المرتبطة بإنتاج الغاز والبترول غير أن حملة “وينو البترول” تنفرد بعدم مطالبتها للشركات حيث تتوجه خصيصا للدولة والحكومة. فالمحتجون لا يطالبون بالتشغيل أو بتحسين ظروف العمل أو بالزيادة في الأجور، بل يعبرون عن استياء كامل سكان المنطقة من تهميشهم واستنزاف مواردهم. وهذه القضية قد لقت صدى واسعا بحكم ارتباطها أساسا بالسيادة الوطنية ولكن كذلك بالأمن القومي والعدالة الاجتماعية وأيضا التنمية وأيضا بحكم ارتباطها بالشفافية والحوكمة.
جاءت ردة فعل الدولة بقمع الحراك ومنع الاحتجاجات الشيء الذي أدى إلى تصعيدات عنيفة أودت إلى حرق مركز شرطة ومقر معتمدية بمدينة دوز. أما ردة الفعل السياسية فقد كانت بدورها عنيفة تمثلت في شن حملات شرسة ضد الحراك معتمدة في ذلك على حجة علاقة هذا الحراك بحركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية. وذهب رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي إلى ربط الاحتجاجات بعدم الاستقرار الأمني الذي يعرفه الجنوب التونسي بل حتى بأعمال الإرهاب . وبهذا أصبح الاحتجاج من أجل الشفافية والاقتسام العادل للثروات والعدالة الاجتماعية بمثابة الفعل الإجرامي الهادف إلى ضرب الأمن واستقرار الدولة فأفضى ذلك إلى تسيس الحراك الاجتماعي، خاصة بعد أن سانده علنا الرئيس السابق المنصف المرزوقي. في غياب تنظيم محكم للحراك وانفصال واضح عن الأحزاب تحولت الحملة إلى موضوع تجاذب بين القطبين السياسيين. أما المطالب التي كانت في بدايتها محلية، تحولت لدى الجزء الأكبر من الرأي العام إلى رموز للشعبوية وأدلة على سوء النية والاستعداد لضرب وحدة البلاد وزعزعة استقرار الدولة.
في هذا الإطار، عانت حملة “وينو البترول” مثلا من بعض الإشكالات، فهي تتمركز في وسط وجنوب البلاد أي في المناطق الموصومة بالتهريب وهي ظاهرة ارتبطت نهائيا بالإرهاب منذ اقتراح مشروع قانون مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال، وهي المناطق الأكثر تهميشا وفي نفس الوقت الأغنى بالموارد الطبيعية، كما أنها أحد معاقل حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية ومن هنا العلاقة المباشرة مع الإسلام السياسي حيث أبرزت نتائج الانتخابات الأخيرة تباينا واضحا بين الشمال والجنوب في الخيارات الانتخابية.
أتت إذن حملة “وينو البترول” في سياق محلي مشحون بالمخاوف الأمنية واستقطاب سياسي جغرافي بالإضافة إلى سياق إقليمي معقد (ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، الحرب في ليبيا، عدم الاستقرار في الجزائر، عدم الاستقرار في مصر، مخاوف أوروبا من الإرهاب والهجرة…) فزادت كل هذه العوامل من الضغط على الدولة لكبح هذا الحراك.
تمكنت الحملة من فرض مسألة الشفافية على قطاع النفط والبترول على الساحة الإعلامية لمدة وجيزة غير أن عملية سوسة الإرهابية قطعتها فجأة خاصة بعد أن ربطها رئيس الدولة بالإرهاب معتبرا أنها ترهق القوات الحاملة للسلاح وتلهيها عن مجابهة هذا الخطر كما أفقدها التسيس شعبيتها ومصداقيتها.
وفي هذا الشأن يمكننا أن نستخلص من تجربة الحركات الاجتماعية التونسية في السنوات الأخيرة أن دورها في طرح مسألة العدالة الاجتماعية قد يكون فعالا ويصل إلى حد الإطاحة بنظام قائم منذ عشرات السنين غير أنها تبقى غير قادرة على بلورة استراتيجيات تنأى بها عن عدة عراقيل منها:
الاستقطاب السياسي الإسلامي-العلماني.
- الافتقاد للقدرة على التنظيم والتعزز بحجج تكسبها مصداقية وتخرجها من الشعارات الفضفاضة.
- صعوبة المحافظة على الطابع السلمي للاحتجاجات عند القمع.
- ضعف خبرتها في التواصل والتعامل مع الإعلام.
- صعوبة التعامل مع المعطى الأمني في جو مشحون بالاستنفار والمخاوف من الإرهاب.
يصعب تجاوز هذه الصعوبات في ظل غياب أطر قوية ومعترف بها، فعلى سبيل المثال حراك الحوض المنجمي تمكن من الصمود لأسباب عدة أهمها الترابط الذي عرفه الحراك وقدرته على كسب تعاطف أطراف فاعلة أخرى كأحزاب المعارضة وجمعيات المهاجرين وأغلب النقابيين فأضفت هذه الأطراف المنظمة طابعا فعالا على حراك شعبي نشيط. ولعل من أهم الأسباب التي جعلت الأطراف تتكتل لدعم الحوض المنجمي وجود عدو مشترك. فالتحدي أمام التحركات الاجتماعية في تونس اليوم هو خلق التآزر حول قضية واحدة في غياب عدو مشترك ومع الأخذ بعين الاعتبار العنصر الأمني كمعطى مبدئي وعالمي لا مناص منه.[3]
وبالنسبة لاندلاع الحراك الاجتماعي في لبنان، فقد جاء في سياق أزمة النفايات الشهيرة حيث انتهى عقد الحكومة اللبنانية مع شركة “سوكلين” المختصة بجمع القمامة في بيروت ومنطقة الجبل، هذا بالإضافة لوصول المطمر الذي يحتوي معظم قمامة البلاد إلى سعته القصوى، وتأخر كثيرا تعاقد الحكومة مع شركة أخرى لتولي المهمة نتيجة الخلافات السياسية المتجذرة والتي تجعلها غير قادرة على اتخاذ القرارات، وهنا يمكن الإشارة أيضا لخلاف الفرقاء السياسيين حول حصصهم في “بيزنس القمامة” كما تشير بعض التقارير.[4]
وأمام تلك المعطيات بدأ الحراك وظهرت في 21 يوليو 2015 حركة “طلعت ريحتكم” من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، والتي حملت هذا الاسم في إشارة إلى روائح الفساد التي باتت تفوح في العديد من الملفات والمجالات، وبدأت في تنظيم الفعاليات المطالبة بوضع حد لتفاقم أزمة القمامة، وللمجموعة لجنة تأسيسية، تضم عناصر من مختلف أطياف المجتمع مثل المحامين، وطلبة وأساتذة الجامعات، ويتم تنظيم العمل داخل المجموعة وفق تقسيمها إلى لجان مختلفة،[5] إلا أن العديد من الأسماء قد برزت كقيادات طبيعية للحملة، وهم مروان معلوف، عماد بزي، نزار غانم، كاثرين ماهر، خطار طربيه، وأسعد ذبيان، وهؤلاء النشطاء قد تم فيما بعد نشر تقارير عنهم تتهمهم بالتدريب في تركيا والولايات المتحدة على إسقاط الأنظمة في الشرق الأوسط ومشاركتهم في الانتفاضات في مصر وتونس وغيرهما.[6] وفي 28 يوليو، دعت الحملة إلى تظاهرة أمام “السرايا الحكومية”، تحولت إلى اعتصام، وكان مطلب الحركة هو طريقة مستدامة لمعالجة النفايات، وفرزها من المصدر، ومعالجتها في مراكز متخصصة في كل قضاء”، إلا أن المطالب لم تقف عند هذا الحد، حيث تعالى الهتاف “ارحل” والمقصود هو رئيس الوزراء تمام سلام، ومع وجود تعزيزات كبيرة من الجيش والقوى الأمنية أمام السرايا، بدأ المتظاهرين بتوجيه سخطهم نحو القوى الأمنية التي تحمي مبنى الحكومة، إلا أن نشطاء الحملة تداركوا الموقف سريعا ونادوا في مكبرات الصوت “نحن كلنا مع الجيش اللبناني”.[7]
وقد تصاعدت الاحتجاجات لتتخطى موضوع القمامة وبدأ الحراك يتطور تدريجيا ويتحول إلى حركة احتجاجية شملت مطالب أخرى كتطهير الفساد أو مهاجمة التقصير الحكومي مثل مشكلة الكهرباء والمرتبات، ودعت المجموعة إلى التظاهر في 22 أغسطس 2015، للتظاهر ضد الحكومة اللبنانية نتيجة تفاقم أزمة القمامة في شوارع العاصمة بيروت واحتجاجا على ما يرونه فسادا في القطاع الحكومي، وهو اليوم الذي يعد يوما فصلا في الأحداث، حيث تجمع المتظاهرون أمام مسجد محمد الأمين بعدما تعذر وصولهم إلى ساحة النجمة الموقع الذي كان مقررا لانطلاق المظاهرة. وشهدت المنطقة اشتباكات بين المتظاهرين والقوى الأمنية بعد قيام القوى الأمنية برش المياه وإطلاق النار على المتظاهرين مما أدى إلى سقوط عدد من الاصابات في صفوف المتظاهرين التظاهرات التي قابلتها القوى الأمنية بعنف أسفر عن سقوط مصابين، واعتقال عدد من النشطاء.[8]
وواصلت الاحتجاجات تصاعدها في اليوم التالي، وحدث اشتباك بين القوى الأمنية والمتظاهرين على الرغم من محاولة منظمي التظاهر الحيلولة دون ذلك، إلا أن مجموعة من المتظاهرين اشتبكت مع قوى الأمن الداخلي وتنقلت الاشتباكات بين بعض شوارع وسط بيروت التجاري وأسفرت عن مقتل أحد المتظاهرين بالرصاص، كما وقع عشرات الجرحى بين عناصر قوى الأمن والمتظاهرين. وأفادت قوى الأمن الداخلي عن إصابة 30 من عناصرها، فارتفع سقف المطالب إلى اسقاط الحكومة، وحل مجلس النواب والدعوة إلى انتخابات وفق قانون انتخابي عادل وهو المطلب الذي نقل إلى بيروت مظاهر الربيع العربي سواء الاحتجاجية والمطلبية وكذلك الشعارات المرفوعة، أو ما أصابها من اتهامات بالتخوين والعمالة.[9] وبالرغم من تأييد المتظاهرين والتضامن معهم في مطالبهم القاضية باستقالة الحكومة واستقالة مجلس النواب، معتبرين تلك الحكومة حكومة غير فاعلة وأن المجلس النيابي لا يقوم بواجباته كما يجب، إذ لم يتمكن طيلة سنة و3 أشهر من انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، إلا أن جراءة المطلب خاصة في ظل الفراغ الرئاسي أصابت قطاع لا يستهان به من مختلف الفرق والطوائف بالريبة، فقد يعني ذلك دخول البلاد في مستنقع من الفوضى بحسب رأي هؤلاء، خاصة في ظل الرفض الدائم من قبل المجموعة للحوار، سواء بوساطة من أطراف مدنية، أو بوساطة من أطراف حكومية.[10]
وفي 25 أغسطس 2015 اجتمعت الحكومة في جلسة استثنائية لبحث الوضع الكارثي لأزمة النفايات[11]، واتخذت الحكومة قرارا لرفع النفايات عبر إيجاد مطمر في “عكار” متخطية كل المزايدات مع إقرار مشروع إنمائي لعكار بمئة مليون دولار أمريكي، وقد انسحب وزراء حزب الله والتيار الوطني الحر وحزب الطاشناق من الجلسة بحجة أن توقيع ونشر المراسيم الحكومية لا يتم ولا ينجز بغياب رئيس الجمهورية الذي عليه أن يتولى هذه المهمة، أو بتوقيع جميع الوزراء في الحكومة التي تتولى مهام الرئيس بحال غيابه، وطالبوا رئيس الحكومة أن يعتبر تلك المراسيم لاغية فلا يعمد إلى نشرها إلا بتوقيع جميع الوزراء.[12]
كانت حركة “طلعت ريحتكم” قد دعت إلى تظاهرة يوم 29 أغسطس 2015 في ساحة الشهداء، وهي التظاهرة التي هددت بعض القوى السياسية المشتبكة مع قضية المراسيم، بأنه في حال عدم تجميد تلك المراسيم التي أحيلت على النشر وعدم إيجاد مخرج لموضوع التعيينات العسكرية، لن تبقى تظاهرات المجتمع المدني دون إسناد سياسي، الأمر الذي فهم منه تهيؤ التيار الوطني الحر وحتى حزب الله للانخراط في التظاهرة التي دعت إليها حركة “طلعت ريحتكم”، بما يعنيه ذلك من حشد كبير لهذه التظاهرة،[13] وهو ما ردت عليه الحركة عبر صفحتها على موقع الفيسبوك بدعوة جميع اللبنانيين إلى المشاركة في التظاهرة في ساحة الشهداء، وتوجهت إلى “كل الأحزاب السياسية اللبنانية التي دعت في السر والعلن إلى تظاهرة السبت في محاولة وقحة لسرقة صوت الناس والإيحاء بأن تظاهرتنا تتخذ طرفا” بالقول، “نطمئنهم أن مشاركتهم غير مرحب بها طالما أنهم جزء من السلطة”[14]. ورفع المتظاهرين شعار “كلن يعني كلن”[15]، في إشارة إلى أنه لا استثناء لأي فصيل سياسي من مطالب الحملة.
تعددت الحركات والمجموعات في هذا الشأن مثل “حلو عنا” و”بدنا نحاسب” و”من أجل الجمهورية”، إلا أن حركة “بدنا نحاسب” يعتبرها البعض هي الأكثر تنظيما وفاعلية في الحراك على الأرض، ففي يوم 25 أغسطس 2015، جرى اعتصام لحملة “بدنا نحاسب” ردا على عنف قوى الأمن تجاه المتظاهرين يومي 22 و23 أغسطس 2015، وقد شهد الاعتصام أعمال شغب مثل تكسير واجهات عدد من المحال التجارية ورشق القوى الأمنية بوابل من الحجارة وقوارير المياه والمفرقعات، بالإضافة إلى قنابل “مولوتوف”، وقام البعض بإشعال الشريط الشائك الفاصل بين المتظاهرين والسراي ببعض الأقمشة والحواجز البلاستيكية الموجودة في المكان، كما قام أحد المتظاهرين بتخريب تمثال رياض الصلح عبر تسلقه التمثال والكتابة عليه ورشه بالألوان.[16]
وإلى جانب التظاهرات في بيروت، نفذت المجموعة تحركات أمام السرايات الحكومية في كل من النبطية وبعلبك والهرمل، وفي ساحة دير الأحمر، وراشيا والبقاع الغربي وعكار. ففي بعلبك نفذت مجموعة من أبناء المنطقة اعتصاما محدودا أمام السراي، رفعت خلاله لافتات كتب عليها “بدنا نحاسب”، وألقيت كلمة طالب فيها المعتصمون بمحاسبة من أعطى الأوامر بإطلاق النار على المعتصمين واستعمال العنف بحقهم، وإطلاق سراح جميع المعتقلين، وإحالة الملفات المتعلقة بالفساد والرشاوى إلى النيابة العامة المالية.[17]
ويبدو التنظيم الجيد لحملة “بدنا نحاسب” في التركيز على قضايا عدة بخلاف القمامة، مثل إهدار المال العام،[18] والسياحة، والكهرباء، والحق في التظاهر، وانتهاكات قوى الأمن تجاه المعتصمين،[19] وتعد لجنة المحامين في حملة بدنا نحاسب أحد أنشط اللجان التي دافعت عن المعتقلين على خلفية الاعتصامات في 22 أغسطس الماضي، ونجحت الحملة في تنظيم عدد من الاعتصامات في ساحة رياض الصلح وأمام وزارة الداخلية، لمحاسبة المسئولين عن اعتداء الأمن والإفراج عن المعتقلين.[20]
من خلال رصد بعض الأمثلة للحركات الاجتماعية التي ركزت أهدافها على مطالب العدالة الاجتماعية في كلا من تونس ولبنان، تبرز هنا تساؤلات هامة حول مدى تأثير هذه الحركات على قضية العدلة الاجتماعية.
فمثلا الحراك المدني في لبنان، على الرغم من إشكاليات الوضع السياسي في لبنان، إلا أن الحراك استطاع تحييد الخلافات الطائفية والتركيز حول مطالب محددة كتطهير الفساد ومحاربة التقصير الحكومي في تقديم الخدمات العامة للمواطنين[21]، ولكن على الصعيد الآخر، نجد أن هناك بعض التحديات التي تواجه استمرار هذا الحراك، ومنها محاولات بعض الحركات احتكار الحديث باسم الحراك الاجتماعي، وهذا أظهر بعض نقاط الضعف في عملية التنسيق والتشبيك بين الحركات المختلفة، بالإضافة إلى ذلك تعرض الحراك لمحاولات مصادرته وتوظيفه سياسيا، ومحاولات إفراغ الحراك من مضمونه المعني بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.[22] وفي تونس أيضا، على الرغم من تحقيق الحركات الاجتماعية كحملة “وينو البترول” انتصارا من حيث الدفع بالحديث حول حقوق المواطنين التونسيين في ثروتاهم النفطية إلى المجال العام والمطالبة بإجراءات الشفافية في التصرف في الثروات في تونس في الوقت الذي نص فيه الدستور التونسي على اعتبار الثروات الطبيعية ثروات وطنية يجب حسن حوكمة التصرف فيها، إلا أن الحملة هذه أيضا عانت من بعض الإشكاليات مثل اعتباراها محسوبة على تيار الإسلام السياسي مما أفقدها من شعبيتها ومصداقيتها بين المواطنين.[23]
2) آليات المجتمع المدني البديلة ومدى نجاحها في فرض سياسات جديدة تحقق قسطا أكبر من العدالة:
تختلف الوسائل التي يتبعها المجتمع المدني في محاولة تحقيق مطالبه عن الوسائل التي تتبعها القوى التقليدية كالأحزاب السياسية.
وفي هذا الشأن ظهر في تونس بعد “الثورة” كم هائل من الجمعيات يعنى الكثير منها بمختلف المواضيع المرتبطة بالعدالة الاجتماعية (التنمية الجهوية و المحلية، الحقوق السياسية، الحقوق الاقتصادية، الفئات الضعيفة والمهمشة،…إلخ) وأصبح البعض منها على قدر كبير من الحرفية والجدية الشيء الذي وسع المجال السياسي المتاح للمجتمع المدني حتى أصبح يشارك مباشرة في اتخاذ القرار والتأثير فيه. ويتمتع هذا القسط من الجمعيات بإمكانيات عالية من تقنيات المناصرة والتواصل الحديثة وكذلك بصدى جيد ومصداقية لدى الرأي العام يمكنها من تنمية قدراتها على التأثير في السياسات الحكومية إما بالتوجه مباشرة لأصحاب القرار أو بالتعبئة عبر شبكاتها الخاصة وعبر الاعلام. هذا العمل الجمعياتي يمكن وصفه بالمعتاد، حيث أنه ينطوي تحت الأطر القانونية والمعايير المتعارف عليها للمطالبة والمناصرة والتأثير غير أننا نجد فصائل أخرى من الجمعيات تلتجئ لتحقيق قسط أكبر من العدالة الاجتماعية، إلى أشكال أخرى من العمل النضالي الذي يفوت المطالبة ليصل إلى الافتكاك واسترجاع ما يعتبره حقا تم الاستحواذ عليه. وهذه الطرق الراديكالية للدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحفاظ عليها، رغم كونها غير قانونية، فهي تسمح بوضع السلطات أمام الأمر الواقع ومن ذلك إجبارها على التعامل مع المجتمع المدني بأكثر إيجابية إذا لم تستطع إيقافه.
من التجارب الناجحة في تونس في هذا المجال يمكننا ذكر “هنشير ستيل” بقرية جمنة. تتمحور القصة حول مجموعة من السكان الذين استرجعوا “هنشير”، أي أرض زراعية شاسعة، بعد أن استحوذت عليها الدولة في إطار استعادة الأراضي الفلاحية بعد الاستقلال ومن ذلك قامت بتأجيرها إلى مستثمر تونسي لم يستغلها على أحسن وجه ولم يعد استثماره بالنفع على أهل المنطقة. غير أن السكان، أي الأصحاب الأصليين للأرض اغتنموا فرصة الانفلات فترة الثورة لبسط سلطتهم الشعبية والتشاركية على الهنشير. حاليا، تقوم الجمعية المحلية “جمعية حماية واحات جمنة” المتكونة من سكان متطوعين بإدارة الأعمال وبالتفاوض مع الدولة لتسوية الوضعية العقارية والإدارية للأرض.
”بدأ الواقع الجديد الذي فرضته الجمعية، بنجاحها في الاحتفاظ بالضيعة طيلة الأربع السنوات الماضية، يدفع حتى بعض المسؤولين المحليين إلى تبني وجهات نظر غير “أرثودوكسية”. لكن تجدر الملاحظة أن ما تقوم به جمعية الدفاع عن واحات جمنة، يذكر إلى حد كبير بمفهوم ”الشركة الاجتماعية” المنتشر في البلدان الأنجلوساكسونية وفي “إيطاليا وأمريكا اللاتينية. وهو يعني باختصار شركات تخضع لقوانين السوق الرأسمالية، لكن تتمثل غاية وجودها في خدمة المجتمع المحلي، عبر تمويل مشروعات تعنى بشكل أولوي بالفئات الأكثر احتياجا وتهميشا. لكن رغم نص الدستور في الفصل 12 على مبادئ “العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والتمييز الإيجابي”، لا نجد بعد في التشريع التونسي قانونا يشجع على إنشاء هذا النوع من الشركات، أو على الأقل يسهل الأمر على المبادرين إلى بعثها.
تثبت هذه التجربة أنه حين يتشبث المجتمع المدني بمطلب واضح ويتنظم من أجل إدراكه ويلم بخلفياته وآفقه فهو قادر على فرض احترام السلطات حتى ولو كان مطلبه غير قانوني. بل أنه يتمكن حتى من تطوير القانون لجعله أكثر تلاؤما مع حقيقة الأوضاع الاجتماعية فهنشير ستيل يطرح اليوم بقوة موضوع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي يفتقد في تونس للأطر القانونية اللازمة.
وفي هذا الشأن من الممكن تحديد ثلاث استراتيجيات مختلفة تبناها المجتمع المدني التونسي في الأربع سنوات الأخيرة للتعامل مع السلطات والتأثير في قضية العدالة الاجتماعية. أما الأولى فهي استراتيجية الحوار والوفاق وقد تبناها كل من الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وكذلك الجمعيات التاريخية (الرابطة التونسية لحقوق الإنسان وهيئة المحامين). أما الثانية فهي المواجهة وهي الطريقة المعتمدة من طرف الحركات الاجتماعية الاحتجاجية. أما الثالثة فيمكن نعتها بالالتفافية وقد اعتمدتها مجموعة قرية جمنة المذكورة سابقا على سبيل المثال. يأتي الاختلاف في سبل التعامل مع السلطة من الاختلاف في طبيعة مكونات المجتمع المدني المدروسة. فالمجموعة الأولى يتم الالتجاء إليها نظرا لشرعيتها التاريخية ولقدرتها على التعبئة مما يجعلها اليوم تلعب دورا جديدا في تاريخ تونس ما بعد “الثورة” قد لا ينطبق مع مقومات النضال من أجل العدالة الاجتماعية فقدرة هذه المجوعة على التأثير لم تتجلى -أو لم تستعمل- في هذه المرحلة.[24]
وأما بالنسبة للحراك في لبنان فقد شكل ما يمكن وصفه بـ”الطريق الثالث”، والذي مثل بارقة أمل لهؤلاء الذين يروا في استقطاب قوى الرابع عشر والثامن من آذار خطر تفتيت لبنان وسبب في حالة الفراغ الذي تعيشه البلاد.[25] إلا أن الحراك أيضا أثار بعض التساؤلات المتعلقة بتجديد الخطاب الاحتجاجي حيث أنه يأتي في لحظة تمر فيها المنطقة بتقلبات الثورات العربية، كما يأتي في لحظة تمر فيها البلاد بأصعب لحظاتها، مع تراكم الأزمات الاقتصادية والسياسية. فالسؤال هو: كيف يمكن ربط المسائل الاجتماعية والتحررية بالمسألة السياسية، لتجنب الوقوع في المسار التدميري العام؟ أو بمعنى آخر، كيف يمكن التفكير بخطاب احتجاجي يدرك شروط إمكانيته، أي وجود حد أدنى من السلم الأهلي ومن المؤسسات التي يمكن معارضتها. ففي ظل التصارع السياسي بين قوى ٨ و١٤ آذار الذي شل البلاد، يرى البعض أنه قد يكون من المفيد النزول إلى مستوى ما دون سياسي لبناء الحاضنة المؤسسية للحراك المطلبي.[26]
وهذا يفسر سبب جذب الحراك المدني لشرائح من طوائف عدة تجاوزت الخلافات الطائفية والحزبية التي تقوم عليها السياسة اللبنانية تقليديا؛ فقد استطاع العنوان الاجتماعي ومطالب الحياة اليومية أن تجمع كل المتضررين من الوضع القائم في حراك واحد، وهذا ما هيمن على معظم مراحل تكون الحراك أو على مسيرته. بالإضافة إلى ذلك نجح الحراك في لبنان في رفع صوت “شريحة” جديدة بالاعتراض على النظام الطائفي اللبناني وعلى المعادلة الإقليمية وتداعياتها المذهبية، أيضا نجح في جمع الناس من كل الطوائف في مواجهة السلطة بملف النفايات، ما أعطاه شرعية شعبية لفتح ملفات اجتماعية أخرى رغم أن لها أبعادا سياسية لم يجرؤ أحد على المس بها سابق، وجعل من لحظة “الفراغ” السياسية في لبنان لحظة فارقة على صعيد الاعتراض على “النظام اللبناني” وإفرازاته، ليثبت أن هذا النظام لم يعد قادر على حل مشاكله فضلا عن حل مشاكل المواطنين والتي تعد تجلياتها في إشكالية النفايات.[27]
خاتمة:
جاء الحراك في كلا من تونس ولبنان، ليعطي مثالا واضحا حول أهمية الدور الذي من الممكن أن يلعبه المجتمع المدني والحركات الاجتماعية في قضية العدالة الاجتماعية كما سبق وأوضحنا. وفي هذا الشأن نجد أن المجتمع المدني في الحالتين قد اعتمد على تبني بعض الآليات المختلفة لتحقيق أهدافه، فمن ناحية تعمل بعض المنظمات والحركات على فتح أفق للتواصل الدائم مع الدولة ليتحول دورها من محور الدفاع عن الحقوق إلى محور وضع السياسات العامة المتعلقة بتحقيق لعدالة الاجتماعية.
من ناحية أخرى، ويعود هذا إلى أن السياق السياسي في كلا الحالتين لا يدعم بشكل كبير منظمات المجتمع المدني ويشكل معوقا لها إما من الناحية التشريعية أو من ناحية العوائق الأمنية، وهنا تلجأ المنظمات والحركات لممارسة أساليب من الضغط والاحتجاجات للتأكيد على مطالب المواطنين الاقتصادية والاجتماعية كما رأينا في الحالتين التونسية واللبنانية.
في هذا الإطار يجدر الإشارة إلى أن نشاط المجتمع المدني من منظمات ومبادرات وحركات يحد منه بشكل كبير تسلط الدولة ومحاولتها إعادة إنتاج سياسات النظم السابقة سواء بتجريم التظاهر والاحتجاج أو بتسكين الحراكات أو حتى بالمواجهة مع أي حراك باعتباره يقلل من هيبة الدولة ويشكل جزءا من أجندات خارجية كما هو الحال في لبنان، أو باعتباره يشكل تهديدا لسياسات الدولة في محاربة الارهاب كما هو الحال في تونس.
من الأهمية أيضا في هذا الشأن الإشارة إلى الإشكاليات الذاتية عند المجتمع المدني والحركات الاجتماعية والتي تعوقه عن لعب الدور المؤثر في قضية العدالة الاجتماعية، ومنها نذكر إشكاليات صنع القرار داخل الحركات والمنظمات، ضعف القدرات التنظيمية وغياب مؤشرات الإدارة الرشيدة، وأهمها عدم إتباع منهج عملي لتقييم أهدافهم ونشاطهم بشكل دوري، بالإضافة للخبرة المحدودة في بناء الشبكات والشراكات بين الحركات وبعضها. وفي هذا الشأن من الممكن أن تعمل الحركات على محاولة حل المشكلات المتعلقة بالتنظيم الداخلي وآليات صنع القرار والنقد الذاتي والتقييم داخل الحركات والعمل على التواصل الدائم مع المواطنين ومع الحركات الأخرى.
على الرغم من الدور الهام الذي يلعبه المجتمع المدني فيما يخص قضية العدالة الاجتماعية، وعلى الرغم من أن وجود المجتمع المدني هو شرط ضروري لتحقيق العدالة الاجتماعية، إلا أن هذا ليس كافيا، حيث أن تحقيق العدالة الاجتماعية يلزمه تبني النظم العربية سياسات حقيقية قائمة على محورية كفالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين وأن تتخلى هذه النظم عن نهجها المتبع الذي تعتبر فيه الدولة طرفا في عمليات الاستثمار والربح، وهنا يأتي دور المجتمع المدني كمعبر عن الفئات المستهدفة من سياسات العدالة الاجتماعية وكداعم وضامن لها.
[1] محمد العجاتي، العدالة الاجتماعية والمجتمع المدني بين استراتيجيات الدفاع ومهام التطوير، 2014، http://goo.gl/OepuHi
[2] هالة اليوسفي، النضالات الاجتماعية في تونس: لعنة أم فرصة ثورية؟، السفير العربي، 13 فبراير 2013، http://is.gd/zCNRq8
[3] ليلى الرياحي، إشكاليات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية العربية وقدراتها على التأثير في قضية العدالة الاجتماعية: المجتمع المدني التونسي بعد “الثورة”، منتدى البدائل العربي، أوراق البدائل، يناير 2016. http://goo.gl/XaPcOE
[4] عدم الاتفاق على توزيع الحصص في “سوكلين” فجر أزمة النفايات، شبكة المعلومات السورية، 4 أغسطس 2015، http://goo.gl/go4MKY
[5] هيكلية حملة “طلعت ريحتكم”، من صفحة الحملة على موقع “فيسبوك”، https://goo.gl/oxWen2
[6] تقرير يفضح قيادات حملة “طلعت ريحتكم”؟… متعاقدو الثورات، موقع بانوراما الشرق الأوسط، 22 سبتمبر 2015، http://goo.gl/m4iC11
[7] إلهام برجس، تظاهرة “طلعت ريحتكم”.. اختلاف “اللاءات”، موقع جريدة المدن، 28 يوليو 2015، http://goo.gl/KfEHA8
[8] المؤتمر الصحفي لحملة “طلعت ريحتكم” بمناسبة مرور شهرين على اطلاقها، قناة MTV، 21 سبتمبر 2015، https://goo.gl/voiyRc
[9] “طِلعت ريحتكم”… تنظيما وإدارة وتمويلا… حسب تقارير دولية، موقع جريدة الجمهورية اللبنانية، 22 سبتمبر 2015، http://goo.gl/G1JnTh
[10] “طلعت ريحتكم” تطلق انتفاضة لبنانية ضد القيادات، موقع جريدة الحياة، 24 أغسطس 2015، http://goo.gl/WtlBN4
[11] سلام يدعو إلى جلسة استثنائية اليوم لبحث وضع النفايات، موقع جريدة المستقبل، 25 أغسطس 2015، http://goo.gl/MXaGJe
[12] الحكومة غدا أمام منعطف الإنتاج أو التفجير لعبة الشارع تتمدد والفوضى بدأت تسود، موقع جريدة النهار، 26 أغسطس 2015، http://goo.gl/M4Z1NU
[13] “حزب الله” هدد بالشارع فتحركت الوساطة تسوية للمراسيم اليوم تجنب الحكومة الانفجار، موقع جريدة النهار، 27 أغسطس 2015، http://goo.gl/ujjOie
[14] خالد موسى، “المجتمع المدني” دعا إلى تصحيح الحراك، موقع جريدة المستقبل، 28 أغسطس 2015، http://goo.gl/dhdIIi
[15] لبنان.. الوجه الآخر لـ”مظاهرة طلعت ريحتكم”، سكاي نيوز عربية، 30 أغسطس 2015، http://goo.gl/3Afs1j
[16] تجدد الاعتصام والشغب: 3 جرحى لقوى الأمن وتوقيف معتدين، موقع جريدة المستقبل، 26 أغسطس 2015، http://goo.gl/nWiDK1
[17] تجدد الاعتصام والشغب، جريدة المستقبل، مرجع سابق.
[18] بالصور والفيديو: “بدنا نحاسب” في وزارة المال، موقع جريدة النهار، 15 سبتمبر 2015، http://goo.gl/BXLXEU
[19] صفحة حملة “بدنا نحاسب” على موقع فيسبوك، https://goo.gl/wP1Cs1
[20] لقاء مع “نعمت بدر الدين” المتحدثة باسم حملة “بدنا نحاسب”، قناة MTV، 27 أغسطس 2015، https://goo.gl/1HBDBB
[21] حازم صاغية، مستقبل “الحراك” اللبناني ومستقبل لبنان، ١٩ سبتمبر ٢٠١٥، الحياة، http://goo.gl/J3Fzoh
[22] خالد غزال، منعا للإحباط واليأس، ٢٤ أكتوبر/ ٢٠١٥، الحياة، http://goo.gl/nrFpWq
[23] السبسي يحمل “حملة وينو البترول؟” مسؤولية الإرهاب، 13 يوليو 2015، السفير العربي، http://goo.gl/0wF6ey
[24] ليلى الرياحي، إشكاليات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية العربية وقدراتها على التأثير في قضية العدالة الاجتماعية، مرجع سبق ذكره
[25] زياد ماجد، طلعت ريحتكم: خطوة خطوة، موقع mmedia، 25 أغسطس 2015، https://goo.gl/uQDmlS
[26] سامر فرنجية، عن مستويات الحراك في لبنان، 15 سبتمبر 2015، الحياة، http://goo.gl/avQiLG
[27] شفيق شقير، تداعيات الحراك الاجتماعي في لبنان وأبعاد الفراغ، مركز الجزيرة للدراسات، 15 أكتوبر 2015، http://goo.gl/IBDSZG